القصيدة البصرية / جمالية الصورة
تنوعت الدراسات التي ترسم ملامح من الصورة الفنية لشكل من أشكال القصيدة الحديثة حظي بكثير من التسميات فمنهم من وصفها بالقصيدة الصورة ومنهم القصيدة – المشهديه، والقصيدة – السينمائية، والقصيدة – الومضة، والقصيدة الحركية.. وكل تسمية تستند على ركيزة داخلية تظهر تلقائياً مع حركة الجملة الشعرية والتعبير القائم بنوعية المفردة وكيفية توظيفها بصورة مشهديه متحررة تميل للبساطة في تشكيل الصورة الفنية وتعتمد على التجربة الشعرية أكثر من اعتمادها على الفكرة المتخيلة وغالباً ما تتسم بالجماليات الفنية الذاتية دونما إفراط بالمعنى ومعنى المعنى ومستويات التأويل المختلفة.
وبالرغم مما حظيت به هذه النوعية من القصائد من اهتمام النقاد ومتابعتهم الحثيثة لتوضيح معالمها التركيبية وانزياح الصورة وما يتبع من تشظي واحتفال إيقاعي. إلا أنها ظلت دراسات خجولة نسبياً ولم تتعدى نصوص لشعراء معروفين. لذلك كله سأضع بعض النصوص الشعرية المختارة من التفعيلة وقصيدة النثر لتوضيح بعض من سماتها المشهدية وحضورها الصوري المركب بدءاً من نص للشاعر ثروت سليم بعنوان " قمر تونسي" يقول فيها:
أنا لم أزلْ في القيروانِ ..
وسِحرُ سَلْمَى ..
وسِحرُ سَلْمَى ..
تتضح معالم الصورة تلقائياً مع القراءة الأولى وذلك بالتعبير المجازي المتمثل في جملة أنا لم أزل.. وهذا التعبير المجازي يجعلنا نتفق على أن الشاعر في واقع الأمر ابتعد جسدياً عن مدينة القيروان، بيد أنه يتواجد بذكرياته وحنينه. وجملة " وسحر سلمى " جاءت لتأكيد المشهد والمتخيل الذي أومأ إليه الشاعر بالفعل الماضي المجزوم. كأنه يوحي لنا بتوقف العالم بأسره عند الملامسة التي حصلت بعد مصافحته مدينة القيروان وسحر نسائها.
أحرقَ الأوراقَ ..أشعلني ..
وقد ذُبنا سَويا
الخَصرُ مثل غزالةٍ ...
والوجهُ بدرٌ ذابَ فيه الضوءُ ..
آهٍ مِن جنون الشِّعرِ ..
حين يكونُ عِشْقَاً سَرْمَديا
وقد ذُبنا سَويا
الخَصرُ مثل غزالةٍ ...
والوجهُ بدرٌ ذابَ فيه الضوءُ ..
آهٍ مِن جنون الشِّعرِ ..
حين يكونُ عِشْقَاً سَرْمَديا
مشهدية خالصة أنتجتها اللغة الشعرية البسيطة والتشبيهات والكنايات مع توالي الأفعال الماضية أحرق، ذبنا، ذاب.. كلها تعيدنا مع الشاعر للحظات الوجودية وما اختلط عنها من مشاعر وعواطف كانت كفيلة لتوليد احتشاد صوري إيقاعي وبعبارات سلسة قد تكون مؤلمة رغم أنها ذكريات جميلة.
****
"الجدار الصلب " ريمة الخاني
هي قصيدة مشهديه بحتة تظهر بموضوعها وفكرتها المجتلبة من الواقع مما أكسبها تميزا وحضورا مؤثرا بالمشهد الكلي الذي أثر في ذات الشاعرة وأسرّ لدواخلها حتى تحفزت إذ ذاك لنحت جديد وتصوير مشهدي دقيق أنتجته الرغبة لتغيير واقع الجدار رغم كونه صلباً كما أشارت له الشاعرة.
كيف َ لم يكشف ْ جدار؟...
حيث ُ بات َ العمي ُ فينا..
سوف نحيالانتصار......
قلْ سيكسر....
حيث ُ بات َ العمي ُ فينا..
سوف نحيالانتصار......
قلْ سيكسر....
هذه اللقطة السينمائية الدرامية بصفة عامة كونها تعْمد لكشف الغطاء عن آلية وحقيقة الجدار. والجملة الأولى ما زالت في مرحلة المخاض كون النهاية وفعل الأمر قل سيكسر أحدث الوصف الحسي الذاتي والمطالبة الشعبية التي تحدثت بلسانها الشاعرة وكانت بمثابة الكلمة التي تتصدر لائحة طويلة من الكلمات المحتجة الغاضبة.
فالمدى أشباح ُدار..
والجدارُ المر ُّ فينا..
لاكما قال َ المقال
والجدارُ المر ُّ فينا..
لاكما قال َ المقال
يمكن للقارئ أن يتمتع بهذا الحس الوطني لدى الشاعرة خاصة مع التقائه بالشمولية. فالمدى أشباح دار.. هذا الصورة العميقة بدلالتها والمؤثرة بما أحالته لنا من ضعف واستكانة فمفردة كالشبح تعني ( الظلام، الأمكنة المقفرة، السوداوية، الانحطاط، الخوف، البعد عن الواقع.. ومفردة كالمدى وهي الركيزة التي انطلقت منها الشاعرة عند وصفها المادي والوجودي لكل المخلوقات. فكأنها تشير أن كل العالم بإحالة ( المدى ) مشترك بطريقة أو بأخرى بما سيحصل من معاناة ومرارة وخنق لشعب ينزح تحت ظلم الاحتلال وجبروته.
****
"الأغنية القديمة" ميساء عباس
تميزت هذه القصيدة عن سابقاتها كونها قصيدة نثرية باعتمادها على الزخم والتكثيف الصوري و الإيقاع السلس المرن والذي احتفل به النص بشكل ملفت تتميز به الشاعرة عن غيرها من شعراء قصيدة النثر على وجه الخصوص.
وغااااااب الحبيب عن دفتري
وتلاشى إيقاعه من أغنيتي :
أحبك ..
وتلاشى إيقاعه من أغنيتي :
أحبك ..
هذه اللقطة الصورية البديعة التي برعت فيها الشاعرة بتلقائيتها وعفويتها هي من جعلت من النص تحفة أدبية. نلاحظ ذكاء الشاعرة بـ مفدرة " وغااااااب " إطالة بقدر خمس درجات كافية لحبس الأنفاس لثلاثة ثواني تقريباً قبل الانطلاق لباقي الجملة التي أنهتها الشاعرة بروي مشبع بالياء. والذي ساهم بـ إراحة النفس الشعري مع ملاحظة أنه لم يكن ليكون على هذا النحو من الليونة والسلامة لو كان روياً متحركاً مثلاً بكسرة أو اثنتين.
أنظّف المدن من الغبار
في أي كحل أنت نائم
في أي ضباب
كلما أسرع السفر في الشوارع
وتناوب القمر في المنازل
أدور حولك مع الأرض
أعتّق ذهبك السائل ..
حبيبا ..
مؤرخا ..
في الخيال
في أي كحل أنت نائم
في أي ضباب
كلما أسرع السفر في الشوارع
وتناوب القمر في المنازل
أدور حولك مع الأرض
أعتّق ذهبك السائل ..
حبيبا ..
مؤرخا ..
في الخيال
تستمر اللعبة التي برعت فيها الشاعرة ميساء والتوقيع الإيقاعي السريع الخاطف مع التقاطع العرضي والطولي لأجزاء النص كما حصل في نهايته حبيبا / مؤرخا / في الخيال ..
ما يميز هذا النص إضافة لإيقاعه الداخلي هي الحركة التي حصلت في الداخل والخارج وأقصد هنا داخل النص وما يسمى البنية وخارج حدود النص وهو المعنى، من فهمه القارئ مستدلاً عليه ببعض الإشارات الداخلية. قد تبدو القصيدة وما احتشدت به من صور وابتداع على أنها وجودية مادية كما أعلن عنه مثلاً قولها:" كلما أسرع السفر في الشوارع"،" أنظف المدن من الغبار" لكنها في حقيقة الأمر قصيدة وجدانية ذهنية متخيلة بدلالة " في الخيال " " في أي ضباب "
على هذا النحو الجميل والالتقاط البديع استطاعت الشاعرة ميساء أن تفعل فعلتها في النص بحيث تركته ينشج مع واقع وجودي وحسرة اشتياق ولوعة. كما أنها حققت له مشهداً متخيلاً لا علاقة له بالواقع بإشارات ذهنية وفوارق تخيلية بحته. فأصبح من المعقول أن نقول تكاملت العناصر الجزئية الواقعية مع البناء الصوري المتخيل في عقل ووجدان الشاعرة ليساهم ذلك كله بتشكيل مشهد سينمائي صوري متحرك غاية في الروعة والجمال.
محمد ثلجي
رئيس ملتقى النقد الأدبي
تعليق