بسم الله الرحمن الرحيم
أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي والجماعي
"الجزء الأول"
(المقالة الخامسة)
عندما تصير الذات ثمرة عصرها، وحكاية في حد ذاتها، وعندما تجد نفسها واصفة وموصوفة في آن واحد، ساعتها تكون قد مدت جسرا بين تمثلها الذاتي ونزوعها الموضوعي؛ إنها بؤرة آثار عميقة، وساحة كشف واكتشاف لمجاهل الإنسان، وفي شعابها انطوت هويتها وخفاياها.
إنها وجود قلق مضطرب، لا يدرك نفسه في يسر أو بكيفية مطلقة، ولا يحيط بذاته تمام الإحاطة، تتجاذبه قوى العقل، والنفس، والروح، بين مد الشعور والوعي، وجزر اللاشعور واللاوعي تارة، وبين جزر الوعي والشعور، ومد اللاوعي واللاشعور تارة أخرى، ومع ذلك فقد سخر للذات الإنسانية الفهم والإدراك، بقصد أن تسعى إلى الإلمام بحقيقتها المادية والروحية.
ثم إن الأنا تشرع في تمثل نفسها، والاستفهام حول ماهيتها ومعنى حياتها بقوة الوعي الكامن فيها، فنراها تستنجد بالماضي المختزن في ذاكرتها، فهي مسكونة بموروثات وحياة نابضة بصور الزمان والمكان، وبحرارة اللقاء الإنساني، وبالتربية والثقافة المكتسبة، وبالمبادئ والقيم المختلفة، وكذلك بالمعتقد الديني.
فما من شك في كون معرفة الذات البشرية هي نتيجة استفهام عن ماهية الإنسان، ومنطلقه، ومآله، خاصة وأن هذا الكائن العاقل يجد ذاته على امتداد أطوار حياته في تغير مستمر، ثم إنه من المؤكد أن كاتب السيرة الذاتية عندما يستشعر دنو أجله، يطرح على نفسه سؤالا دقيقا هو: هل عشت بالفعل حياتي بالكيفية التي أردتها أم لا؟
فإذا رأينا الذات تتفحص حاضرها، فذلك لأنه حصيلة ماضيها بكل الذي زخر به من تجارب حياتية، ولأن الحاضر واقع لا بد لها منه، لتظفر بحس مستقبلي، ورغبة في المضي إلى الأمام، فما احتفال الأنا بذاتيتها في النهاية إلا تمثل لهذا الحس التاريخي، أو تلك القوة الخفية التي تحمل الإنسان على الشعور بأنه عين الشخص، الذي كان له حضور في الماضي القريب والبعيد، على الرغم من الأحداث المتضاربة، والتغييرات المتلاحقة التي توالت على ذاته الباطنية.
ثم إن الذات التي كانت طفلا، فصبيا، ففتى، ثم عاشت ربيع عمرها، فغدت بعد ذلك رجلا، وكهلا، ثم انتهت في مسيرة حياتها إلى خريف العمر مرتقبة ذروة الشيخوخة، هي واحدة في جميع هذه الأطوار، لكن هل السيرة الذاتية هي كتابة الفرد لحياته بناء على تسلسل زمني منطقي؟ أم أنها كتابة لذاته الفردية، بحكم أن هذه الذات مفككة لا تخضع لأي تسلسل زمني؟
لا شك أن الإنسان، كان وسيظل، عالما انطوى فيه كثير من الأسرار، وشبكة من العناصر، التي تجمعها علاقات جد معقدة، تنشأ وتتطور في بيئة وحقبة زمنية ذات معالم وخصائص معينة، والأنا منذ وجدت وهي تطمح إلى اكتساب قيم إنسانية، تميل إليها إما عن هوى ونزوة، أو تنتقيها عن قناعة خاصة، أو تستقطبها تبعا لعقيدة معلومة، في حين تبذل كل ما في وسعها لطرد قيم أخرى، لم تعد ترغب فيها.
إن الكائن الاجتماعي يحلم دائما برؤية عالم يعثر فيه على الاستقرار والسعادة، ويشعر في أكنافه بوجود منسجم مع جميع الموجودات حوله، ثم يطمئن إلى طور من حياته دون باقي الأطوار، فيحياه باستمرار في ذاكرته؛ إنه يصارع قوى معينة من أجل غاية محددة، ويعاني سلبا أو إيجابا في سبيل ما ينشده بقناعة وإيمان، وعن هدى أو ضلال، بحكم انه كائن فاعل في حدود، وعاقل مدرك في حدود كذلك.
فهذا الإنسان كثيرا ما يشقى بأفعاله وممارساته، واختياراته وتوجهاته، وقليلا ما يسعد بأعماله في الحياة الدنيا، وقد يزداد أحيانا قوة وإرادة، عندما يتحول لديه الألم والمكابدة إلى ابتلاء في طيه النعمة، وفي قلبه بذرة التغيير نحو الاستقامة والصلاح، بحكم أن الذات المسلمة الجادة في نهج طريق الاستقامة لا تشقى بما تجده من معاناة، وما ينزل بها من ابتلاءات؛ بل إنها تعمل على تحويل هذه المعاناة والإبتلاءات إلى قوة فاعلة مؤثرة، وجهد إبداعي متميز، إذ من المؤكد أن التجارب الحياتية، الفردية والجماعية، فاعلة في الذات المبدعة، بقدر ما أن هذه الذات منفعلة بها، فضلا عن كونها تستمد شحناتها الإبداعية من كل تجربة تعيشها.
إن ذروة الإحساس بالذات، تنكشف بكل أبعادها الإنسانية في الحقب التاريخية التي تشهد انتقالات من أوضاع معينة إلى أخرى، أو تعرف اضطرابات وهزات اجتماعية، أو سياسية، أو فكرية وغيرها، إذ في هذه الظروف الزمانية وأمثالها تجد الذات البشرية نفسها في حاجة ملحة إلى التوفيق بين نفسها والأحداث الجارية في محيطها.
ثم إن الذات الإنسانية تطمح إلى التعرف على هويتها وجوهرها، وتجتهد في استقراء باطنها؛ لكن هل صحيح أن ثمة إقبالا على كتابة التاريخ الخاص، وأن أدب السيرة الذاتية صار إحدى السمات التي تسم العصر الحديث؟
إننا في ظل ما يحفل به تاريخ الأدب العربي والإسلامي الحديث من آثار أدبية تشهد على نزوع ملحوظ إلى كتابة السيرة الذاتية، وباعتبار المنحى الذي سار فيه التأليف الأدبي في الشرق والغرب عموما، نستطيع أن نرجح صحة الامتياز الذي اكتسبه أدب السيرة الذاتية في العصر الحديث.
ثم إن هذه سمة لها دلالتها الخاصة على ما ساد العصر من حياة اجتماعية، وفكرية، وروحية وغيرها، مما سيساعد المهتم بالبحث في أدب السيرة الذاتية الحديثة على معرفة خط سير هذا اللون من التعبير، وما يكمن وراءه من بواعث، ثم الغاية من إنتاجه، لكن هل صحيح أن المفكرين والعلماء هم الأكثر احتفالا بذواتهم والأكثر ميلا إلى إعمال النظر فيها من الشعراء والأدباء؟
كثيرا ما يعرض نقاد الأدب ودارسوه لمحوري: الفردية أو الذاتية، والجماعية أو الموضوعية، لكنهم قليلا ما يتحرون حقيقة ومدى تلك الذاتية الفردية، وهذه الموضوعية الجماعية؛ بل إن معظمهم ينسون ما للذاتية والموضوعية من قيمة، حتى إن الرهبة تأخذهم من البعد الذاتي في الأدب عموما، فهم ينظرون إلى الذاتية على أنها نقيضة للواقعية؛ بل إن الأمر بلغ ببعضهم إلى توظيفها في موضع الذم.
أما الرأي الراجح عندنا، فهو انعدام وجود فردية ذاتية أو جماعية موضوعية بحتة، بمعنى أن كل ذات فردية تنطوي على ذات جماعية، وكل ذات جماعية تتضمن ذاتا فردية، مع العلم بأن الاهتمام بالجانب الاجتماعي في العملية الإبداعية، لا يعني تهميش السمة الفردية للإبداع الأدبي، إذ أن لكل أديب ذاتية خاصة به، تتفاعل سلبا أو إيجابا مع واقعه الاجتماعي.
ثم إن الذاتين: الفردية والجماعية تخضعان معا لحكم النسبية، نظرا لارتباط إحداهما بالثانية، فالأنا الفردية ذاتية في حدود عالمها الداخلي، لكنها تتراجع عندما تصطدم بالعالم الخارجي، وذلك حتى تفسح المجال للذات الجماعية، التي بدورها ينحسر مدها على عتبة الأنا الفردية، باعتبار أن توازن الفرد في حال اضطرابه يمكن تحقيقه في قلب هذا الكيان الأكثر قربا من الذات الإنسانية.
ومن المؤكد أن الذات تعتبر الركن الأساس في شخصية الإنسان، إذ أنها ليست سوى ذلك الشعور والوعي بكيان الفرد المتنامي باستمرار، على قدر النضج والتعلم، والاكتساب، وللذات الفردية مفهوم يمكن اختزاله في ذلك التكوين المعرفي المنظم، والموحد، والمكتسب في آن واحد لمجموع المدركات الشعورية والتصورات الخاصة بالذات.
وانطلاقا من هذا المبدأ، سيظل مفهوم الذات الفردية والجماعية مقيدا غير مطلق، باعتبار أن إمكانية العثور على ذات مجردة، سواء أكانت فردية أم جماعية، تعد من قبيل الأوهام الشائعة لا اقل ولا أكثر، وهذا لا يعني في شيء أن الأثر الأدبي هو نتيجة لواقع الأوضاع الثقافية والاجتماعية، دون اعتبار ما للذات المبدعة من إسهام وفعل، وما لها من تكوين ذهني ونفسي.
وإذا كانت الذات الفردية تشغل العالم الداخلي وتنشط فيه، بينما تتمثل الذات الجماعية أكثر في العالم الخارجي، فهذا لا يعني في شيء كذلك وجود انفصال أو قطيعة بين الفرد والجماعة الإنسانية؛ بل على العكس ثمة تفاعل ولقاء مستمر، وتأثيرات متبادلة بين الذاتين والعالمين.
وثمة أيضا تجارب إنسانية مشتركة كثيرة، ولاشك أن العلاقة بين الداخل والخارج وثيقة في أدب السيرة الذاتية، الذي يتجاوز ما تعيشه الأنا من عزلة ووحدة.
إن ما قمنا بإثارته في هذا المحور، ينطبق بتمامه على الذاكرة الإسلامية، فضلا عن الذات المسلمة، ما دام أن ذاكرة الفرد جزء من الذاكرة الجماعية، كما أن الذات الفردية بعض لا يتجزأ من الذات الجماعية، ويبدو أن هذه الحقيقة ماثلة في السيرة الذاتية الإسـلامية الحديثة، العربية والأجنبية على حد سواء، وإن كان للذات والذاكرة العربية الإسلامية ملامح وخصوصيات معـينة، مثل ما للذاكرة والذات الأجنبية المسلمة، بشقيها: الفردي والجماعي، ملامـح وخصوصيات محددة.
ثم إن الفرد قد ينوب عن الآخرين من بني عصره وبيئته في كتابة سيرهم الموضوعية، انطلاقا من قراءة ذاته، ومن خلال تجاربه الفردية والمشتركة، ما دام أن القاسم المشترك بين أفراد الجماعة البشرية، يتحول إلى تعبير موضوعي بين طيات السيرة الفردية، ومن ثم تصير الذات الواحدة موضوعا في سياق السيرة الجماعية أو التاريخ الموضوعي.
من هنا نخلص، إذا صح هذا الافتراض، إلى أن تجربة الذات المسلمة تختزل تجربة الجماعة الإنسانية المسلمة في الحياة، خاصة وأننا لا نعثر في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على تلك النزعة الفردية، التي يتخذ أصحابها من أدب السيرة الذاتية نصبا تذكاريا لها، وهي نزعة غير مسؤولة أو ملتزمة.
ثم إننا على النقيض نصادف في مجموع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة تلك "الأنا" المسؤولة، والغاية الموحدة، التي لا سلطان للعبث، والأهواء، واللذة العابرة عليها، هذا بالإضافة إلى كون الذات الفردية المسلمة تتشكل انطلاقا من المفهوم الجماعي، الذي يختزن الانتماء العقدي، والحضاري.
إن لكاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رؤية يتكامل من خلالها البعدان: الفردي والجماعي، إذ أن شعور الأنا الفردي يتطلب وجود الآخر، وتتحول فيها المعاناة إلى باعث قوي على التعبير، وقدرة كبيرة على النفاذ إلى بواطن الأمور وجوهر التجارب.
فكل إنتاج الكاتب هو عبارة عن محاولات متكررة بقصد العثور على حقيقة الحياة وعمقها، وإن كانت ذاتية من يكتب سيرته لا تتمثل في اختلاف تجربته الحياتية عن تجارب غيره من أهل عصره، فإنها تمتاز عن ذوات الآخرين بكونها تنطوي على إحساس ووعي عميقين، وإدراك دقيق للبعد الجماعي الكامن في التجربة الذاتية.
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com
أدب السيرة الذاتية الإسلامية بين الحس الفردي والجماعي
"الجزء الأول"
(المقالة الخامسة)
عندما تصير الذات ثمرة عصرها، وحكاية في حد ذاتها، وعندما تجد نفسها واصفة وموصوفة في آن واحد، ساعتها تكون قد مدت جسرا بين تمثلها الذاتي ونزوعها الموضوعي؛ إنها بؤرة آثار عميقة، وساحة كشف واكتشاف لمجاهل الإنسان، وفي شعابها انطوت هويتها وخفاياها.
إنها وجود قلق مضطرب، لا يدرك نفسه في يسر أو بكيفية مطلقة، ولا يحيط بذاته تمام الإحاطة، تتجاذبه قوى العقل، والنفس، والروح، بين مد الشعور والوعي، وجزر اللاشعور واللاوعي تارة، وبين جزر الوعي والشعور، ومد اللاوعي واللاشعور تارة أخرى، ومع ذلك فقد سخر للذات الإنسانية الفهم والإدراك، بقصد أن تسعى إلى الإلمام بحقيقتها المادية والروحية.
ثم إن الأنا تشرع في تمثل نفسها، والاستفهام حول ماهيتها ومعنى حياتها بقوة الوعي الكامن فيها، فنراها تستنجد بالماضي المختزن في ذاكرتها، فهي مسكونة بموروثات وحياة نابضة بصور الزمان والمكان، وبحرارة اللقاء الإنساني، وبالتربية والثقافة المكتسبة، وبالمبادئ والقيم المختلفة، وكذلك بالمعتقد الديني.
فما من شك في كون معرفة الذات البشرية هي نتيجة استفهام عن ماهية الإنسان، ومنطلقه، ومآله، خاصة وأن هذا الكائن العاقل يجد ذاته على امتداد أطوار حياته في تغير مستمر، ثم إنه من المؤكد أن كاتب السيرة الذاتية عندما يستشعر دنو أجله، يطرح على نفسه سؤالا دقيقا هو: هل عشت بالفعل حياتي بالكيفية التي أردتها أم لا؟
فإذا رأينا الذات تتفحص حاضرها، فذلك لأنه حصيلة ماضيها بكل الذي زخر به من تجارب حياتية، ولأن الحاضر واقع لا بد لها منه، لتظفر بحس مستقبلي، ورغبة في المضي إلى الأمام، فما احتفال الأنا بذاتيتها في النهاية إلا تمثل لهذا الحس التاريخي، أو تلك القوة الخفية التي تحمل الإنسان على الشعور بأنه عين الشخص، الذي كان له حضور في الماضي القريب والبعيد، على الرغم من الأحداث المتضاربة، والتغييرات المتلاحقة التي توالت على ذاته الباطنية.
ثم إن الذات التي كانت طفلا، فصبيا، ففتى، ثم عاشت ربيع عمرها، فغدت بعد ذلك رجلا، وكهلا، ثم انتهت في مسيرة حياتها إلى خريف العمر مرتقبة ذروة الشيخوخة، هي واحدة في جميع هذه الأطوار، لكن هل السيرة الذاتية هي كتابة الفرد لحياته بناء على تسلسل زمني منطقي؟ أم أنها كتابة لذاته الفردية، بحكم أن هذه الذات مفككة لا تخضع لأي تسلسل زمني؟
لا شك أن الإنسان، كان وسيظل، عالما انطوى فيه كثير من الأسرار، وشبكة من العناصر، التي تجمعها علاقات جد معقدة، تنشأ وتتطور في بيئة وحقبة زمنية ذات معالم وخصائص معينة، والأنا منذ وجدت وهي تطمح إلى اكتساب قيم إنسانية، تميل إليها إما عن هوى ونزوة، أو تنتقيها عن قناعة خاصة، أو تستقطبها تبعا لعقيدة معلومة، في حين تبذل كل ما في وسعها لطرد قيم أخرى، لم تعد ترغب فيها.
إن الكائن الاجتماعي يحلم دائما برؤية عالم يعثر فيه على الاستقرار والسعادة، ويشعر في أكنافه بوجود منسجم مع جميع الموجودات حوله، ثم يطمئن إلى طور من حياته دون باقي الأطوار، فيحياه باستمرار في ذاكرته؛ إنه يصارع قوى معينة من أجل غاية محددة، ويعاني سلبا أو إيجابا في سبيل ما ينشده بقناعة وإيمان، وعن هدى أو ضلال، بحكم انه كائن فاعل في حدود، وعاقل مدرك في حدود كذلك.
فهذا الإنسان كثيرا ما يشقى بأفعاله وممارساته، واختياراته وتوجهاته، وقليلا ما يسعد بأعماله في الحياة الدنيا، وقد يزداد أحيانا قوة وإرادة، عندما يتحول لديه الألم والمكابدة إلى ابتلاء في طيه النعمة، وفي قلبه بذرة التغيير نحو الاستقامة والصلاح، بحكم أن الذات المسلمة الجادة في نهج طريق الاستقامة لا تشقى بما تجده من معاناة، وما ينزل بها من ابتلاءات؛ بل إنها تعمل على تحويل هذه المعاناة والإبتلاءات إلى قوة فاعلة مؤثرة، وجهد إبداعي متميز، إذ من المؤكد أن التجارب الحياتية، الفردية والجماعية، فاعلة في الذات المبدعة، بقدر ما أن هذه الذات منفعلة بها، فضلا عن كونها تستمد شحناتها الإبداعية من كل تجربة تعيشها.
إن ذروة الإحساس بالذات، تنكشف بكل أبعادها الإنسانية في الحقب التاريخية التي تشهد انتقالات من أوضاع معينة إلى أخرى، أو تعرف اضطرابات وهزات اجتماعية، أو سياسية، أو فكرية وغيرها، إذ في هذه الظروف الزمانية وأمثالها تجد الذات البشرية نفسها في حاجة ملحة إلى التوفيق بين نفسها والأحداث الجارية في محيطها.
ثم إن الذات الإنسانية تطمح إلى التعرف على هويتها وجوهرها، وتجتهد في استقراء باطنها؛ لكن هل صحيح أن ثمة إقبالا على كتابة التاريخ الخاص، وأن أدب السيرة الذاتية صار إحدى السمات التي تسم العصر الحديث؟
إننا في ظل ما يحفل به تاريخ الأدب العربي والإسلامي الحديث من آثار أدبية تشهد على نزوع ملحوظ إلى كتابة السيرة الذاتية، وباعتبار المنحى الذي سار فيه التأليف الأدبي في الشرق والغرب عموما، نستطيع أن نرجح صحة الامتياز الذي اكتسبه أدب السيرة الذاتية في العصر الحديث.
ثم إن هذه سمة لها دلالتها الخاصة على ما ساد العصر من حياة اجتماعية، وفكرية، وروحية وغيرها، مما سيساعد المهتم بالبحث في أدب السيرة الذاتية الحديثة على معرفة خط سير هذا اللون من التعبير، وما يكمن وراءه من بواعث، ثم الغاية من إنتاجه، لكن هل صحيح أن المفكرين والعلماء هم الأكثر احتفالا بذواتهم والأكثر ميلا إلى إعمال النظر فيها من الشعراء والأدباء؟
كثيرا ما يعرض نقاد الأدب ودارسوه لمحوري: الفردية أو الذاتية، والجماعية أو الموضوعية، لكنهم قليلا ما يتحرون حقيقة ومدى تلك الذاتية الفردية، وهذه الموضوعية الجماعية؛ بل إن معظمهم ينسون ما للذاتية والموضوعية من قيمة، حتى إن الرهبة تأخذهم من البعد الذاتي في الأدب عموما، فهم ينظرون إلى الذاتية على أنها نقيضة للواقعية؛ بل إن الأمر بلغ ببعضهم إلى توظيفها في موضع الذم.
أما الرأي الراجح عندنا، فهو انعدام وجود فردية ذاتية أو جماعية موضوعية بحتة، بمعنى أن كل ذات فردية تنطوي على ذات جماعية، وكل ذات جماعية تتضمن ذاتا فردية، مع العلم بأن الاهتمام بالجانب الاجتماعي في العملية الإبداعية، لا يعني تهميش السمة الفردية للإبداع الأدبي، إذ أن لكل أديب ذاتية خاصة به، تتفاعل سلبا أو إيجابا مع واقعه الاجتماعي.
ثم إن الذاتين: الفردية والجماعية تخضعان معا لحكم النسبية، نظرا لارتباط إحداهما بالثانية، فالأنا الفردية ذاتية في حدود عالمها الداخلي، لكنها تتراجع عندما تصطدم بالعالم الخارجي، وذلك حتى تفسح المجال للذات الجماعية، التي بدورها ينحسر مدها على عتبة الأنا الفردية، باعتبار أن توازن الفرد في حال اضطرابه يمكن تحقيقه في قلب هذا الكيان الأكثر قربا من الذات الإنسانية.
ومن المؤكد أن الذات تعتبر الركن الأساس في شخصية الإنسان، إذ أنها ليست سوى ذلك الشعور والوعي بكيان الفرد المتنامي باستمرار، على قدر النضج والتعلم، والاكتساب، وللذات الفردية مفهوم يمكن اختزاله في ذلك التكوين المعرفي المنظم، والموحد، والمكتسب في آن واحد لمجموع المدركات الشعورية والتصورات الخاصة بالذات.
وانطلاقا من هذا المبدأ، سيظل مفهوم الذات الفردية والجماعية مقيدا غير مطلق، باعتبار أن إمكانية العثور على ذات مجردة، سواء أكانت فردية أم جماعية، تعد من قبيل الأوهام الشائعة لا اقل ولا أكثر، وهذا لا يعني في شيء أن الأثر الأدبي هو نتيجة لواقع الأوضاع الثقافية والاجتماعية، دون اعتبار ما للذات المبدعة من إسهام وفعل، وما لها من تكوين ذهني ونفسي.
وإذا كانت الذات الفردية تشغل العالم الداخلي وتنشط فيه، بينما تتمثل الذات الجماعية أكثر في العالم الخارجي، فهذا لا يعني في شيء كذلك وجود انفصال أو قطيعة بين الفرد والجماعة الإنسانية؛ بل على العكس ثمة تفاعل ولقاء مستمر، وتأثيرات متبادلة بين الذاتين والعالمين.
وثمة أيضا تجارب إنسانية مشتركة كثيرة، ولاشك أن العلاقة بين الداخل والخارج وثيقة في أدب السيرة الذاتية، الذي يتجاوز ما تعيشه الأنا من عزلة ووحدة.
إن ما قمنا بإثارته في هذا المحور، ينطبق بتمامه على الذاكرة الإسلامية، فضلا عن الذات المسلمة، ما دام أن ذاكرة الفرد جزء من الذاكرة الجماعية، كما أن الذات الفردية بعض لا يتجزأ من الذات الجماعية، ويبدو أن هذه الحقيقة ماثلة في السيرة الذاتية الإسـلامية الحديثة، العربية والأجنبية على حد سواء، وإن كان للذات والذاكرة العربية الإسلامية ملامح وخصوصيات معـينة، مثل ما للذاكرة والذات الأجنبية المسلمة، بشقيها: الفردي والجماعي، ملامـح وخصوصيات محددة.
ثم إن الفرد قد ينوب عن الآخرين من بني عصره وبيئته في كتابة سيرهم الموضوعية، انطلاقا من قراءة ذاته، ومن خلال تجاربه الفردية والمشتركة، ما دام أن القاسم المشترك بين أفراد الجماعة البشرية، يتحول إلى تعبير موضوعي بين طيات السيرة الفردية، ومن ثم تصير الذات الواحدة موضوعا في سياق السيرة الجماعية أو التاريخ الموضوعي.
من هنا نخلص، إذا صح هذا الافتراض، إلى أن تجربة الذات المسلمة تختزل تجربة الجماعة الإنسانية المسلمة في الحياة، خاصة وأننا لا نعثر في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة على تلك النزعة الفردية، التي يتخذ أصحابها من أدب السيرة الذاتية نصبا تذكاريا لها، وهي نزعة غير مسؤولة أو ملتزمة.
ثم إننا على النقيض نصادف في مجموع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة تلك "الأنا" المسؤولة، والغاية الموحدة، التي لا سلطان للعبث، والأهواء، واللذة العابرة عليها، هذا بالإضافة إلى كون الذات الفردية المسلمة تتشكل انطلاقا من المفهوم الجماعي، الذي يختزن الانتماء العقدي، والحضاري.
إن لكاتب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رؤية يتكامل من خلالها البعدان: الفردي والجماعي، إذ أن شعور الأنا الفردي يتطلب وجود الآخر، وتتحول فيها المعاناة إلى باعث قوي على التعبير، وقدرة كبيرة على النفاذ إلى بواطن الأمور وجوهر التجارب.
فكل إنتاج الكاتب هو عبارة عن محاولات متكررة بقصد العثور على حقيقة الحياة وعمقها، وإن كانت ذاتية من يكتب سيرته لا تتمثل في اختلاف تجربته الحياتية عن تجارب غيره من أهل عصره، فإنها تمتاز عن ذوات الآخرين بكونها تنطوي على إحساس ووعي عميقين، وإدراك دقيق للبعد الجماعي الكامن في التجربة الذاتية.
د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
aghanime@hotmail.com
تعليق