خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة .. المقالة السادسة ...

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • عبد الفتاح أفكوح
    السندباد
    • 10-11-2007
    • 345

    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة .. المقالة السادسة ...

    بسم الله الرحمن الرحيم
    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    "الجزء الأول"
    (المقالة السادسة)
    إن السرد القصصي كان وما يزال يهيمن على الحس الإبداعي، وحس المتلقي في العالم العربي الإسلامي، وهو النمط السردي الذي غالبا ما تم نسجه، كما هو الشأن اليوم، حول شخصية محورية غائبة، ربما لأن الذات الكاتبة منذ وجدت وهي تنظر إلى الكائن القصصي المتخيل أحيانا، على أنه ذات مجهولة، وعالم زاخر بالأسرار والألغاز، وهي بالتالي تنطلق من هذا المعطى على أساس أن الإنسان كائن يسعى بذكائه وحدسه إلى حل رموز عالمه الداخلي وفتح مغالقه؛ إنه الكائن الوحيد الذي يجد نفسه في بحث دائم، واكتشاف متواصل، بين مد السؤال وجزر الإجابة.
    وبالنظر من زاوية أخرى، بإمكاننا ملاحظة التميز الذي تنفرد به الأساليب السردية العربية والإسلامية القديمة، التي تتخذها الأنا أو الذات الكاتبة مدارا وفضاء لتجليها بشكل مباشر، وهي نمط سردي، اعتمده معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في حقبة تأسيس الأدب الخاص، يندرج في إطار مزدوج يشمل النثرين: المرسل والمسجوع، والذي يوحي لنا أحيانا بالكيفية التي تصاغ بها الحكم والأمثال، والأقوال المأثورة، وهي أنماط تعبيرية تجمع بين الشحنة الدلالية، والمعاني المركزة، والعبارات الموجزة.
    ولا يخفى أن هذا المنحى في الكتابة الأدبية كان مألوفا ومطروقا بكثافة، حتى إن منتجي هذا الأدب قديما، كانوا يتهافتون عليه ويجتهدون في إجادته و إتقانه، وهو يعد من السمات البارزة في تراث الأدب العربي الإسلامي، بالإضافة إلى كون الكثير مما ألفه العرب القدماء حول ذواتهم، قد تمت صياغته بكيفية متميزة تثير فضول القارئ، إذ أن كثيرا من العناصر الفنية التي أسهمت حديثا في بناء أدب السيرة الذاتية الإسلامية من الداخل، قد اشتمل عليها هذا الضرب من الأدب، عندما كان يجتاز طور التأسيس، مما أهله ليسلك منذ طلائعه الأولى منحى قصصيا.
    ثم إن تجاوب جمهور القراء على امتداد التاريخ مع الإنتاج الأدبي المبني على السرد القصصي، ساعد وشجع على رسوخ أدب السيرة الذاتية في العالم العربي الإسلامي من جهة، وعلى استمرار وجوده حتى عصرنا هذا، ومما أسهم كذلك في عدم انقراض هذا الفن الأدبي، ارتكاز مستويات حياة الإنسان التواصلية، خاصة منها الاجتماعية والمعرفية، على عملية السرد المتبادل.
    ومن بين الملاحظات الأولية التي بالإمكان تسجيلها في معرض هذه القراءة، كوننا نادرا ما نصادف سيرة ذاتية عربية إسلامية قديمة، استطاع صاحبها أن ينفذ بالوصف والتحليل إلى باطن ذاته، بقصد الكشف عما فيها من مظاهر الصراع النفسي والروحي، والوقوف على ما يقبع في أعماق النفس من آثار دفينة، وهذا القصور كان سببا في افتقار أعمال كثيرة إلى المادتين: النفسية، والاجتماعية، فظلت سجينة المظاهر السطحية للحياة الشخصية، أو استعراضا لبعض الجوانب الخارجية.
    ولعل من بين الأسباب في توجه المؤلفين العرب القدماء نحو العالم الخارجي، واهتمامهم بالانشغالات الموضوعية بالدرجة الأولى، ثم بقاء عالمهم الداخلي متواريا ومغمورا أكثر الأحيان، إنهم لم يفطنوا إلى الأهمية البالغة التي يكتسيها التعبير المسهب عن بعض الأطوار الحياتية، وخاصة طور الطفولة والنشأة، وهذه الخاصية تكاد تكون قاسما مشتركا بين السير الذاتية الإسلامية القديمة.
    وأما الذين اهتدوا من الكتاب العرب قديما إلى عملية الاسترجاع، فنجدهم ينتقون أطوارا معينة من طفولتهم، ويختزلون الحديث عنها في رغبتهم المبكرة في طلب العلم، إذ كان طور الطفولة والصبا بالنسبة إليهم يجسد المرحلة الأولى التي ألهموا فيها الإقبال على العلم ومناهل المعرفة، والتي عملوا خلالها على ترسيخ الاجتهاد في ذواتهم رغبة في العلم، وتمرين نفوسهم على الصبر في سبيل ذلك؛ إنهم يتذكرون الطور الأول من حياتهم دون غيره من مراحل العمر المتقدمة، لكونهم يرجحون آثاره البعيدة في تكوين شخصيتهم، واختيار وجهتهم وسيرتهم في الحياة.
    إن الانصراف المبكر إلى طلب العلم، وإيثار الجد على اللهو والعبث في سن الطفولة، ظل بين العرب القدماء، وأكثرهم من أهل العلم، والأدب، والطب، والفلسفة، والتاريخ، محط استفهام وإثارة، فهم لم ينسبوه إلى استعدادات فطرية، أو مؤهلات ذاتية وشخصية، وإن كان البعض أرجعه إلى التأثر بالوسط العلمي، وإنما عادوا به في الغالب إلى الإلهام والهداية من الله عز وجل.
    ثم لقد كان هذا المنحى الظاهرة، بالنسبة إليهم، تجربة إنسانية مبكرة، لا ينفرد بخوضها والاهتداء إليها إلا القليل من الناس، ذلك لأنها لا تكتسي طابعا إراديا أو اختياريا؛ فهي فضل من الله تعالى، يهبه لمن يشاء من عباده، لكن هذه التجربة لا تعدم أسبابا ذاتية وأخرى موضوعية مساعدة، وإذا كان من النادر أن نعثر في السير العربية القديمة على إشارة، سواء من قريب أم من بعيد، إلى أثر الوراثة وفعلها التكويني المتصل أساسا بطبيعة الشخصية، فإننا نجد في بعضها كشفا عن تأثير البيئة في تكوين ذوات أصحابها.
    إن معظم كتاب السيرة الذاتية الإسلامية القديمة كانوا يحاولون إقناع القراء، تصريحا أو تلميحا، بان تجاربهم الفردية في سن الطفولة، تمثل لحظة وعي مبكر في مجرى حياتهم، وأنها كانت مبدأ نهجهم في الحياة، ومنطلق رسالتهم في الوجود، وكذا مستهل يقظتهم المعرفية، فكانوا يرون في طلب العلم مبكرا، ومقاطعة أسباب اللهو في سن الصبا دليلا على النبوغ المرتقب، والمكانة العلمية المنتظرة، بحيث كانت الغاية المرجوة عندهم هي الاقتراب من الذروة أو الكمال في مجالات العلم والمعرفة في مفتتح أعمارهم.
    بناء على هذه الرؤية، اقتنعت الذات المسلمة في الماضي بأن الإقبال منذ سن مبكرة على طرق أبواب العلوم والمعرفة، ما هو إلا نعمة من الله سبحانه وجب التحدث بها، فكان هذا الإدراك حافزا وباعثا كافيا للقدماء، حتى يسردوا علينا تجاربهم الاجتماعية، والفكرية، والروحية من خلال الأشواط التي قطعوها في سبيل تحصيل العلم ومعرفة النهج الحق في الحياة.
    إن مختلف التجارب الفردية التي نصادفها في السير الذاتية الإسلامية القديمة تفصح بجلاء عن مدى عناية السلف بتطور الحياة الشخصية بشقيها: المادي والروحي، وتبين عن مبلغ التمسك بنشرها وإذاعتها بين القراء، وهي تجارب تم ذكرها للاعتبار واكتساب المعرفة أصلا، وذلك بالإطلاع على مضامينها القوية والمؤثرة أحيانا، فجاءت في مجملها ذات طابع تعليمي، ومنسجمة على مستوى توجهها ومراميها مع روح السيرة النبوية.
    ثم إن الذات المسلمة لم تكن تطلب العلم نزوة واحتكارا، أو تنفق مختلف أطوار حياتها بغير رؤية واضحة وقصد معلوم؛ بل كانت تسعى جادة إلى اكتساب معرفة غزيرة وعلوم شتى، طلبا وسعيا منها إلى التزام الحق والإلمام بالحقائق، وفوق كل هذا كانت تحرص على نهج مسالك العلم رغبة في عبادة الله والتقرب إليه.
    فنحن إذا أمعنا النظر قليلا في عدد من السير الذاتية الإسلامية القديمة، سنلاحظ ميلا لدى أصحابها ونزوعا إلى ذكر تفاصيل دقيقة ليست من قبيل الحشو والإسراف في الحديث، وإنما هي تفاصيل مهمة بالفعل، وقد صيغت بكيفية تضمن تواصلا سليما وفاعلا مع القارئ، بقصد إخباره بأمور معينة، وتقريبه من حقيقة المواقف، والأحداث، والحياة اليومية، والتجارب عموما.
    ثم إن سبب التمسك بالخطاب التعليمي، الذي يأخذ في معظم الأحيان صبغة وعظية وإرشادية، يكمن في الاعتقاد الراسخ للذات الكاتبة في الإسلام وتعاليمه، وفي الإيمان القوي بالله عز وجل، ثم في الوعي بالأمانة والمسؤولية التي حملها الإنسان، وارتبطت به دون غيره من المخلوقات، باعتباره كائنا عاقلا وخليفة في الأرض.
    ولعل الظاهرة التعليمية، وتصوير الحياة العلمية، التي هيمنت على خطاب السيرة الذاتية العربية الإسلامية قديما، خير دليل على أنها كانت باعثا مباشرا وغاية في ذات الوقت، تتدرج الذات الكاتبة في ضوئها بسرد سيرتها، ابتداء من عهد الصبا، ومرورا بزمن الفتوة والشباب، ثم انتهاء إلى مرحلة الكهولة وبعدها طور الشيخوخة.
    إن الغاية التعليمية هي التي حدت بالذات المسلمة إلى رصد أحوالها وأفعالها، وسلوكياتها، بقصد ترجمتها في وضوح ودون تعقيد إلى جانب الأشواط التي قطعتها والتجارب التي خاضتها لأجل طلب العلم، وهذا الفعل التاريخي الهادف هو الذي يحيلنا على مدى عناية هذه الذات بمسألة التكوين العقائدي والفكري، فهي ذات تسعى في الغالب إلى الإحاطة بالجانب الاعتباري دون الجانب الوجداني لتكوينها.
    ثم إن العرب المسلمين القدامى لم يغفلوا في ما كتبوه عن ذواتهم ذكر شيوخهم، وتلاميذهم، ومصنفاتهم، فهم يحرصون على هذا الذكر أشد الحرص، وذلك باعتباره ركنا أساسيا في حياتهم العلمية، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com
  • عبد الفتاح أفكوح
    السندباد
    • 10-11-2007
    • 345

    #2
    بسم الله الرحمن الرحيم
    خصائص أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    "الجزء الثاني"
    لقد تحولت التجارب الفردية في الماضي مع كتاب السيرة الذاتية العرب المسلمين إلى ملك جماعي مشاع بين جمهور القراء، تستسقى منه الدروس والعبر، وكثيرا ما كان يلجأ العارض لسيرته الذاتية إلى بيان قصده وغرضه من كتابة تاريخه الخاص، وكشف رغبته في إشراك القراء، ودعوتهم إلى التأمل والتدبر الواسع.
    ثم إن الذات المسلمة كانت قديما تدرك بعمق فائدة العملية التاريخية، ومقدار النفع الذي يجنى من رصد ومتابعة أهم الوقائع والأحداث في مسيرة الحياة الإنسانية، سواء على المستوى الفردي أم الجماعي، ومن ثم كانت كتابة السيرة الذاتية لدى قدماء العرب المسلمين لا تقل أهمية عن مسيرتهم العلمية، لأنها أداة يترجمون ويوثقون بها مجريات طلب العلم بدءا من طفولتهم إلى شيخوختهم، هذا بغض النظر عن الآثار المكتوبة التي يخلفونها في مختلف فروع العلم، والأدب، والتاريخ.
    إن من يمتلك هذه الرؤية البعيدة المدى والشاملة، التي تشمل الماضي، والحاضر، والمستقبل، لا شك انه سينظر إلى كتابة سيرته الذاتية من نفس الزاوية، وتبعا لذات البواعث، المتمثلة في ما يلي:
    أولا: إفادة طالب العلم .
    ثانيا: الرياضة الفكرية.
    ثالثا: الاستعانة بحصيلة الإنتاج العلمي في طور الشيخوخة.
    ثم إن الكتاب العرب المسلمين أولوا عناية خاصة في الماضي بمسألة النسب، فبعدما كانوا في البداية يقتصرون على ذكر آبائهم، إذ دأبوا على هذا التقليد في التمهيد لسيرهم الذاتية حتى حدود القرن الخامس الهجري، نجدهم يهتمون أكثر بأنسابهم، ابتداء من القرن السادس الهجري، مجتهدين في أن يصلوها بأبعد أجدادهم، فمن النماذج التي نعثر عليها في القرن السادس الهجـري، المندرجة في هذا الباب، الفصل الذي كتبه علي بن زيد البيـهقي، المتوفى سنة 565 من الهجرة، متحدثا عن نفسه، والذي أودعه في كتابه: "مشارب التجارب"، وقد حفظه ياقوت الحموي في "معجـم الأدباء"، وما ذكره عبد الرحمان بن الجوزي في مؤلفه: "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
    ولا شك أن أصول هذا التقليد تعود إلى أحد مظاهر الحياة العربية التي سادت ما قبل الإسلام، حيث كان العرب ينظرون إلى أنسابهم، وأمجادهم نظرة اعتزاز وفخر، ويتخذونها رمزا لشهرتهم ومكانتهم؛ بل ومادة محورية لشعرهم وأحاديثهم في الفخر والحماسة، حتى إنهم يبالغون في نظرتهم إليها، وقد أدرك الإسلام العرب، وهم أشد الناس حرصا على حفظ أنسابهم.
    ثم لقد تنوعت اختيارات كـتاب السيرة الذاتية في إخراج آثارهم الأدبية، فمنهم من أودع تاريخه الخاص في كتاب، ومنهم من أفرد سيرته الذاتية في رسالة أدبية، أو فلسفية، أو علمية مستقلة.
    ثم من بين الخصائص التي تسم التقليد القديم في كتابة السير الذاتية، نذكر مسألة العنوان، التي على ما يظهر شغلت حيزا ملحوظا من اهتمام القدماء، الذين كانوا ينتقون عناوين تواريخهم الخاصة بدقة وعناية بالغة، وهي غالبا ما تجسد الباعث القريب أو البعيد على تأليف السير الذاتية، وتعين المدار الرئيس لهذا الضرب من التأليف، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
    وحـتى نتبين مدى التطابق الحاصل بينها وبين المضامين التي تدل عليها، يكفي أن نستعرض ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ العناوين التالية: "الاعتبار"، و"المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال" و"لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق" و"التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا"، و"بذل المجهود في إفحام اليهود"، و"لفتة الكبد إلى نصيحة الولد".
    إن السير الذاتية الإسلامية التراثية تختزل كثيرا من التجارب الإنسانية الأولى في العالم العربي الإسلامي، وهي تجارب تعكس أساسا المعاناة الفردية في المجتمع، فالشكوى من عداوة الأهل والحاسدين، والابتلاء بالسجن، ثم مجاهدة النفس اتقاء الانحراف والانغماس في مغريات الحياة الزائلة، جميع هذه المحاور وغيرها هي مدارات معاناة مشتركة بين كثير من أصحاب السير الذاتية التي حفظها لنا تراث الأدب العربي الإسلامي.
    وفي أجواء السيرة الذاتية الإسلامية القديمة، نعثر على فضاء من المعاناة الفردية المركبة من الفقر والاغتراب في المجتمع، تفصح الذات المسلمة من خلاله عن محنتها، وتقلبات أحوالها بين ضيق ذات اليد وكدر العيش من جهة، والتجاهل من طرف أهل زمانها والمعاصرين لها من جهة ثانية، فهي ذات لم يتم تقديرها حق قدرها، ولم تلق من غيرها سوى الحسد والازدراء، والشماتة والإهمال.
    ويمكن اعتبار مجموع التجارب الفردية ، التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية قديمة، موضوعات تشكل جانبا من فضاء الذاكرة الإسلامية، فردية كانت أم جماعية، التي يحفظها تاريخ الأدب الإسلامي، في حين أن الذات الكاتبة المسلمة تترك الكلمة الأخيرة في حق مختلف التجارب موقوفة على درجة فهم المتلقي القارئ، ومستوى إدراكه واستيعابه للخطاب الموجه، الذي غالبا ما يكون ذا طابع تعليمي، مع العلم بأن فتور أو قوة العناية بخطاب السيرة الذاتية عموما رهينة بمدى الاهتمام بالشخصية الإنسانية.
    إن الذات التي نحن بصدد اقتفاء آثارها و تجلياتها، استطاعت أن تحول ردود أفعالها إلى قوة نفسية، مكنتها من امتصاص كل الأفعال المضادة، فالإيمان الشديد بالله، فالقناعة، والأمل، والرجاء، والصبر، والعفاف، وطلب العلم ومعالي الأمور، جميعها قيم وعناصر ساعدت الأديب، والفقيه، والمفكر، والعالم على تجاوز محنهم ساعة الشدة والبلاء، وعلى الرغم من اشتداد وقع الاغتراب على الذات المسلمة، فإنها تخوض في وسطها الاجتماعي صراعا بالمعرفة والحكمة ضد الجهل والعبث.
    وأمام قوة تأثير العوامل المعاكسة ، كان من الطبيعي أن تتصدى الذات المسلمة لكل عارض برد فعل أشد قوة، لكن النفوس الحساسة في مثل هذه الأحوال توكل أمرها إلى الله عز و جل، وتنزع إلى الارتداد نحو عالمها الداخلي، وتحتمي بالعزلة والانقطاع إلى الله تعالى عن الاجتماع بالآخرين، وهي تعلم أن ليس من سبيل إلا التزود بقوة الإيمان والصبر، وإلا ازدادت معاناتها بقدر حدة الأزمات النفسية.
    إن القطيعة التي كانت غالبا ما تنشأ بين أفكار الإنسان المسلم وانشغالاته وتطلعاته، وبين الميول والأهواء السائدة، ظلت تزيد الهوة اتساعا بين الذات المسلمة ومعاصريها، نظرا لانعدام التجاوب المتبادل، وتباين السلوك والوجهة والأهداف، وعلى الرغم من قساوة الظلم الاجتماعي، وحدة العزلة والاغتراب، فإن قوة النفس المؤمنة حالت دون تكسير الرؤية المستقبلية للإنسان المسلم، بقدر ما حالت دون تقليص مداها، وحصر مدها في حدود ضيقة.
    إننا نصادف الذات المسلمة في كثير من التجارب الروحية، وهي تشغل بؤرة الصراع الداخلي، وقلب المجاهدة النفسية، ومركز العقدة والحل، بحيث بإمكاننا ملاحقة تدرجها من الشك والأسئلة المقلقة إلى اليقين والأجوبة المطمئنة، ثم بالانتهاء إلى الزهد المعتدل والرؤية المستقرة، وذلك عن طريق النظر بالعقل وتحكيمه في ضوء العقيدة الإسلامية.
    ففي الوقت الذي يروج فيه الحديث في الغرب عن كون الرواية والسيرة الذاتية ليستا سوى وسيلتين يهدف الكتاب الغربيون من ورائهما إلى الخلاص من أسر الزمن، والنزوع إلى تأليه الإنسان من خلال تمكينه من القدرة على الخلق، نجد كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة لا يسعون إلى هذه الغاية، لأن الإسلام لا يدعو إلى تأليه الإنسان، أو إلى الدخول في صراع مع الزمن.
    ولنا المثال الحي والدال، في عدد من التجارب الذاتية المحفوظة في جملة من الأعمال التراثية العربية الإسلامية، على ذلك الصراع الداخلي، وتلك الصورة الواضحة الأبعاد الرؤية المستقرة، التي تجمع بين الدين والدنيا، وتشغل الإنسان في أي زمان وأي مكان، ونحن نستطيع أن نحدد الأبعاد التي تشكل الرؤية أو الهاجس الملازم للكائن العاقل في ثلاثة هي:
    أولا: البعد الداخلي، أو العالم الباطن الذي يعكف عليه الإنسان ليكشف حقيقته.
    ثانيا: البعد الخارجي، أو العالم الظاهر الذي تتبادل معه الذات الإنسانية
    التأثير والتأثر.
    ثالثا: البعد الغيبي، أو عالم الغيب الذي ينشد إليه الإنسان، وتحاول الذات الفردية أن تعي علاقتها به، وتحدد موقفها منه.
    إن المعاناة الفردية تبدأ عندما تحاول الذات الإنسانية أن تتجرد من جميع المعطيات، والمفاهيم المترسبة في غياب وعي ذاتي، واقتناع مؤسس، فتلجأ إلى هدم الأفكار الجاهزة، والرؤى المكتسبة تقليدا وإتباعا، ثم تبني أفكارا، ورؤى، واقتناعات جديدة على أساس من اليقين والاجتهاد العقلي.
    لقد كانت مسألة التقليد العقدي، وكثرة التأويلات، والبدع، والفرق المذهبية السائدة قديما علامة استفهام كبرى، ومبعث ارتياب وقلق يؤرق الذات المسلمة، ويحفزها في آن واحد، بهداية من الله عز وجل، على طلب الحق، والعلم بأصول الحياة الإسلامية، وبالتالي تأسيس رؤية واعية وواضحة، تشمل الإنسان، وعالمي: الغيب والشهادة، والعقيدة الصحيحة.
    ثم إن خاصية البحث عن الحقيقة وإيثار الحق، كانت قاسما مشتركا بين أمثال ابن الهيثم وأبي حامد الغزالي، وعاملا مشجعا لهم على أن يتخذوا أنفسهم قدوة للآخرين، ولم يكن الواحد منهم يدعي أن له يدا في كل الذي بلغه من العلم، وناله من رفعة شان وسمو مكانة؛ بل إنهم كانوا يعودون بهذا الكسب والحظ الثمين إلى الله عز وجل موجده وخالقه.
    لكن في الوقت نفسه لم يكن أي واحد من المسلمين القدماء ينفي اجتهاده المتواضع بأفعال التقوى وأسباب التوكل في طلب العلم، واكتساب الحكمة والمعرفة، بقصد المجاهدة النفسية، والدعوة إلى الله تعالى.
    إن الذات المسلمة تعي جيدا أنها توجه خطابها إلى من هم دونها تجربة من العامة والمبتدئين في طلب العلم، وهي تفعل ذلك انطلاقا من تجاربها الفردية، ورصيد خبرتها، وخلاصة تمرسها، وعصارة حنكتها، وهي أيضا توجه خطابها ليس من موقع الاستعلاء، أو رغبة في المن والرياء؛ بل إنها تسخره في الدعوة إلى الله، وتريد به الإصلاح ، بحكم أن العمل من أجل هذه الغاية هو واجب ومن تعاليم الإسلام ومرتكزاته، ويكفي أن نذكر هنا بكون النصيحة جامعة للدين كله.
    ثم إن مختلف الخصائص الشكلية والمضمونية التي حاولنا كشفها واستعراضها، تعد إلى جانب بواعث الكتابة سمة مشتركة بين جميع السير الذاتية الإسلامية التراثية، ومن ثم فإنها تمثل في الغالب أهم الثوابت التي بإمكانها أن تساعد على اختزال أي قراءة محتملة أو مرتقبة في خطابها.
    وعند ختم هذا المقال، سنترقب بشوق كبير من كافة المهتمين بأدب السيرة الذاتية إسهاماتهم في نقاش ونقد ما بسطناه من أفكار وتأملات متواضعة حول هذا الجنس الأدبي المميز، فهل سيأتينا بالنقد والتمحيص من لم نزود؟
    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    تعليق

    يعمل...
    X