العصيان المدني
استفاقت المدينة على غير عادتها ،مُحاولة نفض غبار التلوث والرذيلة المختبئة بين أزقتها،وفي النوادي المحروسة. استفاقت المدينة متثاقلة،كعجوز هدتها سنوات العمر.
في العادة،تتوشح هذه المدينة الغول،بوشاح الضجيج،والأدخنة المتطايرة من عوادم الحافلات المهترئة،وسيارات الأجرة المتقادمة.
تتجمل المدينة في كل الصباحات بأبواق السيارات المتزاحمة جيئة وذهابا،في كل الاتجاهات،ولكل سيارة قانون سيرها الشخصي،لكل سائق مبرراته التي يراها الدافع الأوحد لعدم احترامه قانون الطريق الرسمي.
ككل النساء،تضع المدينة،في كل الصباحات احمر الشفاه،على صيحات الباعة المتجولين،يعرضون بضائعهم بأصوات صباحية تقض مضاجع النائمين،وتدثر الأرصفة بما لذ وطاب من بقايا رؤوس السمك،وقشور الموز والبرتقال،وروث الحمير التي تجر العربات.
هذا الصباح،لم تكن الحركة عادية،لم تألف المدينة مثل هذا الهدوء.
يخرج من البيت،عازما الذهاب للعمل،مَنْ أسعدته ظروفه إيجاد عمل في زمن ِ شُحِّ الوظائف.
الشوارع مكتظة بالمارة،مواقف الحافلات وسيارات الأجرة تجمع حشودا من البشر.
لا شك أن في الأمر ما يدعو للاستغراب،وفي البال تعصف لحظات تيه وإنفلات عرفتهما المدينة منذ عقدين من الزمن،يوم انطلق العصيان من قمقمه يعلن إسقاط ما تبقى من كرامة لهذا الشعب،حيث توشح الجيش بالموت يوزعه مجانا على من أحس بقليل من الكبرياء وهو يقاطع التعامل العام مع القطاعات الحية في البلد،احتجاجا منه على هدر الحق في العيش الكريم،ومطالبا بتساوي الفرص ،وتقليل الفوارق الاجتماعية بين الطبقات،والرفع من قوة وقيمة القدرة الاستهلاكية للفرد.
الجيش حين يتمنطق السلاح فلأن عدوا ما يتربص بالوطن،لكن أن يفجر رصاصه أدمغة المواطنين العزل،فهذا أمر يستحق العصيان المدني.
الصور تتوالى،الدبابات تجوب الشوارع،وتقذف النار،المروحيات الحربية ترصد مواقع التجمعات وتقصف.كل الثكنات العسكرية أعلنت حالة الطارئ، وخرج المنتسبون إليها بالذخيرة الحية يصطادون الشعب الأعزل.
كل الإمكانيات مفتوحة ،والساعات القادمة تنذر بالأعنف والأخطر.
صور الماضي حاضرة هذا الصباح،حيثُ الرفض الجماعي لمدونة السير،كل السائقين توحدوا-صوابا أو خطئا-للتوقف عن أداء مهامهم العمومية.
وحده الموظف والعامل في مهمة غير مهمة السياقة،عليه الالتحاق بالعمل،بكل الوسائل إلا وسائل النقل.
شُلَّتْ حركة السير،انتظمت فرقة من السائقين المُضرِبين،تحمل السكاكين،تتجول لرصد كل من يحاول الخيانة وإفشال المعركة،تفجر إطارات كل سيارة أجرة أو كل سيارة خصوصية تقف في محطات الوقوف.
كم كنْتَ وحدك أيها الواقف خلف الستار ،ترقب المدينة تتحول إلى معركة كان الجانب الأقوى فيها فيلق الجيش ،والأضعف جماهير الشعب.
كم كنتَ وحدك، حين أزاحت عنها المدينة الخمار،لتتجلى بقامتها الهيفاء،تدفع عن نفسها تلاطم الأمواج.
لم تكن هذا اليوم مُجَمَّلة،لم تُسعفها فُجائية الحركة كي تتزين وترتدي أبهى اللباس.
وحين كانت الشمس تودع،تُلامسُ المدى في غياب مؤقت،كانت المدينة تَعُدُّ أشلاء أبنائها الذين أحبوها،وإخلاصا منهم وهبوا أرواحهم قرابين كي تحيى المدينة.
الدار البيضاء،زمن الرصاص. هــري عبد الرحيم 2007.
استفاقت المدينة على غير عادتها ،مُحاولة نفض غبار التلوث والرذيلة المختبئة بين أزقتها،وفي النوادي المحروسة. استفاقت المدينة متثاقلة،كعجوز هدتها سنوات العمر.
في العادة،تتوشح هذه المدينة الغول،بوشاح الضجيج،والأدخنة المتطايرة من عوادم الحافلات المهترئة،وسيارات الأجرة المتقادمة.
تتجمل المدينة في كل الصباحات بأبواق السيارات المتزاحمة جيئة وذهابا،في كل الاتجاهات،ولكل سيارة قانون سيرها الشخصي،لكل سائق مبرراته التي يراها الدافع الأوحد لعدم احترامه قانون الطريق الرسمي.
ككل النساء،تضع المدينة،في كل الصباحات احمر الشفاه،على صيحات الباعة المتجولين،يعرضون بضائعهم بأصوات صباحية تقض مضاجع النائمين،وتدثر الأرصفة بما لذ وطاب من بقايا رؤوس السمك،وقشور الموز والبرتقال،وروث الحمير التي تجر العربات.
هذا الصباح،لم تكن الحركة عادية،لم تألف المدينة مثل هذا الهدوء.
يخرج من البيت،عازما الذهاب للعمل،مَنْ أسعدته ظروفه إيجاد عمل في زمن ِ شُحِّ الوظائف.
الشوارع مكتظة بالمارة،مواقف الحافلات وسيارات الأجرة تجمع حشودا من البشر.
لا شك أن في الأمر ما يدعو للاستغراب،وفي البال تعصف لحظات تيه وإنفلات عرفتهما المدينة منذ عقدين من الزمن،يوم انطلق العصيان من قمقمه يعلن إسقاط ما تبقى من كرامة لهذا الشعب،حيث توشح الجيش بالموت يوزعه مجانا على من أحس بقليل من الكبرياء وهو يقاطع التعامل العام مع القطاعات الحية في البلد،احتجاجا منه على هدر الحق في العيش الكريم،ومطالبا بتساوي الفرص ،وتقليل الفوارق الاجتماعية بين الطبقات،والرفع من قوة وقيمة القدرة الاستهلاكية للفرد.
الجيش حين يتمنطق السلاح فلأن عدوا ما يتربص بالوطن،لكن أن يفجر رصاصه أدمغة المواطنين العزل،فهذا أمر يستحق العصيان المدني.
الصور تتوالى،الدبابات تجوب الشوارع،وتقذف النار،المروحيات الحربية ترصد مواقع التجمعات وتقصف.كل الثكنات العسكرية أعلنت حالة الطارئ، وخرج المنتسبون إليها بالذخيرة الحية يصطادون الشعب الأعزل.
كل الإمكانيات مفتوحة ،والساعات القادمة تنذر بالأعنف والأخطر.
صور الماضي حاضرة هذا الصباح،حيثُ الرفض الجماعي لمدونة السير،كل السائقين توحدوا-صوابا أو خطئا-للتوقف عن أداء مهامهم العمومية.
وحده الموظف والعامل في مهمة غير مهمة السياقة،عليه الالتحاق بالعمل،بكل الوسائل إلا وسائل النقل.
شُلَّتْ حركة السير،انتظمت فرقة من السائقين المُضرِبين،تحمل السكاكين،تتجول لرصد كل من يحاول الخيانة وإفشال المعركة،تفجر إطارات كل سيارة أجرة أو كل سيارة خصوصية تقف في محطات الوقوف.
كم كنْتَ وحدك أيها الواقف خلف الستار ،ترقب المدينة تتحول إلى معركة كان الجانب الأقوى فيها فيلق الجيش ،والأضعف جماهير الشعب.
كم كنتَ وحدك، حين أزاحت عنها المدينة الخمار،لتتجلى بقامتها الهيفاء،تدفع عن نفسها تلاطم الأمواج.
لم تكن هذا اليوم مُجَمَّلة،لم تُسعفها فُجائية الحركة كي تتزين وترتدي أبهى اللباس.
وحين كانت الشمس تودع،تُلامسُ المدى في غياب مؤقت،كانت المدينة تَعُدُّ أشلاء أبنائها الذين أحبوها،وإخلاصا منهم وهبوا أرواحهم قرابين كي تحيى المدينة.
الدار البيضاء،زمن الرصاص. هــري عبد الرحيم 2007.
تعليق