قرأت قصة الأخ المبدع ربيع عقب الباب " متمرد بين الصيصان " فتذكّرت ذلك اليوم ..و كان هذا النص..
لماذا الّلوحة مقلوبة.. ؟؟
لن أنسى حصّة ذلك اليوم .
خرجت منها بعلامات إستفهام كثيرة و بمشاعر أسف عميقة لا تزال تسكنني إلى الآن.
وقفت بباب الفصل فإذا هو رأس على عقب . كأنّما تلامذتي اللّطفاء قد أصيبوا بالهيجان . لا أحد في مكانه . الكلّ يثرثر ..أصواتهم تكاد تخترق الجدران . حماسٌ غيرعادي لم أشهده فيهم من قبل .كان لابد أن ألجأ إلى الأسلوب الذي أدّخره لمثل هذه الحالات .أخرجت سلاح الطوارئ ..سحبت البسمة من شفتيّ ..قطّبتُ جبيني ..رسمت فوق وجهي ملامح القسوة و التهديد و حدجتهم بنظرات غاضبة ..حتى إذا عمّ الهدوء و استقرّ الجميع فوق مقاعدهم ..أفرجت أساريري بعض الشىء و سألتهم و أنا أفتعل حيرة من يجهل الإجابة :
- حسنا..ليخبرني أحدكم ماالذي يجري ؟
نظر بعضهم إلى بعض كأنّهم يستغربون السؤال..ثم تعالت أصواتهم قوية تشتعل حماسا ..
استطعت من بينها أن أميّز وائل و في صوته نبرة لوم واضحة :
- مباراة فريقنا هذا المساء.. يا أستاذة ..
لمحتُ في معصم وائل شريطا قماشيّا بألوان العلم الوطني . .و لبنى أيضا تضع في شعرها شريطا حريريا بنفس الألوان ..
و سعاد هناك.. في آخر الصف تلفّ العلم حول رقبتها .
إلتفتّ إلى وائل :
- أكل هذا الحماس و هذه الفوضى من أجل كرة القدم ؟
سكتَ وائل و لكن لبنى اهتزّت :
- إنها الوطنية يا أستاذة .
جفلت ..هكذا إذا..! " إذا كان الأمر كذلك فأنا لا أملك 'غراما' واحدا من الوطنية ! "
أخذ مني الفضول كل مأخذ فسألتُها :
- عزيزتي أنا لا أفهم ..هل لك أن تشرحي لي العلاقة بين كرة القدم و الوطنية ؟
تردّدت قليلا..نظرت إلى زملائها كأنّما تستنجد بهم ثم قالت :
-إنّ كرة القدم هي التي تجمع بين أفراد شعبنا .
تمنّيتُ لو أناقشها في الموضوع و لكني نظرت في ساعتي.. فقد آن أن أبدأ الحصّة ..
سكتتُ على مضض..و بدأنا الدرس..
كان نصاً عن آفة الفساد و داء الرشوة .
عندما أنهيتُ الدرس تقدّمت منهم..بششتُ في وجوههم الغضّة التي مازال فيها قبس من براءة..قلتُ وكلّي ثقةً و إيمان .
-انتهى درس اليوم..و أنا أعلم أنّكم أنتم الأمل في القضاء على هذا الدّاء الفتاّك الذي ينخر أوصال المؤسّسات .
كم كانت دهشتي كبيرة عندما لاذ الجميع بالصمت .
لا أحد قال لي –و لو مجاملة – و لو كذباً -" طبعا..نحن لها يا أستاذة ! "
..بعض التلاميذ اكتفوا بالإبتسام كأني قلت نكتة..و البعض رفع حاجبه و قلّبّ شفتيه كمن يريد أن يقول " لا تعتمدي علينا كثيرا في ذلك يا أستاذة ! "
في طريقي إلى البيت بدا لي الشارع غريبا كأني أمشي فيه لأوّل مرّة ..كل شيء رأيته مقلوبا ..حتى الناس من حولي كانو ا يمشون على رؤوسهم ..
عادت بي ذاكرتي إلى ذلك الزمن الجميل حيث كان كل شيء يُعرف بإسمه ..أيام كانت المفاهيم ثابتة غير قابلة للتمدّد أو التغيّر أو ..المساومة..الحرية و الوطنية و الكرامة و الإنتماء..حسبتها كبصمة الأصابع..هي دائما نفسها.
كنت أسير و قد إرتسمت أمامي لوحة فسيفسائية جميلة..ألوانها برّاقة..زاهية.. لوحة مرسومة بدقّة و إتقان...و لكنّها.....مقلوبة ..!
تعليق