الهر
07 ـ 12 ـ 1998
كانت العاصفة تزمجر في الخارج، كوحش أسطوري مداه كل المدى يبتلع الحياة ولا يترك وراءه إلا الموت و الخراب.
أدخل رأسه تحت الغطاء، ثنى ساقيه وجعل كفيه بين فخذيه. في هذا الوضع استشعر بعض الدفء وبعض الأمان. قارن وضعه هذا بوضع جنين في رحم أمه... ليته لم يولد، حياة كله شقاء وعدو وراء السراب.
يقولون: عندما يكتمل الجنين يأتيه ملك من السماء، يحكي له عن حال الدنيا ويسأله إن كان يريد رؤيتها. ثم يكون ما يختاره...
كيف اختار إذن هذه الحياة، لماذا لم يقل لا أريدها. ألم يكن أحمق، أحمق .. رنت هذه الكلمة بداخله، رجعت به الذكرى إلى أيام الصبا، إلى أقصى ما يتذكر.
كانوا في تلك القرية الصغيرة ينادونه بالمجنون، وأحيانا بالهر. وإمعانا في إيذائه يرددون "هلال، لهب، هر" فتثور ثائرته، يصرخ، يبكي بقوة وينشب أظافره في وجه خصمه.. يعض بعنف، ينط في الهواء وينطح غريمه على أم أنفه... وكان دائما ينتصر، لذلك بدؤوا يتجنبونه. ربما كانت روح هر كبير تتقمصه، لذلك فهو كثير الحنو على القطط الصغيرة والإعتناء بها ولا يحتمل رؤيتها تتألم...؟
ماتت أمه وهو في الخامسة من عمره.. سحبوه يومذاك إلى بيت عمه في القرية المجاورة ونصبوا له أرجوحة ـ إنها مسافرة، وستعود بعد أيام ـ هكذا قالوا له. لم يبك في ذلك اليوم، وحتى حين تيقن من وفاتها لم يتركوه ليبك .. لكنه ذرف الدموع بعد ذلك لسنين طويلة وظل ينتظرها...!
في البيت كانوا يتحاشون الحديث عنها أمامه.وفي تلك المرات القليلة التي حدثت، كان يتركهم ويسد عليه الباب في غرفة خالية وينتحب في صمت، حتى إذا غيروا الحديث وهدأت نفسه عاد للجلوس معهم كي لا ينتبه إليه أحد.
في الشارع لم يكن يستطيع الصمود أمام من يحدثه أو يسأله عنها، عبراته دائما تخونه وتسبق الكلمة التي تتجمد على طرف لسانه فيفر متذرعا بأي شيء.. لا يريد أن تفضحه دموعه، لا يريد أن يستدر عطف أحد...
هاهي دموعه تخونه مرة أخرى وزفراته تخنق صدره وتمتزج بزمجرة العاصفة. أزاح الغطاء عن وجهه ملتمسا بعض الهواء، استنشق بعمق فخرجت من أعماقه زفرة لم يستطع أن يحملها إلا بعض آلامه. كم هي ضيقة رئتيه.. لو أنهما تتسعان لكل الهواء فيستنشقه مرة واحدة ويزفر زفرته الأخيرة... تقلب في مكانه فصدرت عن عظامه طقطقة، كأنها صوت أغصان تتكسر، وأحس بزلزلة خفيفة تسري في المكان، انتبه إلى أنها صادرة عن الفراش فحدث نفسه: ماذا لو زلزلت الأرض فعلا وأنا على هذه الحالة من العياء، فتصبح هذه الجدران رديفا للموت بعدما كانت تعني الدفء والأمان...
فلتزلزل، ولتتهاوى الجدران ـ وهو يدس رأسه تحت كومة من ملابسه التي اتخذها وسادة ـ سينضاف رقم واحد إلى عدد الضحايا.. إنني أفضل الموت هنا في هذه اللحظة على فراشي الدافئ على أن أقضي ما تبقى من الليل في العراء... فجأة، تناهى إلى سمعه صراخ ضعيف انتشله من الأعماق ليزج به أمام هذا الواقع الذي يطارده. استل رأسه من تحت "الوسادة"، أصاخ السمع ... أتى الصوت واضحا.. صراخ رضيع... أتكون قد فعلتها مومس... لا، لا يمكن، إنه.. إنني... لمعت عيناه الخضراوان ببريق كهر محاصر يستعد لآخر هجوم... اندفع نحو النافذة يفتحها، وهناك رآه في زاوية من الجهة الأخرى للشارع.
فتح الباب وسار يقاوم العاصفة... ثم عاد.. خصلات شعره تلتصق بجبينه، تقطر ماء، لكنه لا يشعر بالبرد.. لم يعد يحس بالعياء.. كان يبدو، وهو يحضنه في قميصه، كأم أو كهرة تنجو بصغيرها بعد معركة ضارية...
أدخل رأسه تحت الغطاء، ثنى ساقيه وجعل كفيه بين فخذيه. في هذا الوضع استشعر بعض الدفء وبعض الأمان. قارن وضعه هذا بوضع جنين في رحم أمه... ليته لم يولد، حياة كله شقاء وعدو وراء السراب.
يقولون: عندما يكتمل الجنين يأتيه ملك من السماء، يحكي له عن حال الدنيا ويسأله إن كان يريد رؤيتها. ثم يكون ما يختاره...
كيف اختار إذن هذه الحياة، لماذا لم يقل لا أريدها. ألم يكن أحمق، أحمق .. رنت هذه الكلمة بداخله، رجعت به الذكرى إلى أيام الصبا، إلى أقصى ما يتذكر.
كانوا في تلك القرية الصغيرة ينادونه بالمجنون، وأحيانا بالهر. وإمعانا في إيذائه يرددون "هلال، لهب، هر" فتثور ثائرته، يصرخ، يبكي بقوة وينشب أظافره في وجه خصمه.. يعض بعنف، ينط في الهواء وينطح غريمه على أم أنفه... وكان دائما ينتصر، لذلك بدؤوا يتجنبونه. ربما كانت روح هر كبير تتقمصه، لذلك فهو كثير الحنو على القطط الصغيرة والإعتناء بها ولا يحتمل رؤيتها تتألم...؟
ماتت أمه وهو في الخامسة من عمره.. سحبوه يومذاك إلى بيت عمه في القرية المجاورة ونصبوا له أرجوحة ـ إنها مسافرة، وستعود بعد أيام ـ هكذا قالوا له. لم يبك في ذلك اليوم، وحتى حين تيقن من وفاتها لم يتركوه ليبك .. لكنه ذرف الدموع بعد ذلك لسنين طويلة وظل ينتظرها...!
في البيت كانوا يتحاشون الحديث عنها أمامه.وفي تلك المرات القليلة التي حدثت، كان يتركهم ويسد عليه الباب في غرفة خالية وينتحب في صمت، حتى إذا غيروا الحديث وهدأت نفسه عاد للجلوس معهم كي لا ينتبه إليه أحد.
في الشارع لم يكن يستطيع الصمود أمام من يحدثه أو يسأله عنها، عبراته دائما تخونه وتسبق الكلمة التي تتجمد على طرف لسانه فيفر متذرعا بأي شيء.. لا يريد أن تفضحه دموعه، لا يريد أن يستدر عطف أحد...
هاهي دموعه تخونه مرة أخرى وزفراته تخنق صدره وتمتزج بزمجرة العاصفة. أزاح الغطاء عن وجهه ملتمسا بعض الهواء، استنشق بعمق فخرجت من أعماقه زفرة لم يستطع أن يحملها إلا بعض آلامه. كم هي ضيقة رئتيه.. لو أنهما تتسعان لكل الهواء فيستنشقه مرة واحدة ويزفر زفرته الأخيرة... تقلب في مكانه فصدرت عن عظامه طقطقة، كأنها صوت أغصان تتكسر، وأحس بزلزلة خفيفة تسري في المكان، انتبه إلى أنها صادرة عن الفراش فحدث نفسه: ماذا لو زلزلت الأرض فعلا وأنا على هذه الحالة من العياء، فتصبح هذه الجدران رديفا للموت بعدما كانت تعني الدفء والأمان...
فلتزلزل، ولتتهاوى الجدران ـ وهو يدس رأسه تحت كومة من ملابسه التي اتخذها وسادة ـ سينضاف رقم واحد إلى عدد الضحايا.. إنني أفضل الموت هنا في هذه اللحظة على فراشي الدافئ على أن أقضي ما تبقى من الليل في العراء... فجأة، تناهى إلى سمعه صراخ ضعيف انتشله من الأعماق ليزج به أمام هذا الواقع الذي يطارده. استل رأسه من تحت "الوسادة"، أصاخ السمع ... أتى الصوت واضحا.. صراخ رضيع... أتكون قد فعلتها مومس... لا، لا يمكن، إنه.. إنني... لمعت عيناه الخضراوان ببريق كهر محاصر يستعد لآخر هجوم... اندفع نحو النافذة يفتحها، وهناك رآه في زاوية من الجهة الأخرى للشارع.
فتح الباب وسار يقاوم العاصفة... ثم عاد.. خصلات شعره تلتصق بجبينه، تقطر ماء، لكنه لا يشعر بالبرد.. لم يعد يحس بالعياء.. كان يبدو، وهو يحضنه في قميصه، كأم أو كهرة تنجو بصغيرها بعد معركة ضارية...
· هذه أول محاولة قصصية كتبتها.. النص ينشر لأول مرة إلكترونيا وهو صادر ضمن مجموعتي "كرسي على الرصيف" سنة 2003
* هذه الكلمات "هلال، لهب، هر" من كتاب اللغة العربية للقسم الابتدائي الأول
* هذه الكلمات "هلال، لهب، هر" من كتاب اللغة العربية للقسم الابتدائي الأول
تعليق