في ذكرى ميلاده المائة و الخمسين :
أنطون بافلوفيتش تشيخَف : كان وحيداً و خجولاً
أنطون بافلوفيتش تشيخَف : كان وحيداً و خجولاً
إعداد و ترجمة
د . إبراهيم إستنبولي
في كانون الثاني من عام 1860 ولد الكاتب الروسي المعروف , الأستاذ في فن القصة القصيرة أنطون بافلوفيتش تشيخَف ... و بهذه المناسبة تحتفل الأوساط الأدبية و الثقافية في روسيا على المستويين الرسمي و الشعبي .. حيث تقام المهرجانات و الندوات , و تقدم عروض لأشهر المسرحيات التي كتب نصوصها تشيخَف و التي لطالما استمتع بها جمهور المسرح على مدى أكثر من قرن من الزمن .. كما و أقيمت في الكثير من بلدان العالم فعاليات " أيام تشيخَف " مكرّسة للمناسبة . و أعتقد أنه ما من كاتب في العالم إلا و تأثّر لهذا الحد أو ذاك بأسلوب تشيخَف في كتابة القصة . ألم يقل تشيخَف : " الاختصار – شقيق الموهبة " . كما إن الكثير من القصص أصبح جزءاً من الذاكرة الأدبية لجيل كامل من القراء : " العنبر رقم 6 " , " الإنسان المعلّب " , " المنزل ذو العلية " , " بستان الكرز " , " موت موظف " , " إيونيتش " , " الخال فانيا " , و " السيدة صاحبة الكلب " ... و غيرها .
و هنا أقدّم ترجمة لشهادتين مكرستين لهذه المناسبة .
1
وصفة طبية من " الدكتور تشيخَف "
أود أن أكرس المقالة الافتتاحية في بداية العام الجديد للكتابة عن تشيخَف . فمن جهة , ثمة مناسبة : في كانون الثاني سوف تحل الذكرى المائة و الخمسون لميلاد تشيخَف . و من ناحية ثانية , لقد آن الأوان لكي أبلور لنفسي سرَّ تعلّقي بهذا الإنسان , و ما الذي جعلني أخصص كامل الربع الأول و بعضاً من الربع الثاني من الصف الثالث الثانوي لقراءة قصص و مسرحيات تشيخَف , إذ كنت أجد صعوبة في الافتراق عنه .
و قد انكشف تشيخَف لي في بلدة ميليخوفا ( حيث متحف الكاتب – المترجم ) . و عليّ الاعتراف بأني أتوجس من المتاحف الأدبية – فما الذي يمكن أن ترويه شرنقة ميتة عن فراشة ؟ و حتى الفراشة , إذا ما كانت مشبوكة إلى مخمل وسادة صغيرة , ماذا بإمكانها أن تحكي عن روعة التحليق ؟ لذا , قد يكون من الأفضل أن لا يزور المرء المتحف ...
لكن المتحف في ميليخوفا بدا مفعماً بالحياة و بالرشاقة لدرجة مدهشة , كما لو أنه ليس متحفاً بالضبط : فقد جرى تصميم البيت ليكون مريحاً و لا يخلو من الظرافة , بحيث أن كلّ شيء يبدو بسيطاً , و بمسحة ساخرة ناعمة على الطريقة التشيخوفية بامتياز . فهذا هو نبات الخرشوف ينمو كما في جنوب فرنسا , حيث شاءت الأقدار أن يمضي تشيخَف فترة ما , و ها هما الكلبان بروم إيسايتش و خينا ماركوفنا في صورة واحدة مع مؤلف قصة " كاشتانكا[1] " , و ها هو الكاتب نفسه محاطاً " بالمعجبات به من أشجار التفاح من نوع أنطونوف " . ينشأ توهّم كامل كما لو أن البيت مسكون و أن صاحبه خرج تواً لدقيقة واحدة .
لكن أكثر ما أثار دهشتي في ميليخوفا هو الأمر التالي : حضرت هناك عن طريق الصدفة اجتماعاً رسمياً كان المسؤولون يبحثون أثناءه مع المشرفين على المتحف قضية العثور على التمويل اللازم لترميم ما أسسه تشيخَف و الحفاظ عليه . و قد تبين لنا أن تشيخَف خلال سبع سنوات ملكيته للمكان قام ببناء شبكة من الطرق و ثلاث مدارس و مبنى للبريد , كما افتتح عيادة خارجية , ظلّت تقوم بوظيفتها , بالمناسبة , حتى الستينيات من القرن العشرين ! و أنه قام بمعاينة و علاج آلاف الفلاحين في المنطقة بلا أجر – بل هكذا ببساطة , بصورة طبيعية و من دون ضجة . بينما الدولة اليوم لا تجد الموارد اللازمة لكي تحافظ نوعاً ما على ما كان حققه إنسان واحد .
فأي إنسان كان ؟ لقد اشترى لنفسه قطعة أرض صغيرة , مجرد مقسم لبناء بيت صيفي , و قصد ذلك المكان ليعيش فيه . لنقيس ذلك على أنفسنا : كنا سنحيط المكان على الفور بسياج , و نباشر الحراثة و السقاية , دون أن نكترث بما يجري من حولنا . المهم أن لا نرى الجيران . أما هو ؟ فقد راح يعمل لأجل ما هو خارج حدوده , راح يحسّن شروط العيش من حوله , مع أنه لم يأخذ على عاتقه أية التزامات بهذا الشأن . من أين له كل تلك الطاقة , لكي يجد القوة الكافية للاهتمام , إلى جانب ما يقدمّه للعائلة الكبيرة و للأدب , بقطعة أرض من الفضاء الروسي , و بحيث يمنحها لعقود كثيرة نوعاً من النبض الدافق بالحياة و التطور ؟ و أن يفعل ذلك بطريقة طبيعية , بهدوء كما لو هذا ما يجب أن يكون هذا هو اللغز الذي يجذبني دائماً نحو تشيخَف , و يدفعني عنوة – " حين يطلّ اليأس " – لأن أقرأ شيئاً ما من كتاباته , و أكثر ما يأسرني رسائله بالتحديد . ففي ذلك السجّل التأريخي البسيط لحياته يوجد أفضل علاج للإرهاق و الاحتراق النفسي , اللذين نعيش - نحن مَن نعدّ أنفسنا من المثقفين – تحت رايتهما . و الجميل أنه علاج لا يتطلب الحصول عليه على وصفة طبية .
للعلم , بخصوص الوصفات الطبية : لقد قاموا بترميم و إعادة افتتاح العيادة الخارجية في ميليخوفا , و في نفس المبنى الذي كانت توجد فيه في حياة تشيخَف . و هناك توصف الأدوية على وصفات خاصة يوجد في أسفل الواحدة منها ذاك التوقيع الشهير : دكتور تشيخَف .
سيرغي فولكَف
محرر في صحيفة " أدب " الروسية
2
الرومانسي الخجول
بالطبع , لقد كان الأمر جميلاً عندما طلبوا مني في القرية الهنغارية بيتش أن يدور الحديث عن كاتبنا العزيز تشيخَف . مع أنني كنت قد بدأت أحنق على تشيخَف منذ بعض الوقت : ففي مرحلة الفتوة كنت مسحوراً به لدرجة كان الأدب معها يبدو لي و قد انتهى عنده بكل بساطة – و أنه لا توجد ضرورة لأحداث استثنائية عظيمة و لا لطباع و أمزجة عظيمة . ذلك لأنه يمكنك تصوير الجانب الدرامي في الحياة من دون أن تتخطى دائرة ما هو يومي , و من دون أن تلجأ للتكلّف البلاغي أو إلى استخدام الفلسفة الشاملة : وحده ضبط النفس يفي , و أيضاً باطن النص فقط ...
كما بدت لي إشارة ليف تَلْستوي إلى أن تفوّق تشيخَف على شخصياته مجرد وهم لا أكثر , على أنها مماحكة إيديولوجية صرفة . إذ كيف يمكن للتفوّق أن يكون أيضاً ؟ كما سبق و أعلن إنّوكينتي أنّينسكي في حينه عن تذمّره : هل كان واجباً على الأدب الروسي أن يوحِل في مستنقعات دَسْتَييفسكي و أن يقطع مع تلْستوي الأشجار الخالدة , لكي يصبح حائزاً على هذه الجنينة ! بل إن تشيخَف لم يكن يحبّ علاوة على ذلك , حسب أنّينسكي , سوى الحليب الطازج ( الصريف ) و ربما المرميلاد أيضاً .. و أما آنّا أخماتوفا فكانت تؤكد أن عالم تشيخَف باهت و مضجر , و أنه ما من شمس تشرق فيه , و ليس ثمة سيوف تقرع . و هذا الرأي كان يبدو بالنسبة لي نوعاً من الطفولية .. إذ من أين لنا مثل تلك السيوف في عالمنا المعاصر, و أي شمس مميزة يمكن أن تكون مع المناخ عندنا في الشمال ؟
لم أكن بحاجة لا لسيوف و لا لشمس , لأنني كنت منتشياً بآمال الشباب الباطلة و هذا ما كان يجعلني أتواجد بصورة دائمة وسط اللمعان و الرنين . لقد هزّني كل من تلْستوي و دَسْتَييفسكي و أيقظا فيَّ الكثير من المشاعر و الأفكار , بحيث لم يكن بوسعي أن أشعر بالحزن معهما على طريقة المراثي . و لِما لا يمكنك أن تشتكي من الملل و الضآلة , عندما لا يكون لديك عملياً أي تصور عن الملل , و حين لا تشعر بنفسك قليلاً أو تافهاً و لا للحظة !
و أما حين يبدأ بملاحقتك باستمرار , مع اقتراب الشيخوخة , شعور بزوال كل ما هو دنيوي , عندئذ يصبح الغنج مع الحزن التشيخوفي غير وارد . فعندما يلبسك شعور الضآلة , لن يكون بمقدورك أن تختبئ خلف تشيخَف . لا شك أن تشيخَف يتعاطف معنا و يشاركنا حزننا , و يدين المسيئين لنا – إلا أن أي مريض , و مهما تكن حالته يائسة , سيفضّل الدواء على العطف عليه ! و اليوم أنا أميل للكتب التي توقظ لديّ الفخر و الجسارة , و ليس المسالمة الحزينة .
و مع ذلك , يبعث السرور في النفس أن تتناقش في بلاد أخرى بشأن تشيخَف , فهو يجمعنا في كل الأحوال : فما يوحّد ليس الاتفاق بحد ذاته بخصوص مسألة ما , بقدر الاعتراف بالأهمية الفائقة لتلك المسألة . فها هنَّ الفتيات اللطيفات يرددنَ مع المُدرِّسة قصص تشيخَف – و قصة " الأميرة " على سبيل المثال – و هنَ يوضحّنَ كم يكون قاسياً حب الذات الأعمى حتى و لو على مثال بريء لامرأة – طير , بحيث يمكننا أن نأمل بأن العالم سيصبح أكثر طيبة بعد أن يشاهد نفسه في تلك المرآة ...
أن يصبح أكثر طيبة – هذا أمر حسن . قلتُ موافقاً . و لكن هذه هي الطبيعة البشرية : مهما تحسّنت الحياة , فإن متطلباتنا تجاهها تتكاثر و تزداد أسرع و أسرع . فإذا ما انتفت الفظاظة من علاقاتنا بعضنا مع بعض , و إذا ما رحنا نبتسم لبعضنا البعض , فسوف يجرحنا كون الابتسامة ليس بالاتساع الكافي ...
عندما يكون الجهاز المناعي لشخص ما ضعيفاً , فإن أي خدش يصبح خطراً على هذا الشخص . و لا أمل بتاتاً في أن نبني عالماً لا يمكن لشيء فيه أن يخدشنا . لذا من الأهمية بمكان أكثر أن نمنح الإنسان المقدرة على تحمّل جروحه الروحية , من أن نجعل عددها أقل , و لكننا في نفس الوقت نضعف مناعته و نزيد من حساسيته . و القوة يمنحها هدف آسر ساحر , بحيث تبدو الأحزان و الخيبات المعاشة يومياً من علو ذلك الهدف , أقل أهمية و ليست ذا شأن بالنسبة لنا . و أبطال تشيخَف لا هدف عندهم يستحق أن يتوتروا لأجله و أن يغامروا و يخاطروا فيحصدون الفشل و الإذلال . و هذا يعني أن مصيرهم سيكون الهلاك على أية حال .
و هل أنا لا أعرف , كيف إن تزيين العجز و جعله جميلاً – ما هو سوى العزاء الأخير بالنسبة لأولئك الذين لا أمل لديهم بالحصول على ما هو أفضل . لكن الثقافة كانت تُخلَق عبر العصور لكي تساعد في التغلب على مشاعر العجز و الإهمال , و ليس لكي ننوح عليه بطريقة جميلة . بل إن تشيخَف نفسه تشاطر إحساسه مع سوفورين[2] : نحن نصوِّر الحياة كما هي , و بعد ذلك " لا نتحرك خطوة لا للأمام و لا للوراء " , فليس ثمة من أهداف بعيدة أو قريبة عندنا , و روحنا فارغة لدرجة يمكنك أن تلعب بالكرة في أرجائها ؛ و مَن لا يطلب شيئاً , مَن لا يعيش على الأمل - لا يمكنه أن يصبح فناناً . هذا الكلام لتشيخَف و ليس لي .
و لكن ... و لكن مَن لا يرغب بشيء , ذاك لا يمكنه أن يحزن !؟ فما هي تلك الرغبة العارمة التي لا تنطفئ و التي كانت تخلق ذلك الحزن عند تشيخَف ؟ فالمعروف أن أبطال تشيخَف المثقفين , كقاعدة , يمتازون بأنهم أناس مهذبون و يقومون بواجباتهم بصدق , و كم كنا نتمنى المزيد من أمثالهم في وقتنا الحالي ! أما أن تكون شريفاً في عملك , فهذا قليل جداً بالنسبة لتشيخَف . و لكننا بتنا ندرك كم إن هذا كثير في أيامنا هذه ! و بالتالي , إن تشيخَف ليس ذاك المحبِّ المعتدل للحليب الطازج و حسب , بل على العكس , إنه رومانسي خجول , كان يتحرّق في سرّه بحثاً عن مثال ما , بحيث تبدو من ارتفاعه أمراً عادياً و غير ذي أهمية تلك الفضائل , التي كنا سَنَحملُ أصحابها على الأكّف .
الكساندر موتيليفيتش ميليخوف
كاتب , مرشح لشهادة الدكتوراه في الفيزياء .
يعيش و يعمل في سانت بطرسبورغ
[1] - كاشتانكا – اسم الكلبة – بطلة القصة .. المترجم
[2]الكساندر سوفورين 1834 – 1912 صحفي و ناشر روسي .. أصدر في بطرسبورغ جريدة " الزمن الحديث " و بدءاً من عام 1976 – مجلة " البشير التاريخي " - المترجم
تعليق