سنين ولم يُخمد الحريق
شدّني الريح إلى هناك،
تقودني رائحة الحريق ..
كانت أنفاسي تتصاعد،
كما تصاعدت النيران في ذلك اليوم..
وقفت عند الباب،عتبته ساكنة عن غير عادة ...
الجدران شاحبة ..الأبواب تتخبّط ألماً من آثار الحريق..
كلما سمعت أنين الشبابيك، تخيّلت نحيب الطفل الوحيد..
كان يصرخ مذعور..وكانت ألسنة النار
تعي معنى الأمومة ،أشفقت عليه ،إحتضنته بصمت لعلّ حضنها الدافئ يطفأ الذعر ..وأُطفأ الطفل...
سنين مرّت ولا زالت الذكريات تعيد تمثيل الجريمة كل يوم..
سنين مرّت ولا زال الزمان مذهولا ، منشلّ الحراك..
فوقف هنا ...
محاولا أن يشدّ النّاس كلّها إلى هنا ..يحتاج إلى تفسير ... من يجيب؟..
من يعرف؟... كيف يُقتل النسيم؟؟
أيّ جنون هذا الذي استولى على الأمّ؟!
أراد أن يبيع المنزل الذي اشترته بشقاء عمرها..أراد أن يشرّد أطفالها ...هل ظنّت نفسها في مدينة صيدا ..
حتى أقفلت على نفسها مملكتها وأحرقتها ..؟!
هل كان الحريق بالنسبة إليها أكثر رفقاً من الواقع؟
أراد أن يبني حياة جديدة ، في منزلها، فليس ذنبه إن كان ككل الرجال أحبّ مرأة ملكها كل الرجال ..
هل هو من أشعل فتيلة الحريق من البداية؟
أذكرها حينما كانت تحرم نفسها من الفساتين والعطور،لتضع القرش فوق القرش..حتى آوت أطفالها في ذلك المنزل ..
يريد المال ، حبيبته تطلب المال، أراد أن يبيع المنزل و يستأجر لها آخر صغير،
هددّها أن يأخذ الأولاد إلى مكان عن حضنها بعيد..
تشاجرا، تبادلا أقسى الكلام، لأول مرّة تخرج عن صمتها،لأولّ مرّة تطالب بحقّها ، لأول مرّة تفقد أعصابها..
كان صوتهما مرتفع ، فلم يحتمّله سامر وياسمين ، فتسرّبا من المنزل تسرّبا ..
انتهى الشجار وكان الأمر محسوم لا محال ، حزم الأمتعة للانتقال إلى غرفتين بالإيجار ...
أيقنت أنها زرعت شجرة بلا ثمار ..
فكّرت أو ربما لم تفكّر ، فكان الإنتحار ..
إن أراد بيتي فليأخذه ركام وإن أراد أطفالي .. فليبحث عن المحال ..
وكان شادي ، يمسك بسيارة الإطفاء الصغيرة يلعب بها تارة ويتأمّلها تارة..
كأنّ مصيره يهمس له في أذنه الصغيرة ..
لم يفهم..وعندما رأى أمه ترشّ البنزين في الغرفة كانت الإستفهامات في عيّنيه تدور ..
وبعد ثواني كانت الإجابة..كان الحريق..
مجرمة..مجنونة...هكذا صار إسمها..لم أسمع أحدا يأسف عليها
أمّا أنا فكنت أحيانا أبكي عليها وكثيرا ما أبكي بسببها ..كنت أحاول أن أجد تبريرات..لكن بعدما أصبحت أماً لم أعد أجد لها أيّ مبرر.. فكيف تقتل الأمّ أطفالها؟!! .. رحمها الله وغفر لها..
لم أسمع الناس يترحّمون عليها
.. كان يبكيهم طفل الستّة أعوام..
هنا في هذا البيت بدأ كل شيء ..
وهنا انتهى كل شيء ..
حتى سامر وياسمين اللذان كانا خارج المنزل أثناء الحريق أصابهما الحريق .. فأصيبت الجسور الرابطة بينهما بحروق من الدرجة الأولى ..
كل واحد منها كان مختفي في بلد مختلف..
كل منهما لا يريد ما يذكره بالماضي ..
طوى كلّ منهما الجراح وهربا بعيدا عن النّاس، عن كتب التاريخ ..
أستغرب كيف أنّ الريح لم تشدّهما معا إلى هنا قبلا ..
كان سامر في ذلك اليوم قد أنهى تعلّم القيادة وكانت الفرحة لا تسعه..ترى هل يقود الآن؟!
ألم يحنّ لشادي ؟!
أرجو أن يكون حاله أفضل من "ياسمين" ..فياسمين تلك الشّابة التي اختفت المرآة من حياتها فجأة – وما أقسى أن تختفي المرآة من حياة الفتيات- لا تزال قابعة هنا، مع بقيّة الجثث، مع بقايا الرماد..
يقولون أنها تزوّجت وسافرت إلى إحدى البلاد الأجنبية ..لكنها لا تزال هنا ..
و شادي هنا ..
شادي .. لم تغب عنّي يوماً ملامحه ، كان طفل جميل وككل الأطفال بريء ..
عند ولادته كُسرت ساقه،تألم عند الولادة وتألّم عند الموت ..كان حظّه في الدنيا أسود كلون عينيّه ..
لا بدّ أنه يلعب في الجنان الآن ..لكن رغم ذلك يبقى موت الأطفال قاسي ..
أبكى الناس جميعا .. شلّ أبيه..
ذلك الرجل الذي خسر كلّ شيء بلحظة..
الذي استفاق بلحظة و جنّ بلحظة ..
حلمه الجميل تحوّل إلى خراب فوق التلّ..
لا منزل..لا أولاد..وحبيبة تهجره..ولما قد تبقى معه والمنزل بات ركام؟؟!
وها هو في المأوى .. يعيش في الماضي .. بين ألسنة النار يحيا..أنفاسه كلها اختناق..أو ربما يعيش عند أبواب الحبيبة التي تركته ..من يدري؟؟
على كل الأحوال هو صورة أخرى للرماد مرمي على ذلك الكرسيّ، لا يزوره إلّا الماضي أو الأصدقاء الذين يتحنّنون عليه..
.........آه الذكريات هنا أقسى بكثير ...
سأعود أدراجي وأنت أيها الزمان ..إرحل معي ..لن يفيدك الذهول ..الأجوبة التي تبحث عنها ،هي أول ما فناه الحريق..
أيتها الجدران إزدادِي حزناً.. أيتها الألوان استمرّي حدادا.. فربما الحياة إن عادت إلى هنا ، عاد الحريق..
أسمع صوتا ما ..هناك أحد يقترب.. لم أظنّ أنّ أحدا غيري قد يتجرّأ ويزور مقبرة الماضي..
خطى تتهادى ببطئ.. شخص ما يقترب..
إنه سامر ...."
و كانت هذه أول مرّة أرى فيها أخي بعد الحريق ....
تعليق