
وأنت لم تعد أنت .ولاشيء ظلّ كما كان .ولماذا تكتب ؟ص9من الفصل الأوّل
سيتّهمك من يقرأ هذه الأوراق بأنّك تجمّل حياتك .
ولكن لماذا الغوص الآن في الذّكريات القاتمة ؟ص.25من الفصل الثّاني
كان البيت كبيرا وأنت الآن لاتستطيع أن تراه إلاّ من خلال ذاكرتك .وهل تستطيع الذّاكرة أن تسجّل كلّ شيء ؟ ولكنّك تخشى أن تستثير ذاكرتك ،فتبتدع لك أشياء تتوقّع أنّك عشتها وشاهدتها .ولكن ما ضرّ كلّ ذلك ؟ص 27من الفصل الثّاني
أذكر المشهد الآن .كنت في الساّدسة من العمر ص42من الفصل 3
أحاول الآن أن أرسم ذلك الشّارع الطّويل الضّيق الّذي عشت فيه. ذاكرتي تخونني أحيانا .الفصل الرابع ص 55
عندما أعود إلى ذلك الماضي البعيد ...أتلك هي الحياة ؟،لا ندرك أنّها تستحقّ أن تعاش ،إلاّ عندما نلتفت إلى الوراء ونطلّ على تلك الأيّام الّتي فاتت ص 65من الفصل الرابع
لن يستطيع المرء أن يعيش حياته مرّتين وإن فعل فلن تكون المرّة الثّانية إلاّ أكذوبة اصطنعها الخيال .ولكنّها أكذوبة لذيذة ،تجعلنا نشعر أنّنا نلوي رقاب الأزمان الغابرة ص71من الفصل الخامس
لأنّ الذاكرة لن تسعفني مرّة أخرى .وإن أسعفتني فأجمل المشاهد عندما تكون غائمة.
نفس الفصل
سنعود مرّة أخرى إلى حوشنا في الرّحبة بعدما رمّمناه وقبل أن يتّخذ قرار محو ذاكرتنا الفصل السابع ص 103
وها أنت الآن تذكر هذه الأشياء الّتي نحتت كيانك يوما ولم يستطع الزّمن أن يمحوها . الفصل 8ص111
ذاك الخريف
لا أزال أذكره الفصل 9ص123
تسعى الذّاكرة أن تعيد بناء الأشياء وتؤثّث الفضاء ...ولكنّ الأكيد أنّني الآن أحتوي العناصر وأتمثّل الأشياء .نفس الفصل
لاأتمثّل الأشياء .كلّها الآن ،كما كانت أو كما يجب أن تكون بل كما أراها .الفصل 11ص151
صحيح تبني في خيالك مدينة بأكملها الفصل 12ص165
تتجاذبني الصّور في هذه اللّحظة ،وأنا أمام الأوراق ،كم هي غزيرة تلك المشاهد النّابعة من الذّكريات البعيدة الفصل16
1الذّاكرة صورة تشدّ وثاق السّيرة في" حنّة"
لا تسطيع أن تفهم شيئا خارج سياق الذّاكرة ذلك ما أوحى به هذا البوح على مشارفتنا لهذا الأثر يحضر المصطلح منذ مطلع الكتاب وحتّى منتهاه عبر اشتقاقات ممكنة تطوي بنا المسافات نحونا في إدبار مربك يشي بأكثر من سؤال و يتقوّد أبعد من مرمى هو لازمة موقّعة بالحدث كما يراه معايشه (الذّكريات – ذاكرتك- ذاكرتي –الذّاكرة- تذكر – ذاكرتنا –أذكر )أوفي عبارة محيلة على التّذكّر من قبيل
(لاشيء ظلّ كما كان – عندما أعود إلى ذاك الماضي البعيد...)
إذا هي الذّاكرة تنخر بنا عباب الوراء في سير عكسيّ يلوي به المؤلّف وعلى حدّ تعبيره رقاب الزّمن في محاولة استحضار قصوى للبعيد ذلك هو جوهر فعل الذّاكرة الصّورة المحصّنة من الجمود لمسة فنيّة تبني أفقها ورؤاها في ضرب من النّزوع إلى المطلق إلى الخلود لذلك كان لابدّ لها من صورة تكسر بها رتابة الزّمن وتعيد المعطى على طريقتها ونريد أن نصل هنا إلى عكس ماذهب إليه بول ريكور في محاضرته "الذّاكرة والتّأريخ والنسّيان" أسوأ أنماط كتابة التاريخ أن يجعل من الذّاكرة مادّة للتّاريخ وليست قالبا له أي تتحوّل الشّهادة من( وثيقة )إلى( قصّة) يتغيّر معطاها حسب الصّياغة الأدبيّة لكن نحن معشر الأدباء نبارك هذا الانزياح للذّاكرة
ذلك محصّل القول من حضور الذاكرة في الأدب عموما وفي السيرة الذّاتيّة على وجه الحصر لأنّ النّشاط الذّاتيّ للذّاكرة لا يمكن له بشكل من الأحوال أن يهادن ويتبوّأ الموضوعيّة مع الواقع والزّمن .
الّذاكرة ومن خلال سيرة الباردي هذه صورة يجري تشذيبها في نقطة تقاطع بين التأريخ بوصفه عملا أدبيّا والقراءة بوصفها وسيلة تلقّ مفضّل بالمعنى التّأويلي hermeneutique للـتّلقّي
هذه السّيرة تشمل أفقا من الأحداث الماضية لكنّها في كلّ الأحوال أوسع من أفق الذّاكرة التي يكون معطاها أكثر اختزالا فكثير من الأحداث بدت مبتلعة في حقل الزّمن الّذي أرّخ له كاتبنا فحياة الباردي لم تقتصر على حدث الموت الذي يتكرّر باستمرار في طياّت هذا الكتاب موت المولود المتكرّر داخل العائلة حتّى آخر الكتاب الذي انتهى بازدهار حياتها ببنت عليلة ستزاحم المؤلّف في طفولته على مكانته فيها
بالإضافة إلى موت زوج الجارة جنّات وموت المومس التي كانت تسكن أطراف الواحة ثمّ موت التّبيب غلام الجدّ الشّقيّ وموت العائلة اليهوديّة وموت بعض المتورّطين انتهاء بموت حماروالد بطل الرواية وأيضا الكلب الذي كان يحرس صبيّة السماك
التّاريخ أوسع من هذه الدّائرة المحاصرة بالموت وبعض الشّخصياّت المهمّشة التي انتصر لها الكاتب في تجواله عبر أدغال الذّاكرة الماكرة الّتي أشادت حصنا منيعا ضدّ حياة الطّبقة الأرقى لمحيطها ولم تبق من فجوة الإطلال عليها غير نافذة معطوبة فاقدة البصر والإرادة هي شخصيّة الجدّ الّذي تقوده عينا زوجته الطّامعة وكان هذا الشغل يقلق الكاتب كما يضجر والده بينما راحت عينا الكاتب تتلصّص على أفخاذ اليهودياّت اللّاتي تحملن عطرا مخالفا وجمالا ساحرا وقد بدا الكاتب أكثر أريحيّة في التّعامل مع الدّخيل على الأهل المترفين حيث تقصّد إلى شذب هذه الذاّكرة من الكلام عن أبناء عمومته الميسورين
بينما حظيت السّيرة اليهوديّة ببعض الإلماعات على ضوء الأحداث المتزامنة مع
وجود هذه الجالية في الحيّ الراقي بقابس آن ذاك . لا شكّ أنّ لذاكرة المؤلّف مخيالها المتصرّف في البناء التراكميّ للحدث وتعاطفها مع أناس دون غيرهم في شكل أدلجة واعية تعكس صورة ملوّنة الموقف من القضايا في غير سفور أو تورّط ...
ليست هذه المصادرة الوحيدة لتمثّل الماضي ...ولكن يوجد أيضا أنماط تعبير أخرى تزخر بها هذه الذّاكرة كالصّور واللّوحات وخصوصا صدى التقنيات السّينمائيّة فصورة المواطنين العاديّين هم صنّاع التّاريخ الفعليّين تردّدت في أرجاء السّيرة بأكثر من صدى
هكذا
جاءت سيرة الباردي فلما بالأبيض والأسود ضربا من الحنين يفتّح أعيننا على صور متراكمة لنشوء الذّات وتمرّغها بأديم اللّحظة المنفلتة من قيد الحدود والناّس تجهر عميقا في المجتمع وتقلّب رغام الذّكرى تهبها إيناعا داخليّا مرفقا بتساؤلات شتّى في قالب فنّي يوحي بالبساطة وعدم الإسفاف
فالصّورة المحنّطة في الذّاكرة تنبش بمخالب ذلك الكلّ الفنّي المكتمل سواء ذلك أن تكون استعارة أو ملحمة كالحرب والسلام في حنّة (فلسطين /يهود) (أو تونس/ المستعمر)مثلا فالعلاقة بين مختلف جوانب الصّورة أي بين الحسّي والعقليّ بين المعرفيّ والإبداعيّ
هي العلاقة لا تستطيع الذاكرة استعابها إلا عبر الفنّ فالتّخيّلات الخارقة التي تداعب أحلام المؤلف طفلا و اختلاقات الإنسان اللامعقولة وخرافاته وحده الفنّ يفتح لها صدره لاستيعاب سذاجتها وبهاراتها التي تعطي للذّاكرة رونقا وإبداعا
الصّورة في حنّة تقوم على أساس وجود صلة وتشابه لكن ما الاشياء الّتي تصل بينها وتقيم على أساسها هذا التّشابه ؟
يقول في حنّه في الص:51"عندئذ كانوا يفتحون الرّاديو.فتصلنا الأنغام الشّرقيّة ...ويتسٍّب إلينا من خلال النّوافذ أمّا أنا فكنت أرتاح إلى ساره
انها الصورة التي تعقد الصلة بين المتفرقات الحياتية مثل تجوّل الكامرا عبر مشاهد الفلم توحي بالانتشار والتعايش بين مختلف الأجزاء يوحي الكاتب بأنّه في كلّ مرّة "يحاول أن يرسمها "في وعي مصفّف ومعدّل على طريقة تقدّم الذاكرة مدى غوصها في المنتقيات التي ارتأتها دون غيرها يقول وتتراءى لي الآن على شاشة أيّامي نقيّة صافية تجنح الذاكرة إذا استحثاث آلياّتها متقدّمة في العصر على زمنها المنقول فتلج بنا المرئيّات في تلوّن ظاهر يهب الحدث حبكته وزاوية نظره الموغلة في التّحديث فتضحي الذاكرة عين أو عدسة ملوّنة
تنتقي ماشاء لها وما وسع أفقها من ضروب العيش الخفيّة يقول "لاتزال الصّورة تلوح أمامي "هل كان المؤلّف واعيا بانفتاح سيرته على أنماط فنيّة يختزلها ويروم هتك حجبها كفلمنة حياته أو مسرحتها هذا ما يبقى عالقا من أسئلة في انتظار ترويض هذه الذاكرة واستعابها للتحولات أم انه وعلى حدّ تعبيره في الصفحة 86:سيظلّ المشهد خاليا من عناصره المثيرة .لأنّ الذاكرة لن تسعفني مرّة أخرى . وإن اسعفتني فأجمل المشاهد عندما تكون غائمة .
- 2كيف نفهم العلاقة بين الذّاكرة والسّيرة
بالعودة إلى أدبياّت السّيرة نلمح أن الأدب العربيّ شأن بقيّة الأداب الإنسانيّة في تفاعل ملحوظ مع مجريات الواقع وما يحمله من متلونات مردّ ذلك إتقان الأديب العربيّ وتجويده لهذه الفنون كالقصّة والرّواية والسّيرة الذاتيّة الّتي حظيت باهتمام الأدباء تأسّيا بأول من كتب فيها الأديب الفرنسي الشهير جان جاك رسو الذي أرسى قواعد هذا الفن معلناً ريادته له عام 1700م حين صدور الاعترافات وتبعه بعد ذلك زمرة من الأدباء والشعراء في أوروبا حتى إذا نفذت إلى أدبنا العربي وتمثلت في كتاب "الساق على الساق في ما هو الترياق" للشيخ أحمد فارس الشدياق الذي صدر في باريس عام 1855 وصولا إلى الفلسطيني جبرا ابراهيم جبرا سيرته في "البئر الأولى".انظر منتديات مرافئ الوجدان لمحات في أدب السيرة مرورا بالأيام لعميد الأدب العربي وما أثارته من اهتمام بهذا المعين نقف على هذا النسق التصاعديّ في الإقبال على السيرة ...
والذّاكرة بوصفها خبرة متراكمة من الاستجابات والانعكاسات أي ليست ذاكرة جسد فقط بل ذاكرة عقل وقلب أي أنها ظاهرة اجتماعيّة تاريخيّة والأثر الأدبيّ لا يوجد كفكرة فنيّة فحسب بل كتجسيد لها في آن معا إذا السّيرة في علاقتها بالذّاكرة من هذا المنطلق هي الصّورة المحقّقة لماهية التأريخ للحدث بغية توليده من جديد
الذّاكرة كما تلوح في حنّة في علاقة تلازميّة والسّيرة تأخذ بأبعادها و منعطفاتها فتشدّ وثاقها إلى منجزها الفنيّ وبالتّالي تستجيب السّيرة لنحت هذا الكيان وما تمليه الذّاكرة تنسج أعطافه الكتابة لكنّها لا تنسى أن تنزّله في حلّة تستهوي القارئ وتراوده على اهتماماته فينصاع لها
هذه الذاكرة المضرّجة بصدى النّصوص الأولى بعد أن نحت الواقع ملامحها العريضة وزوّدها بالحكاية حكاية هذه الشجرة "الحنّاء " وفعلها في تعتيق ذاكرة المؤلّف فقيمة هذه الذاكرة من السيرة شبيهة بقيمة هذه الشجرة المباركة من السارد ومحيطه فهي الاصل الذي
يرتق المتفرقات ويشجب الزائد كلّ ذلك من أجل إخراج مميّز لا ينسى صاحبه إذكاءه بصدى النّصوص الّتي ترسّبت وأثّثت هذه الذّاكرة الوئيدة الهمي حينا والتي تقفز أكثر من مرحلة أحيانا ففي حديث السارد عن زوجة اليهودي وبناتها الثلاث اللاتي تأتين لتسهرن مع عائلته ...كانت امرأة جميلة ,كانت ممتلئة قمحيّة اللون ...كانت تحبّ الاختلاط بالرّجال كانت تحدّث العم كريم وتعلّق على أخبار الرحبه ...تلوح لنا من خلال هذه التوسعة ملامح إحدى شخصيات موسم الهجرة للطيب صالح بنت مجدوب ثم نجد الباردي وهو يعيد علينا فلقة الشيخ والكتاب نبحر في الأيام لطه حسين زمن الكتاب
ثم تشدّنا هذه الذّاكرة اللّعوب الى النصّ الأصل لتصل ليلنا بنهارنا وأمسنا بيومنا لتحلّق في سماء المقامات عن طريق تخفّي إحدى شخصيات السيرة في سحنة أبي الفتح الأسكندري يجزل التكدية ليفوز بحبّ الأرملة جنّات جارة عائلة البطل فيدّعي أن الجان يسكنه ولا يكتشف الوالد حيلته إلا لما يمسك به متلبّسا في فراش الجارة كما نلمح عنصر العجيب مندسّا في خفايا هذه الذاكرة المكتوبة فنقف على قصص ألف ليلة وليلة"التي سخرها العمّ عليّ الحوذيّ الّذي استطاع أن يقتنص فريسته ونحن لا نعلم "على حدّ تعبير الكاتب
لكن لا قيمة للحادثة بدون رواية هكذا يرى المؤلف قيمتها في أنّها تروى يتناقلها الناس .تبتعد شيئا فشيئا عن الحقيقة تنضاف أشياء ويسعى الرواة الى الرّبط بين العناصر المضافة ولابدّ للخيال من منطق
يمكن أن نفهم قول المؤلّف في سياق علاقة الذاكرة بالأدب لا قيمة لهذا التراكم ما لم يرو فالرواية هي التشكل والتّمظهر الضروري للذّاكره وإلا فقدت جوهر التشويق
يقول الكاتب :ص211 "أحاول الآن أن أرسمها على الورق .قد أنقص وقد أزيد أنتقي وأختار .وما حيلتي وأنا أكتب نصّا للقراءة "
إذا هذا الحضور للذاكرة في المكتوب يبدو عملية واعية ينهض بها الكاتب ويحيل عليها ودور الكتابة أنها تشذب هذه الذاكرة وتصقلها في محاولة تطويع دائمة للنموذج المكتوب
ذلك أنه وعلى حدّ السارد "لن يستطيع المرء أن يعيش حياته مرّتين وإن فعل فلن تكون المرّة الثّانية إلاّ أكذوبة اصطنعها الخيال .ولكنّها أكذوبة لذيذة ،تجعلنا نشعر أنّنا نلوي رقاب الأزمان الغابرة ومن ثمّة لوي رقاب الذاكرة في إخضاع لنسق بعينه مع التكتّم على كلّ ما تنافر وحاجة الكاتب قبل المتلقيّ
وإن لاحت العلاقة أنها تقوم على شذب وإخضاع متواصل من ضرورة احتكام الذاكرة للّون الكتابيّ الذي تندغم ضمنه فإنّ ذلك لايمنع من تسرّب بعض الانزياحات الماكرة للذاكرة التي تكتب وفقها السيرة وهو ما يفهم من خلال ما لم يقله المؤلّف
-لماذااهتمّ بهذه الشريحة المهمّشة من الشخصيّات والجم القلم عن غيرها المعايش له ؟؟؟؟؟؟
-طبيعة تناول حارة اليهود في علاقتها بمحيطه هل تحمل أكثر من إشارة ؟؟؟؟؟
-حظّ الواقع من الذاكرة هل حجب حضور النّصوص المحايثة لذهن المؤلّف
-أصالة الذّاكرة التي كتبت حنّة ؟؟؟
-الهوامش
-حنّه للدكتور محمد الباردي:سيرة ذاتيّة الثلاثيّة الأولى من 2010
-الذّاكرة والتّاريخ والنّسيان :محاضرة لبول ريكورألقاها في جامعة في المركز الاروبي في جامعة بوداسيت 2003(عن مجلة ايسبري الفرنسية )2006لشهر أيار ونيسان ترجمة جودت جالي
-الوعي والفن دراسات في تاريخ الصّورة الفنيّة تأليف غيورغي غاتشف ترجمة د نوفل تيوف تاليف الدكتور سعد مصلوح
-انظر منتديات مرافئ الوجدان لمحات في أدب السيرة
المطويّة في 21/02/2010
بقلم خيرة أولاد خلف الله
تعليق