التصوير والمجاز والإيقاع في شعر محمود درويش: دراسة لبعض قصائد الديوان الأخي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مزن أتاسي
    عضو الملتقى
    • 07-01-2010
    • 46

    التصوير والمجاز والإيقاع في شعر محمود درويش: دراسة لبعض قصائد الديوان الأخي

    التصوير والمجاز والإيقاع في شعر محمود درويش
    دراسة في قصائد الديوان الأخير
    كلمة لابد منها:


    إذا كان شرعيا تماما شعور المرء بالتهيب إزاء دراسة القصائد الأخيرة للراحل (محمود درويش) ، فذلك لأنه يعلم أن الساحة ستغص بالدارسين الذين استحثهم ‘‘الديوان الأخير‘‘ - الذي صدر بعد رحيله – على الانكباب على دراسته كما لم يفعلوا من قبل، وبالتالي سيكون صعبا أن يشق الواحد منا لنفسه طريقا وسط هذه الزحمة ، وعليه فقد وضعت لنفسي بعض الأسس لأنطلق منها:
    فرضية القاعدة الأولى تقول: إن الثغرات والنقص الذي سيعتري هذه الدراسة سوف يجد القارئ في دراسات الآخرين ما يسدهما ويكملهما، فرضية القاعدة الثانية إن الاختلاف والتعدد في وجهات النظر وزوايا الرؤية وفي التفسير والتأويل، وفي تعدد المصادر والمرجعيات، وفي اختلاف الطرق والأساليب، وفي النتائج المتوصل إليها، إنما يعود إلى غنى النصوص وانفتاحها، وإلى امتلاكها للعناصر والأسباب التي تنادي الباحثين للكشف عنها وعن مكامنها ومصادرها ومرجعياتها، مضيفا بعمله ذاك ثراء القراءة إلى ثراء النص، وخادماً اللغة بصورة عامة، واللغة الدرويشية بصفة خاصة في اكتشافه لما اجترحه الراحل من تجديد وابتكار في قصائده التي كان يعرف أنها الأخيرة، فإذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك – ففرضية القاعدة الثالثة تقول:
    دراسة‘‘ القصائد الأخيرة يقتحمها الدارس ليس من أجل أن يضيء معالم الطريق إلى الشعر الدرويشي الأخير فحسب، بل من من أجل أن يكتشف كيف تخرج اللغة خبأها حين تكون بين يديّ ‘‘الشاعر‘‘، وأما الأهم فهو اكتشاف الطرق الواضحة والمتعرجة والمخفية للتعرف على جغرافيا الجمال ‘‘الدرويشي‘‘ وهي تنبسط أمامه.
    الدراسة:

    توجد إمكانية طبيعية في الشكل للتعبيرعن الأفكار والمواضيع، كذلك الأصوات، والبنى الصرفية، والتراكيب النحوية، وبناء الجمل، وترتيب العبارة ثم ‘‘النظم‘‘ تشكل أدوات تعبيرية تتساوى مع الكلمات وتتضافر جميعها لإنتاج ‘‘حركة الانفعال‘‘، وأما التصوير وهو نتاج الموهبة والمخيلة وسعة الثقافة والدربة والتمرس فيمثل ذروة الشعر بتعريف شيوخ البلاغة العربية، ويعلو بالإيصال البسيط:
    أختار من هذا المكان الريح... / أختار الغياب لوصفه. / جلس الغياب / محايدا حولي، وشاهده الغراب محايدا. / ياصاحبيّ قفا... لنختبر المكان على / طريقتنا: هنا وقعت سماء ما على / حجر وأدمته لتبزغ في الربيع شقائق / النعمان...(أين الآن أغنيتي؟) المقطع السابق من الفصل المعنون ‘‘ليس هذا الورق الذابل إلا كلمات‘‘ من قصيدة بعنوان‘‘طللية البروة‘‘ تتجلى جدلية الزمان والمكان في هذه القصيدة وقد تخففت من كل ما من شأنه أن يخفيها تحت إهاب آخر غير جوهرها العاطفي / الإنساني: الحنين، وكنهها الوجودي: الهوية، ورؤيتها للتاريخ ومساره وفعله حين وقعت سماء – هذه المرة وليس القطار أو الخريطة – على حجر وأدمته وتسببت في: انفصال المكان عن زمانه، لكن الشاعر وهو يعرف أنه في الطور الأخير أقفل باب عاطفته ليصبح آخره كأنه سائح أو مراسل لصحيفة غربية لقد اختار الحياد، لكن التوتربكل درجاته ومعانيه: التوتر المعرفي بين: النظري والواقعي، التوتر النفسي بين الحلم والواقع، وبين الهنا والهناك، والتوتر الوجداني بين الأنا والآخر، بقي يمد البصيرة الشعرية بأسباب توهجها وينفذ بها من صراع الثنائيات إلى أسئلة الوجود الكبرى كي يمتلك الشعرأسباب تجاوزه للتحجر في برهة آنية / ظرفية لا تفضي إلى اعتباره بذاته أداة هامة لتثمين الحياة، تماما كما فعل شعراء الجاهلية حين حمّلوا قصائدهم حنينهم إلى الديار وأنفاس الأحبة عبر القرون:
    أقول لصاحبيّ: قفا... لكي أزن المكان / وقفره بمعلقات الجاهليين الغنية بالخيول وبالرحيل. لكل قافية سننصب خيمة. / ولكل بيت في مهب الريح قافية... / ولكني أنا ابن حكايتي الأولى.
    لاشك في أن تعدد الأصوات هنا ساهم في تصاعد شعورنا بالانفصام وإحساسنا حدة بانفصال المكان عن الزمان، ومن العبث – تحت ضغط هذه الجدلية – البحث عن حقيقة ثابتة لاتكف عن الانثيال والتحول، المقطع أيضا يحيلنا إلى قراءة صامتة بسبب خفوت الأصوات ‘‘الحروف‘‘والنبر والصورة البصرية التي تأخذ طابعا مشهديا يحرر طاقاتنا الذهنية وانفعالاتنا الهامدة تحت ركام هائل من التعود على المشهد المكرور، وليس التصوير هو انفتاح الخيال على الاستعارات لقياس مهارة الشاعر، إنه أيضا – والأهم – انفتاح النص على معناه ، أو انفتاحه على ‘‘معنى المعنى‘‘ وبكلام آخر مدى بلوغ الخيال في توضيح المعنى وظلاله، لهذا فهو يختار ‘‘الغياب لوصفه‘‘، إنه لا يرى مصنع الألبان بل‘‘لايرى إلا الغزالة في الشباك‘‘ ولا يرى ‘‘الطرق الحديثة فوق أنقاض البيوت‘‘ بل لا يرى‘‘ إلا الحديقة تحتها وأرى خيوط العنكبوت‘‘ ، إنه لايرى سوى ماغاب من مشهده مكانه الأول لأنه ابن ‘‘ابن حكايته الأولى‘‘. تكتسب الصور تلويناتها بسبب الجرس الموسيقي للأصوات وتنويعاتها في التركيب: ‘‘حليبي / ساخن في ثدي أمي، والسرير تهزه عصفورتان صغيرتان، ووالدي يبني غدي / بيديه... فتتفاعل الحروف الصائتة الكثيرة مع المشهد الذي بنته الأفعال الحركية لتحضر أصداء الحكاية الأولى، ويتفاعل الحس الموسيقي ‘‘السمعي‘‘ مع ‘‘الصورة البصرية‘‘ وبهذا تجتمع حوافز عديدة لتحرير انفعالاتنا وانسكاب عواطفنا. جميع قصائد هذا الجزء من الديوان تلتقط أعمق الدوافع بمضامين وجدانية، وتصورها بأساليب متعددة ومتغايرة، وليس مصادفة أن نجد ثلاث قصائد رثاء غير طللية البروة – هو يذكر اسم قريته للمرة الأولى مضافة إلى مفردة طلل -هي على التوالي: موعد مع إميل حبيبي، في بيت نزار قباني، في رام الله‘‘إلى سليمان النجاب‘‘، أما بقية القصائد فتكتسي إحساسا مؤلما بالخسارة والفقد ولا تبتعد عن موضوع الرثاء إلا بطريقة صوغه وبالشكل الذي يتناسب مع الموضوع المطروح من خلاله: الوقت، الخوف، الغربة، الحب القديم، الشعور بالفراغ، فراق الأحلام، ولا نستثني قصيدة ‘‘إلى شاعر شاب‘‘فهي أيضا قصيدة رثاء ولو من بعيد لأن درويش الشاعر ‘‘الأب‘‘يوصي الشاعر الشاب ‘‘الإبن‘‘ في ‘‘قتل أبيه‘‘ لكي يتسنى له الإصغاء إلى صوته وإيقاعه الخاص لا تصدق خلاصاتنا، وانسها/ وابتدئ من كلامك أنت. كأنك/ أول من يكتب الشعر،/ أو آخر الشعراء!
    لا تسل أحدا:ً من أنا؟/ أنت تعرف أمك.../ أما أبوك فانت...
    تكتسب هذه القصيدة أهمية خاصة ليس لكونها وصية فحسب، بل لأنها تكثف آراءه في الشعر والحب وفلسفة الحياة وفي الأسلوب أيضا، إنه يكشف أوراقه لقارئه بتواضع العارف، وصدق الإنسان، وحنان المرتحل بأكثر الأساليب تقشفا وتخففا من طنين البلاغة حيث تغدو البساطة شكلا وحيدا لفتح آفاق النص ليس على معانيه فحسب ولكن أيضا وأساسا على موسيقى العاطفة الثرية التي تتبنى اقصر الطرق للوصول إلى متلقيها وبخاصة في قفلة البيت الأخير من هذا المقطع:
    شذّ، شذّ بكل قواك عن القاعدة / لاتضع نجمتين على لفظة واحدة / وضع الهامشيّ إلى جانب الجوهريّ / لتكتمل النشوة الصاعدة / لاتصدّق صواب تعاليمنا / لاتصدّق سوى أثر القافلة‘‘. إن التطابق الكامل بين الشكل والمحتوى، بين الكلمة والفكرة، يعبر عن نفسه بانسجام موسيقي ، في ‘‘الهارموني‘‘ الذي يجد طريقه المجدول بين‘‘الإيقاع‘‘ الذي هو وزن التفعيلة، وبين ‘‘اللحن‘‘ الأساسي النابع من مصادر أخرى ابتداء بالفكرة وتعدد الأصوات والخيال والتقابل والاتساق والعاطفة وحركة الشعور، واعتماد الدلالة في توزيع العمل الشعري ، حيث يعتمد السطر الشعري المختلف في عدد تفعيلاته على مثيله الوزني ، والموسيقى توزع شعريا وليس عروضيا وهي طريقة الشعر الحديث ، هذاعلى سبيل المثال لا الحصر، أختارالمقطع التالي من قصيدة ‘‘إلى إميل حبيبي‘‘ للتمثيل: لا لأرثيه جئت. بل لزيارة نفسي. / ولدنا معا وكبرنا معاً. أما زلتِ يا / نفسُ أمّارةً بالتباريح؟ أم صقلتك / كما تصقل الصخرةَ الريحُ، هنا - كما في طللية البروة – يلقي درويش تبعات اللغة الغنائية العالية وراء ظهره عبر المجاز الذي أخذ قصيدته إلى مناخات أخرى لها نسماتها المديدة في المضمون الذي تغير كما في الشكل، إنه يتجه إلى الذات، ولكن الذات المغروسة في قلب الواقع: ‘‘لا لأرثي شيئا أتيت، ولكن / لأمشي على الطرقات القديمة مع صاحبي، / وأقول له: لن نغير شيئا من الأمس / لكننا نتمنى غداً صالحاً للإقامة. تختلف اللغة في رثائه ل‘‘نزار قباني‘‘ فتشف وتخف، وتعود غنائية مائية، فصورة نزار طاغية في ذاكرة الناس، وشعره المغنى على لسانهم، وسيرته المشاكسة للظلاميين في بداياته، وللمستبدين قبل رحيله بزمن طويل، وقصائده المهربة ضدهم كل هذا كان قد اختار شكل القصيدة ولغتها: بيت الدمشقيّ بيت من الشعر. / أرض العبارة زرقاء، شفافة. ليله / أزرق مثل عينيه، آنية الزهر زرقاء / والستائر زرقاء، / سجاد غرفته أزرق، دمعه حين يبكي رحيل ابنه في الممرات أزرق. آثار / زوجته فيالخزانة زرقاء، لم تعد / الأرض في حاجة لسماء، فإن قليلا من البحر في الشعر يكفي لينتشر الأزرق / الأبدي على الأبجدية.
    في قصيدته الأخيرة في الرثاء المباشر والتي تحمل عنوانين الأول: في رام الله، وعنوان فرعي ‘‘إلى سليمان النجاب‘‘ يتراوح النص مابين الأسلوبين الخبري والإنشائي وبالتالي هذا الشعري الحامل لإدراك وإحساس فجائيين ينقل العدوى إلى النثري / الإخباري / الهامشي فيتحول بدوره إلى شعري وكذلك إدراكنا وإحساسنا به أي: مايمكن أن تختزنه البنية الصوتية الواحدة من معان متعددة بحسب قوة الإيحاء وبهذا تحمل اللغة أكثر مما تقول: نمشي على جبل السماء، ونقتفي / آثار موتانا، وأسأله: هل التاريخ كابوس سنصحومنه، أم / درب سماوي إلى المعنى؟ يقول: / هو الذهاب، هو الإياب.
    في نص درويش لانجد تجسيدا للمعاني ولا تحميلا لها، بل توليدا وتفريعا دائمين، عبر التساؤل والدهشة كما مر، وتنتهي بنبوءة غير سعيدة عن نهايته المحتملة والقريبة في مدينة رام الله التي ليس له فيها أمس ولكن: لي ذكرى غد فيها، ولي فيها اكتئاب / ونافذة على الوادي وباب

    لي أمس فيها
    لي غياب!
    والبياض السابق لم يأت عبثا، ولا شكلانيا بل من أجل ‘‘فجوة التوتر‘‘ التي هي في الأساس‘‘فضاء ينشأ من إقحام مكونات تنتمي إلى مايسميه جاكوبسون نظام الترميز‘‘ بحسب كمال أبو ديب. إنها مساحة الصمت - وقد جاءت طويلة هنا – تفصل بين الأسطر فصلا دلاليا وإيقاعيا. صحيح إن التفعيلة هي مفتاح الإيقاع في شعر درويش قد تنتهي بسطر واحد وقد يتداخل فيها تفعيلة أخرى فينتج ‘‘هارموني‘‘ وليس إيقاعا هذا التداخل بين أكثر من تفعيلة ، بل هي بمثابة عزف نغمتان مختلفتان في وقت واحد ضمن السلم الواحد، وهذا ماسماه الراحل إدوارد سعيد‘‘طباق‘‘، إن لموسيقى درويش ‘‘زمنا شعريا‘‘ تحدده شحنة العاطفة ودرجة ‘‘التوتر‘‘.مايزال الكلام ناقصا، وسيمر زمن طويل قبل أن نعرف كيف استطاع محمود درويش اكتشاف كنوز اللغة وكيف فجر طاقاتها، وكما كل شعراء الإنسانية الخالدين سيبقى درويش ال‘‘غائب‘‘ ‘‘حاضر‘‘ أبدا، مثل ... أثر الفراشة.
يعمل...
X