كانت سنوات الحرمان من الحنان تزمجر في رأسه، تعبث بأعصابه فتصيبها بالخور ، تُهيج قلبه فيحمر وجهه خجلا وترتعش شفتاه كجناحي طائر وجلا، لذلك قرر مكالمتها هاتفيا، فهو أسلم في هكذا أمور خطيرة، لكنه صدم عندما أجابته بالإيجاب وبثقة تامة دون تردد، وأخبرته أنها ستأتي مساءً إلى هناك للتحدث في التفاصيل
كانا تلميذين في نفس الجامعة، هو في مرحلة التخرج، أما هي فأخبرته أنها في السنة الثانية، وقد غزت قلبه واستملكته من أول تعارف، وفي أقل من ستة أشهر ، تخرج وبدأ عمله الجديد ، استطاعت جذبه كطفل وديع ، وترددت على المنزل كأنه منزلها الذي ترعرعت فيه،
جلس على جمر الإنتظار لحين انتهاء ساعات عمله، السرور باد على محياه الذي يجادل عقله في صحة ما سمع، وأسئلة المستقبل السعيد تبلع انتباهه فتصيبه بالشرود
ومع انتهاء الدوام يقفز إلى خارج الدائرة، يعرج على الصيدلية لأخذ علاج لوالده، ثم يلتهم الطريق إلى المنزل الهرم، الذي تغلفه الوحدة القاتلة من بين باقي منازل الحي الراقي، رغم الحديقة الغناء التي تحيط به من كل جانب وتمنع لهيب الشمس من لفح الجدران وما حوت
كيف سأقول الخبر السعيد لوالدي؟ هل ألقيه في حضنه دفعة واحدة؟ أم أُجزئه على قلبه المسكين؟ كم سيفرح لهذا الخبر! حيث ما فتيء يزعجني من أجل رؤية (مُرُوَّتي ) قبل الممات – لا سمح الله -، لن يتحمل قلبه بعدما انحنى جسده من حمل السنين حتى بات ينظر إلى قدميه حين يسير ، خاصة بعد فقد أمي وأخوتي في الفيضان المشئوم،
هكذا كان يحدث نفسه أثناء عودته إلى المنزل تحمله الفرحة على جناح السرعة لإعلام والده بالخبر السعيد، حاملاً علاجه الذي يمده بالراحة فيما تبقى له من أيام، يدلف متنططاً منادياً أبيه بكلمات تزغرد وتقطر سعادة، إلى أن وقف على باب جهنم المفتوح...
تسقط العلاجات من بين أصابعه ناثرة أحلامه على الأرض الكئيبة.. تهرب الكلمات ذات اليمين وذات الشمال ولا يبحث عنها؛ فلا تلزم! أظلمت الدنيا ، لم يبلع ريقه؛ فما فائدته بعد الآن؟ .. مشدوها من هول ما رأى.. لابساً حلة ضخمة من الشرود.. تغلي الإستفهامات في مرجل رأسه، وهو يجر أقدامه إلى غرفته : هل هذا والدي الذي نذر نفسه من أجلي؟ هل هذا معقول؟ لماذا يغتال حلمي وأملي قبل أن يولدا؟ أمن أجل هذا رحب بها ووافق على زواجي منها؟ لديه من الأموال ما يكفي، فلماذا لم يتزوج؟ هذه الحياة لم يعد لها قيمة .. تخنقه العبرات والدموع ويشهق كطفل صغير وهو يدخل من باب غرفته.. قد كان هو أبوه وأمه .. يواسيه إذا حزن ويمسح دمعته إذا بكى .. أما الآن.. فمن سيفعل ذلك؟...
راقَبَتْهُ بطرف ماكر، إلى أن أغلق باب الدنيا على نفسه واطمأنت لذلك. قامت من فراش العجوز الذي بدأ يسترد وعيه في غفلة منها، لملمت بقايا أنوثتها الخادعة على عجل مريب، وهي تحدث نفسها : لو تأخر قليلاً لاستيقظ العجوز وفشلتُ، حان وقت الإحتفال..سأعود بما لذ وطاب لأنعم بالمال والجاه والمنزل الفسيح.. أطلقت ضحكة النصر.. وخرجت.
بدأت الغشاوة تنزاح عن عيني العجوز، و شك بخطة تدبرها هذه اللعوب حيث تذكر أن آخر شيء فعله هو شربه شراباً من يدها، لكنه لم يمنع رؤيتها عارية كطيف يستجمع نفسه ويستر عورته، اتضحت الرؤيا أكثر عندما انتبه لنفسه شبه عار أيضاً في فراشِه، فاستهم في اللبس واستكشاف الحقيقة ، وآلاف الأسئلة تطارده بجنون، وهو يتراكض مترنحاً كهارب منهم في بيت مسكون، إلى أن فتح باب النهاية لغرفة ابنه.. فأقعدته الصعقة على الأرض وألقت به في واد سحيق...
انطلقت السيول الصيفية من عينيه، وأجهش بالبكاء بصوت متحشرج متقطع وهو يتعلق بالأقدام المعلقة، التي نذر نفسه من أجلها:
- ابني!.. ولدي!.. حبيبي!.. لماذا فعلت ذلك؟.. قل لي، ماذا حصل؟.. أنت آخر من تبقى لي،.. فلماذا تحرمني من نفسك؟.. ألم تستطع الصبر أياما حتى أغيب؟ .. ألا إن الحياة بعدك عدم..
وقد حان وقت المغيب..
اين علاجي؟ أين علاجي؟..
مصطفى الصالح
03\04\2010
كانا تلميذين في نفس الجامعة، هو في مرحلة التخرج، أما هي فأخبرته أنها في السنة الثانية، وقد غزت قلبه واستملكته من أول تعارف، وفي أقل من ستة أشهر ، تخرج وبدأ عمله الجديد ، استطاعت جذبه كطفل وديع ، وترددت على المنزل كأنه منزلها الذي ترعرعت فيه،
جلس على جمر الإنتظار لحين انتهاء ساعات عمله، السرور باد على محياه الذي يجادل عقله في صحة ما سمع، وأسئلة المستقبل السعيد تبلع انتباهه فتصيبه بالشرود
ومع انتهاء الدوام يقفز إلى خارج الدائرة، يعرج على الصيدلية لأخذ علاج لوالده، ثم يلتهم الطريق إلى المنزل الهرم، الذي تغلفه الوحدة القاتلة من بين باقي منازل الحي الراقي، رغم الحديقة الغناء التي تحيط به من كل جانب وتمنع لهيب الشمس من لفح الجدران وما حوت
كيف سأقول الخبر السعيد لوالدي؟ هل ألقيه في حضنه دفعة واحدة؟ أم أُجزئه على قلبه المسكين؟ كم سيفرح لهذا الخبر! حيث ما فتيء يزعجني من أجل رؤية (مُرُوَّتي ) قبل الممات – لا سمح الله -، لن يتحمل قلبه بعدما انحنى جسده من حمل السنين حتى بات ينظر إلى قدميه حين يسير ، خاصة بعد فقد أمي وأخوتي في الفيضان المشئوم،
هكذا كان يحدث نفسه أثناء عودته إلى المنزل تحمله الفرحة على جناح السرعة لإعلام والده بالخبر السعيد، حاملاً علاجه الذي يمده بالراحة فيما تبقى له من أيام، يدلف متنططاً منادياً أبيه بكلمات تزغرد وتقطر سعادة، إلى أن وقف على باب جهنم المفتوح...
تسقط العلاجات من بين أصابعه ناثرة أحلامه على الأرض الكئيبة.. تهرب الكلمات ذات اليمين وذات الشمال ولا يبحث عنها؛ فلا تلزم! أظلمت الدنيا ، لم يبلع ريقه؛ فما فائدته بعد الآن؟ .. مشدوها من هول ما رأى.. لابساً حلة ضخمة من الشرود.. تغلي الإستفهامات في مرجل رأسه، وهو يجر أقدامه إلى غرفته : هل هذا والدي الذي نذر نفسه من أجلي؟ هل هذا معقول؟ لماذا يغتال حلمي وأملي قبل أن يولدا؟ أمن أجل هذا رحب بها ووافق على زواجي منها؟ لديه من الأموال ما يكفي، فلماذا لم يتزوج؟ هذه الحياة لم يعد لها قيمة .. تخنقه العبرات والدموع ويشهق كطفل صغير وهو يدخل من باب غرفته.. قد كان هو أبوه وأمه .. يواسيه إذا حزن ويمسح دمعته إذا بكى .. أما الآن.. فمن سيفعل ذلك؟...
راقَبَتْهُ بطرف ماكر، إلى أن أغلق باب الدنيا على نفسه واطمأنت لذلك. قامت من فراش العجوز الذي بدأ يسترد وعيه في غفلة منها، لملمت بقايا أنوثتها الخادعة على عجل مريب، وهي تحدث نفسها : لو تأخر قليلاً لاستيقظ العجوز وفشلتُ، حان وقت الإحتفال..سأعود بما لذ وطاب لأنعم بالمال والجاه والمنزل الفسيح.. أطلقت ضحكة النصر.. وخرجت.
بدأت الغشاوة تنزاح عن عيني العجوز، و شك بخطة تدبرها هذه اللعوب حيث تذكر أن آخر شيء فعله هو شربه شراباً من يدها، لكنه لم يمنع رؤيتها عارية كطيف يستجمع نفسه ويستر عورته، اتضحت الرؤيا أكثر عندما انتبه لنفسه شبه عار أيضاً في فراشِه، فاستهم في اللبس واستكشاف الحقيقة ، وآلاف الأسئلة تطارده بجنون، وهو يتراكض مترنحاً كهارب منهم في بيت مسكون، إلى أن فتح باب النهاية لغرفة ابنه.. فأقعدته الصعقة على الأرض وألقت به في واد سحيق...
انطلقت السيول الصيفية من عينيه، وأجهش بالبكاء بصوت متحشرج متقطع وهو يتعلق بالأقدام المعلقة، التي نذر نفسه من أجلها:
- ابني!.. ولدي!.. حبيبي!.. لماذا فعلت ذلك؟.. قل لي، ماذا حصل؟.. أنت آخر من تبقى لي،.. فلماذا تحرمني من نفسك؟.. ألم تستطع الصبر أياما حتى أغيب؟ .. ألا إن الحياة بعدك عدم..
وقد حان وقت المغيب..
اين علاجي؟ أين علاجي؟..
مصطفى الصالح
03\04\2010
تعليق