شموع الدهاليز

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سمية البوغافرية
    أديب وكاتب
    • 26-12-2007
    • 652

    شموع الدهاليز

    شموع الدهاليز


    "شيدت ثلاث عمارات وعمارتك ما تعلو إلا لتخبو.. "
    عبارة تتقافز دائما إلي ذهني مع رنين الهاتف فتربكني.. فأمضي لأجيب أبي وأنا أنسج التبريرات لأسد بها نبرة السخرية التي تصاحبها..

    اليوم وحده، لم أتكاسل في التقاط السماعة ولم أبتلع ريقي لأستعد للرد.. بمرح طفولي ونشوة عارمة بادرته:
    ـ قريبا ستلج عمارتي وتتفسح في غرفها وتتدرج في طوابقها العشرين
    وأضفت أقطع شريط أسئلته التي فجرتها مفاجأتي له بالخبر الذي كان ينتظره أكثر من انتظاره لحفيد من صلبي:
    ـ لن أخبرك عنها شيئا.. سأتركها تبث إليك سحرها بنفسها..
    ضحك ثم بصيغة جادة تلفها نبرات الفرحة ختم مكالمته قائلا:
    ـ نفسي تحدثني أن جدتك فتنتك بسحر موهبتها قبل أن تدب الروح في جسدك..

    شعرت بجسدي يسقط مني وأنا أسمع عبارته الأخيرة.. فرحت أوقظ جدتي من قبرها وأنزل عليها بسياطي وأعرفها بحقيقتها وحقيقتي التي يجهلها أبي.. لكن سرعان ما استقويت بكنزي الذي ما تزال رائحة الطباعة المنبعثة منه تسكرني.. فتماسكت وألجمت سياطي وأغمدت كل سيوفي.. فلم أصعق جدتي بحقيقة الجيل الجديد الذي لا تعرف عنه شيئا.. ولم أخبرها بأن البلاي ستايشن والإلكترونيات نسفت حكاياتها وأخرست ألسنة الجدات وأسدل عليهنستار من حجر.. بل حضنت إلي برهان حقيقتي وانتظرت بفارغ الصبر أن تشرق شمس الغد لألقيه في حضن أبي...

    بعد زوال اليوم التالي، كنت في بيت أبي.. قصدت مباشرة غرفة الجلوس حيث يتناول غذاءه.. أطلت من الباب أنقر بأصبعي على اسمي أعلا الغلاف وأخفي وجهي خلف روايتي.. قفز من زاويته بمرح شبابي وخطفها من يدي.. ثم ضمني إلى صدره بقوة ولم يحررني ويطلق سراحي حتى طقطقت عظامي وتفجرت تأوهاتي.. ثم أشار على أمي أن تتدبر أمر تلفوناته واختفى في غرفة نومه في الطابق الثاني..

    بعد ساعتين تقريبا، تناهى إلي صرير باب غرفته.. فقفزت من مكاني بمرح طفولي مشوب بقلق منتَظِرِ نتيجة الامتحان.. تقاطعت معه عند نهاية الدرج.. شحوب وجهه وابتسامته الباهتة ذوبا سؤالي الأول على لساني ليتفجر سؤالا ضمنته هلعي من شبح الموت الذي يزوره من حين لآخر:" هل اتصلت بالطبيب؟؟.. وهل شـربت دواءك؟.. و".. لفني بذراعه وضحك لي من أنفه يطمئنني عن سلامة كليتيه.. فدغدغت جانبه الأيمن وقلت له بدلال طفولي:
    ـ إذن، ما سر هذا الشحوب؟؟ أكنت نائما أم كنت تقرأ روايتي؟؟..
    أشار لي بأصبعيه إلى الجواب الثاني..
    ـ هيه.. ما رأيك فيها؟؟.. أما زلت تقارن بيني وبين جدتي؟؟..

    أخرس إصراري بأن انطباعه سأعرفه يوم ينهيها بأكملها ثم مضى ليتوضأ لصلاة العصر..

    في اليوم الثاني كانت روايتي راقدة في مكتبته وفي أسفل جناح الروايات التي قرأها.. ضقت من الأمر حد الانزعاج.. ومع ذلك ظللت متمسكة بخيط رفيع من الأمل ألين به قلقي.. لعلها مزحة؟.. فليس معقولا أن تكون روايتي آخر ما استهواه من الروايات التي قرأها ؟؟.. سألته وأنا كلي أمل في انطباع جميل عنها.. تنهد وسكت مليا يخفي خيبة أمله التي تفضحها قسمات وجهه ثم أحاطني بذراعه وسار بي إلى حديقة البيت بخطوات موزونةمترعة بالخشوع.. وأنا منساقة وراءه كطفلة صغيرة صامتة أجتر امتعاضي وخيبتي كذلك العيد الذي أصرت جدتي أن لا ألبس غير الفستان الصوفي الذي نسجته يداها وحرمتني من ارتداء سروال دجين مع قميص فستقي اخترتهما بيدي..

    دلفنا إلى غرفة في أقصى الحديقة.. كل شيء فيها يرشني برائحة الماضي.. من عبق البخور حتى آخر قطعة فيها.. راحة يدوية، زربية (سجاد) وفرش من صوف نسجته يدا جدتي، قصعة وأكواب وصحون من خزف وقدور مدخنة، وقنديل يتدلى من السقف.. جلسنا مقرفصين جنبا إلى جنب وأنا ذاهلة مستغربة من أمره ومن صمته الثقيل.. تعلقت عيناه بالقنديل الصغير المتدلي من السقف ويداه تداعبان مغزلي جدتي اللذين ما يزالان يحتفظان على كثير من الصوف بين أسنانهما.. فغاب وعلى شفتيه بسمة ملائكية وهو يقول كأنه يحدث شخصا آخر غيري:
    ـ هنا غزلت جدتك قصصا وروايات لم تكتب بعد...
    ثم سكت وقد التمع ضوء قرمزي في عينيه السارحتين في البعيد كأنهما تتقوتان من بؤرة ضوء لا أراها.. وانطلق لسانه يقطر كلمات بدت لي يستوحيها من مصدر غيبي.. لم أعد أرى أمامي غير هيكل أبي مقرفص بجانبي بينما جوارحه هاجرته إلى زمن بعيد وَلَجْتُهُ معه عبر كلماته: "جدتك، لم تسعفها أصابعها نقش رسم حرف.. لكنها نقشت في العقول سورا لم تزدها عواصف الزمن غير رسوخ.. تقبض عليك من أول الكلمات وتسحبك كظلها وراءها.. تجوب بك عوالمها دربا دربا.. تغسلك بالفصول الأربعة دفعة واحدة.. تقبض روحك ثم ترخيها بعدما تغسلها بأمطارها.. تصمت تحدق إلى وجهك مبتسمة حتى تستيقظ لتقتحم بك دهاليز أخرى تملك وحدها خريطتها.. فتنتَبهُ إلى حالك كيف صرت لعبة في يدها.. تتيقظ تتابع مسار عينيها تأمل أن تسبقها وتتجسس على عالمها الزاخر بالغرائب والمفاجآت.. ترف على شفتيها ابتسامة استخفاف وتقبض عليك مرة أخرى وتسحبك وراءها بخيوط تأسر جوارحك وأطرافك ولا تطلق سراحك إلا وأنت شخص من شخوص حكاياتها.. فتظل وقتا تفك خيوطا وهمية ضربتها حولك.. فقد تفيق وقد تظل ساكنا عالمها أبدا......"

    استشعرت بخيوط شباك جدتي تسحبني.. وقبل أن تأسر جوارحي كما أسرت أبي، استللت نفسي من عوالمها وعيناي دامعتان.. دموع حسرة وألم على شموع قبرت في دهاليز الحياة قبل أن تبتلعها الحفر إلى الأبد.. ومن يومها نذرت قلمي ليجمع أشتات عوالم جدتي لأعيد تشييد صروح قصورها بكل ما أتيت من دهاء وحنكة.. فكنت المهندسة والبناءة وكان أبي الرقيب.. وكلما تجسدت لي غرفة في قصر من قصور جدتي الكثيرة وصادق عليها أبي، مضينا معا لنغرس وردة على قبرها.. واليوم، أتممت قصرها الأول فأشعلنا شمعة على شاهد قبرها.. أبهرني اسمها المضيء لعيني واعتراني أمل بوهج شمس منتصف النهار في أن أشعل شمعة أخرى قبل أن تنطفئ الأولى...

    فجأة، والبهجة تغمرني، تقافزت لي كثير من رياض تشبه روضة جدتي.. حياة أخرى تبثها لعيني كثير من القبور البعيدة وتهيج شلال الحروف في ذهني.. كدت ألفت إليها انتباه أبي.. أغمضت عيني لأستيقن مما أرى، فإذا بي أفتحهما على سكون مطبق وظلام زاحف كاد يمسح كل حروفي لولا ضوء شمعتي الصغيرة التي تتحدى بقوة خارقة الأنفاس المتضافرة على إطفائها...
    ****
    التعديل الأخير تم بواسطة سمية البوغافرية; الساعة 28-05-2010, 09:19.
  • مها راجح
    حرف عميق من فم الصمت
    • 22-10-2008
    • 10970

    #2
    نص عميق يكتنز بذكريات مؤلمة عن رحيل الجدات
    الجدات اللواتي طالما حملن الكثير من الأثر و(الحدوتة )الهادفة
    نفتقدهن يا استاذة سمية بكل المعاني
    والوالد هنا موضع تقدير وملاك أمان قدير بأن يشجع الكاتبة على بناء عمارتها الكتابية بكل ثقة وحب
    كم نحتاج هؤلاء الأسوة لنستمر ..ولكن ..

    استاذة سمية
    شكرا لهذه المتعة القرائية التي أفاضت بي الذكريات
    تذكرت عالم الجدات في قصتي..(وداع برائحة الأمس)


    لغة فائقة الجمال وسرد ممتع وقوي
    تحيتي ومودتي
    رحمك الله يا أمي الغالية

    تعليق

    • محمد عباس على داود
      محمد عباس على داود
      • 24-01-2010
      • 154

      #3
      استاذة سمية ..ماهذا السحر وتلك الصورة البديعة وذلك الجو المضبب الذى يعترى قلب البطلة فتمضى مع الماضى وذكريات مع شمعة فى سكون مطبق وظلام زاحف وهى تتحدى بضوئها الضعيف كل الانفاس المتضافرة على اطفائها ؟ ..تصوير بديع وخيال جامح وافكار مرتبة تعرف جيدا ماتريد وعبارات سلسة احييك عليها .لك كل تحية
      مدونتى (قصة قصيرة)
      htt\\mabassaly.blogspt.com
      مدونتى (شعر )
      htt\\mohamedabassaly.blogspot.com

      تعليق

      • عائده محمد نادر
        عضو الملتقى
        • 18-10-2008
        • 12843

        #4
        الأيبة الرائعة
        سمية البوغافرية
        أحب أن أقرأ لك
        أعشق نصوصك لأنك لا تكتبين أي شيء أو كيفما اتفق
        تعطين الحرف حقه
        والحدث حقه
        وتعطين اسمك حقه أيضا
        نص زاخر بالأدب والسرد الشفاف
        تحياتي ومودتي لك سمية
        رائعة صدقيني تفيض روعة
        الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

        تعليق

        • إيمان الدرع
          نائب ملتقى القصة
          • 09-02-2010
          • 3576

          #5
          الله.. يا أديبتنا ا لرائعة سميّة :
          خذينا معك دائماً إلى دهاليز دروبك الرائعة
          لأنها مثمرة ، خيّرة مثلك ، مفعمة بالعطاء كروحك
          ولولا ذلك لما جسّدتِ بهذا الاقتدار روح الجدّة، ووفاء الأب بهذا العمق
          مبدعةٌ أنت ، كما تعوّدناك....
          تحيّاتي....

          تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

          تعليق

          • ربيع عقب الباب
            مستشار أدبي
            طائر النورس
            • 29-07-2008
            • 25792

            #6
            مررت من هنا ،
            وتعلمت الكثير مما يحمل بين سطوره الألقة
            لغة ، و بناء ، وموضوعا .. كانت كلها تتضافر
            لرسم لوحة غاية فى الروعة و الدسامة !!


            لى عودة

            تقبلى مصافحتى المتواضعة

            تقديرى و احترامى
            sigpic

            تعليق

            • ربيع عقب الباب
              مستشار أدبي
              طائر النورس
              • 29-07-2008
              • 25792

              #7
              سوف أقول و دون مغالاة ، أنها إحدى أجمل نصوصك ،
              و أكثرها حميمية !
              كانت ملامح الشخصيات ، تتبدى مع كل دفقة ، فى القص ، و تأخذ
              فى طريقها لمحة أو ومضة تشرق فى الملامح ، و تزيد الصورة وضوحا
              الشخصية الرئيسة ، القاصة ، التى أخذت المساحة كاملة ، بداية و خاتمة و وسطا ، و كأنك تتحدثين عن نفسك ، و خاصة حين كان الأمر رواية لك ، مايزال رحيق الطباعة عالقا بها .. و هنا تذكرت شيئا عجيبا ، حين كنا صغارا ، وما كانت تمثل لنا الكتب الجديدة ، و رائحة نحاس الطباعة ، الذى لازمنا سنين طوال ، و حتى وقتنا هذا ، كم كنا نحب الكتاب جديدا .. كم .. ونروح فى خامل ما تراكم فى الذاكرة علنا نمسك شيئا مازال ينبض بالحياة فينا !!

              أعجبنى هذا الكبرياء ، الجميل فى التعالى على روح الماضى المتجسد فى الجدة ، و لكنه لم يقطع أو يكره ما كان ، بل كان على قدم و ساق ، و حالة التجديد ،
              فمن الصعب أن نتصور إن انسان اليوم أقل معاناة أو ثقافة و عطاء من إنسان الأمس .. و هنا كنت تمسين روح الحقيقة برهافة ، و ربما تمرد محبب ، و أمام الوالد ..و هى تدفع إليه بروايتها .. كم أحببت هذا الرجل ، و من أول طلة ، و جملة فى القصة !!
              يالك من ماكرة سمية البوغافرية .. و أنت تعودين بالأب ، و البطلة على أحر من الجمر لسماع رأيه .. و كم تلاعبت بنا كقراء ، و بأعصاب البطلة ، و رحت تغوصين فى الرجل ، ما يريد .. أقرأ فعلا .. أم أنه لم ينه قراءته ؟!!
              أغلب ظنى أنه لن ينهى القراءة أبدا ..!!
              ثم كان درسه ، و كانت الجدة ، و حالة التجلى .. يا الله ..
              وأتى درس رهيفا حميما
              كم جميل أن نتعلم بكل هذا الود ، و السمو ، بعيدا عن التقرير و المباشرة ، و الدروس الناتئة التى لا تتقبلها النفس مهما كان ما تحمل !!

              و لى عودة !

              تقديرى
              sigpic

              تعليق

              • العربي الثابت
                أديب وكاتب
                • 19-09-2009
                • 815

                #8
                عالم حميمي من عوالم جداتنا بعثه نصك في داخلي بكل عنفوانه وأصالته وزخمه..فكان نصا قيما وجميلا كما عودنا قلمك الوفي لكل ماهو نبيل وأصيل.
                ثقافة الجدات بالرغم من خرافيتها وأسطوريتها،تحمل في طياتها بذور مقاومة أي دخيل فينا مهما كانت سطوته..
                تقافزت إلى الواجهة صور جدتي وهي تسكرنا برحيق حكاياتها ،فتخمد روح الشغب فينا،ونلتف حولها، تسبقنا أذاننا،فنغوص في غرائبية حكيها،ويدها تعبث بشعيرات رؤوسنا ،ولا تتركنا حتى تسلمنا لسلطة نوم لذيذ..
                تحايا صادقة لكل هذا الوفاء والجمال...
                اذا كان العبور الزاميا ....
                فمن الاجمل ان تعبر باسما....

                تعليق

                • حماد الحسن
                  سيد الأحلام
                  • 02-10-2009
                  • 186

                  #9
                  الأديبة الرقيقة سمية البوغافرية
                  مساء الخير
                  هذه أنت تشتغلين على النص برقة وحدة, استحضار لماض بعيد, لونته اللهفة بألوان تخطف النظر, وحاضر يتناوب فيه الحب مع التحدي, أسجل عبور ي ولي عودة أكيدة للنص فيما بعد.
                  ودمتم بمودة واحترام بالغين

                  تعليق

                  • محمد سلطان
                    أديب وكاتب
                    • 18-01-2009
                    • 4442

                    #10
                    عالم الجدة و عوالم الماضي الجميل

                    روحها وأنفاسها .. والبركة داخل البيت و بين حنايا الضلوع

                    أستاذة سمية مساء الورد .. لا أخفيك سراً سيدتي .. أضحيت أنتظر نصوصك كي أستنشق رائحة الجد و الجدات .. أحب هذه السيرة العطرة و القراءة عنهما .

                    وهذه سمة قلمك السامق الذي عرفناه .. له طعم البركات و رائحة الجدات و الأجداد .. وهنا أيضا تذكرت رائعتك التي حملت عنوان مجموعتك الجديدة "أجنحة صغيرة" .. كانت رائعة و هنا أيضا أراك أروع ..

                    رحمة الله عليهن و على ماضيهن الجميل ..

                    لك كل التحايا و كل التقدير لأانك لا تغفلين ذكرهم في نصوصك التي هي في الأساس مبنية على بركة الأجداد ..
                    صفحتي على فيس بوك
                    https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

                    تعليق

                    • صبري رسول
                      أديب وكاتب
                      • 25-05-2009
                      • 647

                      #11
                      العزيزة سمية
                      تنقبين في تواريخ جميلة ومؤلمة
                      تبحثين عن أناس رحلوا
                      لغة جميلة وسرد ممتع
                      تعرفين كيف تنسجين الجمال
                      كوني بخير

                      تعليق

                      • مصطفى الصالح
                        لمسة شفق
                        • 08-12-2009
                        • 6443

                        #12
                        الاخت العزيزة سمية

                        انت رائعة دائما

                        لكنك اليوم من اروع ما رايت

                        وانت تصفين سرد جدتك القصصي ، تذكرت وصفي لسرد والدي القصصي

                        حيث كان الفرق كبيرا واضحا.. لصالحك طبعا

                        دمت بكل هذا الجمال والالق

                        تحية وتقدير
                        [align=center] اللهم صل على محمد أفضل الخلق وعلى آله وصحبه أجمعين

                        ستون عاماً ومابكم خجــلٌ**الموت فينا وفيكم الفزعُ
                        لستم بأكفائنا لنكرهكم **وفي عَداء الوضيع مايضعُ

                        رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ

                        حديث الشمس
                        مصطفى الصالح[/align]

                        تعليق

                        • ميساء عباس
                          رئيس ملتقى القصة
                          • 21-09-2009
                          • 4186

                          #13
                          شعرت بجسدي يسقط مني وأنا أسمع عبارته الأخيرة.. فرحت أوقظ جدتي من قبرها وأنزل عليها بسياطي وأعرفها بحقيقتها وحقيقتي التي يجهلها أبي.. لكن سرعان ما استقويت بكنزي الذي ما تزال رائحة الطباعة المنبعثة منه تسكرني.. فتماسكت وألجمت سياطي وأغمدت كل سيوفي.

                          سميّتي الجميلة
                          الغارقة في حنايا الماضي
                          الأديبة الأنيقة البوح والسرد
                          جميلة جدا يالعزيزة
                          فنانة بحق يالغالية
                          لاأحب المجاملة
                          ممتعة قصتك
                          وزاخرة بالفصول
                          دمت متألقة
                          محبتي
                          ميسو
                          مخالب النور .. بصوتي .. محبتي
                          https://www.youtube.com/watch?v=5AbW...ature=youtu.be

                          تعليق

                          • سمية البوغافرية
                            أديب وكاتب
                            • 26-12-2007
                            • 652

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة سمية البوغافرية مشاهدة المشاركة
                            شموع الدهاليز



                            "شيدت ثلاث عمارات وعمارتك ما تعلو إلا لتخبو.. "
                            عبارة تتقافز دائما إلي ذهني مع رنين الهاتف فتربكني.. فأمضي لأجيب أبي وأنا أنسج التبريرات لأسد بها نبرة السخرية التي تصاحبها..

                            اليوم وحده، لم أتكاسل في التقاط السماعة ولم أبتلع ريقي لأستعد للرد.. بمرح طفولي ونشوة عارمة بادرته:
                            ـ قريبا ستلج عمارتي وتتفسح في غرفها وتتدرج في طوابقها العشرين
                            وأضفت أقطع شريط أسئلته التي فجرتها مفاجأتي له بالخبر الذي كان ينتظره أكثر من انتظاره لحفيد من صلبي:
                            ـ لن أخبرك عنها شيئا.. سأتركها تبث إليك سحرها بنفسها..
                            ضحك ثم بصيغة جادة تلفها نبرات الفرحة ختم مكالمته قائلا:
                            ـ نفسي تحدثني أن جدتك فتنتك بسحر موهبتها قبل أن تدب الروح في جسدك..

                            شعرت بجسدي يسقط مني وأنا أسمع عبارته الأخيرة.. فرحت أوقظ جدتي من قبرها وأنزل عليها بسياطي وأعرفها بحقيقتها وحقيقتي التي يجهلها أبي.. لكن سرعان ما استقويت بكنزي الذي ما تزال رائحة الطباعة المنبعثة منه تسكرني.. فتماسكت وألجمت سياطي وأغمدت كل سيوفي.. فلم أصعق جدتي بحقيقة الجيل الجديد الذي لا تعرف عنه شيئا.. ولم أخبرها بأن البلاي ستايشن والإلكترونيات نسفت حكاياتها وأخرست ألسنة الجدات وأسدل عليهنستار من حجر.. بل حضنت إلي برهان حقيقتي وانتظرت بفارغ الصبر أن تشرق شمس الغد لألقيه في حضن أبي...

                            بعد زوال اليوم التالي، كنت في بيت أبي.. قصدت مباشرة غرفة الجلوس حيث يتناول غذاءه.. أطلت من الباب أنقر بأصبعي على اسمي أعلا الغلاف وأخفي وجهي خلف روايتي.. قفز من زاويته بمرح شبابي وخطفها من يدي.. ثم ضمني إلى صدره بقوة ولم يحررني ويطلق سراحي حتى طقطقت عظامي وتفجرت تأوهاتي.. ثم أشار على أمي أن تتدبر أمر تلفوناته واختفى في غرفة نومه في الطابق الثاني..

                            بعد ساعتين تقريبا، تناهى إلي صرير باب غرفته.. فقفزت من مكاني بمرح طفولي مشوب بقلق منتَظِرِ نتيجة الامتحان.. تقاطعت معه عند نهاية الدرج.. شحوب وجهه وابتسامته الباهتة ذوبا سؤالي الأول على لساني ليتفجر سؤالا ضمنته هلعي من شبح الموت الذي يزوره من حين لآخر:" هل اتصلت بالطبيب؟؟.. وهل شـربت دواءك؟.. و".. لفني بذراعه وضحك لي من أنفه يطمئنني عن سلامة كليتيه.. فدغدغت جانبه الأيمن وقلت له بدلال طفولي:
                            ـ إذن، ما سر هذا الشحوب؟؟ أكنت نائما أم كنت تقرأ روايتي؟؟..
                            أشار لي بأصبعيه إلى الجواب الثاني..
                            ـ هيه.. ما رأيك فيها؟؟.. أما زلت تقارن بيني وبين جدتي؟؟..

                            أخرس إصراري بأن انطباعه سأعرفه يوم ينهيها بأكملها ثم مضى ليتوضأ لصلاة العصر..

                            في اليوم الثاني كانت روايتي راقدة في مكتبته وفي أسفل جناح الروايات التي قرأها.. ضقت من الأمر حد الانزعاج.. ومع ذلك ظللت متمسكة بخيط رفيع من الأمل ألين به قلقي.. لعلها مزحة؟.. فليس معقولا أن تكون روايتي آخر ما استهواه من الروايات التي قرأها ؟؟.. سألته وأنا كلي أمل في انطباع جميل عنها.. تنهد وسكت مليا يخفي خيبة أمله التي تفضحها قسمات وجهه ثم أحاطني بذراعه وسار بي إلى حديقة البيت بخطوات موزونةمترعة بالخشوع.. وأنا منساقة وراءه كطفلة صغيرة صامتة أجتر امتعاضي وخيبتي كذلك العيد الذي أصرت جدتي أن لا ألبس غير الفستان الصوفي الذي نسجته يداها وحرمتني من ارتداء سروال دجين مع قميص فستقي اخترتهما بيدي..

                            دلفنا إلى غرفة في أقصى الحديقة.. كل شيء فيها يرشني برائحة الماضي.. من عبق البخور حتى آخر قطعة فيها.. راحة يدوية، زربية (سجاد) وفرش من صوف نسجته يدا جدتي، قصعة وأكواب وصحون من خزف وقدور مدخنة، وقنديل يتدلى من السقف.. جلسنا مقرفصين جنبا إلى جنب وأنا ذاهلة مستغربة من أمره ومن صمته الثقيل.. تعلقت عيناه بالقنديل الصغير المتدلي من السقف ويداه تداعبان مغزلي جدتي اللذين ما يزالان يحتفظان على كثير من الصوف بين أسنانهما.. فغاب وعلى شفتيه بسمة ملائكية وهو يقول كأنه يحدث شخصا آخر غيري:
                            ـ هنا غزلت جدتك قصصا وروايات لم تكتب بعد...
                            ثم سكت وقد التمع ضوء قرمزي في عينيه السارحتين في البعيد كأنهما تتقوتان من بؤرة ضوء لا أراها.. وانطلق لسانه يقطر كلمات بدت لي يستوحيها من مصدر غيبي.. لم أعد أرى أمامي غير هيكل أبي مقرفص بجانبي بينما جوارحه هاجرته إلى زمن بعيد وَلَجْتُهُ معه عبر كلماته: "جدتك، لم تسعفها أصابعها نقش رسم حرف.. لكنها نقشت في العقول سورا لم تزدها عواصف الزمن غير رسوخ.. تقبض عليك من أول الكلمات وتسحبك كظلها وراءها.. تجوب بك عوالمها دربا دربا.. تغسلك بالفصول الأربعة دفعة واحدة.. تقبض روحك ثم ترخيها بعدما تغسلها بأمطارها.. تصمت تحدق إلى وجهك مبتسمة حتى تستيقظ لتقتحم بك دهاليز أخرى تملك وحدها خريطتها.. فتنتَبهُ إلى حالك كيف صرت لعبة في يدها.. تتيقظ تتابع مسار عينيها تأمل أن تسبقها وتتجسس على عالمها الزاخر بالغرائب والمفاجآت.. ترف على شفتيها ابتسامة استخفاف وتقبض عليك مرة أخرى وتسحبك وراءها بخيوط تأسر جوارحك وأطرافك ولا تطلق سراحك إلا وأنت شخص من شخوص حكاياتها.. فتظل وقتا تفك خيوطا وهمية ضربتها حولك.. فقد تفيق وقد تظل ساكنا عالمها أبدا......"

                            استشعرت بخيوط شباك جدتي تسحبني.. وقبل أن تأسر جوارحي كما أسرت أبي، استللت نفسي من عوالمها وعيناي دامعتان.. دموع حسرة وألم على شموع قبرت في دهاليز الحياة قبل أن تبتلعها الحفر إلى الأبد.. ومن يومها نذرت قلمي ليجمع أشتات عوالم جدتي لأعيد تشييد صروح قصورها بكل ما أتيت من دهاء وحنكة.. فكنت المهندسة والبناءة وكان أبي الرقيب.. وكلما تجسدت لي غرفة في قصر من قصور جدتي الكثيرة وصادق عليها أبي، مضينا معا لنغرس وردة على قبرها.. واليوم، أتممت قصرها الأول فأشعلنا شمعة على شاهد قبرها.. أبهرني اسمها المضيء لعيني واعتراني أمل بوهج شمس منتصف النهار في أن أشعل شمعة أخرى قبل أن تنطفئ الأولى...

                            فجأة، والبهجة تغمرني، تقافزت لي كثير من رياض تشبه روضة جدتي.. حياة أخرى تبثها لعيني كثير من القبور البعيدة وتهيج شلال الحروف في ذهني.. كدت ألفت إليها انتباه أبي.. أغمضت عيني لأستيقن مما أرى، فإذا بي أفتحهما على سكون مطبق وظلام زاحف كاد يمسح كل حروفي لولا ضوء شمعتي الصغيرة التي تتحدى بقوة خارقة الأنفاس المتضافرة على إطفائها...
                            ****
                            أولا أتقدم إلى كل الإخوة الأعزاء، الذين شرفوني بقراءاتهم، بالشكر الجزيل على ألق كلماتهم المبهجة والمخففة من الضنك الذي يغلف أحيانا النفس المبدعة .. وأرجو أن تتقبلوا اعتذاري الشديد عن هذا التأخير في الرد والخارج عن إرادتي.. وسأتولى باعتزاز وفخر لا يضاهيه اعتزاز بالرد على مداخلاتكم الطيبة واحدا واحدا كلما غافلت هذا النت واستطعت أن ألوي عنقه..
                            فشكرا على تفهمكم وتقبلوا تقديري ومحبتي التي تستحقون
                            أختكم سمية البوغافرية

                            تعليق

                            • سمية البوغافرية
                              أديب وكاتب
                              • 26-12-2007
                              • 652

                              #15
                              المشاركة الأصلية بواسطة مها راجح مشاهدة المشاركة
                              نص عميق يكتنز بذكريات مؤلمة عن رحيل الجدات
                              الجدات اللواتي طالما حملن الكثير من الأثر و(الحدوتة )الهادفة
                              نفتقدهن يا استاذة سمية بكل المعاني
                              والوالد هنا موضع تقدير وملاك أمان قدير بأن يشجع الكاتبة على بناء عمارتها الكتابية بكل ثقة وحب
                              كم نحتاج هؤلاء الأسوة لنستمر ..ولكن ..

                              استاذة سمية
                              شكرا لهذه المتعة القرائية التي أفاضت بي الذكريات
                              تذكرت عالم الجدات في قصتي..(وداع برائحة الأمس)
                              لغة فائقة الجمال وسرد ممتع وقوي
                              تحيتي ومودتي
                              أيتها الروح الطيبة.. الغالية مها راجح
                              بل الشكر كل الشكر أيتها العزيزة لك على ألق كلماتك وعذوبة حضورك أينما حللت..
                              كلماتك في حق محاولاتي تطمئنني على سطوري وتقوي في الرغبة على المزيد.. فشكرا لك مرة أخرى..
                              أرجو موافاتي برابط قصتك .. عنوانها جذاب.. والكتابة في جداتنا الكبيرات حقا واجب علينا.. ربما بكلمات قليلة أوفينا لهن ببعض جميلهن ورددنا لهن بعض الاعتبار الذي يستحقن..
                              دمت جميلة وعلى إبداع مزهر دائما
                              أنهار محبتي يأ أعذب مها

                              تعليق

                              يعمل...
                              X