الرأس الطائر
ليل دامس وخطوات تجرح الصمت، الثكنة تحرس نفسها
عبروا وفي دمهم حقد العالم
في أخر الطريق حي بلاجدران، و بيوت عارية يسكنها خوف مدقع، تسللوا من خرم الظلام
لعنوا الملائكة في سرهم
ثم كبروا باسم شيطانهم
ارتفع الصراخ
وصل الدم لركب
وحينما غادروا بزغ خيط الفجر بلون الدم القاني.
حملق في فراغ الغرفة المظلمة ثم شدّ نفسا عميقا محاولا دفع شاشات الذاكرة للإقلاع ، فتح عينيه بهدوء ليستشعر صمت الجسد وصمت المكان.عبروا وفي دمهم حقد العالم
في أخر الطريق حي بلاجدران، و بيوت عارية يسكنها خوف مدقع، تسللوا من خرم الظلام
لعنوا الملائكة في سرهم
ثم كبروا باسم شيطانهم
ارتفع الصراخ
وصل الدم لركب
وحينما غادروا بزغ خيط الفجر بلون الدم القاني.
لا شيء يمنح الطمأنينة قالها وهو يحاول رفع يديه و تخليل مفاصله، كرر المحاولة بلا جدوى.
الجسد صريع لا نفس فيه و لا حياة و لا رائحة للنبض، و المكان يباب يخنق الجسد و يحاصر الأجواء .
أدار رأسه، استشعر شيئا مخيفا، لعله الشلل أو الموت، عادة يبدأ الموت اجتياحه من أسفل الجسد زارعا البرد و السواد على كل شيء، لكن الموت في مطلق الأحوال هو التوقف النهائي للنبض في الدماغ، لكني اشعر برأسي سالما ، و لولا ذلك لما استطعت تحريكه ولا حتى التفكير أو التكلم.
إذا ما هذا الذي يحدث لي يا إلهي ؟
رددها في صمت أنينه مغمضا عينييه على وجع الحيرة.
لا بد أن شيئا ما حل بي حتى أصبحت على هذه الحالة، سأحاول أن أدير رأسي أكثر لعلي أتحرر من هذه الحالة الغريبة.
رأسي يدور ،ألتفت به في كل اتجاه، إنني أجد سهولة في إدارته براحة تامة، لا شك أنني استطيع تحريكه أكثر أو حتى القفز به و لم لا؟
ما دمت فقدت كل حركة في أطرافي سأحاول القفز إذا، سأفعلها.
ها...ها... ها أنا ذا أفعلها و أقفز كالجندب، لقد نجحت، ها أنا ذا أطير أيضا برأسي فقط، أجوب أرجاء الغرفة، إنني انفصل عن جسدي، أفارقه، أضعه بين ناظري... و لكن !
يدب الصمت في عروق وجهه لبرهة، يتنفس بمنخريه محدثا صفيرا سيئا، إنه رأسي المفصول عن جسدي يصبح هو الآخر معاديا لي.
أبتلع ريقه بصعوبة وهو يتأوه لهذه الحالة الغريبة التي صار عليها.
كيف يستطيع الآن مغادرة الغرفة، و كيف يكون رد فعل كل من يراه على هذه الحالة ؟
أ يعقل أن يطير رأس مفصول، و يتكلم و كأنه يعتلي جسدا غير مرئي، أ يعقل هذا ؟
خرج من غرفته على تلك الحالة الغريبة، كان الصباح باكرا، قد تعود على ركوب الحافلة التي تتوقف بجوار بيته ليتجه إلى العمل.
ها هو يطير، و ها هو الشارع فارغا، لا بد أنه خرج باكرا هذه المرة على غير عادته، إنه وحده في موقف الحافلة، نسمات البرد تهزه من الشعر فيتسرب بردها إلى منخريه محدثا صفيرا حادا من أسفل الرأس، فينتبه لهذه الحالة ملتفتا حوله لعل أحدهم يسترق السمع فيسمع هذه العادة السيئة التي تثير التقزز.
عادة يخرج هذا الصفير الحاد من أسفل الجسد، لم يكملها، تذكر أنه وحده ولا أحد يشاركه موقف الحافلة.
بينما هو غارق في هلوسته و إذا بالحافلة تقف أمام ناظريه، ليفتح له الباب ، يدخل كما المركبة الفضائية، يحملق في السائق، يكز في الغمض على عينيه لعله يعيش حلما، رأى رأسا مفصولا يقبع مكان سائق الحافلة، يعتلي المقود، يفتح شيئا من عينيه يحاول فركهما بتقطيب حاجبيه، ينطلق صوت القابض من عمق الحافلة كأنه الرصاص – تقدم يا هذا حتى لا ينغلق على وجهك الباب،
أتريد أن تبقى كابسا على المدخل ؟
كان القابض رأسا مفصولا هو الأخر، يدور في كل اتجاه، و كانت كل المقاعد تعتليها رؤوس.
نساء، شيوخ، بعض الشباب أيضا تبدو شعورهم لامعة من أثر الطلاء الزيتي المنسكب، الأعين ملتصقة مصوبة نحو الرواق الفارغ إلا منه... هدأ من روعه مرددا في سره : الحمد لله، إذا عمت خفت، يبدو أنني لا أعيش وحدي هذه الحالة الغريبة...
أتراهم يشعرون كما أشعر بوطء هذه الحالة؟؟ ، أم أنا أعيش وحدي هلوسة الحلم، وإلا لماذا هذا الصمت و الهدوء إذا ؟ عادة حافلات النقل الحضري تمتاز بتجميعها لصنوف من البشر المثرثرين، بعضهم لا هم له إلا ممارسة عقده أثناء الزحام، لكنهم اليوم عبارة عن رؤوس مفصولة تبحلق فقط، ومن حين لأخر تتبادل المواقع في التحديق والهمس الخفي و بعضهم يتحدث عن مشاريعه و أحلامه و عن خيباته في العثور عن عمل قار ، أخريات يتحدثن عن الزفاف الذي هن مدعوات إليه... شدني حديث النساء، أيعقل أن يتم الزفاف بين رأسين مفصولين؟
و كيف يحدث ذلك ؟
كانت الأصوات تتضارب تقذف في خفوت مريب، و تواطؤ غامض...، تراهم يتحدثون و كأن لا شيء حدث لهم أو تغير، كأنهم عاديون بأجسادهم !!
هل أنا أعيش حالة تخيل وحدي، أم أن شيئا أصاب نظري حتى صرت أرى الناس من حولي رؤوسا مفصولة فقط ؟؟
لماذا لم ينتبه لحالتي أي واحد منهم ؟؟
توقفت الحافلة ، قفزت كالجندب لأدخل مكان عملي متجها بسرعة الريح نحو أول مكتب في الرواق الذي يوجد فيه مكتبي ، مسكون بألف سؤال في حلقي المثقوب، عفوا، التجويف الذي صار يطلق تلك الأصوات الحادة و السيئة، كانت الرؤوس متقابلة و الأصوات تنطلق في كل اتجاه محدثة ضجيجا كأنها آلات رقن تتبادل إيقاع الكتابة، لم يأبه أحد منها بدخولي، اكتفوا بالتحديق في لبرهة ثم استأنفوا الرقن بأفواههم، خمنت أن تلك الرؤوس هي نفسها رؤوس أولئك الذين صادفتهم في الحافلة، لافرق بينهم ، بنفس الايقاع تتحرك ألسنتهم ونظراتهم ، تدفعك صورتهم لتتخيل نفسك كأنك في لحظة مزايدة كما تلك التي تحدث في البورصات العالمية، الكل مشرئب و متوفز لشيء مبهم، اللغو و لا شيء غير اللغو.
قلت في نفسي أن تلك عادتهم حتى عندما كانوا بكامل أجسادهم، لكنهم اليوم لهم حجتهم في الثرثرة و اللغو و التكاسل أيضا.
كيف يمكنهم أن يقوموا بكل أعباء العمل إذا ؟
تسربت دون أن أشعرهم بشيء رغم أنني لم أكن أشكل لهم أي إزعاج بدخولي ذاك، لأنني شعرت أن دخولي و خروجي عندهم سيان، لم يعيروه أي اهتمام، هذا ما أبدته ملامحهم التي كانت تزداد تسارعا في تبديل أشكالها بين تكشير و ابتسامة إلى تمثيل الحنق.
اتجهت مباشرة إلى مكتب المديرة لأنها أرغمتنا في الايام الأخيرة على إمضاء ورقة الحضور في مكتبها بعد أن أوصل لها وشاتها أن أغلب العمال لا يمضون حضورهم بأنفسهم، بل هناك من يمضي مكانهم، خاصة أولئك الذين تعودوا على الحضور متأخرين إلى مكان العمل وكذلك حتى يتسنى لها أن تزعق كما عادته في وجه أي عامل يأتي متأخرا، كانت سيدة في الأربعين من العمر ممشوقة القد، تسلمت إدارة المؤسسة بعد مقتل زوجها، يقولون أنه دفع روحه ثمنا للاشيء حينما جاءت مجموعة إرهابية، حاولت أن تأخذ منه مفاتيح سيارة العمل، لكنه أراد أن يلعب دور رونمبو وحده فقاومهم ، فما كان من أحدهم إلا أن أرداه قتيلا بطلقتين في الصدر، ثم حزوا رأسه و علقوه في مدخل المؤسسة، لا أعرف ما كان سيحدث لو كانت هذه الحالة الغريبة في ذاك الوقت، و كان كل الناس عبارة عن رؤوس مفصولة ، هل كان سيحدث الذي حدث ؟؟
لأن حز الرؤوس بتلك الطريقة الموغلة في الوحشية لا يصبح في حالتي هذه يعني شيئا، لا وجود لأجساد و لا لأيد كي تفعل كل تلك الأفاعيل المتعطشة للدم، ولا اعرف حتى كيف كان يمكنهم حمل بنادقهم التي كانوا يحوزونها لتصبح أكثر فتكا في أيديهم . ليبقى أمام هاته الرؤوس سوى صوت العقل و الكلمة لأنهما كل شيء، و لا مبرر لعجز الحوار إذا،العنف عادة ينشأ عندما تعجز الألسنة حاملة الفكر عن الحوار.
المهم أن الكثير من العمال اعتبروا أن منصب المدير جاء تكريما لتضحية زوجها على فقد روحه لأجل الحفاظ على أملاك الدولة التي لم تفعل شيئا مهما لشعبها عندما كانت تحز رقابه بلا توقف.
أتعرف أن هذه التضحية لا معنى لها !!
لا اعرف سوى أن التضحية والجبن تتساوى في تلك العشيرة التي فقد الانسان معناه فيها!...
المهم أن تلك المرأة صارت مديرة لهذه المؤسسة التي أشتغل فيها لهذا سوف أحاول أن أستطلع عن حالتها هي الأخرى، أأصابها ما أصاب الجميع من هذه الحالة الغريبة و صارت هي الأخرى رأسا بلا جسد، تتحدث فقط.
لأني أعرف أنها كانت دائمة الصراخ في الرواق الذي فيه مكتبي، كما كانت كثيرة التأخر أيضا رغم إلحاحها المر على الجميع بعدم التأخر، فقد كانت تقف مشدودة رافعة عقيرتها في الأيام القليلة التي كانت تحضر فيها مبكرا، دافعة ظهر يدها إلى الأعلى ، وجه ساعتها جهة التحديق، محاولة نفث غضبها على كل من يأتي متأخرا و لو ببعض دقائق، كنت أحاول أن أتخيل ذاك الرأس الذي تحمله المديرة و هي تصرخ ملء فيها على الجميع... بينما ذاكرتي تهتز و تتخلخل في اتجاه الأمكنة القصية لعلها تلملم شيئا من تعب ما يحدث لي و إذا بصوتها ينزل كالصعق مخترقا أجواء طبلة أذني...
ماذا تفعل هنا ؟ أ ليس لك ما تفعله في هذا الوقت ؟
كان رأسها وحده معلقا في الفضاء لم أميز فيه سوى حركية الاهتزاز التي خلفها لسانها الذي بدأ يتلوى كحبل ساحر فاشل.
تدفعني بصوتها كي أجيب، لكنني بقيت مسمرا يجذبني جليد الذهول.
حتى المديرة لم تسلم من هذه الحالة الغريبة !
كيف تُرَاها تريدني أن أعمل، أو حتى أمارس أبسط حاجياتي الخاصة؟
لا بد أن هناك مشكلا ما في حقل بصري، أ يعقل أن يصير كل الذين صادفتهم في هذا اليوم المشئوم مثلي و في نفس صورتي، رؤوسا طائرة فقط... لا بد أننا في هذه الحالة سنعمل شيئا أخر غير الكلام، التفكير مثلا.. و لم لا؟
الآن كل الرؤوس التي صادفتها مجبرة على التفكير، على البحث عن بديل لتلك الأجساد، ربما سنسمع عن حضارة فكرهم و عن تنظيرهم لكل مشاكل العالم، لن يبق بعد اليوم شيء اسمه الإجرام أو الغزو، الرؤوس وحدها لا يمكن أن تفعل شيئا من ذاك القبيل.
كانت الأيدي دائما تنفذ أوامر العقل والغريزة لكنها اليوم غائبة، و لا أحد يحمل الأيادي و لا أجسادا حتى.
و لكن تبقى مشكلة واحدة !
كيف يمكن أن يستمر نسل هذه الرؤوس فيما بعد؟
لا بد أن غياب حل لهذه الأخيرة يدفعها للانقراض و لن تكون هناك أجيال لهذه الرؤوس الطائرة.
انتدباني خوف مبهم مشوب برغبة في الهرب و الانسحاب من كل شيء، التفت حولي كانت لحظتها المديرة قد انصرفت، قفزت عائدا بسرعة الريح إلى بيتي، لا أستطيع أن استمر في مسايرة هذه الحالة الغريبة و لا يهمني ما يحدث حولي، يجب أن أفكر في حالتي.
دخلت غرفتي، رأيت جسدي ممددا في الركن كما تركته، قفزت ملتصقا مكززا على أسناني دافعا رأسي ليلتصق في مكانه، بقيت مدة لا أحاول فيها الحراك، أغمضت عيناي و رحت في سفر بعيد على أمل أن أعود إلى سيرتي الأولى قبل أن اسمع ضجيج النصول وصراخ أهل الحي.
تعليق