أحدوثة ركض على حاشية ميّت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • رياض الشرايطي
    عضو الملتقى
    • 15-10-2007
    • 278

    أحدوثة ركض على حاشية ميّت

    إلي روح المرحوم الشّاعر كاظم الثليجاني .


    عمُر مرّ ، و نفاية جسد إنتصب ذاكرة مشروخة في عنق حفْرة دكّها النسْيان.
    لننْهِ النّحيب لحظة و الإنتباه إلى مسلك الوجع المنتهي بي ،،
    أسألكم ، رغم أنّي أعرف جيّدا أنّ طرق بابكم عاصفة تنتاب دمي الغائب ، و تسرق العصافير من فوق شاهدتي المشقوقة مثل قلوبكم المولعة بإسكات الشّرايين المُمْتدّة إلى حدّ صراخ الجسد / الحطب .
    أسألكم و لكم أن تسألوني كيف أستقبلكم هذه اللّيلة في موتي ؟ و كيف جعلت عظامي تمضغ أسماءكم جميعا ؟ .
    بارجة الرّمل عاودت الرّجوع إليّ في هذا الوقت المتّسع لليل لغة الهذيان و الجنون ، كي توقظ فيَّ شهوة قديمة ،، السُّكْر حدّ الموت !!!.
    هل أرجعتكم اللّيلة إلى دفّة نخاعي المتخشّب كي أقرأ على كراريسكم فعل الجحود و فقدان الذّاكرة ، و أعيد بناءكم دقيقة فقط في هذا الدّمس المجعّد بطبوغرافيا الحُمْق ؟؟.
    حسنا لكم ليلتي هذه ، و لكم أن تسهرونها مضرّجة بأرق موتي و ورقي و أسوار فكري المخلوع . هذه اللّيلة أفتح لكم موتي ...
    من أين نبدأ إذًا ؟؟
    من أجسامكم ، أطروحة مجامر الحمقى ؟ من حديقة المقبرة ، المقابلة تماما لضريحي المسوّر ، و المترعة بالمريا المسمولة و عطور برائحة القيْحِ ، و ذكرى مواعيد بلون الجيفة ؟ من أكداس الملح الممدّدة بينكم و بينكم ؟؟
    من أين نبدأ إذا ؟؟.
    قلتم : جئناك اللّيلة بكلّ الفوانيس المطفأة ، و الأبواب المحروقة ، و بالنعْناع المجبول بلثام الطّحلب ، جئناك اللّيلة لننام على طاولتك الملتصقة بالتّراب و بخطوات الوداع و تمائم المخدوعين و بيَدٍ مرصّعة بغبار المدن ،،، مدن عارية لشهوة مشنوقة راودتنا كثيرا ،، قتلتْك قبل حلول حَوْل جديد .
    لماذا هربت منّا و لم تتركنا نعبث بدَوِيِّ كوفيتك قليلا ؟ و نزدحم بتضاريس حروفك المبعثرة بين قوارير الجعَّة ، و الحمام ؟.
    قلتم : لتبدأ الغوص في سُمْكِ تعبنا .
    اللّيلة قرّرت أن أسبح معكم في مذاق نبيذكم المخلوط بعرق لساني ،، كم إشتقت للساني و التّرشّف من القارورة مباشرة و تذوّق لسع جهنّم العنب ،، و لكن فمي أضحى ثقبا يعبر منه كلّ الماء و الأساطير و قوافل عروق الأرض .
    سأقول لكم أنّني نسيت وجوهكم ، فأنا لم أتأمّلها كثيرا في السّابق حتّى تنقش على حيطان الجمجمة .
    البارحة حضر إليّ ضجيج مجلسكم و موت صوت فيروز على أطراف حديثكم العقيم ، و لم تنتبهوا حتّى إلى كلامكم الغير مسموع ، فعبرْت بوّابة لحْدي و إلْتحقت بسقْف حانتكم ، فوجدت اللّيل في شفاهكم يتلطّخ بميثاق الهوس الوحشيّ ،، و أنتم مزيج من جذور صبّار مظلم و أجسام تترنّح في قلب مشهد فتنة سلالات الحمقى ،،، هربت إلى ناحية إطار مفتول بقطْران سجائرالسّكارى ، كتب وسطه تماما " لا غالب للخمّار " ، فاخْتفيْت تحت سيّد الحروف بها و بقيت أراقب إرتجاف الفضاء الثّمل تحت سنابك فذْلكتكم الذّبائحية . و مثلي كان جالسا كخاتم المهابيل ، و بدتْ على أنامله جغرافية تحليق القبّرات ، يرمق لعابكم المتخثّر المتناثر من أنحاء هاوية حناجركم المعجونة بأمنية الإنتحار .
    قلتم : أجمل ما في الكون ، الإنتحار!!!!!.
    أتودّون الموت حقّا ، أم أنتم تؤثّثون بها مجالسكم المتّسخة بجير الجرائد الرّديئة و عناوين كتب تزعمون قراءتها كذبا ،؟؟؟
    قلتم : أعدَدنا إلى شهقة المدافن روعتها .
    و خرجتم تتلقّفون ليل المدينة في " صَحْفَة لَبْلَابِى " معجونة بقواعد النّوم البليد.
    هل تتذكّرون تضوّع آخر سجائري بين أصابعي ، و رائحة الفلْفل في صحني ؟ كم كنت أحبّ حريق الفلفل في ثغري ،، هل تتذكّرون مشاكستي لرجال الشرطة ليلا و أنا في عزّ سكْرتي ، و خجلي الكثير صباحا ؟؟ كنت أبدأ خمري بثمن حليب وَلَدي ، و أختمه بصكّ أوفّر رصيده إقتراضا في الغد . لا تتحرّجوا ، أعرف أنّكم نسيتم كلّ ذلك ، يا أصحابا تتجمهر في دمائهم كلّ لغات اللّؤم و حمّى إفتعال النسيان .

    هذا أنا الآن ،
    مطعون بجنوب مدفني..
    و قد طفرت من بين ظلوعي
    غلالات الثّعابين أفرشها شهوة للحياة،
    كي أستنْبت ما يحدث في أعنّة إنخطاف مائي ،
    حين تحلّون ،،..

    قلتم : لقد تركتنا صغارا و مضيت إلى غابة الشّموع الكئيبة ، و رشَشْت وراءك تجويفات النسيان ،، لقد هتفْنا كثيرا باسمك و نفخْنا في أبواب قفصة المرصّصة بالعويل المشبّع بشبّ الدّموع حتّى نراك ، و لكن التّراب صعدك مسرعا ، و تفتّحت على لحدك زهرة البدر.
    زهرة البدر أخبرتني أنّ رجل الخمر بالبلاد (بوراوي) قد ودّع الخمر ،، قالت ، خاف أن يفاجئه الطّين و هو مملوء بروح الأعناب ، و لم يعبئ بالمدينة و هي ترّتخي ، و نور غبشها مع قارورته المنفية و تجوّساته عبر مكامن عشّاقه.
    جلال الدّين الرّمي قال : " المعشوق هو الحيّ أمّا العاشق فميّت " .
    قلتم : يلزمنا زمن نشور تنتهي بتخومه نكهة فراشات النسيان ، حتّى تتذكّر المدينة .
    ما آلتْ إليه المدينة التي أسّست فيها شهقتي و موتي ؟
    ما آلتْ إليه المدينة و غبارها المسكون بشذاكم و أنتم تحكمون جنونها ؟
    قلتم : الذي يحكمها جنون موتاها ....و أنت ما الذي لقّنك الرّدى ؟
    لقّنني أن أجاوره كي أشاهد عشب الحداد يتسلّق ألْواح يقضتكم ،، وحده السّواد يعرف سفك فواتح العالم ،، و وحده الوقت يفتضّ سرّكم ،، و وحده المكان يفقه تعريشات يتمكم .
    اليتم قارة غائبة يهزّها دقّ طبول غرائبية تتسلّل في ظلالكم خرافة ممهورة بكيمياء الغياب .
    هذه اللّيلة يلزمني حمق كثير حتّى أهبط أدراج منعطفات دمائكم السهرانة على سِدْرة الدّراويش .

    مطر بدثار عنقاء الإسفلت ،
    حجر يقتل مرابض الأنجم،
    فاكهة السمّ ،
    عصفورة الموت ،
    شبّ الصّبر الموزّع على منافذ خشب الصّدر ،
    قامة الخمر المذبوح على علامات الفراق الكثيف ،،
    الفراق ، خيمتنا ما قبل الولادة ،
    الولادة ، إبتداء الموت ........

    قلتم : قال محمّد بنيس في كتابه ( حداثة السّؤال ) : " بوركْت أيّتها السيّدة الميّتة قبل أوان الموت " .
    أفضي إليكم بسرّ ،، لقد إنتاني شيء من النّدم عن الرّحيل تحت إزار المفاجأة و ترْك الشّمس مبتورة خيوطها ، كان من الأجدر أن أرتّب سفري و أورّثكم دمي ..
    يا دمي ،، ألهوْدجٍ مدوّخ بالطّين المجهول المعجون بوهاد النسيان ألْثم مقافل بوّابة إحتدامات شجرة الشهوة و شبابيك الفرح القاتمة ؟ .ألفرح شربني ليلة ميلاد صحراء الهذيان ، كم من أنثى كان لي أن أتيه بين هرميها و تذوّق قمح لحمها الرّؤوم ؟.
    يا دمي ، لك أن تبلّل خصلات غزلاتك بنزفي .
    قلتم : إنتهى اللّيل و لنا بعد هذا النّهار الآتي ، خمر آت .
    لماذا لا تتوقّفون كالعادة حذو بائع السّجائر و تكملون الحديث عن الذي ترككم للتَوِّ ممتطيا درّاجته النّارية الحكيمة في معرفة مضارب المجنونة به و عليه .
    قلتم : دائم التفكير في الإنتحار ، يعطّل فلسفتنا في الثّقافة .
    و ما الثّقافة يا ترى ؟؟.
    إنّها المسار التّاريخيّ في إنتاج السّلع الماديّة التى رافقت مسار الإنسان ، إنها نتاج المجتمع الإنسانيّ الممتدّ بين الولادة و الموت .
    قلتم : إديولوجيا الحياة أكلتك حدّ العدم .
    أحبولة الوجع المرصّع بغثيانكم تبعث فيّ شهوة إلقاء ما لم يأكله التّراب ، شِعْري ، لعلّكم منه تصنعون أرائك لتراجم ذواتكم العليلة ،، و تتغطّون بشعائر لزجة يؤمّها عماء حروفكم المؤجّلة ، للإنحلال في فقه التّوابيت .
    الشّمس أراها تسطع وراء هاماتكم الملفوفة بسماد النّفاق ،، فلْتضعوا أقتعتكم الآن ، أعلم أنّكم إنْ لم تضعوها فهي ستضعكم .
    الوَضَعة ملتحمة بالإنسان ، و ما هو خارج عنها نسبه للسّماء ،، هكذا نروم الفرار من عدمنا .
    قلتم : قمْ قليلا من سهوك عن التى قرأتك على تِبْر اللّقء بين أصقاع قفصة المشبوهة بإنبعاث ربّ القنوط ، سنبلة الصّوت البدين في أثير البهجة .
    أحبولة الوجع المرصّع بغثيانكم تبعث فيّ شهوة إنغراس أعقاب السّجائر في اللّحم المضرّج بالسّبات .
    أكره النّوم على فراش سنبلة الصّوت - صبيّة الجفون الرّاكضة في ألمي.
    صبيّة الجفون تتّقد خوفا من مسالك عتمة التّراب .
    الموت ، إنتهاء قصيدة لم تنتهي ،، و بكاء صبيّة كم وددْت عناقها ، و أمّ ،، آه يا أمّي كيف كان لك أن تتخطّيني إن لم يكن في جراب حزنك أخاك المقتول غدرا و أصدقاء كثَّر رحلوا ،.
    آه يا أصحابي كم كنتم أغبياء حين رأيتم ولوجي الحفرة مرفقا بالوعود الفارغة ، الكاذبة .
    كيف حال حوانيت الكتّاب ؟
    كيف حال أبنائي ؟
    كيف حال زوجي ؟
    كيف حال الذى تركني و مضي إلى البحر ؟
    كيف حال قفصة بعدي ؟
    كيف حالكم ؟
    لتمضوا إلى النّوم ، فالوقت يناديكم ليأخذ منكم قسط موت بطيء .
    قلتم : و هل لك صباح حتّى نتمنّى لك فيه خيرا ؟
    الوقت أرجوحة تعنيكم ، و تداول القمر و الشّمس معزوفة خرساء تمشط ضفائرالنسيان فيكم .
    يا طائر جنائز الضوء خذني توّا إلى إرتخاء ضريحي الجارف بعطور الصّمت النّازف ، الرّمل ،، فقصبة الصَّحْب خواء ، مبهورة بسروج اللّيل الأحمق و بروْث البغال العابق بشطح الأفاعي في دغل مناسكهم ، و قفصة في كؤوسهم تصخب موتا ..

    موت ،
    ينهمر من فراش يتهاوى وسط خشخاش الحقيقة ،
    ينتهي رحما مملوكا بزوايا رقاد الضّوء ،
    و ما إنحباس الإحتراقسوى ثدي منعوق بفرقان اللّحم الوثنيّ،
    المحضون بيمامة النّار السّاهرة على جفْنيْ اليقظة ...

    يا طائر جنائز الضّوء ، عطِّرْ خيوط النّهار بأصيص غيابي و لْيتعمقْ غبار شهوتي و رمادي في أحراش دالية القتامة .
    لم تعدْ هناك مساحة للإندفاع و الإرتجاج لأعيد حفر مشهد جسدي كما فاجأت أمّي به حمّى الحياة على صفحة الشّمس ،،، يلزمني لذلك عَتَهٌ كثير لا رجعة منه .
    يا طائر جنائز الضّوء ، لنترك المكان و لندخل إلى بهْو اللّاشيء المحاط بزهر البدر و وَبَرِ الجنوب و النسيان المستحيل المتربّع على عتبة خلفية الهيكل المسجّى في عيون السّوس ، فالأصحاب نضبت في مآقيهم إختلاجات زوابع الورد و جنون رغبة العبور إلى الآخر ، و إلْتحَفوا بوجوه لاترى داخلها أحدا ، مغلقة هي كقباب من شَعْر رُتلّاء و كلس أعماق مفتوحة لإنهيار الذّاكرة في برك مفارخ العويل الغامقة .
    فلْنغادر المكان حالا و لأكنْ مشدودا إلى عضل تلف الوقت المطعون بوزر غشاوة النسيان .

    " و ليكنْ أنّي المرتعش في أسابيع ،
    لا تلثم نهود أيّامها ،
    و أنّي خاتم الحزانى ،
    سأدقّ الورد في جمجمة الرّؤيا ،
    و سأطيش كحجل مهموم ،
    من على سقسقة مظلمة......"
    ( من آخر قصيد لم ينتهي للشّاعر الكاظم الثليجاني ).
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    الزميل القدير
    رياض الشرايطي
    عمل أدبي فاخر
    ملكة واضحة
    نص فلسفي تفوح منه رائحة الموت
    أدهشتني طريقة السرد المتناغمة مع حدث الموت
    عبارات رائعة وجمل محبوكة
    جميل جدا ما قرأت هنا
    وهذه أول مرة أقرأ لك زميلي
    أسعدني التعرف بك والقراءة لك
    رائعة وأكثر
    أتمنى عليك أن تقرأ للزميلات والزملاء خاصة وأنت تمتلك كل هذه الخبرة والتمكن كي يستفيد الآخرين من تجربتك ورؤيتك وآرائك
    ودي الأكيد لك
    تشرفت بك
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • إيمان الدرع
      نائب ملتقى القصة
      • 09-02-2010
      • 3576

      #3
      ما هذا الذي قرأت ؟
      كتبتَ فأبدعت .
      نسجٌ قويّ ، تراكيب أخّاذة ،
      فيها عمقٌ ، ودلالات بعيدة ...
      مليئةٌ بالشجن
      نفخر بك ...
      وننتظر المزيد من روائعك هذه
      دُمتَ بسعادةٍ...تحيّاتي...أستاذ رياض

      تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

      تعليق

      يعمل...
      X