
واستغرب عنكب عندما خرج من الماء لوجود إينال المؤذى ومعه أربعة من فرسان المماليك وحصان مسرج من غير راكب، وترجل اينال المؤذي وانحنى أمامه باحترام قائلا : " انتظرناك طويلا يا سيدي محب الدين فجناب السلطان يطلب مشورتك فيما يصلح أمور البلاد وأحوال العباد "، ساعده إينال على الركوب، ومضت الخيل بهم إلى القلعة حيث فتحت لهم الأبواب حتى وصلوا إلى مجلس السلطان، وترجلوا ريثما يستأذن له حاجب الحجاب.
عاد حاجب الحجاب وقاد " محب الدين " إلى حضرة السلطان الذي نهض، وأخذه بالأحضان وأجلسه في صدر المكان، وطلب من الحضور الإنصراف حتى الشيوخ والأعيان، وحين خلا المكان كرر السلطان ترحيبه بمحب الدين وقال له : " لقد دعوتك يا أخي محب الدين ملتمساً مشورتك فيما يصلح أمور البلاد وأحوال العباد، وإليك منديل الأمان حتى لا يكون للخوف في قلبك مكان ".
تناول محب الدين المنديل وملأ نظره من السلطان فوجده معتدل القامة، غليظ الجسد، دري اللون، مستدير الوجه، مستدير اللحية، حسن الشكل، عليه وقار وسكينة، مهيباً في العيون، فتحسس المنديل وأخذ في الكلام :
" بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة على محمد خاتم النبيين والمرسلين ".
وبعد أن ردد السلطان الصلاة على الرسول لاحظ محب الدين أن عينا السلطان صارتا من زجاج وأنفه من خشب وأذناه من فخار، ولكنه لم يبال ومضي في إتمام حديثه:
" مولاي . . لم يوف النيل فأتانا الغلاء وأعقبه الوباء والفناء ".
" مولاي . . إنك تحكم رعية من الجياع . . علمهم الجوع التغزل في الرغيف ".
" مولاي . . ألم تسمع هذه القصيدة التي نظمها شاعر من رعيتك يتغزل في الخبز ويرثيه لماعز وندر " :
قسماً بلوح الخبز عند خروجـــه
من فرنه وله الغداة فــــوار
ورغائف منه تروقك وهي فـــي
سحب الثفال كأنها أقمــــار
من كل مصقول السوالف أحمــر
الخدين للشونيز([1]) فيه عــذار
كالفضة البيضاء لكن يغتــــدي
ذهباً إذا قويت عليه النــــار
تلقي عليه في الخوان جلالــــة
لا تستطيع تحده الأبصــــار
كأن باطنه بكفك درهـــــــم
وكأن ظاهر لونه دينـــــار
ما كان أجهلنا بواجب حقـــــه
لو لم تبينه لنا الأسعـــــار
أن دام هذا السعر فاعلم أنــــه
لا حبة تبقي ولا معيـــــار
" مولاي . . لقد غلا سعر كل شئ من البضائع ، وعم الغلاء سائر البلاد وشرقت غالب البساتين وماتت الأشجار ، وماتت البهائم ".
" مولاي .. ماذا فعلت وماذا فعل أمراؤك من أجل الجياع من رعيتك ؟ .. لا شئ سوى أن الأمراء حولوا شونهم إلى بيوتهم ومعهم مماليكهم ملبسة بالسلاح خوفاً من العوام الجياع أن ينهبوا القمح الذي زرعته أياديهم ونبت في أراضيهم ".
" مولاي . . كذاب من قال لك أننا نأكل بذهبنا حشيشا وبفضتنا حلاوة ".
" مولاي . . إنك تحكم رعية من المفلسين ذهب ذهبهم وفضت فضتهم "
" مولاي . . إن واقعنا مريراً، وحتى الحلم أصبحنا نشتريه بالذهب، ولو أكلنا حلوى الدنيا كلها لن يتغير طعم المرارة في حلوقنا ".
" مولاي . . إنك التاجر الأول للحشيش في هذا البلد والمال المتحصل من " ضمان الحشيش " يدخل خزائنك ".
" مولاي . . إنك تغيبنا بالحشيش حتى لا نحس بما تنزله بنا من ظلم وما نعانيه من قهر ولا نشعر بما تسومه لنا أنت وأمراؤك من سوء العذاب، ولسان حالنا يقول لك ولأمرائك " :
أشكو من دولة صيرتنــى
غائباً بين سائر الحضـــار
غيبتني عني بما أطعمتنـي
فأنا الدهر مفكر في انتظــار
غبت حتى لو أنهم صفعوني
قلت كفوا بالله عن صفع جاري
فنهاري من البلادة ليلــي
في التساوي والليل مثل النهار
" مولاي يقول الناس أنك حجرت على بيع النبيذ، وكتبت على اليهود والنصارى قسائم أن لا يعصروا خمراً، وكبست البيوت والحارات بسبب ذلك، وأرقت من الخمور شيئاً كثيراً لا عن غيرة على شرع الله ولكن لتبقي سوق الحشيش نافقة وتجارته رائجة ".
" مولاي . . الناس على دين ملوكهم . . والرعية تراكم وأنتم القدوة والمثل تجاهرون بأكل الحشيش من غير احتشام وتتبجحون بأنه ليس حرام، ألم يكن الملك المؤيد شيخ يميل إلى اللهو والطرب ويستعمل الراح ويميل إلى الملاح ويستعمل الأشياء المخدرة من المصطلات والمفرحات ".
" مولاي . . شكرا لله فلم يخسف بنا الأرض حتى الآن . . فقد فشي في أهل الدولة محبة الذكران وتقريب المماليك الحسان ".
" مولاي . . النوم جفاني بعد أن سمعت عن مال " ضمان الأغاني " وكيف بالله ترضي بمال النساء . . وأي نساء . . من حرفتهن البغاء ".
" مولاي . . مالك تتكالب على المال وأنت ملك مصر التي تفاخر فرعون بملكها قائلاً " أليس لي ملك مصر " لكنه حب المال أعماك فأطعت هواك أم تراك نسيت الشيخ أسد الدين الأعجمي الذي ادعي معرفة صنعة الكيمياء فصرفت عليه جملة مال نحواً من عشرة آلاف دينار ذهب، وكان يأخذ منك الحرير الأحمر بالأرطال ويوقده في النار ولما أيقنت أن مالك قد طار حكمتم على الأعجمي بأنه من عباد النار الكفار وضربتم عنقه بالسيف البتار. فتندر بك الناس في الأشعار " :
كاف الكنوز وكاف الكيمياء معاً
لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا
وقد تحدث قوم باجتماعهما
وما أظنهما كانا ولا اجتمعا
" مولاي . . لقد رسمت بحرق شخوص خيال الظل جميعها وأبطلت خيال الظل . . لأنك تخشى أن يفضحك نور شمعة وأن يري الناس ظلاً من حقيقتك تعرضه لهم شخوص الخيال ".
" مولاي . . يقول الناس إنك متفقه ولك مسائل في الفقه عويصة ترجع لك فيها العلماء.. ولا بد أنهم العلماء الذين يسكتون وهم يرون ما تصنع من قبيح الأشياء، أما العلماء الأتقياء فينوحون ويقولون " :
يا حكيم حكامنا قد طغوا بالجحـود
أفسدوا علينا وتعدوا الحــــدود
صارت الناس منا عدم في الوجود
بهدلوا الدين سالت الدموع بالخـدود
الحوانيت فيما المحرم جهــار
وبنات الخطا تقف بالنهـــــار
ويقروهم على ذا القــــرار
والمجالس تمنع من أهل الوقــار
من يبيع منكر هو اللي طـاب
حاله ماشي بسبب من الأسبــــاب
والحشيش والنبيذ والطبطـاب
ما يجيه الفقر لا من طاق ولا من باب
أحس " محب الدين " برفسة قوية، فصاح : " أيها السلطان الخوان لقد أعطيتني منديل الأمان ". كانت الرفسة الثانية أشد وأكثر إيلاماً، وذعر " محب الدين " حين وجد المشاعلى " ظالم " هو الذي يرفسه، بينما كان إينال المؤذي وفرسان المماليك يفرقون العوام الذين تجمعوا أمام التكعيبة يستمعون إلى شكوى " محب الدين " التي كان يبثها السلطان... هبطت على محب الدين سكينة لم يخبرها من قبل، وحتى الألم لم يعد يشعر به، وسحبه " ظالم " إلى القلعة، وهناك وجد السلطان في انتظاره، وبنفسه ضربه مائة عصا على قدميه، وأنزلوه من القلعة وهو راكب على الحمار بالمقلوب، فكان وجهه متجهاً إلى عجز الحمار وفي عنقه أجراس، وقد حلقوا نصف لحيته، ونصف شاربه، وألبسوه على رأسه كرشاً من كروش البقر بروثه، وأمامه سار المنادي ينادي :
يا أهل مصر . . الشاهد يعلم الغائب هذا مارسم به جناب السلطان حامي الدين وعضد الإيمان.
هذا جزاء من يفتح باب الشر ويتجرأعلى السادة أولي الأمر.
ومن أراد أن يشهد شنقه فليحضر عند باب زويلة([2]) بعد صلاة العصر.
وسار الموكب مخترقاً شوارع القاهرة ودروبها وأزقتها وحواريها ، والمنادي يكرر ندائه حتى يصل إلى باب زويلة.
([1]) نبات يسمي الحبة السوداء وهو نبات عشبي سنوي من فصيلة الشقيقيات أنيقّ المنظر، حبه أسود اللون تنتشر منه إذا ما سحق رائحة طيبة وهو يستعمل تابلاً ويوضع على وجه الخبز أحياناً.
([2]) باب من أبواب القاهرة الفاطمية وعلى برجيه وضع السلطان الملك المؤيد شيخ مئذنتي جامعه الذي بداخل الباب، شنق عليه طومان باي أخر سلاطين المماليك.
[/align]
تعليق