آه يا ناري لو أعرف سكة ساحر يأخذ عيني ليحولني عصفورا أتنصت على همس أبى و سميحة ! لن أنقل كل ما أسمعه بع لأمي المتشوقةاليه ، لكنني سأشبع فضولي و أغلق هذا الباب المهبب بالضبة و المفتاح .
قل لي يا فالح كيف يتلصص عصفورك، و أين سيقف؟ الدكان كأنه زنزانة ، أما النافذة الوحيدة المطلة على الغيطان فهل رأيتها مفتوحة يوما ؟ إذن فالعصفور الذي هو أنت لابد له أن يقف على البنك نفسه الذي تتكئ سميحة بنصفها العلوي عليه من الخارج بينما يتكئ أبوك على الجانب المقابل ، تكون المسافة بينه وبين وجهها المسمسم الحلو و جسمها المنحنى الريان ربع شبر، أما ضفيرتها الخلفية الفاحمة فإنها تتمايل كذيل المهرة . إذا لم يكن بد من فكرة التحول فلتكن صابونة أو علبة سجائر لأنهما يوضعان في الرف القريب من مكان الهمس .أنت تسميني فالح على سبيل التندر و السخرية فماذا عساني أطلق عليك ، آه نفس الاسم فالح ! قل لي أنت يا فالح ماذا سيكون مصيري في حالة كوني صابونة أو علبة سجائر عندما يأتي زبون متعجل و يشتريني؟ لن أسمع همسة واحدة بل سأفقد حياتي في حمام أو تحت الأقدام .سمعت عن أجهزة تسجيل دقيقة تزرع في الحوائط أو ظهور المقاعد فلا يتنبه لوجودها أحد ، و هي بارعة في التقاط أضعف إشارة و في حجرتىأدير الشريط و أستمتع بعد أن تنام أختي الصغيرة تهاني .. لكن اليد قصيرة ! سأظل مضطرا إذن أن أتبع الطريقة القديمة و أطلع لأبى و سميحة من تحت الأرض ، لا أكاد أسمع شيئا ، لكنني أثير القلق و أرى سحابة سوداء في جبهته و في جبهتها و هما يعتدلان بسرعة و تغمغم فيسرع بلف بعض الأشياء في ورقة و يناولها .
أفرد له يدي فيضع مصروفي و يزمجر: لا شغله و لا مشغلة. أمي تسألني كل يوم : سميحة راحت الدكان ؟سمعت حاجه؟أردد كلاما عائما : عادى كانت تشترى شايا و سكرا و لم تفتح حنكها بكلمة. هي لا تصدق لأن البلد كلها تكلمت و زارتها نسوة بعدد شعر الرأس للتحذير و التضامن . كلامي يريحها و لكن لا يداويها، لو تطع عقلها المستعر لضربتها بالشبشب حتى تبعثر مخها ! لكن الزوج الطلسم لن يرحمها سيضربها أمام الناس حتى تغور في سابع أرض .في أوقات متباعدة يحجزني في الصباح أو يرسل لى غلاما الىالمقهى: اقعد في الدكان .يخطف رجله إلى مطوبس أو يذهب في عزاء أو تهنئة ،يتعين على أن أحتمل رائحة الأضرحة التي تنبعث من كل شئ بفعل البخور العالق، و لا أجرؤ على فتح النافذة التي تمتلئ حافتها بالمسامير الصدئة و الأحذية الممزقة و الأتربة و الصراصير لان ذلك يؤدى إلى دخول الفئران !أمي رجته و باست يده ليترك لي الدكان :اعتمد عليه ، و استرح.
يزعق : أنا حي و بصحتي ، الشغل في كل مكان . لكي يثبت ملكيته علق الرخصة و السجل و الشهادة الصحية و صورته الشخصية.أنا فوزي عبد السلام صاحب بقالة الأمانة، كل شئ هنا ملكي أما الولد الفاشل فريد فليس له هنا خردله و لو كان بيدي ما جعلته يدخله برجله ، لكن ما باليد حيلة!أمي حزينة تريدني أن آخذ الدكان و في الليل أسمعه يزمجر كالقط الهائج فوق الأسطح و أشعربها حائرة تهرب إلى الحمام ثم تأتى لتطمئن على البنت الراقدة و تتمدد بجوارها على السرير الصغير . معنا الآن في البرنامج الحاج فوزي عبد السلام صاحب بقالة الأمانة لديه مشكلة تفضل .أنا رجل بسيط بدأت من الصفر و أصبحت صاحب أكبر دكان في البلد ، و الولد الجالس بجواري يدعىأنه ابني و يريد سرقة الدكان بمساعدة أمه!
طيب يا حاج فوزي أنت ورد في كلامك كلمة ( يدعى ) أرجوك اشرح للمشاهدين. أقصد أنه ابن حرام .
عيب تقول هذا الكلام قدام الملايين.
لحظة واحده يا أستاذ فريد لابد من حرية الرأي.
هل أمك لا تتهرب منى ليلا و تنام عندك في الحجرة ؟ : فريد أنت نائم ؟
: لا
تقوم متسللة حيث نام القط و ارتفعت أنفاسه تملأ المكان.
حين أكون في الدكان لا تأتى سميحة إلا نادرا و هي تقف بعيدا عن البنك و تطلب أشياءها بصوت خفيض ثم تستدير كالطيف . أبدأ يومى بمحاولة التكيف مع الروائح و النفايات و أكوام القذارة ثم أرقب الحمارة التي تسرح يوميا في العاشرة مع جحش ملتصق الأذنين يركض في حيرة . أجلس لصناعة قراطيس اللب و السوداني و السكر في كتب توفيق الحكيم و يوسف السباعي . منذ فترة جاءت قرعة صورة يوسف السباعي في قرطاس ذهب إلى دار الحاج محمد قريش و لما بعثني أبى أطالبه بحساب متأخر فوجئت بالسباعي مثبتا بعجين فوق حائط حجرة الضيوف و قد كتب ابنه التلميذ تحته بالطباشير: عاش السيد الرئيس محمد حسنى مبارك! اتمنىأن أذهب مرة إلى مطوبس أتبضع . أخرج الكشف من جيبي و المحفظة من الجيب الآخر و أحمل البضاعة على كارو عبد الغنى. البقالة من نافع و الخردوات من كمال بلال ، الأدوية أشتريها سرا من أجزخانة الياس . لا يعطيني الفرصة أبدا .في ظلام الحجرة يحلو لي التفكير ، و في الليلة الموعودة كنت أسأل نفسي : من السبب فيما يفعله أبى ، هل هي أمي أم سميحة؟ حادي بادي واحد اثنان . لعبة مسلية حتى الصباح ثم أنام إلى المغرب .اللعبة ليست مسلية لأنك لن تتخلص من انحيازك . دع هذا السؤال و لتلعب لعبة الهمس . تخيل ماذا يقولان حين يقترب نصفاهما ؟ لم أكد أبدأ التخيل حتى سمعت من يوسوس في أذني: أنا سوف أريحك و أخبرك بكل ما يدور في اللقاءات السرية بين أبيك العلق و سميحة .في الحقيقة لم أخف و لا اهتزت لي شعرة لأني منذ فترة طويلة أبحث عن ساحر عليم و برق في مخي أنه استجاب و جاء .
: لا يوجد سحر الآن يا فريد، أناعفركوش بن برطكوش كنت نائما في حالي منذ وفاة المرحوم إسماعيل يس فحرقتني بأفكارك و رغباتك فاستيقظت و جئتك.
بدأ يوسوس لي بما يقوله أبى وبما تقوله سميحة . كلام بذئ ، قذر
: عفريت وسخ .
ارتميت على السرير.لكنني ما كدت أضع رجلي على أول درجة في سلم النوم حتى فتح الباب و دخلت أمي : أبوك تعبان.
أعطتني المفتاح . كان رأسي يدق، ابتسمت حين تذكرت كلمات العفريت قالت :تعالى كلمه وخذ بالك من سميحة .
كان مضطجعا وساقه اليمنى مفرودة أمامه : رجلي كأن فيها نار
همهمت بعدة كلمات.
انتبه لا تبع للغرباء و حاذر من بعثرة السكر و الزيت . دقق في الوزن و لا تكشر في وجه الزبائن أنا أفعل كما يفعل قرد الحاوي حتى أعجبهم . الأدوية تحت فرشة درج الفلوس . حبوب نصار للاسهال ، الانترفورم للإمساك ،الأثير للمغص. دفتر البفرة لا يباع وحده لابد من سجائر أو دخان.لم أفكر كثيرا لأني أحفظ هذه النصائح و لو كانت هناك حرية لنصحته بإنزال المعلقات المتربة و فتح النافذة للتهوية و تنظيف المقبرة المفتوحة تحت البنك و نقل صفيحة الجاز التي تنسكب على الأرض إلى الخارج و مراعاة شعور البلد كلها و إنهاء مهزلة سميحة!يومان مرا سألنى بعدهما الناس عن أبى و هرعوا إليه يزورونه و يجمعون على أن ما يعانى منه هو عرق النسا . جلبت أمي الرمل الساخن وزيت الخروع وزيت الماكينات ، و بدلا من زمجرة القط الهائج سمعنا تأوهات طفل مكروب و سهرت طول الليل تدعك له الجلد بالزيت حتى يشربه العرق اللعين و يهدأ ، لكنه رفض كل ما قدم له و ظل يأكل أعصابه إلى حد اننى بكيت .في الليل قال لي العفريت : تبكى كالأطفال؟
قلت له : انك عفريت لا تعرف العواطف أليس أبى ؟
: لن تستمر عندما أخبرك بما يقولانه هو و سميحة عنك؟
: قل لي من فضلك ، لطالما أردت أن أعرف ؟
:عندما تضايقهما تقول له ابنك ماسخ و قليل الذوق فيقول لها متأففا: انه ابن حرام، ربنا يريحني منه ومن أمه في يوم واحد.
:هل هذا حقيقي أتقسم عليه؟ : اسمع يا فريد أنا تخصصىنقل الأخبار و بكل دقة
،لا أعمل شيئا سوى ذلك ، يعنى لو سألتني عن وجع ساق أبيك أو طلبت منى دواء فلن تخرج منى بطائل .
: وأنا الذي أبكى!
: لا وقت للبكاء الدكان ينتظر منك الكثير . لابد من التغيير . أبوك على حد علمي لن يعود إليه . فلتفعل ما تراه ضروريا و ها أنت عرفت ما يضمر لك وما يقوله عنك أمام امرأة غريبة.
: نعم سأغير كل شئ.
: و لتأخذ سميحة أيضا .
: كيف؟ إنها تكرهني . حتى عندما تقابلني في الشارع تهرب كأني سآكلها.
: دائما تشعرها بالعار و بأنك تمسكها من اليد المعطوبة.كما أن أمك ترسل لها شتائم نابية.
: وما هوالسبيل الى غزو قلبها و جعلها مثل الخاتم في اصبعى يا شيخ العفاريت ؟ هل من سحر يقلب الأوضاع؟
: سبق و أخبرتك أن السحر اختفى و من قبل كنت تتساخف و تريد أن تكون عصفورا أو صابونه ثم جاءك ما تريد و أنت نائم ، و يبدو أنك استحليت ذلك فتريدني أن آتيك بسميحة جاهزة ، لا لابد أن تبذل جهدا لكى تشعر بك و تتجه ناحيتك .
فىاليوم الرابع و بينما كنت منشغلا بصناعة قراطيس بلزاك و مارسيل بروست و أراقب ضاحكا عدة سراويل نسائية على حبال الغسيل معظمها يحمل
علامة شركة الحوا مدية للسكر، جاءت تهاني أختي تجرى و انحنيت لها فقالت في أذني: هات فلوس ، عمى طلحه سيذهب مع أبى للدكتور في مطوبس.ما إن غابت حتى رأيت الحمارة و الجحش، لكنهما اقتربا هذه المرة و قالت الحمارة بلسان فصيح :
- ولد ماسخ و قليل الذوق . ربنا يريحني منك ومن أمك في يوم واحد .
ثم اندفعت تجرى و يركض وراءها ابنها الملتصق الأذنين ضاحكا بصوت طفل.
ظللت أغلى طول اليوم و في المساء كان البيت غاصا بالزبائن و قال عمى طلحة لأمي في السر إن الأمر خطير و أعطاها لفافة حقن وحبوب و مراهم . لما أظلمت الحجرة جاء العفريت ، شكوت له مما فعلت الحمارة فقال : لا تهتم إنها ابنة ملك الجان و لا سلطان لى عليها !
أصبحت أستيقظ على نداء السبكى الذىيعطى الحقن و أقف مملوءا بالكسل وهو يعد الإبرة ثم يشير إلى أبى الذىيعتصم بالركن ليخفى إليته .كان اليوم الخامس هو ساعة الصفر: عالجت مقبض النافذة بالجازحتى أفاق من غشيته وفتح المصراعين فمرق الهواء الذي طال اشتياقه لمعرفة ما يدور في الداخل . النفايات التي كانت على الحافة كومتها في جوال . مزقت فرشة الرفوف من ورق الجرائد الأصفر المرصع ببراز الذباب وأنزلت البضاعة ثم قصصت أوراقا جديدة على شكل مثلثات و مربعات و نسقت كل صنف في رف مستقل بطريقة الاهرامات، نظرت إلى المعلقات ، كانت مطموسة وقميئة . أنزلتها و غسلت الزجاج بالماء ثم دعكت الحواف فلمعت كالذهب. أردت أن أعيدها إلى أماكنها لكنني وجدتني اقذفها في قلب الجوال . بقيت الأشلاء المكدسة
في المقبرة تحت البنك ، سحبت الزجاجات وا لعلب و كنست بقايا السمن و السكر و الزيت فارتفعت رائحةعطانة لا تطاق مما دفعني إلى جلب دلو من الماء والرقود على الأرض لأغسل الآثار. الدكان الآن شاب في العشرين، و التوتر زال إلى حد كبير لدرجةاننى أمسكت أحد كتب القراطيس لأقرأ فيه و مضى اليوم رشيقا خفيف الدم .قال لى العفريت إن ما فعلته يثبت جدارتي و لم يبق لى الا الإعلان عن رجولتي الكاملة !
: اننى لا أستطيع أن اكلمها . إنها تأتى دائما في وجود زبائن!
: - هل تظن الأمر سهلا . كلا .صدقني، أبوك تعب سنوات حتى رضيت له ، و لا تعتقد أن الحكاية وقفة أو كلمتين على البنك،انها سميحة .
: أريد أن افهم .
: أبوك كان يأخذها إلى مطوبس ، هناك يطعمها اللحم و الفراخ المشوية و الهريسة و أحيانا يشترى لها قماشا و أدوات تجميل.اسأل أي عيل في البلد يخبرك عن ذلك و يخبرك أيضا أنه يسقط إليها من السطح ليلا و يقضى معها وقتا ممتعا .
: و بماذا تنصحني . لابد من الوصول إليها و لو كلفني ذلك حياتي .
: اشتر لها كريم وجه و زيت شعر يجعل الضفيرة تلمع. فى المرحلة التالية اعزمها إلى مطوبس و بالغ في الفنجرة ! ابدأ غدا و سوف أجعلها تأتيك و أخلى الشارع من المارة .
منذالفجر استيقظت و وقفت مع السبكى و فتحت الدكان .
خرجت إلى المصطبة . رددت على تساؤلات الناس عن أبى . جاء على بالى وهو يختبئ في الركن حتى لا أرى إليته. الساعة تجاوزت العاشرة و لا أثر للحمارة أو الجحش . ألأسطح خالية من الغسيل و الشارع تصفر فيه رياح الخريف .
رأيتها آتية فدخلت بسرعة . وقفت بعيدا عن البنك . ابتسمت كاشفا أسناني لكنها نظرت إلى الأرض . سيطرت على دقات قلبي . أنا رجل و أستطيع الدخول في مغامرة !هل نصحني العفريت بشئ ابدأ به؟ لا اذكر.
غمغمت ، لكنني لم أتبين حرفا واحدا و وقفت لا أتحرك . عادت تغمغم . اقتربت من الأرفف . افتح سكة . قل لها أبى يسلم عليك.
لا أنت خائب، لا تذكرها به .
الأفضل أن تخرج لفافة الكريم و الزيت و العطر و تقدمها . هي التي سترد . ربما تتدلل و تدعى الدهشة و ربما قالت كلمة أو اثنتين ترضى بهما حياءها . هيا اخرج اللفافة . كانت الآن تغمغم أكثر و قد تغير وجهها . و في نفس اللحظة رأيت أمي تهجم كالنمرة على المرأة من الخلف و تجذب ضفيرتها بكل قوة فتلقيها على الأرض و ترتمي فوقها!
سحبتها إلى ركن و اندفعت تكيل لها الضربات في وجهها . سميحة رقدت مستسلمة وسترت وجهها بيديها ثم بعد لحظه لم تتحملا فسقطتا بجوارها ليصير الوجه كتلة مدممة .كان الصمت مطبقا لا أمي تنطق و لا الفريسة كذلك و قد سمح العفريت الآن للجميع أن يمروا و كنت أقف كالمخدر لكنني رأيت الحمارة و الجحش يتفرجان و رأيت امى تقلب سميحة و تعجن ظهرها و تمزق ملابسها و كان الدم يتدفق من فمها و يتخثر في بركة ،ثم تقوم من فوقها عائدة إلى البيت دون أن يتدخل أحد من الواقفين في هذا الشأن الخاص .
تعليق