الحالة الخامسة
قصّة: ناجي دلول
وكان بين الفينة والأخرى.. يهرُّ البياضّ من عـُبِّ ياسمينةٍ يتهادى علينا وتنثره نسيماتُ المساء.. حولنا, دخلت المطبخ لأكملَ إعداد القهوة.. ومن النافذة قلتُ لها:
- ليس عبثاً أن يكون الياسمينُ الزهرَ الأكثرَ شعبيةً بيننا...!..
وعدتُ بالقهوة التي وضعتُها على الطاولة التي تجمعنا مكملاً:
- ( أتدرين أن الحزن من سجايا الياسمين؟!)
وانحنيت ملتقطاً زهرةً من على الأرض ووضعتُها مقلوبةً على ظهرها, وأشرت إلى وشاح البنفسج الذي وشح ظهر بتلاتها وأنا أفكرُ: أوليس البنفسجُ ثقيلاً على ظهرك المرهفِ يا زهرتي!!
- انظري.. ومع ذلك لا تدعنا للحظة نشعر بحزنها)) قلت وتابعت تداعياتي.
((إن أجمل اللحظات حين ألملمُ الياسمين عن الرصيف..))
- أعودُ وأقولُ لكَ ثانيةً وثالثةً... الياسمينُ كائنٌ ضعيفٌ.. الأقداُم تدوسه وأنا لا أحب الضعفاء..! قالتْ ذلك.. ووجهها ينكمشُ بألم من يتحاشى النظر إلى مخلوق ضعيف.. قلتُ:
- من الصحيح أن نقول: لطيفاً بدلاً من ضعيف, هناك أقدامٌ تتجنب دوسه, كما أنّ هناك أقدام تدوسه بلا رحمة.. وتلك مشكلتُها.. ضروري ألاّ نحبُ الذين يسحقون اللطف.. فالطفولة مسحوقة, نسيمات الصباح مسحوقة... أحلام الكبار مسحوقة.. فمع من نكون.. مع الساحق أم مع المسحوق؟!))
شبكتْ أصابعها.. وبشيء من التوتر قالت:
- كالعادة... ما زلتَ تُدقق في الكلام.., يا سيدي لقد أخطأتُ التعبير ما أقصدهُ بأنني أكره الياسمين هو أنه يثير فيَّ مشاعر الألم حين تدوسه الأقدام.
ونظرتْ إليَّ بعينيها كما لو أنها تسألني: (( أفهمتَ ما أقصدُهُ الآن؟))
ووجدتُها فرصةً لي لأدافعَ عن اللطف والياسمين حتى النهاية فسألتها مستفزاً إيّاها :
- هل تعلمين أن اللطف أكثر قوة من الأقدام مهما كانت عنيفة؟ وهل تعلمين أنه من أشد المدافعين عن ضعفك؟!
زرّرتْ عينيها السوداوين مندهشة:
_ اللطيف دائماً أفعاله نبيلةٌ, وهو جذريّ وحديُّ ومقاوم لا يساوم على ذرة تنال من كبريائه, وهو يشحن الضعفاء بالدفاع عن حقهم بالحياة بكل ما أُوتي.. انظري للسيد المسيح وانظري إلى غاندي ولوركا ونيرودا وغيرهم كانوا وما زالوا فوانيساً تضيء لخطواتنا خرائب الطريق... ألم يقاوموا العنف والفظاظة حتى الموت؟!..))
ألقت برأسها على مسند الكرسي وأغمضت عينيها..
- ياسمينك لملمني من الرصيف ... وبعثرني.. دعني أفكر قليلاً..
بعد هنيهة من الصمت, سوّت جلستها على الكرسي, رتبت شعرها وردّدت كما لو أنها تردد سؤالاً:
- اللطف يدافع عن ضعفك؟!
وتذكرتْ أن أمامها فنجان قهوة... رشفت منه رشفة بشفتيها الرقيقتين وأعادته إلى الطاولة ثم أسندت كوعيها ووضعت وجهها بين كفيها وسألت..
- (( وبعد؟! تابع ))
ومثل مدرسة تختبر تلميذها قالت:
- (( ما هي الحالات التي تتذوق بها الياسمين-
- إنها كثيرة... قلتُ,
قالت ممازحة:
- (( إذن عدّد خمساً منها فقط لا غير...))
-(( إذن عدّي على أصابعك أولاً: أتذوقها وأنا أعدُّ بتلاتها هل هي خمساً أم لا؟: ثم أشمها وأبوسها.. ))
- يا سلام ... هذه أمومة!!
قلت:
- ((لا تقاطعيني عدي فقط على أصابعك. ثانياً:إن وَجَدتُ زهرةً وحيدةً على الرصيف فإني ألتقطها وأجعل كفيَّ كوخاً لها.. لأني أراها تبتسمُ لي كطفل لقيط)).
ونظرتْ إليَّ بعينين مندهشتين:
- ((كم أنتَ أنثى.. أقصد كم أنت أمٌ؟!))
وضحكتْ.. وضحكت وأنا أنظر إليها مشيراً بأصبعي إلى الحالة الثالثة..
- (( وإذا كان الياسمين متراكماً على الرصيف.. أحسُ وكأنني قد عثرت على كنز... فأشهقُ وأنثني لأعرف منه محتاراً أين أذهب به فأملأ به جيبي ويدي.. وأسير بحذر شديد كما لو كان طفلاً صغيراً ينام قربي فأخاف أن أؤذيه بدون قصد..!))
- (( تكاد تقنعني بقوة اللطف.. أكمل .. أكمل.. ))
- (( رابعاً: إن رأيتُ ياسمينة في مكان لا توجد فيه عادة.. فإني أتحاشى لمسها))
فتحتْ عينيها متسائلةً :
- (( ولماذا.. ؟))
- (( لأني أخشى عليها فهي حنونة جداً.. إنها ترد الجميل فوراً فما إن تشعر بدفء يدي حتى تذوي وتذوب وهي تمنحني دفأها دفعةً واحدةً وإلى الأبد!))
نظرتُ إليها وكانت تذوي.. وتقول:
- (( تابع .. تابع))
-(( خامساً: الياسمينة يا عزيزتي مثلك... رقيقةٌ ورائعةٌ... تواجه الريح والصقيع قد تنكسر, قد تحترق.., لكنها عنقاءٌ تُعاودُ النهوضَ والتجددَ, فتلد في كل صباح غيوماً بيضاء, وتلد في كل ليلة نجوماً متلألئةً.. أحياناً أراها سرب فراشات أبيضَ يحومُ.. وأحياناً يفوحُ عطرها فأقترب منها وأبوسها..))
حركتْ شفتيها حركةٌ تدلُ على الإعجاب بالحالة الخامسة, بينما كنت أتأمل أصابعها المطويةَ... وأمد يدي وألتقطها:
- (( أرني كم بتلة في يديك!؟..))
أسلمتْ يدها ليديَّ ورحتُ أعدَّها إصبعاً إصبعاً ..واحد إثنان ثلاثة أربعة خمسة... , لم أكملْ قولَ خمسة حتى كانتْ شفتيَّ تقبلُ كفَّها إصبعاً إصبعاً سحبتْ يدها واندفعتْ عذوبتها نزيزاً كنزيز النبع من بين صخور الجبال وشردتْ, ورحتُ أتأمل شرودها... وأتأملُ ضوء القمر النافذ من بين غصون شجرة الرمان المزهرة.. ببهائه الأنثوي, متشابكة خيوط نوره مع خيوط صوت (فيروز),... عادت من شرودها ملحقةً بعضاً من كلامها بأغنية....... وبعينين تشعان فرحاً.... راحتْ تدندنُ:
- ( هُـَّز لي شجرةَ الهواءِ.. لتهرَّ في عبّي نسيماً.. اقتربْ منيّ يا حبيبي.. أنا فواحةٌ متى شئت)).. دنوتُ منها ورحتُ ألملمُ اللطف بدءاً من ياسمينةِ شعرها.
- ليس عبثاً أن يكون الياسمينُ الزهرَ الأكثرَ شعبيةً بيننا...!..
وعدتُ بالقهوة التي وضعتُها على الطاولة التي تجمعنا مكملاً:
- ( أتدرين أن الحزن من سجايا الياسمين؟!)
وانحنيت ملتقطاً زهرةً من على الأرض ووضعتُها مقلوبةً على ظهرها, وأشرت إلى وشاح البنفسج الذي وشح ظهر بتلاتها وأنا أفكرُ: أوليس البنفسجُ ثقيلاً على ظهرك المرهفِ يا زهرتي!!
- انظري.. ومع ذلك لا تدعنا للحظة نشعر بحزنها)) قلت وتابعت تداعياتي.
((إن أجمل اللحظات حين ألملمُ الياسمين عن الرصيف..))
- أعودُ وأقولُ لكَ ثانيةً وثالثةً... الياسمينُ كائنٌ ضعيفٌ.. الأقداُم تدوسه وأنا لا أحب الضعفاء..! قالتْ ذلك.. ووجهها ينكمشُ بألم من يتحاشى النظر إلى مخلوق ضعيف.. قلتُ:
- من الصحيح أن نقول: لطيفاً بدلاً من ضعيف, هناك أقدامٌ تتجنب دوسه, كما أنّ هناك أقدام تدوسه بلا رحمة.. وتلك مشكلتُها.. ضروري ألاّ نحبُ الذين يسحقون اللطف.. فالطفولة مسحوقة, نسيمات الصباح مسحوقة... أحلام الكبار مسحوقة.. فمع من نكون.. مع الساحق أم مع المسحوق؟!))
شبكتْ أصابعها.. وبشيء من التوتر قالت:
- كالعادة... ما زلتَ تُدقق في الكلام.., يا سيدي لقد أخطأتُ التعبير ما أقصدهُ بأنني أكره الياسمين هو أنه يثير فيَّ مشاعر الألم حين تدوسه الأقدام.
ونظرتْ إليَّ بعينيها كما لو أنها تسألني: (( أفهمتَ ما أقصدُهُ الآن؟))
ووجدتُها فرصةً لي لأدافعَ عن اللطف والياسمين حتى النهاية فسألتها مستفزاً إيّاها :
- هل تعلمين أن اللطف أكثر قوة من الأقدام مهما كانت عنيفة؟ وهل تعلمين أنه من أشد المدافعين عن ضعفك؟!
زرّرتْ عينيها السوداوين مندهشة:
_ اللطيف دائماً أفعاله نبيلةٌ, وهو جذريّ وحديُّ ومقاوم لا يساوم على ذرة تنال من كبريائه, وهو يشحن الضعفاء بالدفاع عن حقهم بالحياة بكل ما أُوتي.. انظري للسيد المسيح وانظري إلى غاندي ولوركا ونيرودا وغيرهم كانوا وما زالوا فوانيساً تضيء لخطواتنا خرائب الطريق... ألم يقاوموا العنف والفظاظة حتى الموت؟!..))
ألقت برأسها على مسند الكرسي وأغمضت عينيها..
- ياسمينك لملمني من الرصيف ... وبعثرني.. دعني أفكر قليلاً..
بعد هنيهة من الصمت, سوّت جلستها على الكرسي, رتبت شعرها وردّدت كما لو أنها تردد سؤالاً:
- اللطف يدافع عن ضعفك؟!
وتذكرتْ أن أمامها فنجان قهوة... رشفت منه رشفة بشفتيها الرقيقتين وأعادته إلى الطاولة ثم أسندت كوعيها ووضعت وجهها بين كفيها وسألت..
- (( وبعد؟! تابع ))
ومثل مدرسة تختبر تلميذها قالت:
- (( ما هي الحالات التي تتذوق بها الياسمين-
- إنها كثيرة... قلتُ,
قالت ممازحة:
- (( إذن عدّد خمساً منها فقط لا غير...))
-(( إذن عدّي على أصابعك أولاً: أتذوقها وأنا أعدُّ بتلاتها هل هي خمساً أم لا؟: ثم أشمها وأبوسها.. ))
- يا سلام ... هذه أمومة!!
قلت:
- ((لا تقاطعيني عدي فقط على أصابعك. ثانياً:إن وَجَدتُ زهرةً وحيدةً على الرصيف فإني ألتقطها وأجعل كفيَّ كوخاً لها.. لأني أراها تبتسمُ لي كطفل لقيط)).
ونظرتْ إليَّ بعينين مندهشتين:
- ((كم أنتَ أنثى.. أقصد كم أنت أمٌ؟!))
وضحكتْ.. وضحكت وأنا أنظر إليها مشيراً بأصبعي إلى الحالة الثالثة..
- (( وإذا كان الياسمين متراكماً على الرصيف.. أحسُ وكأنني قد عثرت على كنز... فأشهقُ وأنثني لأعرف منه محتاراً أين أذهب به فأملأ به جيبي ويدي.. وأسير بحذر شديد كما لو كان طفلاً صغيراً ينام قربي فأخاف أن أؤذيه بدون قصد..!))
- (( تكاد تقنعني بقوة اللطف.. أكمل .. أكمل.. ))
- (( رابعاً: إن رأيتُ ياسمينة في مكان لا توجد فيه عادة.. فإني أتحاشى لمسها))
فتحتْ عينيها متسائلةً :
- (( ولماذا.. ؟))
- (( لأني أخشى عليها فهي حنونة جداً.. إنها ترد الجميل فوراً فما إن تشعر بدفء يدي حتى تذوي وتذوب وهي تمنحني دفأها دفعةً واحدةً وإلى الأبد!))
نظرتُ إليها وكانت تذوي.. وتقول:
- (( تابع .. تابع))
-(( خامساً: الياسمينة يا عزيزتي مثلك... رقيقةٌ ورائعةٌ... تواجه الريح والصقيع قد تنكسر, قد تحترق.., لكنها عنقاءٌ تُعاودُ النهوضَ والتجددَ, فتلد في كل صباح غيوماً بيضاء, وتلد في كل ليلة نجوماً متلألئةً.. أحياناً أراها سرب فراشات أبيضَ يحومُ.. وأحياناً يفوحُ عطرها فأقترب منها وأبوسها..))
حركتْ شفتيها حركةٌ تدلُ على الإعجاب بالحالة الخامسة, بينما كنت أتأمل أصابعها المطويةَ... وأمد يدي وألتقطها:
- (( أرني كم بتلة في يديك!؟..))
أسلمتْ يدها ليديَّ ورحتُ أعدَّها إصبعاً إصبعاً ..واحد إثنان ثلاثة أربعة خمسة... , لم أكملْ قولَ خمسة حتى كانتْ شفتيَّ تقبلُ كفَّها إصبعاً إصبعاً سحبتْ يدها واندفعتْ عذوبتها نزيزاً كنزيز النبع من بين صخور الجبال وشردتْ, ورحتُ أتأمل شرودها... وأتأملُ ضوء القمر النافذ من بين غصون شجرة الرمان المزهرة.. ببهائه الأنثوي, متشابكة خيوط نوره مع خيوط صوت (فيروز),... عادت من شرودها ملحقةً بعضاً من كلامها بأغنية....... وبعينين تشعان فرحاً.... راحتْ تدندنُ:
- ( هُـَّز لي شجرةَ الهواءِ.. لتهرَّ في عبّي نسيماً.. اقتربْ منيّ يا حبيبي.. أنا فواحةٌ متى شئت)).. دنوتُ منها ورحتُ ألملمُ اللطف بدءاً من ياسمينةِ شعرها.
ناجي دلول
تعليق