لك وللعابرين

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • نضال الشوفي
    أديب وكاتب
    • 05-11-2009
    • 189

    لك وللعابرين

    لك وللعابرين


    جدي الطاعن في السن، بات يعرض عن حب الفصول أكثر كلما تقدم به العمر، كان يبحث لكل واحد منها عن عيوب، الصيف الدبق، والخريف المتقلب، والشتاء عدو العظام والمفاصل، والربيع الصبياني المزركش.
    قلت له بعالي الصوت: يا جدي، تعال نجلس تحت التينة في باحة الدار، كي تحكي لي حكاية جديدة. فمضغ كلتا شفتيه وباطن خديه الضامرين، ولكزني بحربة العصا الرقيقة مستهلا سؤاله: ألم يقطع والدك العنيد تلك التينة بعد؟
    ثم لاك باطن فمه من جديد، ولكزني بالعصا مرة أخرى، وسكت.
    لمع في عينيّ الدمع، وعلى أطراف فمي اللعاب على الأثر، فسارع أبي القريب منا إلى ضمي، مستبقا صوتي المشروخ الذي سيخدش السمع إن بكيت، ثم سحبني من يدي إلى الخارج وهو يقول:
    لا تخشَ شيئا يا بني، سأداوي تلك الشجرة في الحال.
    غاب أبي بعض الوقت وظهر من جديد حاملا منجل جدي الصدئ، وبدأ بطعن جذع التينة الغليظ المحدب، باضا اللحاء في أكثر من مكان حتى سال الحليب البارد فوق الساق الخشن، ثم وقف وقفة الواثق المطمئن وهو يخاطبني:
    _ لن يسقط الثمر قبل أوانه بعد الآن.
    كنت عرفت أبي الهادئ منذ عشر سنين، لكني لم أعرفه حكيما أكثر من جدي، لم يسبق أن قص عليّ قصة واحدة من قبل، يداه أبلغ من لسانه، تلبي مطالبي الصغيرة بلا تردد فتحملان إليّ ألعابا وفاكهة وحلوى الأعياد، وتصنعان لي شاحنات مزركشة بأسلاك المعدن الملونة، وتبنيان أيضا فوق التينة الكبيرة العجوز بيتا من خشب.
    ترى، ألهذا كدت أبكي في حضرة جدي الذي كان سيهدم عالمي الصغير بنفس اليدين التي خلقته؟
    هيهات يا جدي، ما كان ذلك، ولن يكون بعد اليوم.
    فها أنا الشاب الواقف الآن في جبانة البلدة أجترّ ذاكرتي وسط حشد جاء صافحا مرددا كلمات طيبات. يلامس سمعي صوت الشيخ المديد الرخيم وهو يتلو صلاة الميت، فينبهني من الشرود، أحني رأسي الشامخ لمستوى الرؤوس المحنية في حضور الموت، أتملى حفرة مستطيلة ضيقة سيجثو فيها جسد جدي المتخشب منذ وعيته، ثم أزيح النظر ببطء شديد وصولا إلى صندوق الخشب المتواضع، المستطيل الشكل أيضا. يهمس صوت خفيض بداخلي سائلا بغير تشفٍ:
    لماذا يا جدي لم تكن تملأ جيوبك جوزا وزبيبا كباقي عجائز القرية؟
    أظننت أني لا أحب الجوز والزبيب؟
    جعلتني أهجس بالأشباح كلما اقتربت من باب حجرتك المتطرف في زاوية الممر، أخشى أن تسقط كرتي الوحيدة قرب "مطواك" الثاقب ذي القبضة العاجية اللون. الآن لك كل الهدوء، فالناس في بلدي لا يسيرون فوق القبور.
    ها هم الناس ذاتهم يحملونك بعد انتهاء الصلاة على الأكف وينزلون نعشك بكل أناة إلى الحفرة فينبهني حراكهم مرة أخرى من سكرة الشرود، أتقدم بتؤدة إلى موقعي الجديد قرب حافة القبر الممتد بطول قامتك الفارعة، لكنه مع ذلك لا يزيد حجما عن محفّة خادم في مدفن الملكة ( بوآبي ). جدي يا سليل ملوك بلاد الرافدين، هل أخذت أغراضك معك كما كانوا يفعلون؟ بالطبع لا، فمثواك مجرد قبر سوف يضيق عليك أكثر كلما أمعن الجسد اهتراء، لن يتسع "لمطواك" ولمنجلك ولأشباح غرفتك ولا حتى للجوز والزبيب.
    بعد أن يدثرك التراب سأصلي لك وعليك، وغدا سأزرع بقربك تينة أترك جنيها لك وللعابرين، فإذا تساقطت ثمارها قبل الأوان، سأخدش قشرها بذات المنجل الصدئ، وأصلي لها ولك.
    _ نم يا جدي هادئا مطمئنا، لن يكون من بعدك طوفان ولا سيول، فالشتاءات في بلادنا لم تعد تحمل الكثير من المطر.
  • دريسي مولاي عبد الرحمان
    أديب وكاتب
    • 23-08-2008
    • 1049

    #2
    المبدع نضال الشوفي...
    قصة جميلة وفقت في جعل لحظتين متوازيتين من حياة انسان مشوبة بحكمة أكثر من رائعة:الشتاءات في بلداننا لا تحمل الكثير من الأمطار.
    في ظل هذه الحقيقة لا تسعنا سوى الذكرى التي تركها الأولون لنمر عليها ونقف وقفة تأمل في صددها...
    نقطتان عبرتهما بمسافة تنقل مشحون بالمعنى الكثيف.الحياة والموت وسيرة الرجال البسطاء...وجدلية الفصول...
    تقديري لك أخي الكريم.

    تعليق

    • محمد سلطان
      أديب وكاتب
      • 18-01-2009
      • 4442

      #3
      الأستاذ الجميل
      نضال الشوفي

      كم هي الحكايات التي تترد عبر الأحاديث عن الجدود
      لها مذاق خاص ورائحة الطيبين .. وإن قتلنا التينة في مستهل الطريق
      سنعود ونزرعها في نهايته .. فلن نتحمل البقاء ولا الموت بدون الظلال ..!!
      جميلة القصة .. بل أكثر من رائعة

      خالص تحياتي وتقديري
      صفحتي على فيس بوك
      https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

      تعليق

      • العربي الثابت
        أديب وكاتب
        • 19-09-2009
        • 815

        #4
        يرحلون واحدا ..واحدا عن عالم ،لم يعد لهم فيه نصيب...
        يغادرون بهاماتهم السامقة،وفي أعماقهم إحساس قاتل بضرورة سحب ظلالهم من هذه التموجات الزائفة..
        يمضون ،وخلفهم فراغ بحجم هذا الكون ،لن يتمكن الباقون من تجاوزه،وهنا يصبح الألم فظيعا..
        لأول مرة أقرأ لك أستاذي العزيز،وقد استمتعت بكل هذا الدفء الناعم..
        شكرا لك ...وتحية عاطرة للقلب والقلم..
        اذا كان العبور الزاميا ....
        فمن الاجمل ان تعبر باسما....

        تعليق

        • نضال الشوفي
          أديب وكاتب
          • 05-11-2009
          • 189

          #5
          يكفيني أخي العزيز دريسي أن تكون قراءة النص كما فعلت
          حتى ينال حقه وزيادة، رغم أني لا أستغرب ذلك من كاتب مبدع خلاق مثلك.
          مودتي واحترامي

          تعليق

          • نضال الشوفي
            أديب وكاتب
            • 05-11-2009
            • 189

            #6
            أخي العزيز محمد
            لم أقبل ولن أقبل بقتل التينة، بل جعلت الأب يعالجها على طريقته التي لا بد وأنه تعلمها من والده، أو من عجوز آخر.
            لهذه الشجرة المعمرة رمزية في النص الديني، وفي الحياة، وهنا في القصة أيضا.
            لعل الجد هنا، وبعد أن مضى به العمر، وبات يشعر أنه لم يعد نافع في شيء، رغب بقطع التينة _ التي يجوز أن يكون هو نفسه من زرعها _ ذلك أنه يرفض الظلال التي باتت تعني الانسحاب والانقطاع عن الحراك الذي كان يمارسه في الحياة.
            أريد أن أشكرك لأنك أعطيتني فرصة إيضاح ذلك.
            أخي محمد حضورك هنا هو الجميل
            فتقبل كل الود والتقدير

            تعليق

            • إيمان الدرع
              نائب ملتقى القصة
              • 09-02-2010
              • 3576

              #7
              أخ نضال الشوفي :
              أيها الجولاني البار الذي يسكنك الوطن ،ولا يبارحك ...
              كم أفخر بك أديبنا الغالي ...
              تراكيب ٌرائعة ، لغة قويّة متماسكة ...
              رموز قصّك : الجدّ والأب من أقوى العناصر فيها ..
              حيث يعبر الزمن قربهما تحت شجرة التين الصامدة..
              بوركت أناملك المبدعة...
              دُمتَ بسعادةٍ ....تحيّاتي ....

              تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

              تعليق

              • نضال الشوفي
                أديب وكاتب
                • 05-11-2009
                • 189

                #8

                تبدو جولانيا أو فلسطينيا، وربما تينة معمرة جذورها ضاربة في أعماق الأرض.
                اسمك الجميل يوحي بذلك " العربي الثابت ".
                بل شكرا لدفئ حضورك أخي الكريم،
                ولقراءتك الواعية للنص.
                تقبل خالص احترامي

                تعليق

                • نضال الشوفي
                  أديب وكاتب
                  • 05-11-2009
                  • 189

                  #9

                  الأخت العزيزة إيمان
                  تسكنني وجوه أحبها، وأسماء أظل أرددها
                  وأرض أتوق للسير فوقها
                  كما كنت أفعل ذات يوم.
                  أنا أيضا أفاخر بوجودك هنا
                  لأنك مبدعة
                  وغالية
                  ويعنيني سماع رأيك

                  تعليق

                  • عائده محمد نادر
                    عضو الملتقى
                    • 18-10-2008
                    • 12843

                    #10
                    الزميل القدير
                    نضال الشوفي
                    أحب نصوصك لأنها تحمل بين طياتها آثارا للأرض تعود إليها دوما
                    نص رائع وهاديء
                    سردك كان شيقا
                    وبودي أن أعيد عليك زميلي العزيز شارك الزميلات والزملاء وبادلهم خبرتك ورؤيتك حول نصوصهم فبذلك فائدة للجميع
                    تحياتي ومودتي لك
                    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                    تعليق

                    • نضال الشوفي
                      أديب وكاتب
                      • 05-11-2009
                      • 189

                      #11
                      الأخت العزيزة عائدة
                      وأنا أحب سماع رأيك بنصوصي
                      لأنك مسكونة بهذا الهاجس الذي تتحدثين عنه
                      أشكر دعوتك لي لمشاركة الأخوة الذين أراهم جميعا أفضل مني
                      فلا أترفع والله على أحد، بل أقرأ بصمت،
                      وأرجوا الظروف أن تسايرني
                      كي أتفرغ أكثر.
                      دمت بخير وفرح

                      تعليق

                      يعمل...
                      X