مالكة................

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد محضار
    أديب وكاتب
    • 19-01-2010
    • 1270

    مالكة................

    كانت شمس الظهيرة ترسل أشعتها الملتهبة، والنسوة مجتمعات في "العين" وقد انصرفن إلى تصبين بعض البطانيات والأثواب الوسخة، وهن يرددن أهازيج محلية، وعلى بعد خطى انتصبت قبلة الولي الصالح سيدي محمد بلبصير(1) بلونها الأبيض، وقد حط على سقفها سرب من الحمام انساب هديله يملأ رحابة المكان، وتحت ظل كرمة مديدة العروش افترش بواب الضريح نصف حصير مهترئ ويمم وجهه نحو باب القبة، وقد زاغت عيناه المعمشتان، وسكنت يداه النافرتا العروق وبدا في جلبابه الأسود كصخرة جامدة.
    عند ناصية الطريق الزراعي لاحت مالكة بثوبها الوردي الوسخ، وصندلها القديم الذي زار إسكافي الدوار أكثر من مرة، وقد بدا وجهها الصغير المدور غارقا في سبحات الوجوم، كانت قدماها الصغيرتان ترسمان خطى متخاذلة وعيناها الذابلتان تستحمان في موج الحزن وهي تتقدم في إتجاه الضريح وحين مرت بالقرب من البواب ألقت إليه بتحية خافتة، رد عليها بإبتسامة، وما عتمت أن دلفت داخلة إلى قبة – الولي بعد أن تركت صندلها عند عتبة الباب، اقتربت من التابوت المكسو بالثوب الأخضر ثم جلست وأدخلت رأسها الصغير ذي الجدائل المعصوقة إلى الخلف، تحت ثوب التابوت ولثمت خشبه ثم استندت إليه وأجهشت باكية.
    تناثرت الكلمات من فمها مرتعشة وهي تتوسل "للولي" !! وتترجاه تخفيف عذابهاو آلامها، فقد شقت بما فيه الكفاية وشربت كؤوس اللظى حتى الثمالة، ولم تعد قادرة على المزيد من ظلم الحياة. قبل لحظة من حضورها إلى الضريح كانت قد انتهت من أشغال البيت الشاقة، نظفت الزربية من روث البهائم، وقدمت العلف للبقرة، والحب للدجاج ثم غسلت أواني المطبخ، وبيضت بلاط غرف الدار الثلاث، نفضت الغبار عن الأثاث وطوت "البطانيات" والملاءات وأخيرا أكلت ما جادت عليها به زوجة أبيها من فضلات، وبعد حين من الآن عليها أن تذهب إلى دار الشيخ لتساعد زوجته كالمعتاد فتلك رغبة والدها وزوجته وهي لا تملك سوى السمع والطاعة.
    اجتاح حواسها صمت رهيب وانتابتها رعشة خوف، راحت تكبر داخلها حتى استحالت إلى بحر هائج مضطرب وتدفقت ينابيع الماضي بين تعاريج ذاكرتها تبعث الحياة في كيان ذكرياتها الدفينة.
    أين هي اليوم...من الأمس؟؟ !! فقبل سبع سنوات من يوم الناس هذا كانت تنعم بدفء وحنان أمها، وكانت الحياة ذات نكهة ولذة... وكان للنهار حلاوة، ولليل طراوة، وكان للفجر أنسام، وللسحر شذى، كانت يومها لغة الحياة هي السعادة وكان والدها على العكس منه اليوم أبا حقيقيا يغمرها بنبع حبه الصافي.
    لكن سرعان ما هبت عواصف الأيام على دنياها الجميلة، ولم تبق وتذر منها إلا الهشيم، وإذا بالسماء حولها خرساء مظلمة والأرض ناتئة متعرجة لا تستقيم تحت قدميها. كان ذلك ذات مساء شتوي حين عادت إلى البيت من مدرستها، وجدته مقلوبا رأسا على عقب. "مصيبة وقعت ما في ذلك شك" هذا ما أوحاه لها منظر النسوة والرجال المتواجدين بكثرة في باحة البيت وقد علت وجوههم طبقة سميكة من الحزن "أمك يا بنيتي.. أمك المسكينة داهمها جمل ولد المكي وهي تحلب البقرة أمام البيت، كان الملعون هائجا و"كشاكش" الغضب تتدفق من شدقيه، ولولا أن أدركها بعض الرجال لفتك بها، لقد نقلوها في سيارة الشيخ إلى المدينة.." بهذه الكلمات قابلتها جدتها لوالدها وعيناها تطفران بالدموع.
    انطلقت داخلها صرخة ألم، وتساقطت الهواجس العملاقة على رأسها الصغير، لم تعد تدرك ما يدور حولها.. ضباب كثيف يغشى عينيها، وحزن عميق يحطم كيانها. لما عاد والدها صحبة الشيخ وولد المكي في ساعة متأخرة قال:"إنهم لم يفعلوا شيئا من أجلها.. قالوا لنا اذهبوا.. الطبيب لن يحضر إلا صباح الغد، يبدو أن حالتها خطيرة جدا".
    في اليوم التالي ترجت والدها أن يصطحبها معه لرؤية أمها فوافق بعد طول جدل وحين دخلت إلى الغرفة حيث ترقد هذه الأخيرة اعترتها رعشة شديدة وفرت الدموع غزيرة من عينيها.
    بعد شهر من الحادث عادت أمها إلى البيت عاجزة لا تقوى على الحركة، فقد أصيبت بكسر في العمود الفقري، حكم عليها بموجبه بالعجز الأبدي، وانقضى ردح من الزمن، فإذا بسلوك والدها يتغير كلية فهو غاضب باستمرار يلعن ويسب ويشتم لأقل سبب.. ويغيب عن البيت بكثرة حتى ذات يوم قال:"أنا لم أعد قادرا على هذه "العيشة" سأتزوج لابد أن أتزوج". وردت عليه جدتها غاضبة: "لن تفعل هذا وأنا على قيد الحياة.. لن تدخل الضرة على ابنة أخي"، أما أمها المرمية في ركن منبوذ من البيت فلم تقل شيئا، كانت تعلم أنها لم تعد تصلح واستبدالها أصبح ضروريا، ولم تجد أمامها إلا السماء ترجوها أن تمن عليها بالرحيل إلى العالم الآخر حتى ترتاح وتريح وكان لها ما أرادت ففي ليلة صامتة مظلمة أسلمت الروح وانتهت مسيرة عذابها. لم يكد تراب قبرها يجف حتى توقف قلب الجدة العجوز عن الخفقان ولحقت بها إلى حيث "سيذهب الجميع"، وخلا الجو لوالدها فتزوج أرملة العسولي فقيه الدوار الذي قضى منذ سنة، لم تكد هذه الأخيرة تضع قدميها في البيت حتى كشرت عن أنيابها وكشفت عن ميولها العدوانية وروحها الاستبدادية، وسرعان ما احتوت الأب، فصار أرجوزا بين يديها تحركه كما تريد وما عتمت أن التفتت إلى مالكة فصبت جام حقدها عليها، وكانت البداية بحرمانها من الدراسة وبعدها إثقال كاهلها بأشغال البيت الشاقة ثم إرغامها على العمل بدار الشيخ بعد الزوال من كل يوم، كانت زوجة أبيها ساحرة آثمة فقد رأتها أكثر من مرة تطمر التمائم والتعاويذ في الوسادة التي ينام عليها والدها وتضع المحاليل الغربية في أكله وشربه، ولم تكن تستطيع إزاء ذلك إلا الصمت فهذا قدرها وقدر والدها.
    تابت مالكة إلى نفسها حين دقت الساعة المعلقة في منتصف جدار الضريح معلنة الثانية بعد الزوال، فموعد ذهابها إلى دار الشيخ قد حان وعليها أن تستحث الخطى حتى لا تعنفها زوجته.




    (1) يوجد هذا الضريح بمنطقة الحوازم قبيلة السماعلة، ناحية وادي زم.

    كتب هذا النص سنة 1986ونشر بجريدة العلم في نفس السنة..
    ونشر كذلك بجريدة النهار المغربية سنة 2006
    التعديل الأخير تم بواسطة محمد محضار; الساعة 09-03-2011, 10:20.
    sigpicلك المجد أيها الفرح المشرق في ذاتي، لك السؤدد أيها الوهج المومض في جوانحي...
  • عائده محمد نادر
    عضو الملتقى
    • 18-10-2008
    • 12843

    #2
    الزميل القدير
    محمد محضار
    وبالرغم من ان النص نشر في الجرائد لكني رأيته قد طال منك
    أتدري زميلي الإسهاب في السرد يخفف من وقع الأحداث ويقلل من قيمة النص
    فكرة النص رأيتها موضوع لو حكينا عنه مليون مرة لا ينضب لأنه يأتي على مشكلة أزلية ومؤلمة تجتاح الكثير من البيوت فتعصف بالصغاروتؤذيهم
    المهم زميلي
    أرجو أن لا أكون زائرة ثقيلة علي كما أرجو منك مشاركة الزميلات والزملاء نصوصهم والقراءة لهم فتستفيد وتفيد
    تحياتي ومودتي
    الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

    تعليق

    • محمد محضار
      أديب وكاتب
      • 19-01-2010
      • 1270

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة عائده محمد نادر مشاهدة المشاركة
      الزميل القدير
      محمد محضار
      وبالرغم من ان النص نشر في الجرائد لكني رأيته قد طال منك
      أتدري زميلي الإسهاب في السرد يخفف من وقع الأحداث ويقلل من قيمة النص
      فكرة النص رأيتها موضوع لو حكينا عنه مليون مرة لا ينضب لأنه يأتي على مشكلة أزلية ومؤلمة تجتاح الكثير من البيوت فتعصف بالصغاروتؤذيهم
      المهم زميلي
      أرجو أن لا أكون زائرة ثقيلة علي كما أرجو منك مشاركة الزميلات والزملاء نصوصهم والقراءة لهم فتستفيد وتفيد
      تحياتي ومودتي
      الإسهاب في السرد هو بسبب الرغبة في الإحاطة بكل تفاصيل عالم مليكة..تعجبني الفاصيل..واجدني بغير رغبة اخوض في بحرها بشكل لا قدرة لي على التراجع معه..أنا معك في كون اغلب النصوص المدرجة ..تم طرقها لكن الإختلاف يكمن في طريقة التناول , ونوعية الأسلوب المتبع ومدى القدرة على التحكم في اليات السرد..نص مالكة عمره يتعدى ربع قرن..وله ما له وعليه ما عليه..لست ضيفة ثقيلة ومرحبا بك .....
      التعديل الأخير تم بواسطة محمد محضار; الساعة 11-04-2010, 17:14.
      sigpicلك المجد أيها الفرح المشرق في ذاتي، لك السؤدد أيها الوهج المومض في جوانحي...

      تعليق

      • محمد محضار
        أديب وكاتب
        • 19-01-2010
        • 1270

        #4
        رب ابتسامة طفل خير من كنوز الدنيا أجمع..ومن يحرم الأطفال من الإبسامة مجرم بالسليقة
        sigpicلك المجد أيها الفرح المشرق في ذاتي، لك السؤدد أيها الوهج المومض في جوانحي...

        تعليق

        • آسيا رحاحليه
          أديب وكاتب
          • 08-09-2009
          • 7182

          #5
          أخي محمد محضار..
          لا أدري لما تذكرت هنا قصة البؤساء لفيكتور هيغو..ربما دقة الوصف التي تميّز بها النص ..أكيد..فقد أجدت وصف مظهر و كذلك حالة مالكة النفسية .
          قد يكون الموضوع مستهلكا و لكنك تناولته بطريقة مشوقة و اللغة كانت قوية . هنا أيضا موضوع الأولياء ..و الإعتقاد الراسخ عند البعض بأن بأيديهم تغيير الأقدار..
          سررت بالقراءة لك.
          تحيّتي و احترامي .
          يظن الناس بي خيرا و إنّي
          لشرّ الناس إن لم تعف عنّي

          تعليق

          • محمد محضار
            أديب وكاتب
            • 19-01-2010
            • 1270

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة آسيا رحاحليه مشاهدة المشاركة
            أخي محمد محضار..
            لا أدري لما تذكرت هنا قصة البؤساء لفيكتور هيغو..ربما دقة الوصف التي تميّز بها النص ..أكيد..فقد أجدت وصف مظهر و كذلك حالة مالكة النفسية .
            قد يكون الموضوع مستهلكا و لكنك تناولته بطريقة مشوقة و اللغة كانت قوية . هنا أيضا موضوع الأولياء ..و الإعتقاد الراسخ عند البعض بأن بأيديهم تغيير الأقدار..
            سررت بالقراءة لك.
            تحيّتي و احترامي .
            رمضان مبارك....سررت بمرورك البهي أيتها المبدعة المتميزة..وسرني رأيك الموضوعي ، البعيد عن المجاملات الزائدة التي لا تجدي ولا تفيد...حفظك الله وجعل أيامك شموسا مشرقة وأقمارا وضيئة
            sigpicلك المجد أيها الفرح المشرق في ذاتي، لك السؤدد أيها الوهج المومض في جوانحي...

            تعليق

            يعمل...
            X