قبر من لحم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مجدي السماك
    أديب وقاص
    • 23-10-2007
    • 600

    قبر من لحم

    قبر من لحم
    بقلم : مجدي السماك
    في البدء كان هدوء ، ليس كأي هدوء ، إنما هو هدوء يشبه الفناء . و الشمس في عليائها متوهجة مشعشعة ملهبة أقاصي الفضاء ، تصب جحيمها على أجساد بشرية حية أنهكتها الدنيا لتشويها بهدوء وتسلقها . والطقس خماسيني مغبَّر . والرئة تبذل قصارى جهدها لانتزاع نصيبها من هواء الأرض الساخن . الرطوبة خانقة مالحة وللنفَّس كاتمة . وسط هذا كله وصلت سيارة الإسعاف ، كنت اسمع صفيرها يوِّن من بعيد .. نعم من بعيد .
    في قاع سيارة الإسعاف جسم ممدود ، هو جسد نسائي يتقلص و يتلوى ، والبطن منفوخ كقبة المسجد بجنين ينتظر الخروج إلى دنيانا.. هي لحظات الطلق . المرأة تصرخ بشدة ، و بشدة تتأوه متألمة و تئن . و الجندي الإسرائيلي على الحاجز يبتسم بهناء بعدما لوَّح بيده إيماءة إغلاق الحاجز.. تتابع وصول أرتال السيارات لتحيط بسيارة الإسعاف من اليمين واليسار والوراء حتى ازدحم بها المكان و ضاق ، كأن القيامة قامت وبعثت السيارات من القبور .
    تمر الدقائق وتتحول إلى ساعات مؤلمة و يزداد الصراخ علوا ، هي لا تصرخ فقط بحنجرتها ، إنما قلبها يصرخ و كبدها ، و الجنين يصرخ ، صرخات وراء صرخات حتى غرقت الدنيا في عباب من صراخ .
    في البداية كانت تصرخ : آه .. ثم : أخ .. ثم : أي .. ثم : آخ .. ثم : وي . ثم صرخة قوية مزلزلة ابتلعت كل الصرخات و الأصوات المحيطة ، هي صرخة جريحة طويلة ممطوطة و مذيلة بآهة خشنة كمواء قطة كسر عمودها الفقري للتو ، أو كأن شفرة سيف تقطع أوصالها .. بينما الجندي يمصمص قطعة بوظة و يلعقها بهدوء و يلحس أطرافها على مهل ، عيناه تنظران إلى الناس و قلبه يرفرف طربا ويتراقص فرحا لصراخ المرأة الحامل .. هل يا ترى ستضع مولودا سعيدا أو شقيا ؟ لا ادري !.. لكني اعلم أن هنا أكباد تمزق وقلوب تتصدع وأجساد تقطر بالوجع .
    ها هي ذي امرأة تترجل من سيارة أجرة مجاورة ، و تخرج منديلا لتضعه في فم المرأة الصارخة خشية قطعها لسانها بأسنانها التي تكز عليها بقوة ، و هي محاولتها الوحيدة للصمود في وجه جحافل الألم المندفعة من أحشاء أحشائها متدفقة كالسيل . هي محاولة لكتم الآهة بالأنّة .
    الجندي ينظر مبتهجا واضعا سماعات رأس صغيرة على أذنيه و يهز رأسه طربا . و الموت يرصد المرأة و يرقبها .. يا الهي!! أسوأ أنواع الموت هو ذلك الذي يتقمص شكل الحياة ، وأسوأ أنواع الحياة هي تلك التي تأخذ شكل الجحيم .
    ها هو ذا زوجها يدعو الله مبتهلا باكيا صارخا متضرعا : يا الله .. يا الله .. يا الله .. نجِّها يا الله .. باسمك و بكل أسمائك الحسنى ادعوك أن تلطف بها ، و بكل الأسماء الحسنى بالكون ادعوك يا رب الأرباب ورب الناس وربي .. اقلبها يا ربي طائرا ليطير من فوق الحاجز.. اقلبها طائرا يا رب العرش وربها .. أعدك يا الله نيابة عنها ألا تطير بعيدا إلى خيام الأنبياء أو شجرة المنتهى .. أعدك و إني لصادق ألا تنقنق شيئا من حبوب الأرض .. لا تأخذها و خذني نيابة عنها يا رب الحكمة والحكماء والحكام ، فوراءها صغار ككومة لحم يا الله .. نجِّها .. ألطف بها .. أو اجعلها تبيض كالطير يا رب الدنيا والآخرة .. سأذبح كل خراف الأرض قرابين إن استجبت .
    الناس واقفة حائرة متأففة غاضبة عابسة صارخة كافرة مؤمنة باكية شاكية .. عيونهم ترنوا إلى الجندي الضاحك يشرب البيبسي كولا و يرتشفها على مهل و كأن الناس أمامه ليسوا سوى صراصير عششت قرب الحاجز و محتم عليه سحقها بعقب بسطاره أو بمبيد الحشرات ، و يطرب للصرخات و كأنها معزوفة موسيقية عذبة لبيتهوفن . شعرتُ كأنه يقول : كتب عليكم البؤس كما كتب على الذين من قبلكم .. لعلكم تموتون .
    فجأة عم الهدوء ليغرق الدنيا .. أي هدوء ؟ ليس كمثله هدوء . هو هدوء الفناء و الموت الكاتم للصرخة و القاتل للآهة و الكاسر للأنة .. ماتت .. مات الجنين ، و لا حاجة لدفنه فقبره لحم أمه الميتة .. أخذ زوجها يصرخ بحرقة قلبه كالمهووس : مات الدنيا .. مات الكون . جاء الموت حضر الموت حل الموت نزل الموت عمّ الموت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت .. ماتت .. قتلت . من يقتل الجندي ؟ أم ليس على الجندي حرج ؟
    Magdi_samak@yahoo.com



    عرفت شيئا وغابت عنك اشياء
  • عادل العاني
    مستشار
    • 17-05-2007
    • 1465

    #2
    هكذا حالنا اليوم , نقتل بكل هدوء ... ولا من محاسب للقتلة ,

    إنه زمن " العهر العربي "

    أحسنت وأجدت

    ولي وقفات هنا :


    كنت اسمع صفيرها يوِّن من بعيد
    ( يون = لست أعرف لها مصدرا )

    والبطن منفوخ كقبة المسجد
    ( كنت اتمنى أن يكون التشبيه بشيء آخر )

    الجندي يمصمص قطعة بوظة

    ( بوظة هل هي كلمة فصيحة متداولة ؟ )

    وتبقى القصة تحكي قهر شعب باكمله , هي ليست امرأة بل كانت امة بأكملها.


    تحياتي وتقديري

    تعليق

    • وفاء
      عضو الملتقى
      • 09-09-2007
      • 98

      #3
      حسبنا الله ونعم الوكيل

      تعليق

      • نزار ب. الزين
        أديب وكاتب
        • 14-10-2007
        • 641

        #4
        [align=center]قصة مؤلمة إيلام كل شيء في فلسطين
        رسمتها يد حاذقة فعصرت القلب و أدمعت العين
        إبداع آخر لمجدي السماك
        دمت يا أستاذ مجدي و دام تألقك
        نزار
        [/align]

        تعليق

        • مجدي السماك
          أديب وقاص
          • 23-10-2007
          • 600

          #5
          مصدر

          اخي الكريم عادل العاني ..تحيتي
          اشكر مرورك الكريم و تفاعلك الجاد مع القصة .. هذا هو حالنا في فلسطين بلا معتصم او ايوبي .
          بالنسبة لكلمة يوّن ـ فأنا مثلك لا اعرف لها مصدر ، لكنها متداولة عند العجائز في فلسطين .
          كلمة بوظة ، هكذا هي شائعة في فلسطين كتابة وقراءة ، لا اعرف باللغة العربية الفصحى كلمة اخرى تفي بالغرض . لم احبذ استعمال كلمة ايس كريم .
          اما بالنسبة للتشبية بقبة المسجد ، فالقبة يا عزيزي شكل هندسي مثل الكرة والدائرة و المثلث ..الخ
          ولا تنسى ان الجنة تجري من تحت اقدام الامهات ..الجنة مقدسة اكثر من المسجد .
          في الحقيقة اني لم ارد ان الجأ الى تشبيه يفقد الوقف طبيعته الحزينة .
          انا احترم رايك واثمنه عاليا ..اتمنى ان تكون انت على صواب .
          دمت بكل خير.
          عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

          تعليق

          • مجدي السماك
            أديب وقاص
            • 23-10-2007
            • 600

            #6
            استاذ نزار المحترم

            اخي المبدع الاصيل نزار ب. الزين
            سعدت لمرورك ..هو الاحتلال الذي يقتل كل شيئ حنى النين في بطن امه .. اانا اعلم ان القصة مؤلمة و لكن يا عزيزي الواقع اكثر ايلاما و حلكة .
            دمت بخير وسعادة
            عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

            تعليق

            • مجدي السماك
              أديب وقاص
              • 23-10-2007
              • 600

              #7
              اختي وفاء

              اختي الفاضلة وفاء ..تحيتي
              اشكر مرورك يا اختي .. قد تكون شدة الى زوال
              تحياتي لك
              عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

              تعليق

              • د. جمال مرسي
                شاعر و مؤسس قناديل الفكر و الأدب
                • 16-05-2007
                • 4938

                #8
                مشهد حقيقي رسمته ببراعة رغم الألم
                فكم من القصص المشابهة و الواقعية نراها يوميا و نسمع عنها تحدث على المعابر
                للأسف .. أ،ها تحدث على بعض المعابر العربية أيضا
                لكم الله يا أهلنا في فلسطين
                و لك الحب أخي مجدي السماك
                تقديري
                sigpic

                تعليق

                • مجدي السماك
                  أديب وقاص
                  • 23-10-2007
                  • 600

                  #9
                  حزن والم

                  اخي الدكتور : جمال مرسي / المحترم
                  اثمن عاليا مروركم الكريم وتفاعلكم الجاد مع القصة .. انا اعلم انها محزنة جدا .. حاولت ان اصوغها بشكل مخفف به جرعة الالم والحزن ، لكني امسكت عن ذلك و قدمتها كما هي ، كي لا العب دور الذي يخفف و يستر الوجه القبيح للفاشية الاسرائيلية .
                  دمت بخير
                  عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

                  تعليق

                  • على جاسم
                    أديب وكاتب
                    • 05-06-2007
                    • 3216

                    #10
                    السلام عليكم

                    اغلب التشبيهات اخي كانت موفقة

                    وفعلا لو استخدمت غير مفردة البوظة وقلت ايس كريم

                    لاصبح هنالك خلل

                    عموما لا بأس بان تكون هنالك بعض المفردات بلهجة البلد اذا كانت تفي بالغرض اكثر من استخدام المفردة الفصيحة

                    سلمت اناملك اخي الكريم

                    تقديري لك

                    تشكرات
                    عِشْ ما بَدَا لكَ سالماً ... في ظِلّ شاهقّةِ القُصور ِ
                    يَسعى عَليك بِما اشتهْيتَ ... لَدى الرَّواح ِ أوِ البكور ِ
                    فإذا النّفوس تَغرغَرتْ ... في ظلّ حَشرجَةِ الصدورِ
                    فهُنالكَ تَعلَم مُوقِناَ .. ما كُنْتَ إلاََّ في غُرُور ِ​

                    تعليق

                    • مجدي السماك
                      أديب وقاص
                      • 23-10-2007
                      • 600

                      #11
                      اخي على جاسم

                      اخي الفاضل علي جاسم
                      تحياتي لك .. اشكر مرورك الكريم .. سعدت لاعجابك بالقصة .. و كلماتك الطيبة التي تدل على تضامنك مع الشعب الفلسطيني المقهور المظلوم .
                      دمت بخير
                      عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

                      تعليق

                      • إسماعيل صباح
                        أديب وكاتب
                        • 16-05-2007
                        • 304

                        #12
                        [align=center]صو رة مؤلمة من صور إرهاب الدولة المنظم الذي يمارسه الإحتلال يوميا على مختلف الحواجز قبل وبعد وأثناء أنا بولس وأخواتها . لكم الله يا أهلنا في فلسطين حتى الأجنة لم يسلموا من البطش الصهيوني الغاشم , وجزيت خيرا أخي مجدي على هذا الرصد البارع لبعض صور معاناة أهلنا جعل الله ما كتبت في موازين أعمالك .[/align]

                        تعليق

                        • مجدي السماك
                          أديب وقاص
                          • 23-10-2007
                          • 600

                          #13
                          اخي اسماعيل صباح

                          اخي الكريم اسماعيل صباح .. تحياتي
                          سعدت لمرورك ومشاعرك الطيبة المتضامنة مع الاهل في فلسطين الحبيبة .. هي صورة من المعاناة اليومية .
                          دمت بكل خير
                          عرفت شيئا وغابت عنك اشياء

                          تعليق

                          • ربيع عقب الباب
                            مستشار أدبي
                            طائر النورس
                            • 29-07-2008
                            • 25792

                            #14
                            كل عصى على كل ، الموت .. الحياة .. التحليق .. الآدمية !!
                            حياة يتريض على أرضها الموت
                            ليل نهار
                            أمام ، و خلف ، و بين البين
                            و الحياة صراع لا قبل لنا به ، نروضها ، و لا تستجيب
                            ننهكها ، و تنهكنا بأسا و موتا
                            تأبى ربيعنا إن حاول العيش و الحياة
                            و تستعصى علينا ، كما أكذوبة
                            من المخاض إلى الكفن
                            حياة .. حياة .. حياة
                            موت .. موت .. موت
                            و بينهما برزخ من وجيع ، و ملح أجاج يحسبه الظمأ ن ريا
                            و يحسبه المتخم ربيعا لصولة مئوية لعالمه الوردى
                            أين نحن ، من هنا .. فى أرض الموت
                            أرض السبايا ، و الجنازات ؟
                            أين .. حين يطلب جنين بحق فى حياة لا بد آتيها
                            آه لو يعلم ما ينتظره ما سعى ، و ما طلب لجؤا على الأرض
                            عشت روعة الألم مع مخاض الموت ، نعم ولدت الموت
                            و خلفته على الجسر ، و كان الجندى خير مساعد لمخاضها
                            حيث هزت جذع رشاشه ، فاساقط عليها موتا !!

                            تحيتى و تقديرى لقلم أحبه
                            sigpic

                            تعليق

                            • م. زياد صيدم
                              كاتب وقاص
                              • 16-05-2007
                              • 3505

                              #15
                              ** الراقى مجدى.....

                              انه قص قوى ومؤثر .. فكرة جدا رائعة من كاتب رائع.

                              تحياتى العطرة........
                              أقدارنا لنا مكتوبة ! ومنها ما نصنعه بأيدينا ؟
                              http://zsaidam.maktoobblog.com

                              تعليق

                              يعمل...
                              X