ثلاثة ياأمينة
قصة : محمد عزوز
يقف في مدخل البيت ، يركن معوله ومجرفته في زاوية باب رتبوا حجارتَه وعتبتَه منذ عمر
بأكمله ، ولم يلبسوه أيَّ حلة ، فاحتفظ بهيكله العام دون أن يغلق في يوم من الأيام …
يقترب أكثر ، وقبل أن تتمنى له العافية ، يصيح بفرح كما الأطفال :
- ثلاثة .. ثلاثة اليوم .. ياأمينة …
تنبسط أساريرها وقد ألفت هذه المفردات منه ، فأعلنت بفرح ظاهر هي الأخرى :
- الله يعطيك العافية ..، ويرحم أموات الناس ..
تتحفز كما العادة لمساعدته في تناول سترة باهتة اللون ، ثم في صب الماء الفاتر على يديه .. ينصاع لرغبتها منتشياً .. ويناولها أوراقاً نقدية ملفوفة بعناية ..
- جاؤوا في وقتهم ياإبن عمي ..
- أي وقت هذا الذي تتحدثين عنه ياأمينة ..؟
أحست أن ناراً في صدره ستشتعل ، فآثرت الصمت ، وتمنت في سرها لويزيد عدد الأموات قليلاً في بلدتهم .. بل في حارتهم ، لأنهم لايستدعون زوجها إلى الحارات الأخرى ، لديهم من يقوم بهذه المهمة هناك ..
شردت قليلاً ، وبعد أن اطمأنت إلى استعادة هدوئه ، قالت :
- هل تذكر أيام الهوى الأصفر ياأسعد ..؟
- الهوى الأصفر .. آخ .. كيف لاأذكر .. مات العشرات من حارتنا وحدها ياأمينة ..
- كيف كانوا يدفنونهم يارجل ..؟
لم يعثر في ذاكرته على جواب مقنع ، فتابعت :
- ماذا لوحدث مثل هذا الوباء اليوم ..؟ إنها وسيلتنا الوحيدة للثراء يارجل .. سنبني بيتاً كبيراً ونشتري .. ونشتري ..
- نعم .. نعم .. سيتسع البيت للجميع .. الأولاد إلى جوارنا .. سيتزوجون وينجبون .. تعرفين (مافي أغلى من الولد غير ولد الولد ) ..
- ياألله .. بيت فيه كهرباء وعليّة كبيرة .. بس كم قبر تستطيع أن تحفر في اليوم ..؟
- خائفة علي .. أستطيع أن أحفر خمسة .. ستة .. ربما أكثر .. حسب الأرض .
- لكنني أذكر أنه في تلك الأيام كان يموت أكثر ..
- بسيطة .. سيكون الله لطيفاً بعباده أكثر هذه المرة …
وقبل أن يكمل عبارته ، فطن إلى طبيعة الحوار الدائر ، فصاح بها :
- الله يخرب عقلك .. ومن سيحمينا نحن من هواك الأصفر هذا ..؟
- أنا لم أقل هوى أصفر .. لأنني أعرف أنه يفتك بالجميع .. مارأيك بشي وباء يقضي على أصحاب الكروش فقط .. هناك داء يرتبط بالبدانة .. سمعتهم يتحدثون عنه بالراديو ..؟
- الأوبئة كلها تنتقل بالعدوى يافهيمة .. ولن نسلم نحن أو أولادنا ..
- لكنهم أكدوا أن المرض يصيب أصحاب الكروش فقط .. إنه لايصيب الفقراء ..
حاول أن يقنع نفسه بفكرتها ، فابتسم ولاح برأسه متمتماً :
- إنها تفصل أوبئة كما تحب وتشتهي ..
في اليوم التالي ، شنف أذنيه منذ الصباح الباكر ، لم ينادوا على أحد ، المئذنة قريبة والصوت سهل الوصول ، لم يطلبه أحد ..
انتظر ساعة ، بل أكثر ، دون جدوى .. خرج على عادته إلى دكان أبي حسين ، هناك تأتيه الأخبار طازجة أول بأول ..
طال انتظاره هناك ..، عاد كسيراً مطأطئ الرأس ، عرفت أمينة أن ملاك الموت بعيد عن الحارة وربما البلدة هذا اليوم ..
لم تتجاسر على سؤاله .. انزوت ، وجهت وجهها صوب القبلة وتمتمت :
- الله يقصف عمر شي واحد .. شي اتنين من أصحاب الكروش .. بس مايكونوا شباب .. ويبعد عنا الهوى الأصفر يارب ..
تعليق