ذبح الموت

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • سمير المنزلاوي
    عضو الملتقى
    • 26-09-2009
    • 44

    ذبح الموت

    في وقدة النهار وصخب الدفن و طنين الذباب الأزرق و شحيج الحمير داهمني شعور أن ما يهبطون به ليس جثة ، إنما هو عبد الهادي المنهمك في حياته الجديدة . القبو القمئ ليس إلا خدعة تصرفنا عن رؤية بساتين و أنهار و قصور و ملائكة . ثمة غراب هبط على نخلة سحوق ثم سألها عن الساكن الجديد،عندما أخبرته هز رأسه قائلا: - سيكون جارا طيبا لك! بضع كلاب يغرسون خطومهم في التراب الناعم الحار و يزومون كأنهم يسمعون ما لا نسمعه. لعلها أصوات من نسميهم موتى ترحب بالراحل إليهم.
    تجار آلات الري و معهم جانب كبير من المشيعين و أعضاء المجالس توقعوا منذ البداية خرقا لقوانين الطبيعة ، إلا أن الرجل سار رزينا غير عابئ بما يدور في عقولهم. حين كان يهل في مدخل أي محل يقف صاحبه ليصافحه ، فاحصا الغنيمة التي قد تكون زبونا أو اثنين برفقته. يسأله بود عن طلبه و يخدمه بنفسه : غبت عنا لعله خير. : الحال واقف ربنا ييسر الأمور . يقول لعماله بعد انصرافه انه وجه السعد و أحد عجائب العرفا التي لا تنقضي: فهي التي خرج أهلها ليحولوا دون هدم هدار حجز المياه و قتلوا خمسة جنود جاءوا لمجاملة ثرى. وفى شوارعها نزف ضابط المباحث– مهران- كرامته لما صفعه العمدة أمام الكل. شهدت غيطانها صراعا محتدما بين البحراوية و الشرقاوية قتل فيه ثلاثون و استخدمت البنادق و المدى و المسدسات و استعين بالنساء كطعم و لم تنته الحرب- رغم تهديد الحكومة بإزالة بؤرة الشر هذ ه - حتى مات معظم الرجال! هي نفسها -ويا للعجب-مقام الصالح محمد وفا و مزار المحبين من أقاصي كفر الشيخ حتى حدود الغربية حيث القلوب واسعة يأكلون و ينامون ويسفحون دموعا حارة لدى الفراق. لا شك أنه يستحق هذا القول ، فلاح بجلابية و تلفيعة يقرأ و يكتب بصعوبة و يقطن بلدا مشاغبا يصير أمهر من المهندسين خريجي الكليات في الفك والتركيب و إصلاح الأعطال دون أن يدخل مليم واحد جيبه!؟ في أيام الشح تخبأ له الكيرلوسكار الهندية ، يقول الصبي : حجزتها لك من شهر . يمد يده في السيالة فيعطيه البقشيش. يقول المعلم : لو سمعت الشركة بدعايتك الجبارة لأعطتك مكافأة ضخمة ! : يا سيدي الأرزاق على الله، ماكينة عفية ، شابة جاموس تحرث و تحلب، الماركات الأخرى مثل ورق السجائر. ! رنات التليفونات النقالة لم تكف ، وصلت دسوق و قلين ، و العزب و القرى و التوابع: هل كان مريضا؟ : كان هنا منذ يومينّّّ! يتأمل الذين لم تسمح ظروفهم بتأدية الواجب وجوه سكان بلده المدبوغة، يسألونهم : صحيح عبد الهادي جمعه مات ؟ : الله يرحمه . تنتابهم حمى المعرفة لكن لا أحد يملك سوى شظايا معلومات ، سقط في الطريق إلى الغيط !.
    يتعلق الزبون دائما بعيني عبد الهادي و حين يلمح فيهما القبول تنطفئ حسرته على رزمة الفلوس التي ابتلعتها الخزانة الفولاذية . يومه يبدأ في الغيط - إذا لم يطلبه أحد - و يظل هناك حتى يسمع آذان الظهر ثم يجلس أمام الدار
    تحت الظلة. تأتيه وجوه غريبة يجرى فيها العشم . يخلع التلفيعة و الجلابية و يبقى بالكلسون و الفانلة ثم يزعق على منصور فيحمل طست الغسيل بين يديه ،
    يقول له بصوت خفيض: هات لترين بنزين
    من حقيبة قماشية تخرج المفاتيح وبينما تجرى الذراعان النحيلتان فوق العدد و الخراطيم تنحل قطعة قطعة و تسقط بصوت مكتوم . يسيل فرحه بالناس أحاديث حلوة يشربونها مع الشاي
    عن أول آلة ركبها أبوه في المبنى الكبير. ينتقل إلى زمن آخر فيلبسه الشباب، وتعلو نبرته. كانت تزفر فيتشمم بشغف الهواء المخلوط بالعبير. لقد ولد و نزل من بطن
    أمه ليكون بجوارها. سنوات مضت ثم تغيرت الدنيا و اشترى العمدة واحدة صغيرة يبرق طلاؤها الأزرق في الشمس . همس لنفسه: معجزة .. لما ألح ابنه لم يجد مفرا من الشراء وترك صديقته في بيتها . الضرة عاشت معه فىالجرن وقال الناس : الزوجة الجديدة لحست عقله! حزن و سهر الليل كله . كلب حي خير من سبع ميت ! التقط هذه الحكمة لا يدرى ممن ! لكن هل ماتت أم حكم عليها بالإعدام ؟. هي التي صنعت منه بنى آدم يتميز على سائر الناس و همست له ساعات الظهر الأحمر بما يسرها و بما يؤلمها: هل تحتاج إلى تزييت ، أو وقود أم أن الشوائب وصلت إلى قلبها ؟ألهمه الله أن يخرط قرصا معدنيا فوق المحرك ليحميه ، و ولد الاختراع في ورشة بهلول ، أخبروه بتهافت الناس عليه و حاولوا إكرامه بمبلغ محترم فقال بانكسار: أنا لم افعل شيئا كله بإذن الله . عثر العيال - في أوان هياجهم - على المبنى المهجور فمارسوا فيه قلة الأدب. خبط كفيه و قال : لا حول و لا قوة إلا بالله ، ثم فك حبيبته القديمة و هدم الجدران ، أنكر على نفسه الراحة التي شعر بها بعد ذلك! . يعود من رحلة الحكايا الحلوة ، ويعود معه الرجال الجالسون على الحصيرة يجذبون منها أعوادا من السمار لتخفيف الانفعال. يمسك القطع بين يديه ويضعها على المشمع، كأنه - بجسمه النحيل ورقبته الطويلة ووجهه المسحوب- كاهن فرعوني شديد التقوى يمارس طقوس العبادة! .
    امتلأ الجسر بالعربات الخاصة و الأجرة و الدراجات النارية و الحمير و الأقدام وراء الذىاستعار موته من موت الآلات الفجائي ، وربت أبناء السوق على كتف منصور ليثبتوا حضورهم !. كان ذلك مناسبة تفلسف فيها المتحذلقون و الوعاظ وأفرغت النساء أحزانهن و تاب الخطاة مؤقتا و ثرثر الأوباش و بلطجية الانتخابات و حكى التجار لصبيانهم وزوجاتهم و عيالهم. يتعين على البلد الكبير المنتفخ بالفقر و العنطزة و عبادة الماضي أن يلقى الموضوع كله وراء ظهره بعد أيام ، و يتأهب لإضافة منصور! وبالفعل خرج الشاب المفجوع ضامرا مكور العينين ليروى ترقيدة الأرز التي نسيت، وأراد أن ينعى جمل المحامل إلى ماكينتة الصامتة ، لكنه قال لنفسه: لابد أنها تعلم وتتألم مثلنا! كانت خواطر مزدحمة عصبية قد مرت في باله و شعر بمرارة في فمه و قلبه .
    انحنى و أدارها بكل عزمه راسما نصف دائرة. لم ينطق المحرك !. ظل باردا لا يبالى . : لم تدر منذ الوفاة لابد أنها تحتاج إلى تسخين. عاود الكرة مرات ، ثم قفز على اللحف النحيل فانزلقت قدمه الحافية و تركت علامات أصابعها. البادرات بدأت تحترق من الشواظ و تطلب المساعدة :- قليلا من الصبر أيها الأعزاء، اننى ادرك حجم المعاناة!، لمعت في ذهنة فكرة الاستعارة ، هز رأسه ليشتتها . ما أن تسمع العرفا عن العطل حتى تستدعى الموضوع لتربط في ذيله الخبرالجديد . سيقلق أبوه وينبض العرق الذي يشبه رقاص الساعة في رقبته و ستعمر القعدات و يقول التجار : كنا متأكدين أن حادثا غريبا سيقع . و سيتسلل الولد الذي يراسل جريدة مجهولة ليصور. عاد بالطست و البنزين و قلع هدومه و لعبت أصابعه في بطن الحديد حتى امتلأ الوعاء ، سآتي بعد العشاء هادئا و أركبها! .. تعشى ورد على سؤال أمه :- سقيت؟
    :- من الصبح! خرج إلى الجامع ، جلس بعيدا عن حلقات المنتظرين . رذاذ كلماتهم - عن صنعته و كيف يمكن أن تدر ذهبا– أصاب أذنيه! كان يخشى أن تنمو حماستهم إلى حد السخرية من والده الدرويش ، وقتها لن يكون المؤدب الساكت ، سيضرب الجعيص فيهم بالجزمة! أنقذه الآذان و وقف يحاول أن يخلى قلبه لله ، تسارعت شفتاه ترتلان و تبعدان به عن الجامع و العرفا . ختم و استغفر و خطف السكة إلى الغيط حاملا الكلوب. كان ملآنا براحة الصلاة ، و بهجة الموسيقى تعزفها جوقة الضفادع ، لم يسمح للكلام المسروق أن يفسد سروره . كان على بعد خطوات من الجرن ، سمع صوتا جعله يجفل و يلتفت في ذعر : يا الهى !. تهاوى إلى الأرض لا يشعر بجسده ، كان أبوه بالكلسون و الفانلة منحنيا يديرالذراع فتطقطق الماكينة عدة طقطقات يعقبها الهدير،ثم شلال المياه.
    التعديل الأخير تم بواسطة سمير المنزلاوي; الساعة 26-04-2010, 12:55.
  • عبد اللطيف الخياطي
    أديب وكاتب
    • 24-01-2010
    • 380

    #2
    استمتعت بقراء نص قصصي جميل و مختلف من حيث اشتغاله على المحلي على مستوى الاجتماعي، المكاني والمفرداتي أيضا... لعلها المحلية التي ـ كما يقال ـ تعبر بالكاتب نحو العالمية ...
    أحتاج لأن أقرأ النص مرة ثانية ، كما أجد لدي الرغبة في قراءة نصوص أخرى للكاتب

    تحيتي
    [frame="2 98"]
    زحام شديد في المدينة.
    أما الوجوه فلا تعكس سوى الفراغ المهول
    [/frame]

    تعليق

    • عائده محمد نادر
      عضو الملتقى
      • 18-10-2008
      • 12843

      #3
      الزميل القدير
      سمير المنزلاوي
      لا أدري إن كنت قد دخلت إلى عمق النص أم أني بقيت على الهامش
      أتصور ذلك
      هي رؤية فلسفية لمجموعة رجال لهم قدرات محلية ورؤية لموت غريب !!
      لا أدري
      أتصور بأني مشوشة
      أعتذر منك
      تحياتي ومودتي لك
      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

      تعليق

      • ربيع عقب الباب
        مستشار أدبي
        طائر النورس
        • 29-07-2008
        • 25792

        #4
        وقتها لن يكون المؤدب الساكت ، سيضرب الجعيص فيهم بالجزمة! أنقذه الآذان و وقف يحاول أن يخلى قلبه لله ، تسارعت شفتاه ترتلان و تبعدان به عن الجامع و العرفا . ختم و استغفر و خطف السكة إلى الغيط حاملا الكلوب. كان ملآنا براحة الصلاة ، و بهجة الموسيقى تعزفها جوقة الضفادع ، لم يسمح للكلام المسروق أن يفسد سروره . كان على بعد خطوات من الجرن ، سمع صوتا جعله يجفل و يلتفت في ذعر : يا الهى !. تهاوى إلى الأرض لا يشعر بجسده ، كان أبوه بالكلسون و الفانلة منحنيا يديرالذراع فتطقطق الماكينة عدة طقطقات يعقبها الهدير،ثم شلال المياه.

        هنا كانت القفلة القوية ، التى اختلجت لها الجوانح ، و كانت تحمل كل السحر
        و القوة التى عهدت المنزلاوى يفعلها !
        لكن كيف هان عليك كل هذا الزخم ، و هذه الأرصدة الماتعة ، فى وضعها فى سياق عمل قصصى ، صغير و ضيق و بهذا الحجم ؟
        أتساءل ، و سأظل .. ربما هنا أتفق مع مع الدكتور مدحت الجيار بخصوص
        مواد أعمالك القصصية التى تكفى لعمل روائى خطير !!
        شدنى أمر فى مبتدأ الحديث ، وهو أنسنة الحيوانات ، و الإصرار على هذا ، و لا أدرى .. أمقصودة هى .. أم أنها أخذت شكلها هكذا و بكل بساطة ؟!

        هى تجليات العرفا و الدرويش ، و هذا الخلط المحبب الجميل بين العامية و الفصحى ، دون خلل ، أو تعويق !!

        شكرى و احترامى أخى الجميل سمير
        sigpic

        تعليق

        • سمير المنزلاوي
          عضو الملتقى
          • 26-09-2009
          • 44

          #5
          صباح الربيع

          فتحت عينى على ردك يا ربيع العزيز الباذخ
          أنا ذبحت الموت كله: ظاهره و باطنه، فنطق الجميع من أول سطر و حتى النهاية ، الغراب والمقبورون و الكلاب و الماكينة و البادرات ، ثم كانت القيامة ، هلم خارجا يا عبد الهادى !انطلق أيها الشلال و لتسقط البرازخ المراوغة ، غرقت مرة فى ترعة بلدنا و أنقذنى فلاح لا يسرح فى مثل هذا الوقت . كلما استرجعت اللحظة أفرح بالنجاة ، لكن صوتا يرن فى أذنى: - من قال انك نجوت يا عم سمير ؟ انك مت وشبعت موتا! صباح العرفا يا ربيع و صباح الحب و الخيال على عيونك الطيبة و سمتك الرائع !أوحشتنى.

          تعليق

          • سمير المنزلاوي
            عضو الملتقى
            • 26-09-2009
            • 44

            #6
            اى عائدة

            سلام عليك يوم قرأت النص ، و سلامتك من التشوش ، و لا بأس من عودة . مودتى

            تعليق

            • محمد سلطان
              أديب وكاتب
              • 18-01-2009
              • 4442

              #7
              [align=center]كنت هنا مع حكاية من قلب الأم .. التي أنجتنا وأبعدتنا ..
              أنا هنا في تيار جارف نحو الغيب اللامعلوم .. وأنت هناك
              في رحاب المرسي تارة .. وتارة في رحاب المرشدي .. والخوارق .. !!

              القباب ما هي إلا أشكال نبنيها لنحط فيها ليس شخوصاً فحسب .. بل تراث ..
              نغلق عليه فيخرج كي يلاحقنا .. لا يترك لنا رقبة ..
              في الحلم و العلم يعاد تكوينه و يُصاغ وفق مخيلتنا .. نحن !!
              لابد من خلاص!! .. فالصور تداخلت واختلطت الألوان .. هو وعبد الهادي ..
              وترقيدة الأرز و الآلة الهندية .. إذن لا خلاص مادام الأمر دخل في حيز الخوارق و التحقق .. !!
              هي رحلة عودة ورجوع , لكن أكان حنيناً أم ذبحاً بمدى الروح المتعلقة في هذا المتجسد بشحمه ولحمه ..؟
              عميقة وأرهقتني .. لكن كما قال أبو أحمد .. زخم وفير متزاحم .. و زحمة أرواح تحتاج للمزيد ..
              وروقان بال من الكاتب كي يخرجها في فصول طويلة وعريضة ..
              ففي رأيي أن مسمى القصة القصيرة ظلمها فحكمك أن تصيغها دون أن تُخرج كل طاقتك ..
              رغم طولها المضبوط على أساس إخراجها بهذا الشكل بعد أن فاضت روحك وأخرجت الكثير ..
              وبحنكتك الأدبية و مهنيتك القوية شكلتها أدبياً بما يرضيك أولاً ويرضي قارئك ..
              فتصورتها رواية كبيرة تحتاج لمزاجك الذي أعرفه حينما تريد أن يكون العمل ..
              محبتي لك يا غالي وللمرسي أبو العباس الذي جاورته فأشعل الروح جمالاً ..[/align]
              صفحتي على فيس بوك
              https://www.facebook.com/profile.php?id=100080678197757

              تعليق

              يعمل...
              X