تويت
____________
حينَ امتدَّت يدُ والدته الحنون ذاكَ الصباح لتوقظهُ مداعبةً خصلاتِ شعره القصير ,أرسلت حرارة جبينه رسالة مفادها أنَّ الطفل ابنَ الثالثة عشرةيحتاج إلى طبيب .
أكَّدَ الطبيبُ بعدَ الكشفِ والتحاليل, أنَّ الصغيرَ يعاني من أعراضِ مرض الملاريا الَّذي تسبِّبهُ لسعات حشراتٍ طائرةٍ صغيرةٍ تدعى البعوض , تعيشُ على المياهِ الراكدةِ وفي المستنقعاتِ,لذا فهوَ يحتاجُ للعلاج بالأدوية المناسبةمعَ راحةٍ تامَّةٍ في السرير.
*********
في ذاك الصباح تسلّلت أشعّةُالشمس الربيعية ,تدغدغُ أجفانَ(حيَّان )لتنسلَ آخر خيوط المرضِ التي خاطت جفنيه زمناً,فنهضَ من فراشهِ وهوَ ما يزالُ في فترةِ نقاهةٍ,يتمطّى , وقدأثقلت خطاهُ آثارُ الإعياء, محاولاً الإمساك بها قبل أن تفرَّ من بينِ أصابعهِ,فطاردها نحوَ النافذةِ المفتوحةِمستقبلاً نسماتٍ أنعشت ذاكرته و زكمت أنفَهُ بما حملته من أريجِ أزاهيرَ استنشقها بشغفٍ ظانَّاً أنّهاهديةَ من بستان منزله تعبيراً عن فرحتهِ بشفاء صديقه الذي اشتاقَ إليه كثيراً,و لم تكد أحاسيسهُ تتصاعد متحرِّرةَ من سجن الإرهاق ,حتى وجدَ نفسه بينَ ذراعي والدتهِ التي سبقت الأرضَ لا حتضانه بعدَشعوره بالدُّوار.
*********
نظرَ إلى أمِّه واحتضنَ يدها مقبِّلاً ,شاكراً عنايتها ,في الوقت الذي كانت اليد الأخرى تقدِّم له كأساً من الماء مزجت فيه بعض الأدويّةِ المقويَّة لتساعدهُ على استعادةِ عافيتهِ ونشاطهِ سريعاً,ولترسم على محيّاهُ البرئ علاماتِ تعجُّب واستفهام لا تكادُ تفسيراتُ أمّهُ تمحوهاحتىّ تعودَ فترسمها حزناً في ثنايا نفسهِ من جديد.
*********
لم يكد (حيّان) يستردُّ نشاطه ,حتى خرج إلى بستانه يتفقَّدَ شجيرات الليمون ,وشجرة البرتقال قرينته التى غرسها والدُهُ يومَ مولدهِ تيمُّناًبقدوم ابنه البكر .
في اللحظة نفسِهاِالتي كانت فيه عيناهُ تجوبان المكان بحثاً عن النحلات وعن الزهورِ والأعشابِ مصدر الرحيق ,رزقها الذي تجمعُهُ لتصنع منه العسل مؤونة للشتاء ,تطعمُ منه صغارها وتقدِّم ما تبقَّى هديةً لحيّان وأهل بيتهِ.
راعهُ منظر البستان الذي أكَّدَ كلامَ والدته, وإجاباتها ,عن اسئلته واستفساراته والتي دارت بمجملهاحول علاجهِ الذي طالَ أكثر من اللازم سيّما وأنَّها كانت دائماً تستنجد بمغلي الأعشاب والأزهار المحلَّى بالعسل,أوكأسٍ من عصير ثمار البرتقال والليمونِ , إلى جانب الدّواء الذي يصفه الطبيب ممَّا يسارع بشفائه ويقلِّص فترةَ نقاهتهِ.
*********
كانت شجيراتُ الليمون وشجرةُ البرتقالِ تستقبلُ ابتسامةَ صديقها حيَّان الحزينةَ بعيونٍ قريحةٍ فقدت بريقها وأجسادٍ رماديةٍ شاحبةٍزالت نضارتها وحيويتها بعدَ أن تهلهلَ ثوبها الأخضر الموشّى بالأزهار والثمار وبدت كمن يفارق الحياة, في حين أنَّ الأعشاب والحشائش والورود الزاهية الألوان لم تكن أحسنَ حالاً .
أصاخ حيّان السمعَ يريدُ أن يمتّعَ روحة المتعبة بموسيقا جوقة البستان أليفَة نفسه, لكنّ أذنيهِ لم تسعفاهُ لالتقاط زقزقةِ عصفور ,
أو خريرِ ماءٍ,أو صياح ديك ولا صوتِ نحلٍ .حتى الضفادع التي كانت تنقُّ وتنقُّ لدرجةٍ جعلتهُ يضجرُ منها فيلتقطها من الساقية ليرميها بعيداً خارجَ سورِ البستان لم ير أثراً لها.
*********
أطلقَ حيّان ساقيه للريح ينهبُ الطريقَ الترابيَّ الذي يتلوّى عبرَمجموعةٍ من البساتين نهباً ,برفقةِ كلبهِ الوفيِّ (حارسِهِ الأمين), كانَ يركضُ ويركضُ دونَ توقف, تدفعُهُ طاقةٌ هائلةٌربََّما استقاهامن خيالاته التي تتأرجحُ بين كلام والدتهِ حولَ المبيداتِ الحشريةِتُرَّشُّ بها البساتين المجاورة في منطقتهم مع بستانهم,للقضاءِ
على بعض الآفات التي أصابت أشجار الحمضيَّات ,وبينَ إحساسه بالألم لمشهد البساتين الجرداء القاحلة .
زفرَ زفرةً خرجت معها مبرِّرات وأعذار غير مقنعة لما آلت إليه حالُ تلك الرياض الرائعة.فالقضاء على الذُبابة البيضاء مسبِّبة المرض, أهلك معها النحلات وهيَ تزور زهر الليمون أيضاً , في حين أنَّ الصيَّادين أبادوا الطيور التي تأكلُ الدّيدان المسببة لهلاك شجرِالزيتون .
وصلَ إلى أطراف ِالغابةِ البكرِ فتوقَّفَ يلتقطُ أنفاسَهُ المتلاحقة و ارتاحَ قليلاً مستنداً إلى صخرة,مستسلماً لرقاد لذيذٍ حالمٍ .
**********
دغدغت مسامعَه ألحانٌ عذبةٌ .تهمسُ طالبةً منهُ الاستيقاظَ القسريَّ برقَّةولطف,نهضَ متثاقلاًمتثائباً يتمطّى,وهوَ يتتبّعُ مصدرَ الموسيقا. ويدقّقُ في النبرات المتصاعدة ليعرفَ إلى من تعودُ أوتارُ آلاتها الرنَانة ,كانَ أولَ ما عرفه صوتٌ شدّ ما مقتهُ :
أنا الضفدعُ النّقّاق
أغنّي,أصدحُ قافزاً
على نبات الماء الرقراق
ألتهمُ وجبتي الشهيّة
كلَّ حين
من البعوض الغدَار
الذي يحرمُ صديقي الإنسانَ
النومَ في الليل والنهار
ثمّ ميّزَّ صوت نقّار الخشب:
أنا للخشب نقّار
طعامي الديدان الأشرار
وجبتي الشهيّة
للأغصان الصغار والكبار
هديّة
كي تستعيدَ نضارََتها
أمّهاتها الأشجار
عندها يلتّمُّ شملُ
أصدقائي الأطيار
متّحدين
لا نخشى الصيّادينَ
في الليل والنهار
شاركهُ النحلُ :
نحنُ النحلاتُ النشيطات
نزورُ كلَّ يوم
زهرات البساتين الجميلات
نرشفُ منها الرحيق
نصنعُ عسلاً
لصغارنا والملكات
يشفي صديقنا الإنسان
من كلّ العلّات
يتناولُهُ حلوى لذيذة
في أحلى الأوقات والمناسبات.
انضمَّ حيّانُ إليهم صادحاً:
مرحباً أصدقائي
سكّانَ الغابة الأحباب
اشتقتُ إليكم كثيراً
بعدَ طول غياب
هيّا إلى البساتين
نقفزُ ,نمرحُ ,نغنّي
نلعبُ أحلى الألعاب
نملؤها حياةً
أشجاراً أزاهيراً,بهاءً
جمالاً يعلو فوقَ السحاب.
**************************
تعليق