" تقنيات السينما في أسلوب عائدة محمد نادر "
[align=right]
الصورة هي أول شئ لجأ إليه الإنسان البدائي للتعبير عن نفسه وعن أفكاره والدليل على ذلك أن أول الحروف الهجائية في اللغة الإنسانية الأولى اتخذت شكل صور الأشياء والطيور والحيوانات المحيطة بالإنسان الأول في لغات الشرق القديم ، ثم بدأ يتطور استخدام الصورة ، حتى أصبح العمل الإعلامي لا يخلو منها ، بل أن الصورة بحد ذاتها أصبحت تغني أحياناً عن الخبر .
وللصورة طابع رمزي اختزالي ، فما يقوله السرد في صفحات ، يمكن للسينما أن تقدمه في مشهد سينمائي واحد ، وكما كان السرد البناء الأساس في العمل السينمائي ، والقصة هي الأساس الذي يبنى عليه السيناريو ، فقد كان للسينما تأثيرها العكسي ، في بناء المشهد القصصي ، واستخدام تقنياتها كأسلوب من أساليب القص ، والانطلاق بعين السينما لرؤية المشهد /القصة من زوايا عدة ، باستخدام حيل سينمائية ألفناها في السينما حديثاً وصارت مألوفة في القص .
يقول أحد الروائيين :
الرواية هي أداة السينما الأولى بسبب قربها من ذلك الفن، وليس لفرط سهولتها
يذكر محمد شويكة عن السنيما أنها : "تتقاطع مع مجموعة من الحقول المعرفية التي يغلب عليها طابع السرد كالرواية والمسرح والقصص الشفهية الشعبية...التي تعتمد على خصائص الحكي كالزمان والمكان والحدث والعقدة والشخصيات...إن الفيلم السينمائي نوع من الحكي يقدم نفسه عبر تسلسل من الصور. يكون المتفرج أمام واقعة معينة في زمان ومكان محددين وأمام أشخاص يخلقون الحدث ويساهمون في تطويره وتعقيده وحله...عبر لغة سمعية بصرية خاصة "
ويقول الأستاذ : ليث الربيعي :
"أما الحكائي فهو فوق سينمائي ما دام يتضمن المسرح والرواية والسينما والأحداث اليومية، أي أن أنظمة الحكي ظهرت قبل وجود السينما، فالسينمائي إذا خاص، تقني، نتج عن التطور التكنولوجي، أما الحكائي فهو عام، سابق، متعدد، إنساني، حاضر في كل الأزمنة والأمكنة، أي انه عبر تاريخي وعبر ثقافي "
سنحاول في قراءتنا لقصص عائدة نادر رصد تجليات الصورة السينمائية وتقنياتها في أسلوب وسرد الأديبة .
1. الكاميرا الثابتة / غير المتحركة .
استعملت عائدة نادر تقنية الكاميرا الثابتة / الكاميرا القلم لنقل بعض المشاهد التي تعتمد بشكل مطلق على الوصف ، يتراوح الوصف البصري بين نقل صورة المكان والأشياء وملامح الشخصية .
"كان المنزل صغيرا بكل تفاصيله, وله نوافذ من كل جوانبه , الطابق الأرضي فيه غرفةنوم وصالة متوسطة, ومطبخه كان حقا رائعا تطل نافذته الواسعة على الحديقة الصغيرة, التي عمتها الأدغال حتى بدت وكأنها غابة موحشة, الطابق العلوي يحتوي على غرفة نوموحمام," قصة أشباح .
تشعر حين تسمع الوصف-المشهد ، المنقول بعين الراوي ، أنك أمام مشهد ما ، ثبتت فيه الكاميرا على نقطة بعينها ، تضخم لك بعدسة مكبرة هذا الوصف تكبيراً متعمداً .
"دارت في الغرفة عدة دورات و هي تترنح!
افترشت الأرض تنظر تحت السرير بلا وعي،والدوار يؤرجحها وما أسعفتهاحفنة الضوءالمنبثقة من خلف ستارة الغرفة، أن تجد لها أثرا.. وما أسعفهابحثها !
أرعدت السماء وأبرقت تنذر بليلة شتائيةقاسية، فانتابتها نوبة من القلقعلى ابنتها،التي ترهب غضب الطبيعة، وثورتها.
بحثت ملتاعة بأرجاء المنزلالغارق في الظلمة والسكون المطبق، إلا من صوت الريح، والمطريضرب زجاج نافذة المطبخالمفتوحة، تتلاعب بهفتصدر أنينا يخترقه صفير الرياح " قصة : ليلة مناسبة للشياطين.
هذا الوصف يبدو متأثراً بتقنية الكاميرا التي تستعمل في مشهد كهذا وهو ما يسمى بـ " اللقطة العامة "
كما أن الديكور يبدو واحداً في المشهد ، الغرفة الغارقة بالظلام – السرير .
والجو العام المحيط بالمشهد /المؤثرات : المطر والرياح والرعد والبرق .
وصف كامل لليلة شتائية بامتياز .
وهو ما يسمى ب " اللقطة الكبرى "
تقرب هذه الكتابة للقارئ بشكل أكثر موضوع الوصف ، أجزاء المشهد ، التي تبدو متكاملة ، مركزة على موضوع واحد : هو حال الطبيعة : في اللقطة الكبرى ، وصورة البطلة وديكور المشهد ، في اللقطة العامة .
كذلك تركز عائدة على صورة واحدة مكبرة ، مستخدمة التكبير ، التقريب بالكاميرا ، لتضخيم مشهد واحد –صورة واحدة ،
"أزحت الغطاء متعمدة أن أعرضه للبرد ، فانكمش جسدهبحركة لا شعورية ، متخذا وضع الجنين؛ وأنا أمعن النظر في وجهه ، أحاول ان أستشف منهالبراءة أو الذنب الكبير ، أبحث عن آثار أمسية ضاع أثره فيهامني!
أشم رائحة ملابسه ، أبحث عنبقايا عطر ، أو شعرة التصقت " قصة : خيانة .
التركيز على صورة واحدة في المشهد : الزوج ، والوضع الذي اتخذه كجنين ، تقريب الكاميرا على هذه الزاوية ، للدلالة على براءته الظاهرية ، التي تظهر من خلال عين البطلة والكاميرا على حد سواء .
تسمى هذه التقنية في السينما ب " اللقطة الكبيرة جداً " أو اللقطة التفصيلية .
"جذلة, نشوى, بشعرها الطويل, المتموج, يسابق الريح..
يتطايرمع نسمات الهواء, كلما أسرعت خطاها, وترده عن وجهها بخفةورشاقة " قصة : ريعانة
يبدو تأثر الكاتبة بالسينما واضحاً هنا ، في هذا الوصف المتمازج مع روح السينما ، فهو المشهد الحكاية ، الذي يرسم معالم البطلة من بعيد – عبر تركيز متعمد على أحد معالم جمالها ، وهنا كان شعرها ، وجزئية الريح ، تأتي مع جو المشهد ، لتعطي بعداً آخر للمشهد ، من حيث تأثير حركة الريح على شعرها وجمالها ، ومن حيث الوصف الكامن خلف هذه الحركة ، تلك الريح التي تدل على حركة القلوب المحيطة بالعنصر الذي يتم تصويره .
ضبط حدود الاطار :
وهو باختصار ، ما تركز عليه الكاميرا بصورة أساس ، وما يجري في العمق ، خلف المشهد ، قد يلتزم المشهد بالاشباع ، كأن يكون المشهد الأساس يدور في العمق ، أو التخفيف ، كأن تدور أحداثاً بعينها ، لها علاقة بالحدث الرئيس ، في خلفية الصورة .وهو ما نجده في أسلوب حدقة الوجه لدى جريفث : حيث تعزل الصورة وجهاً ثم تتفتح لتظهر ما يحيط به .
"نهضت تنهمر دموعها الغزيرة على خديها, صعدت سلالم البيت.
نهضت والدتها صباحا, فتحت شباك نافذة المطبخ التي تطل على الحديقة؛ فغرت فمها دهشة؛ تنظر!!
كانت أشجار الحديقة مليئة بأشرطة خضراء؛ تلاعب النسمات ؛ ترفرف " طائر يخترق الشمس
نلاحظ هنا أن المشهد قد تماهى مع أسلوب ضبط الاطار بالاشباع ، فكان الحدث الرئيس ، ما يدور أمام الأم ، من النافذة . حركة الأشرطة التي تتطاير ، وتلاعب النسمات .
2. الكاميرا المتحولة/ المتجولة .
عين الراوي هنا ، تتحد مع عين الكاميرا ، لنقل مشهد ما :
"أسراب الطائرات كانت اليوم مختلفة, فهاهو سرب كامل يهز أجنحة طائراته, يميناوشمالا, وحسناء تراقبها, بدهشة, وتساؤل, وابتسامة أقرب للبلاهة تغمرها, فقد اتفقرفاقه أن ينفذوا مقلبا, يمازحونه فيه, وحبيبته البصرية, وحين ترجل ورفاقه منطائراتهم, تفرقوا يتراكضون, يفردون أيديهم ويتمايلون مقلدين حركة طائرته, هاربينمنه, ومخلد يلاحقهم, بخوذته ليضربهم فيها, لأنهم أفسدوا على حبيبته متعة مشاهدته, وهو في أعالي الجو, وضحكاتهم المجلجلة النابعة من القلب تملأ, أرض القاعدة الجوية, بمرح الشباب وحيويته, بالرغم من الحرب, وشبح الموت الذي يطل عليهم, في كل طلعةجوية." قصة : طائر يخترق الشمس .
نلاحظ هنا انصهار عين الراوي والشخصيات والكاميرا في عين واحدة ، تنقل لنا مشهداً متحركاً بالكاميرا المتجولة " والتي تسمى في اللغة السينمائية ب(Travelling) .
الكاميرا الثابتة التي تتحرك على قاعدة ، تماماً كما نراها تتحرك في مشاهد ما وراء الكواليس تتابع حركة سرب الطائرات ، وترجل البطل منه ، هو ورفاقه ، تمضي معهم في ذات الممر ، بصورة جانبيه ، ترصد ممازحاتهم ، باستخدام تقنية ال Zoom وتقريب المشهد الذي كان بعيداً عندما بدأت حركة سرب الطائرات .
يبدو كذلك استخدام تقنية التقريب ، واضحاً في المشهد –الحكي التالي :
"أرادت أن تصرخ بعلو صوتها, وهي ترتعش, لكنها تنبهت إن الرجل النائم يحتضن صورةالزفاف التي رأتها, وأن ملامحه ليست غريبة عنها , أمعنت النظر بوسع عينيها بوجهه, فوجدته ملتح وآثار التعب والوهن بادية على محياه, لكنه يبدو مسالما وليس شريرا علىالإطلاق, أخذت شهيقا عميقا ونظرت إليه مرة أخرى, فغزت قلبها شفقة على هذا الرجلالغريب, وهو يفترش أرض غرفة النوم, ولم ينم حتى على السرير, وملامحه الهادئة توحيبالسكينة والسلام" قصة : أشباح .
فالكاميرا التي رصدت حركة الرجل ، ثم صورة عامة له ، بدأت في عمل صورة مكبرة ، زووم لذات الرجل ، مقربة المشهد من ملامحه ، اللحية ، آثار التعب التي تبدو على محياه ، بالاضافة الى صورة عامة – مشهد عام لذات الرجل ، وهو يفترض أرض غرفة النوم – مكان الحدث .
3. المونتاج :
هو العنصر المميز للغة السينمائية ، وهو ببساطة الطريقة التي يتم بها ترتيب المشاهد واللقطات لكي يخرج لنا العمل بصورته النهائية ، ارتبط اسم المونتاج ب " غريفث " الذي استخدم أسلوب الانقاذ في آخر لحظة والذي تطور كثيراً ليزداد التشويق والاثارة في كل لقطة وعبر تسارع الأحداث . يمكن القول ببساطة أن الكاميرا قبل " غريفث " كانت ثابتة لا تتحرك .. ثم جاء هو و" أيزنشتاين " ليضيفوا أبعاداً حركية تختلف ، نقل الحركة بكل تفاصيلها من الورق الى العمل .
"انتزع العصابة السوداء من عينيه بعجلة.. ليجد نفسه أمام رجل يحمل غدارة سوداء.. وأربعة آخرين مدججين بالسلاح يحيطون فيه من كل جانب.
صعق لمرآهم, غزاهُ الشعوربالغبن.. أحس بالغضب يكتسح كيانه.. والحنق الشديد يملأ صدره.. مزق قميصه المغطىبالدم؛ يعرض صدره أمام الرجال يتحداهم.. صرخ بصوت هادرٍ يعلن العصيان:
- هيا.. اقتلوني.. ماذا تنتظرون !؟ لقد سئمت هذه اللعبة القذرة.
نظر الرجل إليه.. وظلابتسامة تعلو محياه الرزينة.. وهو يقول:
- المعذرة.. دكتور.. جئتك ورفاقيمنقذين.. لسنا قتلة أو مجرمين.. حمدا لله على سلامتك" قصة : محاولة اغتيال
طريقة المونتاج المستعملة في مشهد ما ، تعتمد على سرد حركة معينة بواسطة ربط مشاهد متعددة تعطي في النهاية مجموع ما له معنى ، بحيث يؤدي كل (Shots) دور محدد ، لا ينفصل عن الذي يليه .
اللقطة الأولى : صورة الرجال المسلحين- المقنعين ، الذين يحيطون بالبطل
اللقطة الثانية : غضبة البطل – تمزيق القميص – الصراخ وقوله لهم " هيا اقتلوني .. ماذا تنتظرون "
اللقطة الثالثة : ابتسامة على وجه أحد الرجال . تغير في الجو النفسي العام الذي كان مشحوناً منذ بداية الحدث . ثم قوله : المعذرة يا دكتور .. جئتك ورفاقي منقذين .
جاء تأثر الكاتبة واضحاً بأسلوب الفلاش باك ، الذي يستخدم في وصفة المشاهد السينمائية معتمداً على تقنية المونتاج ، ترتيب المشاهد بأسلوب يمنح الكاتب –المخرج توضيح رؤيته في اللحظة المناسبة .
"أكان ذاك الشتاء قارصا..؟ وهما يجلسان تحت المظلة, تلتهم عيناهما انهمار المطر؛ وزخاته تتراقص فرحا بهما, يوم سألها, هامسا.. ويدهالدافئة تمسك يدها..
- أتحبين المطر حبيبتي؟!!." قصة : أتحبين المطر
ثم في نفس القصة :
المشهد التالي من حيث الترتيب الزمني ، السابق من حيث ترتيبه في السرد :
-" أمازلت تحبين.. المطر!!؟
سألها, وعيناه تتفرسان وجهها الصبوح الذي تألق توهجا, بانسياب ضوء النهار الخجل المتدثربالغيوم؛ وهو يطل من نافذة الصالة.. وحبات المطر تنقر زجاج النافذة برقة, ففتحت أبواب ذاكرتها الموصدة, على مصراعيها .."
****
أحمد عيسى
[/align]
- مدخل الى تقنيات السينما : محمد زغبي
- العين الساردة : نبيل درغوث
- "الصورة السينمائية: التقنية والقراءة" محمد اشويكي
- قصص الأديبة عائدة محمد نادر: الشبكة العنكبوتية .
تعليق