كثيرًا ما حاول الابتعاد عن تلك الأماكن التي تعجّ بالضوضاء والفوضى، رغم أنّ بعضًا منها يستدعي تواجده فيها، فالواجب الوطني، أو الديني، أو حتى الإنساني يتطلّب من الإنسان أحيانًا أن يكون في وسط تلك الأماكن ليقوم بواجبه في شتى المواضيع المطروحة على بساط البحث، وتبعًا لما يمليه عليه ضميره ومبادئه، لكنّه وبعد كلّ مراجعة لما يدور من حوله يجد نفسه أحيانًا مضطرًا للابتعاد رغمًا عنه، فثمّة محبطات كثيرة وقفت في طريقه أثناء تصديه لمعظم الأمور تتطلّب منه أنْ يقول فيها كلمة حقّ لوجه الله تعالى لا يخشى فيها لومة لائم.
"الابتعاد أفضل، نعم أفضل بكثير، وهناك وسائل وطرق أخرى للعمل، ومن دون الدخول في وسط كلّ هذه الحشود التي تتسبّب بكلّ هذه الفوضى " هكذا أخذ يحدّث نفسه فيما هو يسير بخطىً متثاقلة نحو بيته، فقد عاد لتوه من انتخابات اتحاد الطلبة، وتعرض لهزيمة كبيرة هو وأصحابه، وفاز الطرف الآخر، لا بسبب من عدالة توجهاته، ونظافة مبادئه، بل بسبب من تلك التدخلات الخارجية من قِبل جهات كان يهمّها أنْ يفوز لكونه يمثل قناعاتهم، على حساب طرف آخر يرى أنّ هذه القناعات لا تخدم قضيّة الوطن والمواطن، فعملوا على شراء الذمم، وتآمروا من تحت الطاولات وبسريّة مفضوحة للجميع، إضافة إلى بعض حالات تزوير واضحة، لم تكلّف لجنة الانتخابات نفسها بالنظر فيها، فكان لهم ما أرادوا.
كان يمشي والأفكار تتطاحن في رأسه، فتذكّر كلام أستاذه "يا بنيّ : الوطن يحتاج إلى من يعمل له بإخلاص، وخسارة معركة لا تعني خسارة حرب" لكنّه لم يحتمل، فصرخ بأعلى صوته غير عابئ بالنّاس من حوله " هذا كلام فارغ، لمَ لم تأت إذن، أين ذهبت، هل خشيت على وظيفتك، شعاراتك كلّها فارغة "، ثمّ تابع مسيره نحو البيت، والنّاس تتلفت نحوه باندهاش كبير.
ما إنْ وصل البيت حتّى جلس أمام جهاز الكمبيوتر، وفتح بريده الالكتروني، وتفقد رسائله، لم يجد أيّة رسالة جديدة، ففتح المسنجر، فإذا بصديقه تامر وقد وضع أمام اسمه كلمة "بالخارج" فقرّر أنْ ينتظره ليسأله عمّا حصل في الانتخابات، وعن أسباب خسارتهم لها، جلس طويلًا لكن من دون جدوى، فقام ليجهز طعامًا يسدّ به رمقه، رغم أنّ نفسه لم تعد تطلب الطعام، لم يمض وقت حتّى رنّ هاتفه الخليوي، تفحّص الرقم فإذا به تامر :
- أين كنت؟
- لقد انتظرتك أمام جهاز الكمبيوتر لساعات، أين كنت أنت؟ أين ذهبت بعد الانتخابات؟
- لقد غادرت الجامعة، ومشيت على غير هدى، ولم أكن أعلم إلى أين سأذهب، وقد عدت قبل قليل إلى البيت.
- كيف حالك الآن؟
- بل قل كيف خسرنا هذه الانتخابات الآن، رغم كلّ الاستعدادات لها؟ أكاد أجنّ يا رجل، لقد اشتروا أصوات معظم من وعدونا بأنْ يصوّتوا لنا، كيف حصل ذلك؟
- لا أعلم.
- لقد أكّدت لي بأنّنا لن نخسرها، لقد أرغمتني على خوض الانتخابات وأنا كنت قد حذرتك من احتمالات حدوث مثل هذه الأمور، ما رأيك الآن؟
- حسنًا لا يهم، عندما نلتقي سنناقش الأمر سويّا مع باقي الأصدقاء؟
- أصدقاء! عن أيّ أصدقاء تتحدّث؟ أوكلما رأيت أحدًا يبتسم في وجهك قلت عنه صديق، أنا لا أثق بمعظمهم.
- حسنًا، دعنا لا نتكلّم وأنت في هذه الحالة، سنكمل حديثنا فيما بعد، تكون ساعتها قد هدأت أعصابك.
- لن تهدا أعصابي أبدًا، إلى اللقاء.
أنهى المكالمة ورمى الهاتف على الأرض من شدّة غضبه، وتوجّه إلى المطبخ، فإذا بجهاز الكمبيوتر يعلن عن استلام رسالة جديدة، توجّه نحوه فإذا بها صديقة من جملة الصديقات والأصدقاء الذين يكلّمهم من خلال المسنجر، لم يعرفها يومًا بالشكل، لم يعرف غير اسمها، وأنّها فتاة محجّبة، وطالبة معهم في الجامعة، ولكنّها تدرس في الفترة المسائية دراسة خاصة.
جلس أمام الكمبيوتر، ودار بينهما حديث مطوّل عن الانتخابات، فصبّ جام غضبه على عميد شئون الطلبة، واتهمه بأنّه هو وراء كلّ ما حدث من تزوير، وشراء للذمم؛ والأصوات، وأنّه عدو لكل ما هو نظيف في هذا العالم، ومن هم على شاكلته يشكّلون طابورًا خامسًا لا تهمّهم إلّا مصالحهم الشخصيّة، وأنْ يزداد عدد الطلبة لكي تمتلئ جيوبهم و .. و ..الخ. بينما كانت هي توافقه على كلّ ذلك، وتؤكّد له حقيقة ما يقول، وبأنّها سمعت من بعض زميلاتها ما يثبت صحّة أقواله.
وفيما هو يحدّثها ظهر زميلًا له في الجامعة على المسنجر، فاعتذر منها بحجّة أنّ ضيفًا مهمًا جاءه فجأة، ثمّ أرسل رسالة إليه رسالة يسأله فيها عن سبب غيابه اليوم بالذات عن الانتخابات، فردّ عليه قائلًا:
- أنا آسف، لقد مرضت فجأة، وذهبت إلى الطبيب.
- هل كنت مريضًا لدرجة أنّك لم تستطع أنْ تأتي اليوم لتشارك في الانتخابات؟!
- صدقني لقد أصبت بأنفلونزا حادة جدًا طرحتني أرضًا، ولم أغادر الفراش إلّا الآن.
- حمدًا لله على سلامتك.
- الله يسلمك، قل لي كيف جرت الانتخابات اليوم؟
- كما كنت أتوقع، العميد زوّر واشترى وباع.
- خسرناها؟!
- وهل تتوقع أنْ نفوز في ظلّ غياب الأبطال من أمثالك.
- لماذا تتهكّم عليّ؟
- أنا لا أتهكّم على أحد، كيف تتوقع أنْ تنتصر وأنت بعيدًا عن ساحة المعركة؟
- لقد قلت لك، كنت وما زلت مريضًا.
- حسنًا، هذا ما حصل، إلى اللقاء.
كانت هذه آخر كلمات يكتبها قبل أن يقفل الجهاز تمامًا، لم يعد يرغب برؤية أحد، ولا أنْ يكلّم أحدا، وقرّر أنْ لا يغادر البيت أبدًا إلّا للضرورة القصوى ، وأن لا يذهب إلى الجامعة في الغد، وأنْ لا يفتح جهاز الكمبيوتر، وأنْ يغلق جهازه الخليوي، ثمّ توجّه إلى سريره، وألقى بجسده المنهك عليه، ليغيب فورًا في عالم آخر.
بعد أنْ قضى يومه ذاك في البيت لم يغادره، استيقظ مبكرًا وعلى غير عادته في اليوم التالي، فتناول فطوره على عجل، وتوجّه إلى الجامعة، وفور وصوله جاءه من يخبره أنّ عميد شئون الطلبة يريد أن يراه، فتوجّه إلى مقرّ عمادة شئون الطلبة ليتأكّد، وسأل السكرتيرة فيما إذا كان العميد يريد أنْ يراه فعلًا، فأكّدت له صحّة الخبر، وطلبت منه الانتظار، فسألها هل هو موجود الآن أم لا، فهزت برأسها، غير أنّه لم يفهم منها إنْ كان موجودًا أم لا، ولم يكرّر عليها السؤال.
جلس في قاعة الانتظار، وهو في حالة من القلق الشديد، فهذه أوّل مرّة يطلبه فيها العميد منذ آخر لقاء جمع بينهما على أثر مشكلة كبيرة حدثت مع زميل له، وكادت أنْ تتسبّب في تركه للجامعة، رغم أنّ زميله تركها فيما بعد بمحض إرادته، وهو البريء من كلّ التهم التي وجهها إليه العميد، لكنّه تركها بعد أنْ ضاق صدره بكلّ الكذب والدجل الذي يسود أجواء هذه الجامعة، وبدأ يتساءل عن سبب هذه الدعوة وفي هذا الوقت بالذات.
لم يصل بعد طول تفكير إلى نتيجة تريحه من هواجسه، فسأل السكرتيرة فيما إذا كان بإمكانه أن يذهب على أنْ يعود بعد ساعة على الأقل، يكون العميد قد جاء أو أنهى أعماله، فقالت له:
- لا أستطيع أنْ أمنحك الإذن، عليك أنْ تنتظر.
- لكنّني مضطر للذهاب، وسأعود بعد قليل.
- إنْ أردت أنْ تذهب فعلى مسئوليتك الشخصيّة.
- لكن إنْ جاء العميد وسأل عنّي فقولي له أنّّه لم يأتِ بعد.
نظرت إليه بقلق تبدّى بوضوح على قسمات وجهها، وفيما كانت عيناها تجوسان أركان الغرفة بحذر قالت له:
- سأعتبر أنّي لم أسمعك، ولم أشاهدك وأنت تغادر.
- حسنًا سأذهب الآن على أنْ أعود بعد قليل.
ذهب من فوره إلى مقصف الكلية باحثًا عن صديقه تامر، فلم يجده هناك، فحاول أن يتّصل به على الهاتف فلم يردّ، فقرّر أنْ ينتظره في المقصف على أمل أنْ يأتي، أو أنْ يأتي أيّ زميل آخر فربما يعرف منه سبب دعوة العميد له، أو على الأقل يساعد في وضع تصوّر لأسباب هذه الدعوة المفاجئة، وفيما كانت الأفكار تتلاعب برأسه لمح تامر قادمًا باتجاهه ، فانشرحت أساريره، وبادر إلى سؤاله:
- لمّ لم ترد على مكالمتي؟
- أنا آسف جدًا، لقد نسيت الهاتف في البيت .
- لقد طلبني العميد اليوم بالذات تخيّل!
- لمَ؟
- لا أعلم.
- ولماذا أنت قلق من هذه الدعوة؟
- أنا قلق فقط لأنّي لم أتوقع أنْ يدعوني في مثل هذا الوقت، وبعد الانتخابات مباشرة.
- هل أنت خائف منه؟
- لست خائفًا، ولكنّ هذا الرجل خبيث ومغرور، وعندما يجتمع الخبث مع الغرور فيجب أنْ تقلق.
- من يراك على هذا الحالة يظنّ أنّك خائف منه.
- لمَ أخاف؟ أنت تعرفني جيّدًا، ولكن الحذر مطلوب، فهو قادر على تلفيق أيّ تهمة بمن يريد. رغم أنّه بات مكشوفًا أمام الجميع تقريبًا، وبصرف النظر عن وجود أولئك المنافقين والمنتفعين المؤيدين له، خصوصًا بعد قضيّته مع تلك المرأة والتي خرج منها فيما بعد مثل الشعرة من العجين كما يقولون، مع علمنا أنّ المرأة مظلومة، ولا ذنب لها في كلّ ما أشيع عنها، لكن للمنصب هيبته وسطوته كما تعلم.
- أعلم ذلك، ولكن دعنا من التوقعات، فلن تفيدنا في شيء، اذهب إليه وتوخ الحذر في كلامك معه، وإياك أنْ يستفزّك في الكلام، فتخرج كعادتك كل ما في بطنك دفعة واحدة...!!!
- لا تخف عليّ سأذهب إليه الآن، انتظرني هنا ولا تغادر مكانك أبدًا حتّى لو حصل زلزال في الجامعة.
- حسنًا سأنتظرك.
ترك صديقه في المقصف، وذهب مسرعًا إلى مكتب العميد، وسأل سكرتيرته:
- هل وصل؟
- نعم.
- هل أستطيع الدخول إليه الآن؟
- نعم.
التقط أنفاسه، ثمّ ضمّ أصابع يديه بقوّة واقترب من الباب ثمّ دخل، فوجده جالسًا على مكتبه أمام جهازه المحمول الذي يرافقه كظلّه أينما ذهب، ويداه تتحركان هنا وهناك على لوحة المفاتيح، وكأنّه يتكلّم مع أكثر من شخص على المسنجر، فحركات أصابعه وطريقة استخدامه للفأرة توحي بذلك. توقف على بُعد خطوات من مكتبه مركزًا نظراته على وجهه، وتلك الشعيرات التي تغطيه، والتي منحته هيبة مزيّفة، تخدع من يراها ومن لا يعرفه على حقيقته.
ظلّ العميد على جلسته لم يتحرّك، مضت عشر دقائق تقريبًا، فإذا به يقول له:
- اجلس .
- لقد جئت فور أنْ أبلغوني أنّك تريدني.
- هل تشرب شيئًا؟
- شكرًا، لا أريد شيئًا.
- كيف هي دراستك؟
- بخير.
- هل ما زلت منزعجًا من خسارتكم للانتخابات؟
- كلّا، لست منزعجًا.
- أواثق أنت من ذلك؟
- نعم، أنا واثق من ذلك.
- لديّ شك في أنّك تنشر إشاعات بين الطلبة تقول فيما تقول إنّني أنا السبب في خسارتكم للانتخابات.
هنا اتضحت الصورة أمامه، فتمالك أعصابه، وردّ بهدوء وثقة:
- الشك نقيض اليقين، ولا يجتمعان في أمر واحد، فهل أنت متأكّد من تلك الإشاعات؟
ردّ عليه بلغة فوقية طغى عليها الغرور:
- لو ثبت أنّك أنت من يروّج تلك الشائعات فماذا ستقول عندئذ؟
- الدليل خير برهان.
- لا عليك، هي مجرد إشاعات، ولأنّي أثق بك أردت أنْ أسألك، فقط مجرد سؤال.
قال ذلك ثمّ أشاح بوجهه صوب الجهاز، فيما كانت ابتسامة صفراء ترتسم على وجه، ثمّ تابع قائلًا:
- بالمناسبة ماذا كانت نتيجة مباراة برشلونة وريال مدريد التي جرت بالأمس؟
- لا أعلم، فأنا لا أتابع مباريات كرة القدم.
- للأسف لقد انشغلت ببعض الأعمال ولم أتمكن من متابعتها، فأنا أحبّ فريق ريال مدريد، فهو الفريق الملكي الرائع كما هو معروف للجميع، هل سمعت بــ فرانسيسكو فرانكو؟ إنّه هو من حافظ على النظام الملكي في إسبانيا.
أذهله السؤال تمامًا، واختلطت عليه الأمور، فلم يدر بما يجيب، ولماذا سأله هذا السؤال بالذات، وما علاقة فرانكو بكرة القدم وبه، فهذا الخبيث لا يسأل أو يلقي بمعلومة إلّا وقصد من ورائها شيئًا ما، لكنّه تمالك نفسه، فقال:
- نعم سمعت به، فأنا أدرس التاريخ كما تعلم.
- أعلم ذلك، فالتاريخ جميل، وهو مدرسة كبيرة، ومنه نتعلم أشياء كثيرة، أليس كذلك؟
- نعم، صدقت.
- حسنًا اذهب لمحاضراتك، وحاول أنْ تركز على دراستك ومستقبلك.
قال هذه الكلمات ، ثمّ عاد وصبّ اهتمامه على جهازه، وكأنّ لا أحدا أمامه " كم أتمنّى لو استحوذ على جهازك لساعة واحدة فقط، كي أرى مع من تتكلّم، أو على من تتآمر" هكذا حدّث نفسه وهو يهمّ بالمغادرة، وقبل أنْ يصل إلى الباب إذْ بصوت السكرتيرة ينطلق بقوّة محدثًا ضجيجًا هائلا " حريق ، حريق" نهض العميد عن مكتبه واتجّه صوب الباب وفتحه، فإذا بالدخان يملأ الغرفة، وعمّت الفوضى أرجاء المكان، موظفين وطلبة وصراخ ينطلق من كل الجهات، للحظات فكّر بالهروب والنجاة بنفسه، لكنّه لم يستطع مقاومة رغبته في العودة لإلقاء نظرة على ذلك الجهاز، رغم أنّ الدخان تسرّب إلى الغرفة، وكاد أنْ يملأها تمامًا، رغم كلّ ذلك عاد أدراجه ليرى ذلك الجهاز اللعين، تمعّن في الشاشة، لم يصدّق عينيه، وبدأ بفركهما محاولًا التركيز عليها " معقول... يا إلهي... معقول ... ". حاول أنْ يتمالك أعصابه، فلم يستطع، شعر أنّه على وشك أنْ يختنق، استجمع كلّ قواه وتوجّه نحو الباب، ثمّ سقط مغشيًا عليه...
تعليق