(V )
توظيف اللّغة السينمائية
في القصّة القصيرة*
توظيف اللّغة السينمائية
في القصّة القصيرة*
*هذا الفصل من كتاب "العين السّاردة" لنبيل درغوث
تتميّز الصورة بطابع رمزي و اختزالي فما يقوله السرد في صفحات يمكن للسينما مثلا أن تقوله في مشهد أو لقطة واحدة. و هي كما يذكر محمد اشويكة:
"[تتقاطع] مع مجموعة من الحقول المعرفية التي يغلب عليها طابع السرد كالرواية والمسرح والقصص الشفهية الشعبية...التي تعتمد على خصائص الحكي كالزمان والمكان والحدث والعقدة والشخصيات...إن الفيلم السينمائي نوع من الحكي يقدم نفسه عبر تسلسل من الصور. يكون المتفرج أمام واقعة معينة في زمان ومكان محددينوأمام أشخاص يخلقون الحدث ويساهمون في تطويره وتعقيده وحله...عبر لغة سمعية بصرية خاصة"[1]. سنحاول في قراءتنا لقصص الرياحي رصد تجليات الصورة السينمائية وكيفية توظيف تقنياتها في الكتابة السردية.
1) "الكاميرا" الثابتة / غير المتحرّكة
استعمل كمال الرياحي ما يسمّى ب "الكاميرا القلم" (Camera-stylo) لنقل بعض المشاهد بلغة سينمائية من خلال تركيزه على تقنيات "عدسية" لالتقاط مواضيع الوصف.
فقد تراوح الوصف البصري بين نقل صورة المكان والأشياء وملامح الشخصية. وهذه الموصوفات صورت بجزئيتها الدقيقة عبر عين الراوي الذي بدوره نقلها للقارئ مضخما إياها تضخيما متعمدا، ومن هذه الموضوعات الموصوفة الأماكن و الشخصيّات..
"توقفت سيارة التاكسي في سفح الجبل الذي تتكئ عليه بيوت القرية بأبوابها الضيّقة وحجارة "الترش" الصفراء. نزل الرجل بلحفته المذهّبة ووقف ينتظر ذيل معطفه ثبّت شاشيته الحمراء حتى تطلّ من تحت اللحفة الكبيرة ، أمسك بالعصا البنّية المنقوشة. ودفعها أمامه وألحق بها قدميه، في خطى ثابتة متّزنة.. توقّف الرجل، ورفع كفّ يده اليسرى إلى جبينه يحجب بها الشمس التي تقرفصت فوق الجبل ورمت بحبالها النارية على القرية النائمة"(قصّة "غول الصّبايا" م.نوارس الذاكرة، ص 90)
هذا الوصف لا يخفي استنارته بتقنيات عدسة "الكاميرا" التي تستعمل في هذا المشهد تقنية "اللقطة العامة"(Plan Général)[2]التي تقدم مجموعة صور مسترسلة تصورها الكاميرا
مرة واحدة في ديكور واحد: صورة سفح الجبل والقرية + صورة الرجل الذي نزل من سيارة التاكسي ونوعية ملابسه وألوانها + صورة الشمس فوق الجبل. فعبر "الكاميرا القلم "اختزل الرياحي عدة صور في صورة واحدة وهذا الاختزال توفره عدسة الكاميرا وتقنياتها المختلفة. ومن هذه التقنيات اللقطة السينمائية التي تركز علىالتكثيف والإيحاء والرمز:
"بدأت الشمس تهدّد بالشروق وتتوعّد بالظهور وبان الرجل أكثر بكوفية شامية منقطة وسروال مشدود حول كعبتيه ولحية ثائرة يبدو عليها الكثير من العناد.." (قصّة "سردوك" م.نوارس الذاكرة، ص 52)
هذا المشهد الوصفي يعتمد تقنية سينمائية معروفة هي "اللقطة الكبرى" (Gros Plan) التي تلتقط فيها عدسة الكاميرا شيئا واحد بشكل مكبر لاغية المساحة والبعد[3].
تقرب هذه الكتابة السينمائية لعين القارئ/المشاهد تفاصيل وجزئيات هامة من الموضوع الموصوف و هو هنا لباس ذلك الرجل صاحب اللحية الثائرة الذي يفضح لباسه انتماءه الطبقي و الاجتماعي.
وكما يستعين الرياحي في قصّه باللقطة/الصورة التي تقدم موصوفات من أشياء ووجوه شخصيات بصفة مقربة جدا حيث تظهر فيها جزئيات دقيقة مكبرة. نمثّل لذلك بقوله :
"تساقطت قطرات المطر ثقيلة موجوعة على جسد الرجل الضخم، تقارب حاجباه وبانت تجاعيد جبينه المارد سخطا وهو يسرع الخطا نحو "الفيرما"..."(قصّة "المفاجأة" م. نوارس الذاكرة، ص41 )
هذه الأجزاء الدقيقة جدا التقطتها عين الراوي لتقدمها للقارئ مضخمة تضخيما متعمدا.
وذلك بغرض إثارة الانتباه إلى بعض التفاصيل مثل سخط وضجر الرجل الضخم من حياته الحاضرة وذلك من خلال تجاعيد جبينه وهذا التفصيل من الصورة يوحي بنفسية هذا الرجل.إن هذه الطريقة في الوصف تقنية تُسمى في السينما "اللقطة الكبيرة جدا"[4](Très gros plan) أو اللقطة التفصيلية. مثلما شاهدنا في القصّة عندما تم تسليط العدسة/العين على تلك السلسلة الحاملة لصليب صغير ذهبي.
"لما رفع رأسه داهمته ملامح شقراء لا تحمل من شرقه شيئا...تداعب صليبا ذهبيا صغيرا يرقص في سلسلة دقيقة طوقت رقبتها المرمرية".(قصّة "النخيل المذبوح" م.سرق وجهي-ص 51)
يبدو هذا التفصيل تعلّة لإظهار جمال رقبة تلك الفتاة الأجنبية الشقراء وليكشف لنا الراوي عن رقبتها المرمرية. وان دلت هذه اللقطة التفصيلية على شيء فهي تدل على الثقافة السينمائية للكاتب (الرياحي، وهو متحصل على شهادة في السينما) وتشبعه خاصة بأفلام "ألفراد هيتشكوك" الذي يجزئ الجسد ويقسمه إلى أعضاء وكل عضو يأخذ حيزا هاما في البناء الدرامي مثل فيلم "سايكوز" لنفس المخرج. فقد تعلم الكاتب من السينمائيين الكبار أمثال "لوي بينيال"
و "ميشال أنجلو أنطونيوني" و "هيتشكوك"كيف أن "الجسد يمكن أن يعرّي ويكشف عن حميميّته عندما يحجب بواسطة الاستعارة مثلا أو بطرق أسلوبية أخرى"[5].
2) "الكاميرا" المتحرّكة/المتجوّلة
إن حركة عين الراوي الواصفة هنا مثل "عين الكاميرا"(Oeil de caméra) وهي تتنقل في أرجاء المكان ناقلة صور مكوناته.
"تمشّى أمام الملعب يجس بقدميه عشب الممر الندي. خير بعد دقائق من المشي أن يجلس لنافورة مهجورة، تأمل في الحشائش الخضراء والأوراق المهملة وقوارير "البيرة" وعلب "الجعة" المداسة التي علقت بحوضها...تابع بعينيه منظف الشوارع وهو يستند إلى عربته محملقا في سيدة تقف في توتر بمحطة الميترو مداعبة شعرها المسحور بالألوان...لاحت له نخلة طويلة ابتدأها الموت..."
(قصّة "النخيل المذبوح" م.سرق وجهي- ص 47)
نلاحظ في هذا المقطع انصهار عين الراوي وعين الشخصيات وعين الكاميرا في عين واحدة هي الأخيرة مصورة الأشياء والشخصيات التي اعترضت حقل بصرها المتحرك. و من ثم فالرياحي يستعين بعين الكاميرا المتجوّلة و التي تسمّى في اللغة السينمائية "ترافلينغ" (Travelling) وهي حركة تنتقل فيها الكاميرا داخل ديكور يكون مسرحا للقطة أو المشهد[6].
حركة العين الواصفة هنا تشبه حركة عدسة الكاميرا المثبتة على قاعدتها وهي تتنقل ببطئ تصور حوض النافورة والأشياء الموجودة فيه كالقوارير والعلب والأوراق والحشائش.
فقبل هذا كانت الكاميرا سائرة بتتبعها تنقل الشخصية أمام الملعب وهي تجس بقدميها (الشخصية) عشب الممر وتسمى هذه التقنية السينمائية "ترافلينغ المرافقة"[7]Travelling d’accompagnement)) ثم بعد مسح عين الكاميرا لحوض النافورة تنقل
(عين الكاميرا) بشكل جانبي منظف الشوارع متتبعة نظره الذي حوّل بدوره عين الكاميرا إلى تلك السيدة المتوترة بمحطة الميترو لتستقر هذه "العدسة" على النخلة الطويلة. فكل هذا التحريك للكاميرا يسمى بالرؤية الشاملة[8](Panoramique).
بينما مثلت تقنية "الزوم" Zoomأو"الترافلينغ البصري"[9](Travelling optique)علامة دالة على موقف بعينه من خلال تركيز عين الكاميرا على شيء معيّن
"يجد التاكسي تنتظره يضرب بعصاه الأرض فتنكسر إلى نصفين يلقي بها...يركب السيارة.
ويمضي. فتبقى العصا المكسورة ملقاة على الأرض والخلق من حولها مشدوهين تارة ينظرون فيها وتارة يرفعون رؤوسهم نحو بيت الطاهر الموصد بابه وبهم أسئلة محمومة".
(قصّة "غول الصّبايا" م.نوارس الذاكرة- ص 95)
3) "المونتاج" Le Montage
يتمتع "المونتاج" بأهمية كبيرة في العمل السينمائي، فهو "العنصر المميز للغة السينمائية وتتمثل أهميته في طاقاته التعبيرية المتنوعة عبر تاريخ الفن السابع مقارنة بوسائل التعبير الأخرى"[11]والمونتاج عملية ترمي إلى جعل اللقطات في موضع يحدده المخرج وذلك عن طريق عملية ترتيب مشهد بجانب الآخر حسب نظام وديمومة معينين للقطات[12].
فمن خلال المونتاج يمكن أن نتعرف على التوجهات الإيديولوجية للمؤلف ورؤيته للوجود[13].
وذلك عن طريق إيصال اللقطات إلى القارئ/المتفرج عبر تضمين وجهة نظر معينة، أو إحساس ما داخل الخطاب القصصي. وهذا نجده في قصّة "الذبيحة والركن"[14]
"صفعها بشدّة في ركن المحلّ القذر، أسندت رأسها إلى الزاوية الحادة وسترت عريها بالورق الرمادي الخشن.مسك السكين الكبيرة، تأمّل ساقيها السمراء، تابع تلك النبال التي تنهض من تحت الجلد، شعر قاس كالإثم، تأمّل المفصل جيّدا، ثمّ هوى بها على فخذ البقرة الذي كان أمامه على "القرضة" سحبت هادية ساقيها وتكوّرت أكثر في زاوية المجزرة ثم سألته:
- لماذا تفعل هذا كل مرّة؟!" (سرق وجهي- ص72)
إنّ طريقة المونتاج المستعملة في هذه اللقطات ترمي إلى سرد حركة معينة بواسطة ربط مشاهد متنوعة تهدف في كليتها إلي إعطاء مجموع له معنى ما. اللقطة الأولى تُصفع فيها "هادية" ثم يمسك صافعها سكينا كبيرا ويتأمل مفصل ساقيها ليهوي بالسكين في اللقطة الثانية على فخذ البقرة الموجود على "القرضة".أما اللقطة الثالثة تسحب "هادية" ساقيها متكورة في زاوية المجزرة ثم تفتح حوارا مع هذا الرجل. فمن خلال اللقطة الأولى يقوم المؤلف بحيلة فنية توهم القارىء/المتفرج أن هذا الرجل بتأمله ساقي "هادية" وهو يهوي بالسكين سيقطعهما. وعبر تمرير المؤلف للقطة الثانية والثالثة تكتمل الخدعة السينمائية (Trucage) على قطع فخذ البقرة.
وهذا النوع من المونتاج يقوم على المقاربة الرمزية لعدة لقطات مسخرة الخدع البصرية مشيرة عبر مقارنتها (اللقطات) إلى دلالتها الجامعة. وتسمى طريقة المونتاج هذه:
"المونتاج المتوازي"[15]Montage parallèle)).
إن المونتاج ليس بعمل بسيط يرتكز على التقطيع والإلصاق، بل عملية تقنية وفنية تخضع لعدة ضوابط من خلالها يمكن لعملية المونتاج أن تقدم الفيلم بشكل مشوه غير فني أو أن تجعل منه تحفة بصرية[16] .فالسرد في السينما، هو التصوير ولغة السينما، هي الصورة والحركة. ويجسد كل هذا المشهد اللاحق :
"نزل الرجل وتاه وراء غيمة سيجارة "سردوك" التي نفث دخانها في عمق الرؤية..."
(قصّة "سردوك" م.نوارس الذاكرة، ص 54)
أي أن كل صورة تأخذ مكان السابقة وتنبعث منها[17].
تضفي هذه التقنية شعرية على السرد القصصي و تخرج به من فجاجة الواقعي إلى شفافية الشعري و رهافته. كما تعلن عن التقنية عن المشاعر الدفينة لسردوك و العلاقة الصدامية التي تربطه بالرجل الذي أكلته غيمة الدخان. إنها رغبة سردوك الدفينة في محو ذلك الرجل من الوجود و إغراق ذاكرته و ذكرياته التي جمعته به في غيمة النسيان و استبدال صورته بصورة أخرى يمكن أن تخرج من وراء الغيمة مثل عملية المونتاج تماما.
enchaînéFondu
*هذا الفصل من كتاب "العين السّاردة" لنبيل درغوث
[1]محمد أشويكة، الصورة السينمائية: التقنية والقراءة- سعد الورزازي للنشر- المغرب 2005-ص-ص 96-97
[2]المرجع نفسه -ص 42
[3]المرجع نفسه– ص 44
[4]المرجع نفسه،ص44
[5]الهادي خليل، العرب والحداثة السينمائية، دار الجنوب للنشر ، تونس 1996-ص85
[6]محمد اشويكة- الصورة السينمائية ص 50
[7]المرجع نفسه - ص 51
[8]المرجع نفسه - ص 55
[9]المرجع نفسه - ص 53
[10]المرجع نفسه - ص 51
[11]Roger Boussinot, l’encyclopédie du cinéma les savoirs, Bordas, Paris 1995, P 1454
عن كمال الرياحي، خصائص الكتابة الروائية عند واسيني الأعرج (كتاب مخطوط)
[12]المرجع نفسه– ص1454
[13]كمال الرياحي، خصائص الكتابة الروائية عند واسيني الأعرج (كتاب مخطوط)
[14]قصّة "الذبيحة والركن" من مجموعة "سرق وجهي" ص-ص 72-77
[15]محمد اشويكة- الصورة السينمائية ص 73
[16]المرجع نفسه - ص 73
[17]المرجع نفسه - ص-ص 70-71
تعليق