.....
.......
...........
لم أستيقظ هذا الصباح ههنا, وملامح الدنيا كانت بمقاس آخر, لا يستوعبه البيت ولا الشارع ولا كوكب الأرض حتى.. والعيون التي كانت تبكي من حولي بصمت لم تعد تبصرني وأنا أحلق, لم تعد تشعر بي وأنا ألامس شعرها الشهي, أمسح بيديّ الباردتين أدمعها, استطعت لأول مرة في حياتي أن اخترق الجدران, والسقف لم يعد يمنعني لأبصر السماء, وساقاي لم تعد تقوى على المشي بي, بل تدفعني دفعا لأرتقي عبر السحاب.
لأول مرة شاهدت سطوع مكة من الفضاء, وبرج العرب السخيف, وشاهدت أيضا سور الصين العظيم كيف تلوّى, وأنوار المدينة التي غطاها الثلج في عز الصيف, وشاهدت رغم ذلك كيف أن وادي بلدتي الذي جفّ يبكي على فراق الماء, ويحتضر الهوينى كلما عانقه الملح الخانق عند المصب, البحر يبتلع كل شيء حتى المياه التي نشربها, أما الشمس التي احتبسها الناس فلم تعد تحرق كما كانت, أشعتها بعد الموت تفقد سُمّيتها وتزدان بطيف رائع أشبه بستائر القطب الجميل حين يسدله الفجر, الأرض كوكب رائع والبشر أثخنوه طعنا حتى تشقق اللب واستحال الجبل الأبيض إلى فتات, لماذا لا نشعر بالسعادة لمّا نحيا ونستجديها بشوق بعد الممات, ألم يخلق الله على الأرض "جنّة" ؟ .. لماذا أفكر بهذا اليوم؟ .. فقد مضى على موتي سويعة, ولم يعد بوسعي أن أخاطب أحبتي, أو أن أسألهم على جواب يكفيني الحيرة الكبرى بعد رحيلي, أو أن أذكّرهم بأن أروع ما في هذه الأرض هو أن نحرص على ما فيها من محبة.. من جمال .. ومن حياة.. قبل أن نذهب مثل الدمعة في الغابرين..
كنت أبتعد عني.. وكائنات أخرى من حولي ترافقني.. تعرفني جدا لكنها عني غريبة.. بدأت أخاف .. رغم أن الملائكة نورانية من حولي وريحها من ياسمين.. لم أتعود على تنفس المسك عوض الأكسجين .. والهواء هناك بفضلهم بمذاق آخر .. مثل شراب الزهر أو أحلى .. مثل نسمة الموج والمطر.. لا وجود للظلام في رحلتي .. لا وجود للشياطين أصلا .. هذه الأخيرة وجدت فوق الأرض فندقا من عشر نجوم والبشر الأغبياء من يقوم بخدمتها.. وقد منحوها الاعتماد من زمان الأزمنة.. "نحن" فقط من مكنّ ملوك الشر من سبي الأرض ومن امتلاك الأشقياء والمصائر والأبنية, تخيلوا أن مملكة الشيطان الكبرى على أرضكم لا يحرسها إلا "عباد الله" !!!..
الأفق أمامي يتفتق .. والنور يطغى .. لكنني لا أزال أيضا مشدودا للخلف .. فراق الأرض يعزّ علي .. وأصدقائي لا يزالوا يبحثون عني .. عن عنوان بيتي الجديد .. عن حدود قبري البعيد .. عن خدّ أبي الممتليء بتجاعيد الكون .. حين أموت صغيرا ولا أأخذ معي غير دموعي التي لن يراها أحد .. تغسلني العبرات لوحدي ثم تسقط من جسدي المتناثر كما اللآليء.. تتفرق في الفضاء .. توسعه وميضا ولا يشعر بي ولا بها أيّ أحد .. طلََبَتي الذين كنت أدرّسهم يعتصمون الآن أمام المعهد .. يطالبون بحافلة تنقلهم إلى "توديعي" رفقة باقي الأساتذة.. الكل يريد مشاهدتي لآخر مرة .. ولا أحد منهم يعلم أني الآن ابتعدت كثيرا قبل أن يصلوا إلى ذلك البيت .. سوف يحضروا جموعا وفرادى كي لا يجدوني .. أشعر أني الآن أكثر ظلما لمن أحبهم من أي وقت آخر .. أشعر أيضا كما شعرت دوما أن الكل صدقا كان لأجل لاشيء محدد يحبني.. أحببتهم أيضا .. ولم أعرف بعدُ في حياتي شخصا واحدا يمقتني.. حتى الذي ألِفته يغار مني لمرات على هذه الهبة أو تلك أشعَرني -كلما سنحت الفرصة لقلبه أن يعذرني- أنني لم أُخلق إلا ليحبني وأنه لا ذنب لي حينما أتفوق عليه .. ثم يكتشف أنني أفضل منه فعلا في عدة أشياء .. قدرتي على اكتساب ود الآخرين في وقت قصير.. اهتمام المديرة المتميز بي .. تحية الحارس الحارة لي .. يقول لي بسمتك أفضل جرس يوقظ حيويتي كل صباح.. في كل لفة شارع كان لي صديق .. في كل ركن مسجد .. في كل مقعد "باص" .. على طاولة كل مطعم .. كنت أجيد أن أتكلم .. بعيوني أختصر الكثير من الحديث .. بعض الصمت مشحون بالضجيج .. وبعض النظرات رسائل "صداقة" كامنة .. لست أدري لماذا الكل يفتقدني هذا اليوم .. في عملي .. في حارتي .. حتى سائق الباص الذي أركبه ويعرف بيتي .. جاء رفقة القابض يودعني .. لا أحد من أقاربي يعرف الزوار كلّهم .. لكن أقاربي يعرفون أن الذين أحبوا "سليم" لا عَدَّ لهم .. وقد كان حضورهم المكثف مواسيا للأهل ومعذّبا لي .. إذ كنت أراهم جميعا حائرين .. وأحب أن أقوم للمسهم ولا أستطيع.. كم أحن اللحظة لأن أفرك بأصابعي الطويلة كتف "هذا" وشعر "ذاك" .. جفون امرأة أحبتني ولم تعترف, مبتلةُ على الآخر .. تُسائلني.. لماذا يموت الذين نحبهم قبل أن نخبرهم بذلك؟ .. جارتي التي لا أولاد لها صرخت .. لماذا ترحل عنا ابتسامات الطيبين الذين أهداهم لنا الله دون مقابل..
ليس الغرور من ينطقني وأنا ميت .. لكنها لهفة قلوبهم على استعادة بسمتي التي لم تفارقهم ليوم .. أنا لم أكن صاحب فضل عليهم في شيء ذات يوم.. كل ما فعلته هو أنني كنت أمنحهم الحب بصخب بقدر ما منحوني إياه بصمت.. كثيرون هم أولئك الذين لا يجيدون التعبير عن مشاعرهم بشجاعة.. بفنية أو بعمق.. كنت كلما صادفتُ أحدهم تحدثت عنه بدلا عنه .. بُحت مبتسما بما أقرأه على عيونه حتى ينفطر قلبي ثم يعانقني بقلبه الذي يغمره الفرح ثم يرقص بأنامله على كف يدي.. شعور الآخرين بالامتنان حين تجول بأعماقهم .. حين تشعر بهم وتعرّي ما يفكرون به وهم سكوت أشبه بباقة ورد يهدونك إياها عند كل مصادفة ولقاء .. شعورهم بانقضاء أجَل هذا الامتنان هو الذي أعطاني الشعور بأنهم افتقدوني .. لهذا أتوا .. وأنا ميت كي يحتضنوني.. فكل الذين أحببتهم اليوم افتقدوني .. وهم يعلمون أنها الفرصة الأخيرة كي أراهم قبل أن أبتعد كثيرا عن كوكب الأرض حيث تسمّروا .. قبالتي صامتون .. يرغبون في الاعتراف لي بأشياء كثيرة قبل أن أغادر .. مثلهم أيضا أريد أن أتكلم .. لا أحد يسمعني ..وكم أفتقد جسدي هذا اليوم .. اليابس جدا .. وجوارحي تعانق كل شيء يفتقدني.. دون أن تلامسه ..
كم أفتقده .. بيتي المهتريء أيضا يفتقدني.. مفتاح الباب .. ستائر النافذة .. كرسيّ مكتبي .. براويز الجدار .. رفوف مكتبتي .. زهور الحديقة تفتقدني ... وقطتي الوديعة تفتقدني أكثر منهم جميعا.. حتى الجرذ الصغير الذي كان يرعبني في القبو.. الذي كان يزعجني في الحلم كلما من ذيله خفت .. كلما اقشعر بدني من خشخشته.. شهدته الساعة يفتقدني .. ويهمس للقبو ويقسم أنه لم يكن ينوي إزعاجي بقدر ما كان يبحث عن شيء ما خلف ثلاجتي يقتات عليه .. لقد كنت جبانا .. وأعترف .. أنني حاربت مَقدمهُ برمي الكراسي.. بفرش السموم وصقل العصيّ كي أقتله .. وكنت أصرخ "بالله عليك ارحل من بيتي أنا لا أطيقك".. " و إن لم تفعل فأنا سأرحل".. فأر الحقول يكرّم موتي هذا اليوم ويحزم أمتعته من قبوي بعد رحيلي كي يرحل .. قبل أن أرحل .. وأنا أرقبُ الكل وهم لا يعلمون .. أنني كنت هناك بين الجموع أطوف.. أشاهد آخر من مرّ على عمري من ضيوف.. ومن أعلى أرقب مشلولا صديقي "عبد الله" وهو يهوي .. أكثر الذين أحبني من الرفاق لم يعد يقوى على الوقوف .. فيقع على ركبتيه ثم يبكي .. "منى" الصغيرة بنت الجيران تقف خلف الباب وحيدة وتبكي .. ربما لأنهم يبكون .. ربما لأن احدهم قال لها أنني سافرت بدون رجعة .. كانت "مون" تنتظرني كلما من عملي عدت, تطلب شكولاطة .. فأسحبها من جيبي قبل أن تكمل .. أعلم أنها لم تكن تحب الشكولا بقدر ما كانت تحبني..
أهلي !!! ... لا أريد أن يلمحوا هذا الكلام .. ولا أريد لهم أن يستعدوا لهذا الشعور قبل أن أذهب... هذا الوجع سوف يحصل .. وكم يؤلم طويلا كل هذا .. وكم يُتعب.. حبيبتي الجميلة جدا لا أريدها أن تسمع عني أني متّ .. لقد غيرت دليل هواتفي قبل أن أموت .. وتخاصمنا .. تعمدت أن أقسوَ أكثر .. كي تكرهني أكثر .. لقد انفصلنا قبل موتي قرابة شهر .. وأخبرت أهلي أن كل شيء انتهى.. وحبيبتي منذ عصور لم تعد تكلمني على اعتبار أنني لم أعد أقدّر الحب ولا أميل للتضحيات وأنني أطالب بالمستحيل ولا أقدّم شيئا .. وأن المسافات التي أخترعتها وهمية جدا ولا أسعى لكسرها لأنني بكل بساطة لا أريد .. لا أريد أن أبني لنا مستقبلا أفضل .. لا أريد أن أكون لها ولها وفقط.. وكم كان سهلا عليّ كرجل مجنون أن أقنعها مثلا أن امرأة أخرى ولجت حياتي أوأنني الرجل الخائن دون ريب لم أعد أحبها كما كنت .. وأنني لم أبق على وعدي مثلما قلت .. وأنني أصر على أشياء كثيرة يعدّها الحبيبين أعْرافا ومن متطلبات الحياة لكنها في الحقيقة لا تكفي لضمان استمرارية الحب وإنجاح الزواج .. ثم ما أكثر الأفكار الفلسفية التي يمكنك استغلالها وهي التي لا تعني لك شيئا أمام ذكراك الجميلة حينما لا تصبح أنت .. أنت ..
بعد الرحيل تنتحر ذرائع الاختلاف ويخبو وهج النقاش المرّ وتسقط بالموت كل الوعود التي قطعناها ولا يصبح للعجز -أيام الحياة التي ضاعت- غير معنى واحد .. كم كنا ضعافا وأغبياء حينما أضعنا كل هذا العمر في التفاوض.. ثم ليتنا عشنا سويعة .. سويعة سويا بدون شروط .. كثرت الشروط وقصر العمر ولم نعش معا ولو ربع ساعة .. أحتاج لصفعة وأنا ميت.. حبيبتي عذرا .. لم أكن في مستوى الحب .. وقد دمّرت قلبي ولم أشأ لقلبك بسببي أن يتذمر.. هل تعلمين؟
إن حياة القلوب تتدمر دوما على بقايا ترددنا و مخاوفنا أو مطامعنا .. بينما الحب الجيد من الحياة يتضاعف وهجه حين نستغني عما نريده نحن إكراما لما يريده الآخرون .. بعض الأنانية كفيل لاستمراريته .. والكثير منها يقضي عليه ولا ريب .. قبل أن تطالب غيرك بأن يضحي .. ضحّي أنت .. ادر انت .. وان لم تجد لتضحيتك نتيجة تُذكرفلا يجب أن تندم حتى لا تنفي عمّا قدمته لمن تحب صبغة التضحية .. لقد ضحيتَ وحين تضحي يجب أن تتقبل الخسارة وتستعد لها دون أن تشكو من أنك تخسر..
أعترف اليوم أنني خسرت امرأة أحبها وليتها كانت معي .. كزوجتي التي تمنحني الحب بحب .. تمنحني الدفء وان بنظرة قبل أن أغادر القلب الذي لم يعد ينبض.. قبل أن أغمض عيني على عينيها ثم أموت.. ربما كنت سأمنحها مني قبل أن أرحل طفلا هدية .. قلبا بدمي يؤنسها بقلبه .. في دمه نبضي إلى آخر العمر .. لست أدري لمَ لمْ أفكر قبل اليوم في روعة الأطفال وقد كنت طفلا.. لمْ أفكر في دورهم وقد مارست دوري صغيرا على اكمل وجه.. أشعر الآن بالألم مضاعفا حينما أأخذ معي كل ما أملكه في داخلي ثم أرحل .. دون أن أترك "مني" لهذا العالم "شيئا" .. دون أن أورّث من جيناتي لهذا الحب أبسط شيء .. لا أخلّف أدنى إشارة تقول للتاريخ أني هنا .. ومن هنا مررت .. وهذا اللون لون عيوني .. ويحمل ابني كلما اشتاق إليّ هذا الكتاب ويقبّل أمه.. لماذا نحب يا أمي؟ .. كيف لم تشتقْ لصبي مني حبيبتي .. ليتها اشتاقت لطفلة .. لقبلة منّا .. أو لقلب مشترك يحضننا بفخر.. يضمنا سوية دون ان يخجل .. ها انا ذا أموت جليدا وكم أشعر بالوحدة .. كم أشعر بالفراغ قبل أن أموت وذكرياتي لم تعد تملك عليّ مِنّة.. ألهذا أنطفيء حبا دون خصوبة .. إن الحب الذي لا ينجب الأطفال بشوق "حب عقيم" .. لكن لا أظن حبيبتي فكّرت يوما بذلك .. لذلك لم تشتق لعمري كما الآن تفعل .. ولم تفكر ساعة أنني قد أموت اللحظة ولا أترك شيئا .. بل كانت تخاف .. ليس مني مؤكد .. لكن تخاف .. ولذا تتردد .. ليبقى الحب الذي لا يتفوق على الخوف من أي دافع كان .. حب ضعيف .. ولا يستطيع أن يصمد أكثر .. لذا لم أتردد .. لذا لم اعد بالحلم أصلا أتلذذ.. وقررت أن أريحها من خوفها .. من ترددها .. من حيرتي .. ثم أودّعها حبيبتي وأرحل .. دون أن أخاف من الموت .. دون أن أجبرها على أن تكون كما أشاء لها أن تكون.. لأن الأهم في الحب حتى ينجح أن تتقبل الآخر كما هو ليس كما أنت تحب له ان يكون .. وحينما تتعوّد حبيبتي ذات يوم على غيابي ستكتشف أنني لم أخطيء بشيء في حقها بقدر ما أخطأت بحق نفسي.. وأنني بكل بساطة لم أكن أقل أنانية منها وأنني بصدق حرمتها شعورا بالذنب ومنعت عنها حرقة حزن قد تلازمها بسبب رحيلي إلى ما تبقى لها من نصيب في هذه الحياة ... فأن أتحمل ذنب انفصالنا كله لوحدي أكثر شيء بعد مماتي على هذه الأرض سيسعدني .. طالما أن ارتياحها النفسي وبسمتها كانت ولم تزل قرة عيني وأنا حي ولتبق أيضا وأنا ميت.. لا يراني أحد هنا وأنا أبحث عنها بين الحضور.. إنها الإنسان الوحيد الذي اخترت يقينا أن يملكني.. وتمنيت أن يسكنني كلّي وأن أسكنه كلّه دون تردد .. دون شكوك .. من دون تبرير .. من دون خوف .. من دون قلق... لا أزال أعترف لها وانا ميت أن الحب جميل .. وأن الثقة فيه هي الأجمل .. وأن ثقتي بها وبحبها لي لم تنقص يوما قدر أنملة بينما الذي نقُص هو يقيني من أن استعدادها كي تعيش معي على ما أنا عليه لم يعد كافيا ليثمر الحب منا طفلا وطفلة.. ولست أعتب ولست أندم .. وحبيبتي لن تتألم .. ولن أتألم.. وها أنا ذا أرحل والقلب عنكِ بالحب راض.. وحبيبتي لم تظلمني يوما .. وأنا أقدّر خيارها وقرارها كان خياري .. لقد انتهينا.. لن أطلب منها بعد الساعة أن تضحي طالما أنا بعجزي .. لم أبادر وان ترجّت لست أفعل ... لست أفعل ... لأني اموت .. فهل تعلمين؟
أني أموت .. وأن أكثر الذين أفكر بهم في آخر لحظاتي هم اللذين أحبهم .. وأكثر الذين أحبهم هم أكثر الذين أحبوني .. إن حبيبتي "طفلة" وهي أكثر من يحتل جوارحي الآن .. بكل بساطة لأنها ليست هنا .. بعيدة جدا عن حرقة شوقي.. عن قلبي أنا.. لا تمسك يدي.. لا تعلم أني بعيدا وحيدا وئيدا شريدا احتضر .. برغم كل هؤلاء اللذين هنا.. اللذين جاءوا فقط لأجلي .. أنا من منحتهم الحب للحظة ثم أرحل ..
أنا أبتعد .. كلما فكرت في الدنيا أكثر اجد أن قلبي عنها يبتعد.. أعلم أن حقائق أخرى مثيرة ستسكنني .. وستنسيني العالم .. وحكايا الناس.. لا أريد أن أفكر الآن بغربة القبر ولا بعقاب الله .. أشعر يقينا أن رحمته تسبق غضبته .. واعلم أكثر أن الله يشهد أن ما بيني وبين هؤلاء الحاضرين ككفني الأبيض .. أنا لم أظلم أحدا ولم أعتد يوما على احد وان لم أكن عند حسن ظن البعض فليس لكوني أمقته أو يكرهني.. بل لنية مني أنني أسدي لهم الجميل أوأقول الحق .. وأنني اتهجم على الآخرين بدافع حسرة بدعوى نخوة وليس رغبة في الظلم ولا في التجني.. أنا لا أكره الناس.. وما سأناله من عقاب بين يدي الله هو "حق" له وعذاب عادل يجوز بحقي.. فأنا مهما أحسنت لم أكن ملاكا برغم كل شيء .. تلك خطاياي التي بيني وبين نفسي.. كم أسأل الله أن يقدرني على تحملها وصبري عليها قليل قبالة جحودي أمام نعم الله .. تلك الكثيرة .. كم أعلم أن تفاصيل عبادتي كانت بسيطة وأن عشقي لسيد الأنبياء محمد عليه الصلاة وعليه السلام لم ترق يوما لحبه الأكبر لأمتنا الجريحة .. كم يؤلمني أكثر أنني كنت -قبل اليوم بقليل- فردا من خير أمة أخرجت للناس لكنها لا تشاء البقاء خير امة أخرجت للناس ..
لا أزال أبتعد .. وكوكب الأرض لم يعد يعنيني بشيء.. أعلم أنني لم أنفع نفسي ههنا بشيء.. لكنني لم أضر غيري بشيء كذلك وهذا ما يريحني الآن أكثر .. أعلم أيضا أن الكثير من العابدين والمتعبدين والمعتكفين أفادوا أنفسهم كثيرا لكنهم لم يفيدوا غيرهم بشيء .. أعلم أن الكثيرين ممن يدّعون الدفاع عن هذا الدين هم أكثر الذين أساءوا إليه .. وأن زعماء القاعدة مثلا هم أغبى المسلمين.. فالذرائع التي منحوها للكفار لاضطهادنا على أرضهم ولقتلنا.. وللمسلمين لنبذنا على أرضنا أكثر ألف من الذرائع التي منحناها لأنفسنا كي نقتل بعضنا قبل أن نقتلهم .. إن الإسلام الذي كان قادرا على جعل بلاد الإفرنج "مسلمة" أصبح "الإسلام" الذي يشكك المسلمون في فحواه أنفسهم .. أعلم أن السلبية التي يتسم بها بعض مشايخ الإسلام اتجاه قضايا الإسلام الكبرى هي سبب استبداد الحكام في حكمهم واستمرار احتقارهم لشعوبهم والتماهي في التبعية لخصمهم .. أعلم أنه لو كان لهؤلاء الحكام على الورق ضمير لانتحروا عرفيا بعد أول عام نالت فيه أوطاننا استقلالها ثم لم تتطور.. إن الفرق بين قادتنا وقادتهم .. أن قادتهم يحدثون الثورة ليتخلصوا من الظلم بينما قادتنا يحدثون الانقلاب ليستميتوا فيه .. هناك السلطة للايدولوجيا والقوانين والمناهج بينما السلطة هنا للأسماء والعائلات الحاكمة والأفراد الخادمة ..
كنت أفكّر بهذا وأنا أبتعد عن بيتي رويدا ثم رويدا أكثر عن كوكب الأرض .. وبعض النيران على خارطة العالم تتكرر وبعض الرصاص يسيح والكثير من أثر الحرب.. كانت بعض البروج تتعالى في حين لاح قربها الأقصى جريحا .. من بعيد وهو يشكو بوميض خافت هزّ خصر المسلمين .. وفتور عضد الفلسطينيين قبل جيرانهم من الأوثان العرب.. يجب على الفلسطينيين أن ينتفضوا الثالثة والرابعة والخمسين وليعلموا أن العرب لن ينصروهم حتى ينتصروا لأنفسهم وأن المسلمين لا يجمعهم إلا الدم حين يسيل ممتزجا بكثافة بين الأمم وأن اليهود لن يتوقفوا عن ظلم الناس حتى يكسر لهم ذراع وساق وأن الأمريكان لن يتوقفوا عن نصرتهم إلا إذا جاعوا وشحذوا منا الوسيلة .. إن الله لا ينصر قوما ذلوا ورضوا بالذل ثم تعايشوا معه, ولن تحترم الأمم الأخرى شحاذا لحق مقدس جاز لنا أن نقاتل لأجله وان نحارب .. يندم الصهاينة اليوم على الفرص الكبيرة التي منحوها للمسلمين كي ينتفضوا .. وقد بلغوا في الظلم حد الإفلاس ويبحثون بشغف عمن يردعهم نعم الردع . إنهم للقتل قدموا ولسفك الدم .. وينتظرون بشوق من يرميهم خلف البحر .. فلتنتفضوا.. ماذا تنتظرون؟
أن يتوب كل الناس؟ .. ويلج الجميع مساجد العالم .. كيف نعاتب الجنود على صدأ السلاح على الأزناد ولا نعتب على ملايين المصلين وهم يلوذون بالمساجد ولا يصرخون الله أكبر .. ماذا قدمت فلول الراكعين الخاوية ضمائرهم وسواعدهم من صوت الحق .. لماذا يؤذن الآذان عبر العالم كل لحظة ثم نركع لله وهاماتنا امام من يدوس حرماته واطية .. هل ننتظر ان ينصرنا الأمريكان .. لماذا سيفعلون؟ وقد تخلت مكة والمدينة عن أدوارها ولم تصبح عواصم الاسلام قائدة العالم .. تألمت لهذا وأنا أبتعد عن جهتي اليمنى من هذي الأرض.. لقد سمعت واشنطن تصهل روما كوبنهاغن وكذا باريس تستفز المسلمين وتخبر العالم أنها لن تتنازل عن أمن إسرائيل بينما نخجل نحن من أن نقول مجرد قول أن الأقصى هذا لنا منذ مئات السنين ويبقى لنا .. بالحق لنا وأن وما أخذ بالقوة وجب أن يسترد إلا بها وأنه يا يهود لا حظ للعدل في ظلال الاحتلال الغاشم... لماذا نخاف؟ وكلنا سوف نبتعد يوما عن هذي الأرض؟ ألذلك ينكر حكامنا انهم يدعمون علنا مقاومة الله بالسلاح وبالمؤونة والبارود وبالصواريخ .. هل حق لهم ما نحرمه بأيدينا على أنفسنا .. صرختُ فيهم .. قُبحتم وأنا أموت فيكم كمدا يا عرب ..
طبعا سأموت وليس عليّ أن أحزن بعد ذلك على كل هذا .. فقد انتهيت .. كما لن أفعل ذلك وحدي .. بل سيلحق بي الكثير منكم "طيبين" أو "أشقياء" كما سبقنا آخرون من الجبناء ومن البواسل.. والأهم في كل ما خطر بقلبي أعلاه أن الانسان لا يعيش بمعزل عن الآخرين وأنه يكتشف ذلك أكثر حينما يفارقهم أو يفارقون .. وأن حياته لم تمض يوما على صعيد واحد بل تلتقي عبرها الكثير من المشاعر والمعتقدات والأفئدة .. بين حياتك الشخصية والاجتماعية تستطيع أن تنجو من الجحيم وبين رغباتك ومبادئك تستطيع أن تفيد وتستفيد .. حياتنا العاطفية والنفسية ترتبط ارتباطا كاملا بمواقفنا الانسانية والأخلاقية .. ثم إن الله لن يسألنا عن التزاماتنا الفقهية والتعبدية فحسب .. بل لمواقفنا وتضحياتنا اتجاه قضايانا الاجتماعية والقومية والسياسية .. لجهاد ضمائرنا شأن أكبر .. وديننا يأمر بالصلاة والصيام ويأمر أيضا بالنزاهة والكرامة , يأمر بالإيثار والبذل والعدل .. ويخبرنا أن المسلم الذي يحبه الله أكثر إنسان لا يحيا لنفسه بقدر ما يحيا للآخرين وأن تفكيره بهم يتجاوز بكثير تفكيره بشخصه الذي لا قيمة له دونهم ..
كنت أعلم أن وجودي في هذه الدنيا أشسع من قلبي الذي لم يسع تضحية من أجل امرأة أحببتها وأضيق من شقفة أرض احتلها العدو وأعجز عن تحريرها بنفسي.. إن قضايا الوطن والأمة وطن أعظم عادة من قضايا الحب والعمل والأسرة.. فالحب لقلبك والوطن للجميع .. إن الوطن الحقيقي هو الذي يحيا فيه الذين يشاركونك كل شيء من اللغة إلى الديانة إلى الأرض بكرامة, أعلم أنني لستُ ملزما بتجرع الألم على مآل فلسطين منذ الأزل وأنا أنعم بالحرية في الجزائر .. لكن الجزائر الحرة علمتني أن طعم الاحتلال مر وأنه لا يحلو طعم الاستقلال طالما الشقيق محاصر كما لا يحلو طعم الشبع طالما الجار جوعان .. مؤكد لم أعش مستعمَرا ولو ليوم لكنني شاهدت ذلك يومض دائما على عيون أبي .. ولا تختلف عيون ابي كثيرا عن عيون آباءا الفلسطينيين في الجهة الخرى من القلب.. لذلك أفكر بفلسطين الساعة بينما أنا أموت ..
ليس من الدين أن تفكر في نفسك دائما وتنكر الآخر.. وليس من الدين أيضا أن تطهر الجسد والقلب نجس .. لذا عُلمَ إن من لا ينتفض كل يوم لأن فلسطين لا تزال محتلة ولأن صورة الإسلام دين البشرية شوهها التخلف والانحطاط إسلامه ناقص ويتساوى في نقص الإسلام الذي أقصده عامة الناس وكل الحكام العرب منهم والمسلمين والقادة جميعا وكل المثقفين وكل علماء الدين على اختلاف مذاهبهم ممن يملأ ون الفضاءات بفتاوى الجهاد أو الطهارة والوضوء وقلوبهم في ساح الوغى الحضاري ذليلة .. في عين العدى ذليلة .. كلنا في نظر العالم متخلفون ونحن كذلك إلى أن نستفيق من هذا الخزي والتميع والسبات ونثبت لهذا العالم أن الله خلق كوكب الأرض ليكون الإسلام فيه خليفة وليبقى إلى يوم الدين شكلا ومضمونا سائدا سديدا .. لا مسودا ..
ولا أزال أبتعد عن الأرض رغم أنني في الحقيقة أزداد التصاقا بها كلما خُيل لي أني ابتعدت أكثر.. لقد كدت أنسى أنني لم أمت بعد .. وأنني حتما سأموت وسأفكر بكل هذه الأشياء لآخر مرة ذات يوم .. وستكون هذه ربما آخر كلماتي اليوم في حضرة الذين أحبهم لمن يقرؤون لي الآن ...
من يدري .. قد أموت فعلا بعد نقطة النهاية تحت.. وقد تكون هذه أكثر رسالة من شأنها أن تحيي ضميرا في طور الضمور أو قلبا طيبا في طور التشقق .. أكتبها علّها تستيقظ به في عالم ينسينا في كل لحظة أننا لم نقدر الحياة حق قدرها وأن كل ما نحياه مركب على "نقص" مفضوح في شجاعتنا اتجاه الذين نحبهم والذين هم في أمس الحاجة إلينا لأننا بكل بساطة شركاء في كل شيء على هذه الأرض .. شركاء في الحب وفي العقيدة وفي الأرض .. ربما لن ننتبه إلى هذا إلا بعدما نموت ونستطيع إبصار كوكبنا من أعلى .. ونكتشف كم أننا كنا صغارا وكم أنه كان بوسعنا فعل الكثير .. لكننا لم نفعل .. لم نفعل ...
أنتم لم تروني قبل اليوم .. وأنا لم أركم بعد .. لكن اعدكم .. أعدكم جميعا أنني سأراكم ذات يوم .. ستروني بعد ان اموت وسنستعيد سوية أشرطة ما يجول على مسامعنا .. ما تنبض به قلوبنا .. ما اقترفناه في حق بعضنا البعض على كوكب الأرض.
وإلى لقاء قريب...
أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ..
سليم مكي سليم
.......
...........
لم أستيقظ هذا الصباح ههنا, وملامح الدنيا كانت بمقاس آخر, لا يستوعبه البيت ولا الشارع ولا كوكب الأرض حتى.. والعيون التي كانت تبكي من حولي بصمت لم تعد تبصرني وأنا أحلق, لم تعد تشعر بي وأنا ألامس شعرها الشهي, أمسح بيديّ الباردتين أدمعها, استطعت لأول مرة في حياتي أن اخترق الجدران, والسقف لم يعد يمنعني لأبصر السماء, وساقاي لم تعد تقوى على المشي بي, بل تدفعني دفعا لأرتقي عبر السحاب.
لأول مرة شاهدت سطوع مكة من الفضاء, وبرج العرب السخيف, وشاهدت أيضا سور الصين العظيم كيف تلوّى, وأنوار المدينة التي غطاها الثلج في عز الصيف, وشاهدت رغم ذلك كيف أن وادي بلدتي الذي جفّ يبكي على فراق الماء, ويحتضر الهوينى كلما عانقه الملح الخانق عند المصب, البحر يبتلع كل شيء حتى المياه التي نشربها, أما الشمس التي احتبسها الناس فلم تعد تحرق كما كانت, أشعتها بعد الموت تفقد سُمّيتها وتزدان بطيف رائع أشبه بستائر القطب الجميل حين يسدله الفجر, الأرض كوكب رائع والبشر أثخنوه طعنا حتى تشقق اللب واستحال الجبل الأبيض إلى فتات, لماذا لا نشعر بالسعادة لمّا نحيا ونستجديها بشوق بعد الممات, ألم يخلق الله على الأرض "جنّة" ؟ .. لماذا أفكر بهذا اليوم؟ .. فقد مضى على موتي سويعة, ولم يعد بوسعي أن أخاطب أحبتي, أو أن أسألهم على جواب يكفيني الحيرة الكبرى بعد رحيلي, أو أن أذكّرهم بأن أروع ما في هذه الأرض هو أن نحرص على ما فيها من محبة.. من جمال .. ومن حياة.. قبل أن نذهب مثل الدمعة في الغابرين..
كنت أبتعد عني.. وكائنات أخرى من حولي ترافقني.. تعرفني جدا لكنها عني غريبة.. بدأت أخاف .. رغم أن الملائكة نورانية من حولي وريحها من ياسمين.. لم أتعود على تنفس المسك عوض الأكسجين .. والهواء هناك بفضلهم بمذاق آخر .. مثل شراب الزهر أو أحلى .. مثل نسمة الموج والمطر.. لا وجود للظلام في رحلتي .. لا وجود للشياطين أصلا .. هذه الأخيرة وجدت فوق الأرض فندقا من عشر نجوم والبشر الأغبياء من يقوم بخدمتها.. وقد منحوها الاعتماد من زمان الأزمنة.. "نحن" فقط من مكنّ ملوك الشر من سبي الأرض ومن امتلاك الأشقياء والمصائر والأبنية, تخيلوا أن مملكة الشيطان الكبرى على أرضكم لا يحرسها إلا "عباد الله" !!!..
الأفق أمامي يتفتق .. والنور يطغى .. لكنني لا أزال أيضا مشدودا للخلف .. فراق الأرض يعزّ علي .. وأصدقائي لا يزالوا يبحثون عني .. عن عنوان بيتي الجديد .. عن حدود قبري البعيد .. عن خدّ أبي الممتليء بتجاعيد الكون .. حين أموت صغيرا ولا أأخذ معي غير دموعي التي لن يراها أحد .. تغسلني العبرات لوحدي ثم تسقط من جسدي المتناثر كما اللآليء.. تتفرق في الفضاء .. توسعه وميضا ولا يشعر بي ولا بها أيّ أحد .. طلََبَتي الذين كنت أدرّسهم يعتصمون الآن أمام المعهد .. يطالبون بحافلة تنقلهم إلى "توديعي" رفقة باقي الأساتذة.. الكل يريد مشاهدتي لآخر مرة .. ولا أحد منهم يعلم أني الآن ابتعدت كثيرا قبل أن يصلوا إلى ذلك البيت .. سوف يحضروا جموعا وفرادى كي لا يجدوني .. أشعر أني الآن أكثر ظلما لمن أحبهم من أي وقت آخر .. أشعر أيضا كما شعرت دوما أن الكل صدقا كان لأجل لاشيء محدد يحبني.. أحببتهم أيضا .. ولم أعرف بعدُ في حياتي شخصا واحدا يمقتني.. حتى الذي ألِفته يغار مني لمرات على هذه الهبة أو تلك أشعَرني -كلما سنحت الفرصة لقلبه أن يعذرني- أنني لم أُخلق إلا ليحبني وأنه لا ذنب لي حينما أتفوق عليه .. ثم يكتشف أنني أفضل منه فعلا في عدة أشياء .. قدرتي على اكتساب ود الآخرين في وقت قصير.. اهتمام المديرة المتميز بي .. تحية الحارس الحارة لي .. يقول لي بسمتك أفضل جرس يوقظ حيويتي كل صباح.. في كل لفة شارع كان لي صديق .. في كل ركن مسجد .. في كل مقعد "باص" .. على طاولة كل مطعم .. كنت أجيد أن أتكلم .. بعيوني أختصر الكثير من الحديث .. بعض الصمت مشحون بالضجيج .. وبعض النظرات رسائل "صداقة" كامنة .. لست أدري لماذا الكل يفتقدني هذا اليوم .. في عملي .. في حارتي .. حتى سائق الباص الذي أركبه ويعرف بيتي .. جاء رفقة القابض يودعني .. لا أحد من أقاربي يعرف الزوار كلّهم .. لكن أقاربي يعرفون أن الذين أحبوا "سليم" لا عَدَّ لهم .. وقد كان حضورهم المكثف مواسيا للأهل ومعذّبا لي .. إذ كنت أراهم جميعا حائرين .. وأحب أن أقوم للمسهم ولا أستطيع.. كم أحن اللحظة لأن أفرك بأصابعي الطويلة كتف "هذا" وشعر "ذاك" .. جفون امرأة أحبتني ولم تعترف, مبتلةُ على الآخر .. تُسائلني.. لماذا يموت الذين نحبهم قبل أن نخبرهم بذلك؟ .. جارتي التي لا أولاد لها صرخت .. لماذا ترحل عنا ابتسامات الطيبين الذين أهداهم لنا الله دون مقابل..
ليس الغرور من ينطقني وأنا ميت .. لكنها لهفة قلوبهم على استعادة بسمتي التي لم تفارقهم ليوم .. أنا لم أكن صاحب فضل عليهم في شيء ذات يوم.. كل ما فعلته هو أنني كنت أمنحهم الحب بصخب بقدر ما منحوني إياه بصمت.. كثيرون هم أولئك الذين لا يجيدون التعبير عن مشاعرهم بشجاعة.. بفنية أو بعمق.. كنت كلما صادفتُ أحدهم تحدثت عنه بدلا عنه .. بُحت مبتسما بما أقرأه على عيونه حتى ينفطر قلبي ثم يعانقني بقلبه الذي يغمره الفرح ثم يرقص بأنامله على كف يدي.. شعور الآخرين بالامتنان حين تجول بأعماقهم .. حين تشعر بهم وتعرّي ما يفكرون به وهم سكوت أشبه بباقة ورد يهدونك إياها عند كل مصادفة ولقاء .. شعورهم بانقضاء أجَل هذا الامتنان هو الذي أعطاني الشعور بأنهم افتقدوني .. لهذا أتوا .. وأنا ميت كي يحتضنوني.. فكل الذين أحببتهم اليوم افتقدوني .. وهم يعلمون أنها الفرصة الأخيرة كي أراهم قبل أن أبتعد كثيرا عن كوكب الأرض حيث تسمّروا .. قبالتي صامتون .. يرغبون في الاعتراف لي بأشياء كثيرة قبل أن أغادر .. مثلهم أيضا أريد أن أتكلم .. لا أحد يسمعني ..وكم أفتقد جسدي هذا اليوم .. اليابس جدا .. وجوارحي تعانق كل شيء يفتقدني.. دون أن تلامسه ..
كم أفتقده .. بيتي المهتريء أيضا يفتقدني.. مفتاح الباب .. ستائر النافذة .. كرسيّ مكتبي .. براويز الجدار .. رفوف مكتبتي .. زهور الحديقة تفتقدني ... وقطتي الوديعة تفتقدني أكثر منهم جميعا.. حتى الجرذ الصغير الذي كان يرعبني في القبو.. الذي كان يزعجني في الحلم كلما من ذيله خفت .. كلما اقشعر بدني من خشخشته.. شهدته الساعة يفتقدني .. ويهمس للقبو ويقسم أنه لم يكن ينوي إزعاجي بقدر ما كان يبحث عن شيء ما خلف ثلاجتي يقتات عليه .. لقد كنت جبانا .. وأعترف .. أنني حاربت مَقدمهُ برمي الكراسي.. بفرش السموم وصقل العصيّ كي أقتله .. وكنت أصرخ "بالله عليك ارحل من بيتي أنا لا أطيقك".. " و إن لم تفعل فأنا سأرحل".. فأر الحقول يكرّم موتي هذا اليوم ويحزم أمتعته من قبوي بعد رحيلي كي يرحل .. قبل أن أرحل .. وأنا أرقبُ الكل وهم لا يعلمون .. أنني كنت هناك بين الجموع أطوف.. أشاهد آخر من مرّ على عمري من ضيوف.. ومن أعلى أرقب مشلولا صديقي "عبد الله" وهو يهوي .. أكثر الذين أحبني من الرفاق لم يعد يقوى على الوقوف .. فيقع على ركبتيه ثم يبكي .. "منى" الصغيرة بنت الجيران تقف خلف الباب وحيدة وتبكي .. ربما لأنهم يبكون .. ربما لأن احدهم قال لها أنني سافرت بدون رجعة .. كانت "مون" تنتظرني كلما من عملي عدت, تطلب شكولاطة .. فأسحبها من جيبي قبل أن تكمل .. أعلم أنها لم تكن تحب الشكولا بقدر ما كانت تحبني..
أهلي !!! ... لا أريد أن يلمحوا هذا الكلام .. ولا أريد لهم أن يستعدوا لهذا الشعور قبل أن أذهب... هذا الوجع سوف يحصل .. وكم يؤلم طويلا كل هذا .. وكم يُتعب.. حبيبتي الجميلة جدا لا أريدها أن تسمع عني أني متّ .. لقد غيرت دليل هواتفي قبل أن أموت .. وتخاصمنا .. تعمدت أن أقسوَ أكثر .. كي تكرهني أكثر .. لقد انفصلنا قبل موتي قرابة شهر .. وأخبرت أهلي أن كل شيء انتهى.. وحبيبتي منذ عصور لم تعد تكلمني على اعتبار أنني لم أعد أقدّر الحب ولا أميل للتضحيات وأنني أطالب بالمستحيل ولا أقدّم شيئا .. وأن المسافات التي أخترعتها وهمية جدا ولا أسعى لكسرها لأنني بكل بساطة لا أريد .. لا أريد أن أبني لنا مستقبلا أفضل .. لا أريد أن أكون لها ولها وفقط.. وكم كان سهلا عليّ كرجل مجنون أن أقنعها مثلا أن امرأة أخرى ولجت حياتي أوأنني الرجل الخائن دون ريب لم أعد أحبها كما كنت .. وأنني لم أبق على وعدي مثلما قلت .. وأنني أصر على أشياء كثيرة يعدّها الحبيبين أعْرافا ومن متطلبات الحياة لكنها في الحقيقة لا تكفي لضمان استمرارية الحب وإنجاح الزواج .. ثم ما أكثر الأفكار الفلسفية التي يمكنك استغلالها وهي التي لا تعني لك شيئا أمام ذكراك الجميلة حينما لا تصبح أنت .. أنت ..
بعد الرحيل تنتحر ذرائع الاختلاف ويخبو وهج النقاش المرّ وتسقط بالموت كل الوعود التي قطعناها ولا يصبح للعجز -أيام الحياة التي ضاعت- غير معنى واحد .. كم كنا ضعافا وأغبياء حينما أضعنا كل هذا العمر في التفاوض.. ثم ليتنا عشنا سويعة .. سويعة سويا بدون شروط .. كثرت الشروط وقصر العمر ولم نعش معا ولو ربع ساعة .. أحتاج لصفعة وأنا ميت.. حبيبتي عذرا .. لم أكن في مستوى الحب .. وقد دمّرت قلبي ولم أشأ لقلبك بسببي أن يتذمر.. هل تعلمين؟
إن حياة القلوب تتدمر دوما على بقايا ترددنا و مخاوفنا أو مطامعنا .. بينما الحب الجيد من الحياة يتضاعف وهجه حين نستغني عما نريده نحن إكراما لما يريده الآخرون .. بعض الأنانية كفيل لاستمراريته .. والكثير منها يقضي عليه ولا ريب .. قبل أن تطالب غيرك بأن يضحي .. ضحّي أنت .. ادر انت .. وان لم تجد لتضحيتك نتيجة تُذكرفلا يجب أن تندم حتى لا تنفي عمّا قدمته لمن تحب صبغة التضحية .. لقد ضحيتَ وحين تضحي يجب أن تتقبل الخسارة وتستعد لها دون أن تشكو من أنك تخسر..
أعترف اليوم أنني خسرت امرأة أحبها وليتها كانت معي .. كزوجتي التي تمنحني الحب بحب .. تمنحني الدفء وان بنظرة قبل أن أغادر القلب الذي لم يعد ينبض.. قبل أن أغمض عيني على عينيها ثم أموت.. ربما كنت سأمنحها مني قبل أن أرحل طفلا هدية .. قلبا بدمي يؤنسها بقلبه .. في دمه نبضي إلى آخر العمر .. لست أدري لمَ لمْ أفكر قبل اليوم في روعة الأطفال وقد كنت طفلا.. لمْ أفكر في دورهم وقد مارست دوري صغيرا على اكمل وجه.. أشعر الآن بالألم مضاعفا حينما أأخذ معي كل ما أملكه في داخلي ثم أرحل .. دون أن أترك "مني" لهذا العالم "شيئا" .. دون أن أورّث من جيناتي لهذا الحب أبسط شيء .. لا أخلّف أدنى إشارة تقول للتاريخ أني هنا .. ومن هنا مررت .. وهذا اللون لون عيوني .. ويحمل ابني كلما اشتاق إليّ هذا الكتاب ويقبّل أمه.. لماذا نحب يا أمي؟ .. كيف لم تشتقْ لصبي مني حبيبتي .. ليتها اشتاقت لطفلة .. لقبلة منّا .. أو لقلب مشترك يحضننا بفخر.. يضمنا سوية دون ان يخجل .. ها انا ذا أموت جليدا وكم أشعر بالوحدة .. كم أشعر بالفراغ قبل أن أموت وذكرياتي لم تعد تملك عليّ مِنّة.. ألهذا أنطفيء حبا دون خصوبة .. إن الحب الذي لا ينجب الأطفال بشوق "حب عقيم" .. لكن لا أظن حبيبتي فكّرت يوما بذلك .. لذلك لم تشتق لعمري كما الآن تفعل .. ولم تفكر ساعة أنني قد أموت اللحظة ولا أترك شيئا .. بل كانت تخاف .. ليس مني مؤكد .. لكن تخاف .. ولذا تتردد .. ليبقى الحب الذي لا يتفوق على الخوف من أي دافع كان .. حب ضعيف .. ولا يستطيع أن يصمد أكثر .. لذا لم أتردد .. لذا لم اعد بالحلم أصلا أتلذذ.. وقررت أن أريحها من خوفها .. من ترددها .. من حيرتي .. ثم أودّعها حبيبتي وأرحل .. دون أن أخاف من الموت .. دون أن أجبرها على أن تكون كما أشاء لها أن تكون.. لأن الأهم في الحب حتى ينجح أن تتقبل الآخر كما هو ليس كما أنت تحب له ان يكون .. وحينما تتعوّد حبيبتي ذات يوم على غيابي ستكتشف أنني لم أخطيء بشيء في حقها بقدر ما أخطأت بحق نفسي.. وأنني بكل بساطة لم أكن أقل أنانية منها وأنني بصدق حرمتها شعورا بالذنب ومنعت عنها حرقة حزن قد تلازمها بسبب رحيلي إلى ما تبقى لها من نصيب في هذه الحياة ... فأن أتحمل ذنب انفصالنا كله لوحدي أكثر شيء بعد مماتي على هذه الأرض سيسعدني .. طالما أن ارتياحها النفسي وبسمتها كانت ولم تزل قرة عيني وأنا حي ولتبق أيضا وأنا ميت.. لا يراني أحد هنا وأنا أبحث عنها بين الحضور.. إنها الإنسان الوحيد الذي اخترت يقينا أن يملكني.. وتمنيت أن يسكنني كلّي وأن أسكنه كلّه دون تردد .. دون شكوك .. من دون تبرير .. من دون خوف .. من دون قلق... لا أزال أعترف لها وانا ميت أن الحب جميل .. وأن الثقة فيه هي الأجمل .. وأن ثقتي بها وبحبها لي لم تنقص يوما قدر أنملة بينما الذي نقُص هو يقيني من أن استعدادها كي تعيش معي على ما أنا عليه لم يعد كافيا ليثمر الحب منا طفلا وطفلة.. ولست أعتب ولست أندم .. وحبيبتي لن تتألم .. ولن أتألم.. وها أنا ذا أرحل والقلب عنكِ بالحب راض.. وحبيبتي لم تظلمني يوما .. وأنا أقدّر خيارها وقرارها كان خياري .. لقد انتهينا.. لن أطلب منها بعد الساعة أن تضحي طالما أنا بعجزي .. لم أبادر وان ترجّت لست أفعل ... لست أفعل ... لأني اموت .. فهل تعلمين؟
أني أموت .. وأن أكثر الذين أفكر بهم في آخر لحظاتي هم اللذين أحبهم .. وأكثر الذين أحبهم هم أكثر الذين أحبوني .. إن حبيبتي "طفلة" وهي أكثر من يحتل جوارحي الآن .. بكل بساطة لأنها ليست هنا .. بعيدة جدا عن حرقة شوقي.. عن قلبي أنا.. لا تمسك يدي.. لا تعلم أني بعيدا وحيدا وئيدا شريدا احتضر .. برغم كل هؤلاء اللذين هنا.. اللذين جاءوا فقط لأجلي .. أنا من منحتهم الحب للحظة ثم أرحل ..
أنا أبتعد .. كلما فكرت في الدنيا أكثر اجد أن قلبي عنها يبتعد.. أعلم أن حقائق أخرى مثيرة ستسكنني .. وستنسيني العالم .. وحكايا الناس.. لا أريد أن أفكر الآن بغربة القبر ولا بعقاب الله .. أشعر يقينا أن رحمته تسبق غضبته .. واعلم أكثر أن الله يشهد أن ما بيني وبين هؤلاء الحاضرين ككفني الأبيض .. أنا لم أظلم أحدا ولم أعتد يوما على احد وان لم أكن عند حسن ظن البعض فليس لكوني أمقته أو يكرهني.. بل لنية مني أنني أسدي لهم الجميل أوأقول الحق .. وأنني اتهجم على الآخرين بدافع حسرة بدعوى نخوة وليس رغبة في الظلم ولا في التجني.. أنا لا أكره الناس.. وما سأناله من عقاب بين يدي الله هو "حق" له وعذاب عادل يجوز بحقي.. فأنا مهما أحسنت لم أكن ملاكا برغم كل شيء .. تلك خطاياي التي بيني وبين نفسي.. كم أسأل الله أن يقدرني على تحملها وصبري عليها قليل قبالة جحودي أمام نعم الله .. تلك الكثيرة .. كم أعلم أن تفاصيل عبادتي كانت بسيطة وأن عشقي لسيد الأنبياء محمد عليه الصلاة وعليه السلام لم ترق يوما لحبه الأكبر لأمتنا الجريحة .. كم يؤلمني أكثر أنني كنت -قبل اليوم بقليل- فردا من خير أمة أخرجت للناس لكنها لا تشاء البقاء خير امة أخرجت للناس ..
لا أزال أبتعد .. وكوكب الأرض لم يعد يعنيني بشيء.. أعلم أنني لم أنفع نفسي ههنا بشيء.. لكنني لم أضر غيري بشيء كذلك وهذا ما يريحني الآن أكثر .. أعلم أيضا أن الكثير من العابدين والمتعبدين والمعتكفين أفادوا أنفسهم كثيرا لكنهم لم يفيدوا غيرهم بشيء .. أعلم أن الكثيرين ممن يدّعون الدفاع عن هذا الدين هم أكثر الذين أساءوا إليه .. وأن زعماء القاعدة مثلا هم أغبى المسلمين.. فالذرائع التي منحوها للكفار لاضطهادنا على أرضهم ولقتلنا.. وللمسلمين لنبذنا على أرضنا أكثر ألف من الذرائع التي منحناها لأنفسنا كي نقتل بعضنا قبل أن نقتلهم .. إن الإسلام الذي كان قادرا على جعل بلاد الإفرنج "مسلمة" أصبح "الإسلام" الذي يشكك المسلمون في فحواه أنفسهم .. أعلم أن السلبية التي يتسم بها بعض مشايخ الإسلام اتجاه قضايا الإسلام الكبرى هي سبب استبداد الحكام في حكمهم واستمرار احتقارهم لشعوبهم والتماهي في التبعية لخصمهم .. أعلم أنه لو كان لهؤلاء الحكام على الورق ضمير لانتحروا عرفيا بعد أول عام نالت فيه أوطاننا استقلالها ثم لم تتطور.. إن الفرق بين قادتنا وقادتهم .. أن قادتهم يحدثون الثورة ليتخلصوا من الظلم بينما قادتنا يحدثون الانقلاب ليستميتوا فيه .. هناك السلطة للايدولوجيا والقوانين والمناهج بينما السلطة هنا للأسماء والعائلات الحاكمة والأفراد الخادمة ..
كنت أفكّر بهذا وأنا أبتعد عن بيتي رويدا ثم رويدا أكثر عن كوكب الأرض .. وبعض النيران على خارطة العالم تتكرر وبعض الرصاص يسيح والكثير من أثر الحرب.. كانت بعض البروج تتعالى في حين لاح قربها الأقصى جريحا .. من بعيد وهو يشكو بوميض خافت هزّ خصر المسلمين .. وفتور عضد الفلسطينيين قبل جيرانهم من الأوثان العرب.. يجب على الفلسطينيين أن ينتفضوا الثالثة والرابعة والخمسين وليعلموا أن العرب لن ينصروهم حتى ينتصروا لأنفسهم وأن المسلمين لا يجمعهم إلا الدم حين يسيل ممتزجا بكثافة بين الأمم وأن اليهود لن يتوقفوا عن ظلم الناس حتى يكسر لهم ذراع وساق وأن الأمريكان لن يتوقفوا عن نصرتهم إلا إذا جاعوا وشحذوا منا الوسيلة .. إن الله لا ينصر قوما ذلوا ورضوا بالذل ثم تعايشوا معه, ولن تحترم الأمم الأخرى شحاذا لحق مقدس جاز لنا أن نقاتل لأجله وان نحارب .. يندم الصهاينة اليوم على الفرص الكبيرة التي منحوها للمسلمين كي ينتفضوا .. وقد بلغوا في الظلم حد الإفلاس ويبحثون بشغف عمن يردعهم نعم الردع . إنهم للقتل قدموا ولسفك الدم .. وينتظرون بشوق من يرميهم خلف البحر .. فلتنتفضوا.. ماذا تنتظرون؟
أن يتوب كل الناس؟ .. ويلج الجميع مساجد العالم .. كيف نعاتب الجنود على صدأ السلاح على الأزناد ولا نعتب على ملايين المصلين وهم يلوذون بالمساجد ولا يصرخون الله أكبر .. ماذا قدمت فلول الراكعين الخاوية ضمائرهم وسواعدهم من صوت الحق .. لماذا يؤذن الآذان عبر العالم كل لحظة ثم نركع لله وهاماتنا امام من يدوس حرماته واطية .. هل ننتظر ان ينصرنا الأمريكان .. لماذا سيفعلون؟ وقد تخلت مكة والمدينة عن أدوارها ولم تصبح عواصم الاسلام قائدة العالم .. تألمت لهذا وأنا أبتعد عن جهتي اليمنى من هذي الأرض.. لقد سمعت واشنطن تصهل روما كوبنهاغن وكذا باريس تستفز المسلمين وتخبر العالم أنها لن تتنازل عن أمن إسرائيل بينما نخجل نحن من أن نقول مجرد قول أن الأقصى هذا لنا منذ مئات السنين ويبقى لنا .. بالحق لنا وأن وما أخذ بالقوة وجب أن يسترد إلا بها وأنه يا يهود لا حظ للعدل في ظلال الاحتلال الغاشم... لماذا نخاف؟ وكلنا سوف نبتعد يوما عن هذي الأرض؟ ألذلك ينكر حكامنا انهم يدعمون علنا مقاومة الله بالسلاح وبالمؤونة والبارود وبالصواريخ .. هل حق لهم ما نحرمه بأيدينا على أنفسنا .. صرختُ فيهم .. قُبحتم وأنا أموت فيكم كمدا يا عرب ..
طبعا سأموت وليس عليّ أن أحزن بعد ذلك على كل هذا .. فقد انتهيت .. كما لن أفعل ذلك وحدي .. بل سيلحق بي الكثير منكم "طيبين" أو "أشقياء" كما سبقنا آخرون من الجبناء ومن البواسل.. والأهم في كل ما خطر بقلبي أعلاه أن الانسان لا يعيش بمعزل عن الآخرين وأنه يكتشف ذلك أكثر حينما يفارقهم أو يفارقون .. وأن حياته لم تمض يوما على صعيد واحد بل تلتقي عبرها الكثير من المشاعر والمعتقدات والأفئدة .. بين حياتك الشخصية والاجتماعية تستطيع أن تنجو من الجحيم وبين رغباتك ومبادئك تستطيع أن تفيد وتستفيد .. حياتنا العاطفية والنفسية ترتبط ارتباطا كاملا بمواقفنا الانسانية والأخلاقية .. ثم إن الله لن يسألنا عن التزاماتنا الفقهية والتعبدية فحسب .. بل لمواقفنا وتضحياتنا اتجاه قضايانا الاجتماعية والقومية والسياسية .. لجهاد ضمائرنا شأن أكبر .. وديننا يأمر بالصلاة والصيام ويأمر أيضا بالنزاهة والكرامة , يأمر بالإيثار والبذل والعدل .. ويخبرنا أن المسلم الذي يحبه الله أكثر إنسان لا يحيا لنفسه بقدر ما يحيا للآخرين وأن تفكيره بهم يتجاوز بكثير تفكيره بشخصه الذي لا قيمة له دونهم ..
كنت أعلم أن وجودي في هذه الدنيا أشسع من قلبي الذي لم يسع تضحية من أجل امرأة أحببتها وأضيق من شقفة أرض احتلها العدو وأعجز عن تحريرها بنفسي.. إن قضايا الوطن والأمة وطن أعظم عادة من قضايا الحب والعمل والأسرة.. فالحب لقلبك والوطن للجميع .. إن الوطن الحقيقي هو الذي يحيا فيه الذين يشاركونك كل شيء من اللغة إلى الديانة إلى الأرض بكرامة, أعلم أنني لستُ ملزما بتجرع الألم على مآل فلسطين منذ الأزل وأنا أنعم بالحرية في الجزائر .. لكن الجزائر الحرة علمتني أن طعم الاحتلال مر وأنه لا يحلو طعم الاستقلال طالما الشقيق محاصر كما لا يحلو طعم الشبع طالما الجار جوعان .. مؤكد لم أعش مستعمَرا ولو ليوم لكنني شاهدت ذلك يومض دائما على عيون أبي .. ولا تختلف عيون ابي كثيرا عن عيون آباءا الفلسطينيين في الجهة الخرى من القلب.. لذلك أفكر بفلسطين الساعة بينما أنا أموت ..
ليس من الدين أن تفكر في نفسك دائما وتنكر الآخر.. وليس من الدين أيضا أن تطهر الجسد والقلب نجس .. لذا عُلمَ إن من لا ينتفض كل يوم لأن فلسطين لا تزال محتلة ولأن صورة الإسلام دين البشرية شوهها التخلف والانحطاط إسلامه ناقص ويتساوى في نقص الإسلام الذي أقصده عامة الناس وكل الحكام العرب منهم والمسلمين والقادة جميعا وكل المثقفين وكل علماء الدين على اختلاف مذاهبهم ممن يملأ ون الفضاءات بفتاوى الجهاد أو الطهارة والوضوء وقلوبهم في ساح الوغى الحضاري ذليلة .. في عين العدى ذليلة .. كلنا في نظر العالم متخلفون ونحن كذلك إلى أن نستفيق من هذا الخزي والتميع والسبات ونثبت لهذا العالم أن الله خلق كوكب الأرض ليكون الإسلام فيه خليفة وليبقى إلى يوم الدين شكلا ومضمونا سائدا سديدا .. لا مسودا ..
ولا أزال أبتعد عن الأرض رغم أنني في الحقيقة أزداد التصاقا بها كلما خُيل لي أني ابتعدت أكثر.. لقد كدت أنسى أنني لم أمت بعد .. وأنني حتما سأموت وسأفكر بكل هذه الأشياء لآخر مرة ذات يوم .. وستكون هذه ربما آخر كلماتي اليوم في حضرة الذين أحبهم لمن يقرؤون لي الآن ...
من يدري .. قد أموت فعلا بعد نقطة النهاية تحت.. وقد تكون هذه أكثر رسالة من شأنها أن تحيي ضميرا في طور الضمور أو قلبا طيبا في طور التشقق .. أكتبها علّها تستيقظ به في عالم ينسينا في كل لحظة أننا لم نقدر الحياة حق قدرها وأن كل ما نحياه مركب على "نقص" مفضوح في شجاعتنا اتجاه الذين نحبهم والذين هم في أمس الحاجة إلينا لأننا بكل بساطة شركاء في كل شيء على هذه الأرض .. شركاء في الحب وفي العقيدة وفي الأرض .. ربما لن ننتبه إلى هذا إلا بعدما نموت ونستطيع إبصار كوكبنا من أعلى .. ونكتشف كم أننا كنا صغارا وكم أنه كان بوسعنا فعل الكثير .. لكننا لم نفعل .. لم نفعل ...
أنتم لم تروني قبل اليوم .. وأنا لم أركم بعد .. لكن اعدكم .. أعدكم جميعا أنني سأراكم ذات يوم .. ستروني بعد ان اموت وسنستعيد سوية أشرطة ما يجول على مسامعنا .. ما تنبض به قلوبنا .. ما اقترفناه في حق بعضنا البعض على كوكب الأرض.
وإلى لقاء قريب...
أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ..
سليم مكي سليم
تعليق