تأملات في قوله تعالى ( وكانوا مستبصرين )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد الكاتب
    أديب وكاتب
    • 11-07-2024
    • 76

    تأملات في قوله تعالى ( وكانوا مستبصرين )



    تأملات في قوله تعالى ( وكانوا مستبصرين )
    (( وَعَادࣰا وَثَمُودَا۟ وَقَد تَّبَیَّنَ لَكُم مِّن مَّسَـٰكِنِهِمۡۖ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِیلِ وَكَانُوا۟ مُسۡتَبۡصِرِینَ )) سورة العنكبوت 38
    بالفعل موغلة في الألم والمفارقة، إذ تقول: "وكانوا مستبصرين". إن هذه الكلمة وحدها كافية لهزّ القلب وتفجير ينبوع التأمل، فهي تضعنا أمام مشهد مختلف عن ذلك الذي قد نتصوره حين نتكلم عن الضالين أو الهالكين. فهؤلاء القوم لم يكونوا من الجهال الذين يُعذرون بجهلهم، ولم يكونوا من السفهاء الذين يُستدرجون بسهولة، بل كانوا "مستبصرين"، أي على دراية وبصيرة، يمتلكون أدوات التمييز بين الحق والباطل، ويملكون من العقل ما يُمكّنهم من رؤية الطريق القويم بوضوح.

    لكن المأساة تكمن في أنهم، رغم هذه البصيرة، اختاروا الطريق المعاكس. لقد كانت عقولهم حاضرة، لكنها كانت خاضعة للهوى، مُسخّرة للباطل. استخدموا وعيهم في تبرير انحرافهم، وتزيين ضلالهم، فغدت البصيرة التي كان يُرجى بها النجاة، سبيلاً إلى الهلاك. وهذه هي أقسى صور العمى: أن يرى الإنسان النور ثم يدير له ظهره، أن يُبصر الطريق ثم يسلك سواه مختارًا لا مكرهًا.

    ومن هنا كان العذاب أوجع، والهلاك أعمق أثرًا، لأنه هلاك عن اختيار لا عن غفلة، عن إدراك لا عن جهل. وهذا يكشف عن سنة من سنن الله في المجتمعات والأفراد: أن البصيرة ليست كافية ما لم تقترن بالإذعان للحق، والوعي لا ينفع ما لم يصاحبه صدق النية وسلامة القلب. بل قد تكون المعرفة حجة على صاحبها إن لم يعمل بها، وتكون البصيرة وبالًا إن استُعملت في تبرير المعصية بدلاً من التوبة منها.

    ولذلك، فإن في هذه الآية تربية عميقة للقلوب المؤمنة: أن تحذر من الغرور بالبصيرة، وأن لا تتكئ على مجرد الفهم، بل تتجه بتلك البصيرة إلى طاعة الله، وتطلب النور من وحيه، لا من هوى النفس أو وسوسة الشيطان. فكم من مستبصر ضلّ لأن البصيرة لم تكن في القلب، وكم من أميٍّ نجا لأنه سلّم قلبه لله وانقاد للحق بتواضع ويقين.

    إن الضلال لا يقتحم النفس فجأة، بل يتدرج إليها في صورة مُحببة للنفس، يزينها الشيطان ويُلبسها لبوس الخير أو المصلحة أو العادة. فإذا استُجيب له وتُرك الإنكار، تغلغلت ظلمته، ثم يتحوّل الإعراض عن الحق إلى منهج حياة، فلا تعود البصيرة ناصحة، بل تصبح مُسخّرة لخدمة الانحراف، وبهذا يُختم على القلب.

    وما أخطر الخاتمة حين تكون ختامًا على بصيرة مهدورة، ووعي مستنزف في الباطل... إنها الخاتمة التي تُبكي الحجر وتوقظ الغافل.
  • منيره الفهري
    مدير عام. رئيس ملتقى الترجمة
    • 21-12-2010
    • 9870

    #2
    تأمل عميق ومؤثر، ويلامس شغاف القلب فعلاً. إن التعبير الإلهي: "وكانوا مستبصرين" يحمل في طياته مفارقة تُشبه الصفعة، لا تأتي من جهل القوم، بل من علمهم الذي لم يُنقذهم، ومن بصيرتهم التي لم تُهدِهم، ومن نور العقل الذي لم يُثمر طاعة.

    وهذا يُذكّرنا بأن الضياء لا يصنع الهداية ما لم يكن في القلب خشية، وما لم يُستثمر في طاعة الله. فكم من عاقل خذله عقله، وكم من مستنير أخطأ الطريق لأن البصيرة لم تَخدم إلا الأهواء.

    الآية ترسم ملامح الخذلان بعد العلم، وهو أقسى أنواع الخذلان، لأنه يأتي بعد أن تهيأت كل السبل، ولكن الإرادة الذاتية انحرفت، واختارت غير ما ينبغي.

    وقد تكون هذه الآية – كما وصفتها – جرس إنذار للقلوب الواعية، لا تطمئن لبصيرتها، بل تتواضع وتسأل الله الثبات. لأن الفهم قد يُصبح مكيدة إن لم يصحبه الإيمان، والعقل قد يُسخّر لتبرير المعصية إن لم يَسكنه نور الهداية.

    تحياتي لك أستاذنا الفاضل أحمد الكاتب.

    تعليق

    يعمل...
    X