كانت المرآة أمام نور بحجم مدينة. تعكس وجهها المتردد، وعينيها اللتين تحملان ثقلًا أكبر من سنواتها الاثنتي عشرة. يداها النحيلتان كانتا ترتجفان وهي تسوّي طرف الحجاب الأسود على جبينها. كل خصلة شعر تفرّ من تحت القماش كانت عيبًا يجب إخفاؤه بسرعة، وكل انزياح بسيط كان يُشعرها بأنها ترتكب خطأً فادحًا. كانت تتحقق من أن كل شيء مستور، من أعلى الرأس إلى أطراف الأصابع، وكأن جسدها أصبح سرًا يجب إحكام إغلاقه.
في داخلها، كان هناك صراع لا تُفصح عنه. هي لم تفهم لماذا يجب أن يكون جسدها "مشكلة" في الأساس، ولماذا يجب أن يُغطى كل هذا الإحكام. شعرت بعبء ثقيل، ليس من القماش نفسه، بل من كل العيون التي تراقب، وكل الألسنة التي تحكم وتُطلق الأحكام.
وقف عمر عند الباب، يراقب بصمت. لم يقل شيئًا. لم يرفع صوته باللوم أو النصح. لكن نظرته كانت تحمل قصيدة من الحزن المكتوم، ونوعًا من الخسارة التي لم يفهمها أحد سواه. هي لم تره، لكنها شعرت بنظرته كأنها مرآة أخرى، أكثر صدقًا من التي أمامها. أغلقت الباب خلفها بهدوء، تاركةً إياه مع صمت المساء الثقيل.
عاد الشاب إلى غرفته الصغيرة فوق سطح البيت القديم في حي الكرادة، حيث تتراكم الكتب والدفاتر والصمت. كان الخارج يضج بالحياة: أصوات المؤذنين تتشابك، وضجيج السيارات يملأ الشارع، وضحكات الأطفال ترنّ في الزقاق المجاور. لكنه لم يسمع شيئًا. كان صوته الداخلي أعلى من كل شيء. صوت أسئلة قديمة لا تجد إجابة
مدّ يده تحت السرير، وسحب صندوقًا خشبيًا قديمًا. كان مغطىً بطبقة من الغبار، لكنه مسحه بعناية فائقة، وكأنه يزيل الغبار عن قطعة من التاريخ المفقود. فتح الصندوق وأخرج ألبومًا سميكًا. كانت رائحة الورق القديم والحنين تملأ الغرفة. قلب الصفحات ببطء، وتوقفت يده عند صورة واحدة.
في الصورة، كانت والدته، ليلى، في ربيعها العشرين. واقفة وسط زملائها في ساحة الجامعة المستنصرية. كان شعرها الأسود الكثيف ينسدل على كتفيها بحرية مطلقة، وتطير بعض خصلاته مع نسمة هواء خفيفة. تنورتها الرمادية لم تكن طويلة، وقميصها الأبيض يلمع تحت شمس بغداد الساطعة. كانت عيناها تلمعان بضوء لا يعرف الخوف، وضحكتها كانت بريئة وصادقة، وكأنها لا تحمل في قلبها أي همّ أو قيد.
خلفها، كانت بغدادٌ أخرى. مدينة تنبض بالحياة لا بالخوف. تضجّ بالصخب والحرية. تساءل الفتى في نفسه: "هل كانت أمي تعيش حقًا في بغداد ذاتها التي أعيش فيها الآن؟" كانت المدينة التي في الصورة، تشبه حلمًا بعيدًا، لا يمت بصلة إلى المدينة التي تفرض على أخته الصغيرة ارتداء قناع من القماش. كان يتخيل أصوات ذلك الزمن: موسيقى في الشوارع، نقاشات صاخبة في المقاهي، وضحكات تُطلق دون حساب. كان يتخيل مدينة تسمح للناس بأن يكونوا أنفسهم، دون الحاجة إلى الاختباء خلف طبقات من القلق.
قلب الصفحة. صور من حفلات تخرج، ونزهات على ضفاف دجلة، وتجمعات لأصدقاء يضحكون بلا توقف. كانت أمه تضحك في كل صورة. ضحكة مليئة بالثقة، لا تخفي شيئًا. لم تكن امرأة "منفلتة"، كما يسمي البعض الحرية اليوم، بل كانت امرأة تعرف كيف تعيش. كانت حريّتها جزءًا من نسيج المجتمع، لا استثناءً غريبًا.
لقد كان زمنًا لم تكن فيه الأنوثة تهمة، ولا الفرح عورة، ولا الشعر المرسل سببًا للتوبيخ. كان يرى والدته في صور أخرى، بقميص مفتوح من الموديلات القديمة التي تكشف عن جزء من عنقها، أو بتنورة قصيرة تصل إلى الركبة، وهي تحتضن كتبها الجامعية. كانت تلك الملابس تبدو طبيعية تمامًا في سياقها، لم تكن رمزاً للتحدي أو التمرد، بل كانت مجرد جزء من الحياة اليومية.
لكنه يعرف كيف تغير كل شيء. شيئًا فشيئًا، خفتت تلك الضحكات، وتوارى اللون من وجوه الناس، وصار الماضي شيئًا يجب دفنه لا تذكّره. لم يكن الشاهد يبحث عن حنين أعمى، ولا يحاول تمجيد زمنٍ ذهب ولن يعود. هو فقط يريد أن يفهم: متى تبدّلت المدينة؟ متى صار الجسد مشروع خوف؟ ومتى أصبحت الطفولة تتعلم الحذر قبل أن تتعلم اللعب؟ أدرك أن هذا التحول لم يكن بسبب حرب أو احتلال، بل بسبب حرب صامتة نشأت من داخل المجتمع نفسه. بدأت بالهمسات، ثم النظرات، ثم النصائح الحذرة، حتى تحولت إلى عُرفٍ مقدّس يفرض نفسه على الجميع.
أغلق الألبوم ووضعه جانبًا، وحدّق في السقف. كانت أخته الصغيرة، هذه الفتاة، لم تتجاوز الثانية عشرة، لكنها ترتدي الحجاب منذ عامين. لم يكن ذلك قرارها، بل كان قرار المجتمع المحيط. قيل لها إن الزمن تغيّر، وإن الحجاب صار فرضًا اجتماعيًا لا دينيًا فقط. وإن من لا تلتزم به، تخسر احترام الناس، وربما أكثر.
لم تكن المشكلة في الحجاب بحد ذاته، بل فيما رافقه من قمعٍ خفيّ: صمتٌ مفروض، ضحكة مخنوقة، حركة محسوبة، وخوفٌ يتسرب إلى الروح دون أن يسألك أحد أو يأخذ رأيك إن كنت موافقًا، ام لا.
أدرك الشاب أن الخوف لا يولد فجأة، بل يُربى. يُزرع مبكرًا في وجدان الأطفال، حتى يصير جزءًا من تعريفهم لأنفسهم. كان يريد فقط أن يعيش طبيعيًا. أن يسمع الموسيقى، ويكتب ما يفكّر به دون أن يُراقب. أن يحب دون أن يُتهم، وأن يرفض دون أن يُدان. كان هذا الخوف هو المرض الذي أصاب المدينة. لم يكن مرضاً ظاهراً، بل تسلل إلى البيوت، وحجب الألوان عن الوجوه، وصمت الأغاني.
كان يرى هذا الخوف في عيني كل من حوله، في الأمهات اللواتي يوجهن بناتهن، وفي الأبناء الذين يخشون التعبير عن آرائهم. كان يرى بغداد تتغير من الداخل، تفقد نبضها وحيويتها، وتستبدل الفرح بالتردد، والحرية بالقيود.
في اليوم التالي، خرج إلى شارع المتنبي، متجهًا نحو مقهى الشابندر. كان المقهى أشبه بمتحف للزمن الجميل، تفوح منه رائحة التاريخ الممزوجة بعبق الكتب القديمة. على جدرانه، كانت تتكدس صورٌ باللونين الأبيض والأسود لبغداد التي كانت. صورٌ لشارع الرشيد في عزّ شبابه، لمسرح الزوراء، ولمجموعة من الفتيات يضحكن أمام نصب الحرية. كان صوت استكانات الشاي، وهي تصطدم ببعضها، يشبه موسيقى هادئة تتناغم مع حفيف أوراق الصحف القديمة.
جلس عمر في زاويته المعتادة، وسط مجموعة من المثقفين الذين يتبادلون الأحاديث بصوت خافت، يتناقشون في همومهم ومشاكلهم المختلفة: عن الكتب التي لم تعد تُقرأ، عن الأفكار التي باتت تخاف أن يُجهر بها، وعن جيل جديد يبدو وكأنه يتوارى عن ضوء الشمس. فتح دفتره، وكتب عنوانًا بخط يده المتردد: "حين تنظر بغداد إلى مرآتها."
وبدأ يكتب: عن مدينة تنسى نفسها. عن نساء يتعلّمن كيف يخفين ضحكاتهن. عن أطفال يتدرّبون على الطاعة بدل الفضول. كتب عن أمه، التي خضعت في النهاية وارتدت الحجاب، لا لأنها آمنت أكثر، بل لأنها خافت أكثر. وعن أخته، التي لم تختر بعد، لكنها على وشك أن تُدفن تحت طبقات من "الستر" و"الحياء" و"الانضباط"، حتى قبل أن تفهم من تكون.
كتب عن نفسه، لا كبطل، بل كشاهد على زمنٍ انقرض، يُسمّى "الحرية"، صار اليوم يُصنَّف كفساد. كتب عن بغداد، كيف أصبحت مدينة تبدو حرة في الظاهر، لكنها سجينة في العمق، تحاول أن تتذكر وجهها القديم، لكنها لا تستطيع.
في نهاية اليوم، عاد إلى البيت. لم يقل شيئًا. لكن في الليل، سمع طرقًا خفيفًا على الباب. فتح، فرأى أخته تقف عند العتبة، وفي يدها صورة. دخلت بهدوء، وجلست أمامه، ووضعتها على الطاولة. كانت صورة أمهما، وهي في الجامعة، بفستانها الرمادي، تضحك وسط زملائها.
لم تتكلم الصغيرة. لم تقل شيئًا. لكنها نظرت إلى الصورة، نظرة طويلة. كانت تلك النظرة حواراً كاملاً بلا كلمات. كان الشاب يرى في عينيها مزيجًا من الدهشة والفضول والحزن، وكأنها اكتشفت سرًا كبيرًا كان مخفيًا عنها طوال حياتها. أدركت في تلك اللحظة أن أمها لم تكن مختلفة، بل كانت تنتمي إلى زمن مختلف. كانت تلك اللحظة كل ما احتاجه. هو لا يريد منها تمردًا، ولا رفضًا ظاهريًا. هو يريدها فقط أن ترى. أن تعرف. أن تدرك أن هناك خيارًا.
في الصباح التالي، وقفت نور أمام المدرسة، يدها على طرف الحجاب. كان قلبها ينبض بسرعة، لا خوفًا من الناس، بل من نفسها. شعرت أن هذه هي اللحظة التي ستحدد هويتها. ثم، فجأة، أنزلته عن رأسها. شعرت بنسيم خفيف يلامس شعرها، ودفء الشمس يتوغل لجذوره. كان شعوراً غريباً، وكأنه تنفس للمرة الأولى.
دخلت المدرسة دون أن تلتفت. لم يرها أخوها، لكنه شعر بذلك. شعر وكأن شيئًا في المدينة قد تنفّس الصعداء أخيرًا.
عاد إلى غرفته، إلى الألبوم. فتحه من جديد. لكنّه لم يرَ ماضيًا هذه المرة. رأى احتمالًا. كتب في نهاية دفتره: "بغداد، حين تنظر إلى مرآتها.. لا تبكِ. بل تتذكّر.
فراس عبد الحسين