من يقتل الغندور ؟
رواية
رواية
ربيع عقب الباب
كانت تفترش الأرض شاردة ، وبأصابعها المدببة ترص الحجارة .. .. حجرًا حجرًا ، وتبني منها شيئاً كان أقرب شبهاً بقلعة حصينة ، ثم تعود وتهدم كل ما أقامت ، وشفتاها ترتعشان بشكل هستيري ، وبيد أكثر تشنجاً تعود لتقيم قلعتها على نفس الأشلاء .. .. وبنفس الأشلاء وهي أشد إصراراً ، وحين تستوي البناية تماماً تمتد سبابتها ، وتقتحم القلعة ، وتعود بنفس السكينة وبنفس الإرتعاشة لتقوض ما بنت ، وقد اجتاز فكرها حدود الزمان والمكان ، سرح عبر أزمنة منفلتة ، تتذوق مرها وحلوها ، تنشق رائحتها الغامضة . تطارد "عبد العزيز" - زوجها -الفاني ، وهو منتصب كقدر عنيد ، ثم يعبرها بنظرة جانبية قاسية ، يتقدم مبتعداً دون كلمة ، فتفزع مهرولة ممسكة بتلابيبه ، يعود يخطر أمامها ، ينتقل في بهائه وعنتريته تماماً كما رأته أول مرة مفتوح الصدر عن غابة سوداء مدببة كمدينة غامضة من مدن شهر زاد ، مفتوح الساعدين ، ترتجف الأرض تحت وقع قدميه ، تحاصره تنهدات الصبايا الملاح 0
ما وقعت عليه عيناها حتى فاضت ، هامسة مسلوبة الإرادة والكيان ، متهالكة تمضي ، شعرت بشيء ينحدر داخلها إلى أسفل ، ورفرف قلبها كأنه يتوقف الآن !!
تراجعت معتصمة بالجدار ، فوراً كانت تسد عليه الطريق . أحجم عن السير كأن صاعقة خطفت منه البصر والقلب . كان مشهداً يثير الرعب والفزع :"إيه اللي موقفك كده يا بت ؟ "
ردت مختلجة دون تردد :" بت لما تبتك .. .. إتكلم عدل يا روح أمك " .
في لمح البصر كان يحملها ، كم كان قاسياً حين ألقى بها جانباً على الأرض ، من ثم زحفت معاندة تسد عليه الطريق مرة أخرى، وفي أقل من ثانية قررت،أن يكون لها،وهو يسخر منها .أوقعت به، وضحكت كثيراً . عرقلها فأصبحت أنفاسها في صدره ، كأنهما في مدينة ليس بها غيرهما .. .. تعانقا ،اعتصرها ، ومن فوره كان ينهك نفسه بحثاً عن أبيها ، الذي كان كعهده بعيداً عن الديار .
لكم ضربها .. .. جعل لياليها وشماً على جسدها الفتي لا تنمحي آثاره ، وظلت تعانده زمناً ، كان يريدها زينة ،يفخر بها ، فيحملها إلى الحمام بنفسه ،ويزيح بيديه كل التراب ، يستخرج العطب الذي دب في قدميها الحافيتين ، ثم يرغمها على ملازمة البيت والتعود على الاغتسال ، ولم يفلح معها إلا بعد أن هجرها ، وهددها بالطلاق .
علت وجهها بسمة مريرة ، اندفعت برغمها تبني قلاعها المنهارة ، وعادت لتهدم ما تبني ، ثم راحت بيقظة تامة تتابع قرص الشمس المستدير ، وهو ينحدر هناك ، بعيداً .. .. بعيداً ، تتابعه في حزن وألم ، أحست باختناق حاد ، كأن قبضة الليل الزاحف تطوق عنقها ، وتضغط .. تضغط ، شهقت والدموع تنهمر على وجنتيها حارة شاكية . قرص الشمس يبتعد .. يبتعد طرياً .. لا سبيل إلى إيقافه ، ومنعه عن المضي ، يرتمي في بحر السماء الممتد خلف الشجر ، يختفي تاركاً الفضاء نهباً لليل راح يجثم رويداً ..رويداً
كانت عينا " صابحة " ازدادتا جحوظاً ، وهي تدور برأسها كأنها تطالع السماء لأول مرة ،تبني قلاعها ،وتهدم ما بنت ، فؤادها هائم في فراغ أحشائها،تهفو إليه ..إلى نجمها السيار الزائغ " مسعد "ولدها الوحيد، المنفلت من عنقود الموتى الذين حملت بهم ، وعاش بلا سند يقيله من عثراته ، ويحمي ظهره :" يكونشي عمره قصير زي أبوه ؟ " قال السحرة وأهل الفراسة عكس ذلك ، نعم قالوا عكس ذلك ، مازالت كلماتهم ترن في أحشائها ، تدوي كطبل : " عمره طويل يا صابحة يا بنت سعدية .. هايروحك للتراب .. ويكون له ذرية لها هيلمان وشنة ورنة مفيش كده "
ما صدقت ما قيل ، ولو ودت عكس ذلك ، فكل شيء كان يسير إلى عكس ما قيل : لا ذرية .. لا حياة ؛ فمنذ شهر مضى دخل ببدرية ، تلك الجميلة المرغوبة ، وإلى الآن لم يقربها ، هي تعرف ، تعرف من عينيه ، وطريقة عبوره أمامها ، امرأته التي يعشقها،وتتغلغل عميقاً في نفسه ، هزمته ، بدرية هزمته ، خاصم أمه لأجلها ،خاصم الدنيا،تحدى كل من حاول عرقلة زواجه بها ، لكنها هزمته ، بدرية هزمته ، كامرأة بلا قلب ، حمل نفسه بالعداوات لأجلها،تأبت عليه ، تأبت عليه ، حولته لشبح هزيل ، واستعصت عليه قلاعها ، هي التي هامت به ، وسحرته ، وانسحرت به ، أخيراً دمرته ، كأنها ما أحبته ، ما حلمت به ، ما عيب شربات يا مسعد ؟ ما عيب ابنة خالتك ، امرأة تهتز لها صدور الرجال وحبالهم ، لها جمال طاغ ، وطازج يا مسعد ، هل عدمت الشوف ؟ ما عدت ترى جيداً ؟ نظرة واحدة من عينيها تذيب قلب مدينة بأسرها ، وتنهار تحت كعوبها العالية ، هزة من ردفها ، تجعل النشوة تطيح قتلاً في جوانح الرجال ، شربات لها رائحة أنثى الفراش ، لحمك ودمك الغجري يجري في شرايينها ، يا مسعد .. يا ولدي ، افهمني ، لا أقصد إلا صالحك ، وصالحنا نحن 0 زعق بأعلى صوت ، وأنا اخترت بدرية يا أمي ، بدرية هي كيت وكيت وكيت 0 وبدرية تأبت عليك ، قتلتك ، وهزمت فيك فتوتك ورجولتك ، أنت اخترت العذاب والموت ، وكذب السحرة يا مسعد ، كذبوا ، وصدق الزغبي مع خالتك القادرة ، نعم ، انتهى كل ما حلمت به ، هم الذين ضللوها ،سحرة الشؤم ضللوني :" عمر طويل يا مسعد ، وذرية تهتز لها الأرض طرباً وعجباً "
تمتمت صابحة : " أنت وجع مبتلى ، يا نور العين الذي يرى ، ورب السكينة والهواجس ".
أقبلت من خلفها بدرية ، في جمال سوسنة ناعسة ،رشيقة ذابلة الجفون ، حزينة ،ترتدي الأسود ، دنت من حماتها ، قرفصت إلى جوارها ، ربتت على كتفها : " قومي بقى يا أمه كفاية كده ، ارحمي نفسك وارحميني "0
حدجتها صابحة بعينين زائغتين ، خامرتها مشاعر متناقضة ، هل تحب هذه البنية التي كانت سبباً حاسماً في مأساة ولدها أم .. .. .. .. ؟ لولاها ما كان هذا حاله ، نعم ، لقد نالت منها ومن ولدها
في آن ، أطارت عقل مسعد ، جعلته يرفس كبغل ، وفي النهاية يقتل ، يقتل ، لو أنه سمع كلامها ، وتزوج شربات، ما وصل إلى هذه الحال ، وترك كل شيء ، وفر هارباً إلى مكان لا تعرفه ، ويبدو أنها لن تعرفه .
بدرية حين هاجمتها عينا حماتها انزوت كهرة ، انخسف وجهها تماماً ، وبكت شاعرة بمدى كراهية صابحة لها ، بكت بصوت حار ، وشعور بالظلم يبتليها .
ترفقت بها ، جذبتها إلى أحضانها كصبية غريرة ، ربتت عليها ، تهدهدها ، وتوغل في الهدهدة ، حتى غفت بدرية ، وسرقت عقلها ووجدانها رؤى الحلم الخطير ، صابحة توغل في الندب والعديد ، وتعود أصابعها تقيم قلاعها ، وسرعان ما تطيح بها ، ودموعها تنثال بلا توقف .
دون إرادة قبلت بدرية بحنو ، وبرفق هزتها،دفعتها إلى حظيرة الدواجن ، لتغير الماء ، وتضع الحب ، فما ذنب هذه الطيور؟
انسحبت تجرجر قدميها ، حملت الماء والحب ، وصعدت إلى السطح بنفس مكلومة ، ودموعها تنفرط حبات من الندى الدافئ ، تسحق برودة عيدان القش المتناثرة .
بالأمس كانت وسط اللصوص والقتلة ، في تخشيبة القسم ، تنتظر بين وقت وآخر ، أن يخلوا سبيلها ، باتت في التخشيبة ، عانت الكثير ، وهي في وجع قاتل ، تبكي رجلها ، من قتله الحب ، وأودى به ، دون أن يكبح نفسه يقتل كلباً ، يقتل كلباً هكذا في عرض الشارع ، أمام شهود عديدين : " يا ترى يا مسعد أنت فين دلوقتي ؟ أراضيك فين ؟ واكل ولا جعان ؟ حي ولا ميـ .. .. .. .. ؟ "
لم تستطع بدرية السيطرة على انفعالاتها ، فلملمت وجهها بين راحتيها ، واندفعت مبتعدة ، تهبط الدرج ، تنشج متهالكة ، تنسحق مع كل درجة حتى احتوتها أخيراً الشقة ، احتوتها حجرتها ، لتعود نفس الأنفاس لحصارها الدامي،نفاذة تمتد في جسدها،تتوه كأنها رهينة كابوس مريع ، وجسدها المشدود يعارك وحشاً ما ، حلم ، كان مجرد حلم تسلط عليها منذ قتل مسعد الزغبي ، لا تعرف له تفسيراً يريح رأسها ، تستيقظ ، تتخلص من جلبابها ، وتحط على سريرها ، سرعان ما تلتهمها الأوجاع ، والوساوس ،
ثم يهاجمها الحلم ، الكابوس ، الأنفاس قوية نفاذة ، وهي ضعيفة مشلولة الإرادة ،تحاول،تتملص منه ، يلتهمها ثانية ، تهرع هاربة ، يجذبها، يحط فوقها ،يضغط ، تعاركه ،يتكتم أنفاسها بقوة ، تغيب، تخوض في بئر سحيقة ، مخلفة صرخة احتجاج موؤدة ، والشبح يجردها من ثيابها قطعة قطعة ، وهي أنفاس بلا روح ، تطالع ولا ترى ، تشم ولا ترى ، تُلتهم ، ولا تشعر بشيء !
كان خلف الحظيرة ما يزال ، يغرق في سيل من عرق دافئ ، خافت الأنفاس ، يرهف حواسه تماماً ،يرقب بعينين مرعوبتين الأم ، وثقل فضيحة مدوية يضغط على صدره بقوة ، فتخونه قدماه تارة ، ويتحرك هنا وهناك في حذر ، لم يبرز من مكمنه حتى غادرت الأم السطح ، يتنفس عميقاً ، مصعداً أنفاسه الحارة المختنقة ، تسترخي أعصابه ، عضلات وجهه ، يبص هنا وهناك ، يحدق في ليل هذه المدينة الغامضة ، يرخي جفنيه ، يريحهما ، يحس بها تحمل كيساً من الرمل ، يدور بهواجسه في المكان ، والسماء بحر من الأسرار ، تدنو منه ، تكاد تضع سرها الأكبر في روحه ، نظراته لها حزن مدينة
عمياء ، تنتابه رجفة ، تهز جسده بأكمله ، ويضيء سؤال وحيد في رأسه ، لماذا ؟ ثم يندفع إلى داخل الحظيرة مع الدجاج والبط !!
أخيراً
كان خلف الدار،الإعياء ينهك جسده ،ينهش قلبه المشدود إلى قدمه اليمنى التي اختفت خلف كتلة من الخرق ، في محاولة لحجز تيار الدم الذي لم ينقطع إلى هذه اللحظة من هروبه الدامي منذ ليال ثلاث ،ما ذاق فيها طعماً لنوم ، ما ذاق غير الدم ، دمه المتفجر ،ماشم سوى رائحته ،تردد البنايات المتناثرة كأشباح صدى أناته وأنفاسه ، تحوطه هذه الأشباح وترقب زحفه وتقلباته الدامية ، وتطبق عليه كقدر محتم 0يفزع هائماً ، يدور حول الشواهد القائمة في ذهول ، يلتاذ بجذع شجرة النبق الوحيدة ، هذه العجوز الحزينة ، الباكية ، ترنحت طربا اليوم على غير العادة ، شربت ماء الورد ، كما سحبت دموع الثكالى من شغافهن ، امتصتها ، ملحاً يروي عطشها وجوعها الممتد إلى كل خميس ، هشت له ، تنهدت ، أحاطها بذراعيه ، أحاطته ، تمايلت منتفضـة في فرح ، أخذته إلى أحضانها ، نشجت بألم مصدرة أنات واهنة ، انحدرت دموعها ، خالطت دمعا ته المترعات ، امتزجت .
يعجلن بالانصراف ويخلفنها بين أصداء عديد لا ينقطع مع هذا الجريح ، فجأة تسفي الريح ذرات الغبار ، تطيح باتزانها وعبقها ، يزلزل جذعها الجاف كنقش أزلي ، تدميه خوفاً فيعلو أنينها ، يسكرها أنينه ، تعانقه حانية ، يدركه النعاس ، ينشق جذعها ، يدخل في قشرتها ، تجذبه بقوة ، يتراجع ، تجذبه ، فيفزع ويندفع مترنحًا ، يجر قدمه المثقلة 0 تنادي عليه ، يبتعد ، ترجوه ، يغلق أذنيه ، يتراجع ، يبتعد هناك ، فجأة يصطدم بشبح ، يصرخ ، يتوقف القلب ، يواجهه ، يدقق النظر ، الزغبي هو ، يجري ، يسد عليه الطريق ، يروغ منه ، يحاوره ، تمتلئ المقابر بالأشباح ، كلها تصرخ ، تدبدب ، تصرخ وهو يجري ، يجري ، وحين ينهك تماماً يرتمي أرضاً ، يلتقط أنفاسه ، بصعوبة يلتقطها ، وبرغمه يبكي ، يرفع وجهه ، كان أمامه ، الزغبي بوجهه القبيح ، يتحداه بهيكله الضخم كثور ، يطلق مسعد ساقيه للريح ، ينسى آلامه ، كل خطوة بعثرة ، كل حجلة بصدمة عنيفة ، كل زعقة بجرح ، وينفلت من قبضته محملاً بعشرين كدمة في جبهته .. ركبته .. صدره !!
تنزف الدماء من كل جسده ، تغطيه ، كان عليه تسلق مواسير الصرف الصحي حتى نافذتها في الدور الثالث ، لم تكن لقوة في الأرض القدرة على منعه والحيلولة دونه ، بإصرار كان يتسلق المواسير ، برغم قدمه الناهشة الثقيلة الوطأة كزلطة تزن طنًا ، والحراسة المشددة المضروبة حول الدار منذ ثلاثة أيام ، لم ينس مسح المكان المشبع برائحة القروح ، والخرق ، ورائحة بارود مجهولة المصدر
الظلام الراكد وشاح يغطي المدينة،التي لم يكن بها غير الفئران ، بجثثها الضخمة ، ونباح كلاب يتردد عن قرب ، وصياح ديكة يرتفع بين لحظة وأخرى دون مبرر كما كان يتصور .
عندما عانقت عنقه السماء كان القمر يختبئ خلف سحابة وكتل سوداء، تتراكم كأشباح تطارده ، ترتمي بظلالها على امتداد الدور 0 تماسك ، استجمع كل ما بقى له من عافية ، بقوة ذراعيه كان جسده ينتقل من أسفل إلى أعلى ، أنفاسه تحاصر أنبوبة الصرف ، ترن داخل تجويفها ، تصدر ما يشبه همس مؤامرة ، زحف وجروحه العشرون تتسع مطلقة سائلها ، نار حامية تمتد عبر الجسد كله ، على حين غرة هاجمه الزغبي ، توقف عن الصعود مباغتاً ، كاد يقعى ، ها هو ذا بطعناته الداميات ، دمه الغزير ، تعلق بذيل جلبابه ، يخترف بين الحياة والموت ، يصدر شخيباً عالياً كذبيحة : " هيئ .. بك أكملت المائة .. هيئ يا عنين .. هيئ يا عنين " . لم يترك جلبابه إلا عندما ركله بقدمه الحافية في جمجمته ، غارت الجمجمة ، أصابت قدمه عظمة قوية ، اخترقت جلده لمسافة بعيدة ، غامت الرؤية أمام عينيه ، ترنحت رأسه ،لولا حذره في اللحظة الأخيرة لسقط غير مأسوف عليه .
عاودت الأشباح التشبث بقدمه ، وإعاقته بشدة ، ظنه " الزغبي " ثانية ، بإيماءة بسيطة تأكد أنه كان رفيقه زهران بحقده وشره ، بوجهه الجهم الأسود ، الذي تعلوه ذبيبة واضحة ، بدا أكبر سناً ، كان يستميت للإطاحة به ، وتدمير محاولته المصيرية ، نعم ، كان متأكداً ، زعق مسعد : " زهران ، يا شجرة الزقوم ، يا طعنة الغدر التي نالت الجميع ، ما أسأت إليك رغم إساءتك إلى كل الناس ، زهران ، أنا مسعد صديقك ، رغم كل شيء ، صديقك 00من مد لك يد العون في الأزمات ، وساندك بكل ما يملك ، حاش عنك العيال ، كان بوقاً لك ، يزرعك في الحي ، والأحياء المجاورة ، زهران البوليس يحيط بالدار ، هل جئت بهم ، هم أخواتك ، أنت رجلهم ، آه ، زهران لابد من وصولي للشرفة ، زهران ، ابتعد عني الساعة ، وإلا نالك ما نال الزغبي ، إنك تشبهه " .
بقفزة قوية كان يبتعد، زهران بعصاته المعقوفة كحية فرعونية يلوح ، ويتوعد ، ويختفي ، بينما مسعد يتقدم !!
التقط أنفاسه برعب ، من بعيد علا صوت مخترقاً ستار الصمت ، أعقبه دوي لطلقات نارية ، راحت تتسع ، وتتناثر في فضاء مترام ، كانت تدوم فوق رأس مسعد ، تزلزله تماماً ، تفككت تلك الإرادة الفولاذية ، بسرعة أنهى صعوده ، مد ذراعه ملتقطاً خشب النافذة ، نط بحرص منجذباً للضلفة التي طاوعته دون صوت ،وهي تكاد تذوب رقة ،وارته خلفها مربتة على كتفه ، تدفعه إلى داخل الحجرة ، التي خفتت بها الأضواء . الذعر يأكل قلبه ، تهالك على الأرض ، دوي الرصاص يتضاءل مختفياً ، مرتمياً في حقول الليل البعيدة ، قد يكون هو المقصود بهذه الطلقات ، نعم ، فمنذ ثلاث ليال والبوليس يتعقبه ، ولن يهدأ لهم بال حتى يوقعوا به .
أخيرا سكنت أوتار صدره،أحس براحة كبيرة تغمره ، اعتدل واقفاً خطا متقدما ، يسري خدر أنفاسها عبر هيكله القوي ، كانت ممددة في فراشها كغواية ، يترجرج جسدها الملفوف ، وهي تغير موضع نومها ، تغزو كيانه جهنم تبتلي جسده بتناميل وقشعريرة آسرة ، ينحسر القميص عن فخذين ممتلئين مسحوبين بضين ، بدت ثناياهما كدوائر من الحلي المصقولة ، الجسد مشدود مرمري في جمال خمرة معتقة ، جدائل شعرها فاحمة متناثرة تعانق ثدييها المدببين 0
يرتمي مسعد محتضناً وجهها الملكي ، وكتفيها الضيقين في استسلام عجيب ؛فتقابله بسمة متألقة يتفتق عنها ثغردقيق كنبقة طازجة ، ها هي من ظلت لشهر كامل وليال تعاني عجزه ، وتتصدى بصدق لكل انفعالاته ونكوصه . ها هي أمامه ، ومسعد يبكي ، دون إرادة يبكي ، وخيبة الأمل تطل بوجهها اللئيم .
نسي آلامه المبرحة ، علت وجهه بسمة مريرة ، تذوق فيها مرارة شهر عاناه إلى حد الجنون ، شهر أتى على رجولته التي كان يفاخر بها ، نعم ، انهزم أمام امرأة عمره ، زوجته التي اصطفاها دون بنات الحي ، وحارب من أجلها الدنيا ، ما كان ليتصور يوماً أن يضطر لقهر أمه ، ومعاملتها بجفاء ووقاحة بعد فشله في استمالتها لصفه ، كانت اتفقت مع خالته أم شربات ، وقطعتا شوطاً بعيداً في مؤامرتهما ، فشربات ليست قبيحة ، بل أجمل الجميلات ، أجمل من بدرية نفسها ، نعم ، ومرغوبة ، ولها دبة رجل تهتز لها قلوب وأفئدة الرجال في الحي ، وعليها طرقعة لبانه تدوخ أجدع شنب ، وساعة عبورها الشارع يصطف الرجال ، فتنهال التعليقات والكلمات ، والوعود الصادقة والكاذبة .
يا مسعد أنت أولى بابنة خالتك ، جحا أولى بلحم ثوره ، هي جميلة تتفجر أنوثة ،ويتمناها الكثير ، عبده البقال صاحب السوبر ماركت الضخم ، وإبراهيم السمسار الذي امتلك أربع عمارات في سنتين ، ومحسن المرشد الرجل الأول في القسم ، بعد أن أوقع بعصابة المائة ، التي كانت تدبر لقلب نظام الحكم ، بل وحماية الشيوعيين ، وعزوز الذي يبيع ويستورد اللحوم المثلجة ، والحكومة تعتبره أحد رجالها الوطنيين الذين ساهموا في حل مشكلة الغذاء ، وزهران الذى يرى الآن متأبطا يهوديا إثر آخر ، ودلهم على من نهب الخوخة ، بل وشجعهم على رفع الأمر للسلطات ، إنه يتاجر معهم ، يتفاخر بهذا ، ويردد : " دي دولي ودي بينيامين ، ودا الواد موشى ، ياما لعبنا قدام الخوخة زمان وياما ضربته علق !! " 0
كل هؤلاء كانت لهم رغبة فيها ، حكاية معها ، لكنه أبداً ما رغبها 0 أنفقت في ترويضه الساعات الغالية ، ولكنه أبداً ما لان لها ، كانت تتربص في حجرة نومه ، وهي عارية 0في دورة المياه 0 يجدها على عتبة الدار في السابعة صباحاً ، تغلق عليه الطريق : " عايزاك أنت يا مسعد !! " 0 وينفلت وهو لا يصدق كيف أفلت من ريحها الجهنمي ، وفي الشركة تتجر مع العمال ، وتمدهم بالبضاعة ، بالربا ، يبصرها على نواصي الحوانيت تسبق خطاه ، تتهالك بخلاعة مع أولاد الشارع الصعاليك ، ضبطها تبيعهم الحبوب والبودرة ، ومن بعد البانجو ، فكرهها لحد الموت ، وتنكر لدمائها الغجرية .
لم يحب إلا "بدرية "، ما تمنى إلاها .هذا السحر المتألق الكامن
في عينيها السوداوين ، لم يكن ليستسلم أمام حصار أمه : " يامه شربات ماتنفعنيش .. شربات فجرت وخلعت برقع الحيا ..صايعه مع كل واحد شويه "لم تكن لتستسلم إلا عندما رفس بقدمه كبغل متوعداً :" أنا ماشي ..حاتجوز بدرية غصبن عن الدنيا كلها ،اللي مش عاجبه يشرب م البحر"0
ورفع أشياءه على كتفه مغادراً الدار التي تربى فيها . اهتزت ضبة الأم ، انفجرت باكية ، تطاردها الأفكار السوداء . إنها بهذا التصرف تضيع الولد من يدها ، لن تكون "حمه " لزوجته مثل باقي الأمهات . فوراً تخلت عن وعودها لأختها ، لمت الموضوع ، إنه ولدها،واحدها،لكن الخالة ما كانت لترضى الهزيمة بهذه البساطة ، دفعت بشربات إلى حجرة نومه بأسلحتها الجهنمية 0كل ما استطاعته تمزيق ثيابه بأظافرها ، واصطدامها بجسد ثلجي لا روح فيه ، فانسحبت صارخة تداري خيبتها وجسدها السخن ، الذي كان كثـير الفتـنة ، كثـيـــر النـدوب ، يمتلئ بآثـار أصـابع عشاقها !!
بدرية طرزه على أثواب ماكينته حرفاً حرفاً ، بطول عدد الورديات التي تناوب عمله فيها ، مع حدفات المكوك ، كان يرقص منشداً ولا ينتهي ، يملأ الدنيا من حولها صخبا وغناء سلساً، وإحساس لذيذ يحتويه ، ويخدر أوصاله ، تتخطفه ألوان الطيف المبرزة على منسجه الفزع،ينتج لها فساتين التل والكتان والقصب، الدمور والساتان ، نعم ، والزفير،تتغير أنواع الخيوط لكنها وردته التي يبتعثها روحًا وجسدًا ، ينقشها بخيوطه الملونة ، فإذا هي تملأ الدنيا عليه ، حقولاً خضراً ، وأولاداً تخوض في النهر وتبتني البيوت على ضفته ، فتصير قصورًا ، مما حير الملاحظين ، وهم يتابعون هذه الشفرة ، فهناك ثوب يحوي حرف الباء بطول البرسل ، وآخر موشى بحرف الدال .. وهكذا !!
عندما ساءلوه عن هذه الحروف ضحك وقال : " مكنتي تشتغل بمزاج خاص " . ولولا إنتاجيته المرتفعة ، وحاجتهم لهذه الإنتاجية في هذا الوقت لتخلصوا منه فوراً ، ووفروا على أنفسهم عناء البحث ومشقة التحري ، بالزج به في أحد الأقسام مثل البخار أو المصبغة أو على أقل تقدير عنبر المغسلة ،ذلك لأنهم لسنة كاملة عكفوا فيها على حل شفرة هذه الحروف ، فما تـوصلوا لشيء ،رغم كثرة تخمينـا تهم ، فمرة قالوا :" الواد دا ممسوس " وأخرى : " الولد ده ذكي .. وأكيد على صلة بتنظيم متطرف " .
وفي نهاية الأمر عندما لم تتغير الحروف تأكدوا أن به مساً من الجن أرضياً أو علوياً !!
تنفرج أسارير وجهه ، وهو يسبح عبر وهج عمره ، متغافلا آلامه ، يرفع ذراعه وبحنو كان يمررها على شعرها ،وشوق جارف يحتوي صدره ، يرفع خصلات الشعر من جانب الخد المورد ، يتحسس نعومته برهافة متزايدة ، يتمنى لو تصحو ،تنقذه من هذا الوجع الممتد داخله ، ويكاد يقهر أعصابه .
رمشت عيناها ، تثاءبت ،فانبعثت أنفاسها مخترقة شغاف فؤاده ، أشرقت عيناها ، جفلت ، استوت زاحفة غير مصدقة أنه هو من يداعب وجهها ،ويقعد محتضناً فراشها بكل هذا الوهج 0لم يمت ، لم يقبض عليه ، هو الوجه المحبوب الذي عشقته عاجزًا 0 كانت على ثقة أنه ليس عجزًا كما بدا لها ، نعم ، هو حبها الأول والأخير ، مسعد ، من علمها تهجي حروف رسائله المجنونة ، عن العمل ، والوردية ، وملاحظين الورديات ، والأجور ، عن العمال الغلابة ،الذين يعيشون على الكفاف،عن مطالبتهم بزيادة الأجور ، وغيرها ، عن الحرب مع إسرائيل ، والسلطة التي تبث عيونها بين الماكينات ، ولا تتركهم يتكلمون في أمورهم الخاصة ، فيقفون فزعين،عن زملائه الذين أوقع بهم زهران ، وذهبوا خلف الشمس ، عن الكثير والكثير ، وحين فهمت بعض ما يكتبه ،كان يترك المصنع هارباً من بطش السلطة !! كم كان رقيقاً ، حنونًا ، يغور في قلبها كالسهم ، يفجر بركاناً من الحب والغضب ، ارتعاشًا وزلزالاً في عظامها ، علمها كل كبيرة وصغيرة في البلاد ، ذكى عقلها بكتبه التي كان يقتنيها خصيصاً لها ، هي من كانت تعيش في جهل ، جهل كاد يفتك بها،جعلها تحس بقيمة نفسها كفتاة جميلة دون أن تبتذل نفسها مثلما كانت شربات ، رفضت كل الخطاب الذين تمنوا نظرة منها ، وعاشوا يمنون أنفسهم بوصالها0 لكن هيهات ، حتى زهران الذي راح يتمسح بمسبحته ، ويدلس على أمها وذويها رفضته ، كانت تعرفه جيداً ، تصلها أخبار لياليه الحمراء ، تفريطه في رجولته حين ترك أخته أم قاسم ذليلة أولاد الليل ، يفترسونها كل وقت ، واستوى عنده كل شيء ، الشرف واللاشرف ، الكرامة واللاكرامة ، وحين أجبره الرجال في الحارة ، وشدوه أمامهم لأجل تخليص أخته ، خانهم وسط العراك،وجرى على جثث أهل الحارة ، وارتمى بين أحضان أولاد الليل ، لكنهم أبداً ما تركوا أخته ،وعاد إلى الحارة شامخاً ، بينما الأولاد الصغار يطاردونه ، وهم يغنون ، بل يضعون له ذيلاً عند مؤخرته ، ولم يتخلوا عن ذلك إلا عندما أشبعهم المخبرون ضربا في الحارات المجاورة ؛ وتأكد للرجـال في الحارة أنه محمي من قبل السـلطة في المدينة !!
حاول مع بدرية ، رفضته بكل كيانها ، وصرخت في وجهه : " لم لحمك الأول يا عويل !! " ، وأغلقت في وجهه الباب ، رغم ما يقال عن سطوته وجبروته ، وعندما ظهر يوم قتل مسعد الزغبي وقفت في وجه رجلها ، ومنعته من استقباله ، لكنه كان كريماً ، فرفض الإذعان لها ، وقابله في دارها ، وفي أقل من ساعة كان مسعد زلزالاً ، كتلة من الغضب المدمر ، ونجح في دفعه إلى قتل الزغبي ، فاندفع صوب المطبخ ، واستل مقصًا ، وهبط كعاصفة ، بينما ظل هو معها محاولاً غوايتها .
هاهو من أخذته في أحضانها لشهر كامل،تلعق دموعه الغالية ، دمعة دمعة ، واختلطت دموعهما : " اصبر .. بكرة يا مسعد ماتزعلشي يا حبة عيني .. هو احنا ورانا إيه ؟ إن ماكانشي بكرة يبقى بعده "
ويأتي بكرة ، وهو كما هو ، يحدثها بأجمل حروف مرت بشفتي محب ، تنفرط على لسانه كلمات الحب الندية ، تتقطر من لسانه .. من شفتيه كشهد مصفى ، ولمساته في كل جزء من كيانها وعندما يخيم الصمت ، يتمدد الوجع والألم المضني .
صحيح أنها قاست ، قاست وجعاً إلى حد التفتت والاحتراق ، تتوهج النار في جوانحها ، تحن الشرايين إلى مضاجعته ، يخفق ، يزعق باكياً ، يتمرغ في فضاء الحجرة كمحموم ، وتتكوم بدموعها لصق الجدار حتى الصبح القادم .
جذبته ، طار في أيكة أحضانها الدافئة ، وبقسوة عجيبة ، كان يفرغ ما عجز عن البوح به خلال شهر كامل ، أشبعها تقبيلاً وحبا، وهي سكرى ، نشوانة ، مرج نهره موصولاً بأرضها البكر ، التي ما ذاقت طعم المضاجعة إلا الآن .. الآن يا بدرية عمري ، تعلمين أنني لست بعنين ، كما بدا لك ، أنا رجل مكتمل ، فياض الفحولة ، أنا رجلك وأنت امرأتي المحبوبة ، لم يكن عجزاً ، كان عرضاً زائلاً يا بدرية ، انفض السحر ، هذا الوهم المستقر في قاع نفسي ، وعمر في دروبنا ؛ ليذل الرجال ، ويحنط الكيانات ، يحنطها لتفتقد الزمان والمكان ، وتهيم فوق صراط التخبط .. هاأنا ذا يا بدرية .. يا وردتي ، أكمامك تعانق قطرات الندى سابحة في كيانك العصي عليّ ، لأول وآخر مرة ، هاأنا ذا يا سو سنتي رجلك ، فاملئ الكون غناءً وشدواً ، وباركيني حتى انهيار الليل المخاتل .
كانت رهينة عالم ما تجاوزت حدوده ، في مدينة من السحر الخالص ، مخدرة بهذا النهر الدفق لأرضها العطشى ،تحن منذ الأزل لرضاب مائه ، يقلب طينتها العامرة بالكنوز والخبايا " أنت يا فارسي الرهوان ، بحر عرقك يغسلني مما ألم بي ، يدحر ديدان الشك التي هومت على جسدي ، وابتنت أعشاشاً بين ثناياي للغربان والبوم ، وعفاريت الحارة غير الطيبين "0
لم يكن أمامه سوى التسليم ،وكان مستعداً لأي شيء ولوكان الموت ، فالدنيا أصبحت ملك يمينه ، له وحده ، وبين يديه ،وذراعيه ، وأنفاسه ، ليسقط العالم ، لحظة بالعمر كله ، نعم ، كانت مسألة حياة أو موت ، إزهاق روح هذا الكائن المدمر - الزغبي - نعم ، ويزحف برغم كل شيء إلى هنا،ولو لمرة واحدة ، كي يعتدل ميزان الكون في رأسه وعقله ، وكل هذا لا يقاس بما عاناه في المقابر لثلاث ليال ، تطارده الأشباح خلف كل جدار ، تزوم في وجهه أشلاء الموتى ، تباغته الشياطين الصعاليك ، كان شاهداً على ما يفعلون حيال الجثث الطازجة ، والأكفان ، وسوق الفتيات والفتيان،يتلون الجرح كحرباء على دائرة كهربية ،يزرق ويخضر، ويحمر، ويتضخم . كان لابد من رؤية بدرية ، وجلاء الأمر ، وتأكيد ذاته : " لم يكن الزغبي يا بدرية ، كان شيئاً آخر ، كانت أمي ، وخالتي أم شربات ، وزهران ، كانت بلدة بأكملها تعيش بالوهم ، بالوهم يا بدرية ، تربينا فيه ، وانغمسنا في أبجديته ، أنيسًا لأحلامنا ، جليساً لسمرنا ، كان جمالك الآسر يا بدرية من قهرني ، كنت كثيرًا عليّ ، وكنت أخشى وهج عينيك ، سحر هذا القوام المتفجر ، نعم كنت أخشى ، وأرتعب ، وكنت من أخشى ، وأخاف.الزغبي محض وهم ، وهم وحكايات تراكمت داخلي من زوايا الحارات ، والعطف البائسة في بلدتنا ، عن المعذبين بالوهم ، المدمرين باسمه الزغبي ، صاحب الكرامات والنفحات ، والقدرة السحرية 0ألا يبدو الأمر خارقاً للعادة ، إنه شيء فوق الزغبي وقدراته،نحن يا بدرية ، نحن من أخرجنا الزغبي إلى الوجود ، كما تركنا زهران يمشي كطاووس ، يستلب أرزاق الناس ، يدربهم على شرط الجيوب ، والنشل ، والسطو ، تركناه ، يحارب كل الأشياء الجميلة التي تربينا عليها منذ أول الخليقة ، فبمجرد مباركة الزغبي لي ، تبددت تلك النشوة ، تبددت ، وانسحق هذا الوهج الذي ظل لسنوات يتلظى داخلي ، وأصلى به ، هذا الحنين إلى عناقك ، إلى أن احتويك ، أبثك أشواقي البكر ، كان الزغبي ،والقوة الشريرة ، وكنت أحسه يهاجمني في لياليى السوداء ، يضحك بملء فمه ، ويغيظني ، يتوعدني : " سوف أريك النجوم ظهراً يا بن الأفاعي " وتهاجمني خالتي ، وهي تلوح بقبضتها : " ستأتيني زحفاً على ركبتيك يا رد السجون يا ابن الفلاح " .
اختبأ في رائحتها ، توارى هرباً ، اصطلى وهجاً في جوانحه وثناياه ، وبارك جسدها الرطب وهجه الفوار ، واحتواه .
إنه ليتذكر صوت أمه المتهلل ، تؤكد له ، وهو يعبر الدار مرتدياً أحلى وأزهى ثيابه بين الطبل والزمر : " إوعى تسلم على حد ، أنت سامعني ؟ حتى لو خرج أبوك من التربة ..اوعى .. أنا شايفه موتك بين صوابعك الليلة !! " وخرج ضاحكاً ساخراً من كلامها ؛ بينما تترقص الصبايا، والزينات تأخذ أشكالها النهائية !
كان يدرك جيداً ما تعنيه أمه بحديثها على هذا النحو ، لكنه أشاح عنها مستخفاً ، وانسحب تحوطه كوكبة من الشباب ، والرفاق ،إلى دار العروس ؛فقد آن لها أن تغادر أهلها إلى داره هو ، هنالك لمح شبح زهران بعيداً ، يحاصر الدار بعينيه المتورمتين ، والمسبحة بين أصابعه ، وحوله بعض التجار وباشا قديم كان فرّ َإلى فرنسا إبان ثورة الضباط الأحرار، وعاد حين اعتلى الرئيس السادات سدة العرش !!
كانت تنتظره يومها بفارغ الصبر،أدارت أمها الطقوس المرعاة ، أحضرت البلانة صباحاً ، قلمت الحواجب البكارة ، لقطت شعيرات العانة المستبدة ، مررت خلطتها على بقية الجسد للتأكد من خلوه ،وقطع دابر أية شعيرة ، ثم انطلقت بزفة إلى حمام البصل ، وهناك كانت آية من آي الخلق الكامل .
تعتدل ، تلملم جدائلها ، تطرحها إلى الخلف ، فيتدحرج إلى أسفل في طراوة ، يطاول العجز ، كان يتأملها بعينين واهنتين ، وأنفاس لاهثة ضائعة ، تدخل جسدها في جلبابها الأسود ، فيضفي عليها جمالاً مذهلاً،تغادر الحجرة ، تجذب الباب خلفها ، فتصطدم بوجه صابحة يحاصر المكان بنظراته الغريبة ، كان مسعد يتابعها ، وما أن انفلتت حتى غرق في نوم عميق .
حاصرتها أنفاسه نفاذة في ثناياها ، حبات عرقه خدر ، تثاءبت نشوى في عالم رهيف طري ، متسع بلا حدود ، أحزانها تتقهقر، تتباعد كسراب رافل في البعيد البعيد ، أوقدت " وابور الجاز " ، رفعت عليه طشت الماء العالي ، أشعلت آخر ، رفعت عليه إناءً مملوءاً بالماء أيضاً ، زحفت في ظلام الدار صاعدة الدرج إلى حيث عشة الطيور ، وشوشات غير محددة المصدر ، تداعب أذنيها، يطفو المشهد ، تترنح ، تحلق ، تحلق أجنحة وروحاً وقلباً وضلوعا .
اجتذبتها محاولتها معه ، دوى صوتها باكياً ، يعود المشهد حياً بكل تفاصيله : " يا مسعد ماتسمعشي كلام الراجل ده ، الراجل اللي بيقول لك روح اقتله ده ، أنا شايفاه معاه إمبارح ، دا راجل بوشين ، إوعى يا مسعد "
تراجع المشهد ، انجذبت خلفه ، كأنها تقبضه بين أصابعها ، به شيء لا تعرف ما هو ، كلما دنت منه ابتعد المشهد ، وانطفأت أنواره .عندما كانت تؤرق ، ويدرك " مسعد " النعاس ، بعد ألم كل ليلة تهرع إلى النافذة ، تلقط بعض نسمات طرية ، وتحبط الكابوس ، والانفعالات التي وهجها في كيانها كله ، بعد هنيهة ، تبصر " زهران " خارجاً من دار الزغبي عند الفجر ، رأته أكثر
من مرة ، الآن يدفع مسعد لقتله ، تدور تائهة بينما مسعد يغادر الشقة كثور ، وبيده مقص كبير ، تصرخ ، تصرخ ، في دوامة تدور الصرخة ، فتسقط معها ، تسقط ، وتبتلعها هذه الدوامة ، فجأة هاجمتها أشباح منامية ، كانت دائماً ما تراها ، منذ يومين تحاصرها ، تشم رائحتها ، وظلت تراها لفترة طويلة ، ولا تعرف لها تفسيراً حتى قضى الغندور – ولدها - بتحقيق النبوءة،وتأكدت بأنها كانت حقيقة حاولت بكل الطرق نسيانها فلم تفلح ..لم تفلح !!
انتابت حسن رجفة مدوية ، أحس فوراً بالأرض غير مستقرة تحت قدميه ، وثمة شيء يرتفع به عالياً، ولأقصى ارتفاع حتى وازى مئذنة " عمرو بن العاص " المواجهة للمنزل ، ثم تعود نفس القوى الخفية تحط به ، فيرتطم بالأرض ، تتخلخل ضروسه ، وتطحن بعضها ، تتهالك،يدوي ألم حاد في عصب الفك العلوي ، وعلى الفور ، تروح العشر أظافر تنحت رأسه هرشاً ، حتى تفجر الدماء .
تملكته هذه المشاعر الجهنمية عقب إذاعة بعض المعلومات عن قتلة رئيس الدولة في ساحة العرض العسكري مباشرة،رأى نفسه يهرول بين المغامرين ، هاهو ذا يتقدم من المنصة على ظهر عربة مرفوع الرأس ، ينتظر اللحظة الحاسمة ، كان المشهد جليلاً ، الرئيس يتابع سرب طائرات ، وهو ينطلق في مساره مطلقاً دوياً حاداً يصم الآذان ، الكل ينظر ، يتابع ، والرئيس مثلج الصدر ، جميع الحضور يفعلون مثله ، انحسرت الكابات عن رؤوسهم اللامعة ، ووجوههم العالية .
ها هو ذا يدنو ، وها هي ذي العربة تنحرف عن المسار،حانت ساعة الصفر ، المشهد يزوم ، يتقدم خالد الإسلامبولي ،كان معه ، كان بشحمه ولحمه ، هكذا رأى نفسه داخل المشهد المراوغ ، يتبعهم آخرون ، سدد آليته ، وهو يندفع بأقصى سرعة ، إلى الهدف يتجه ، إلى المنصة المسكونة بالعظمة والكبرياء ، وأفئدة الرجال ، دوى صوت قنبلة ، علت سحب الدخان ، دب هرج ومرج ، رصاصات خالد تحدث سحراً شديد الألق ، سدد بلا هوادة ، دوت النداءات ، الصرخات ، امتص هذا الزهو ، وانحنى الكبرياء ، واختفى طابور الحرس فوراً ، الضربات لا تنقطع .. لا تتوقف ، أصبحت المنصة خالية من أي متابع ، كلهم انحدر تحت المقاعد ، تقهقروا أمام الفزع ، ونالت الرصاصات من الرئيس وبعض الحضور .
تصور لحظة واجه " خالد الإسلامبولي " الرئيس كملك موت لا يقبل التأجيل ، هتف الرئيس مذهولاً ، مذهولاً ، وبرعب أتى على ملامح وجهه المنحوت " ليه .. ليه ؟ " لكن خالداً ما كان ليهتم ، أفرغ نيران رشاشه ، جميع من كانوا منذ لحظة فى المنصة ، يتابعون طرباً وكبرياء أصبحوا تحت المقاعد ، يقتلهم الخوف من هذا القضاء العاجل ،يتحينون الفرصة للخروج من المأزق الدامي . جرى هو ، ها هو ذا يجري منفلتاً .. بعيداً بعيدا .. عاوده نفس الإحساس المهلك ،تسربت قطرات من بين فخذيه،ينشطر نصفين ، كان هناك بينهم ..هل كان هناك ؟ يستدعي المشهد ، يتعجله ، لا يأتي ،يعيد تهيئ نفسه ، يفلح هذه المرة ، الآن يصبح أمامه ،ها هو ذا ، نعم كان هناك ،أطلق خزانة كاملة من آليته ، أية آلية تلك التي يتصور ؟ أطاح بأحدهم ، كان داخل المشهد بكل جوارحه ، ها هو يرى نفسه بوضوح ، يتمتم : " وكيف وصلت هنا ؟ أنت هنا .. في هذه الحجرة منذ أيام لم تبرحها .. لم تغادر هذه الحجرة منذ عودتك .. فكيف رأيت نفسك ؟ "
اندفع إلى دورة المياه ، بسرعة يتخلص من لحيته المسترسلة
نهائياً . كانت كلمات الرئيس ترن في أعطاف جوانحه ، كلماته كلها ، كلها " حاجيبك .. عامل لي فيها وطني .. " وأيضاً الكلمات الأخيرة : "ليه .. ليه ؟ ! "
كان خوف فتَّاكٌ يسري عبر جسده ، يرجفه لحد الهوس ، فيدمي وجهه الموسى ، لا يدري من أية جهة حقاً يندفع كل هذا الدم ، يلصق الفوطة بوجهه الدامي لبضع ثوان ، يرتدي ملابسه في عجالة ، يبدو كمعتوه ، هرول خارجاً دون أن يعي تماماً أية وجهة يقصد ، وإلام يصل به كل هذا الرهق القاتل !
عندما وطئت به قدماه محطة مصر، كان يتوارى داخل القطار الوحيد ،الذي كان على وشك القيام ، في هذه اللحظة 0
كانت المحطة مكتظة برجال البوليس على غير العادة ، استطال المشهد ، كشف أبعاد الصورة ، الناس ، الراحلين والقادمين ، الراجلين والقاعدين ، أنصاف وجوه 0لا تحمل الوجوه أية معاني ، جامدة ، غامضة ، خادعة ، الهواء كانت له رائحة غريبة ، وطابع مأسوي ، كأن القيامة الآن ،الذهول والقلق والترقب ، ولامبالاة عجيبة تمسخ الوجوه بشكل واضح !!
أدمى جيوبه بحثاً عن نقود .. أى نقدية ، ماوجد قرشاً واحداً ، لم يتردد كثيراً، فوراً تقدم منغمساً في إحدى دورات المياه 0رائحة البول قاسية مريرة مقيئة ، تفري أنفه وكيانه ،وتنهش حدقـتي عينيه ، كلما راح أحد الركاب يطرق الباب ، ويعالج فتحه ،ابتعد بعد إصابته بالفشل ، وعاد ممغوصاً مثقلاً بالآلام ، لا صوت .. لا تراجع ، الجدران المعدنية تكاد تطبق على صدره ، يختنق ، يقعى على الأرض باكياً .
حين حط بهذه المدينة التي يجهلها ،كان جوٌّ من الكآبة يطوي الحارات والعطف ، ليس حزناً على ماتم ، لكنه تشكل الخوف من مجهول سرمدي ، لنفوس تعودت الخوف من غدها ، وشمسها القادمة ، تخرس الألسنة ، أو تطلقها .
الشمس غابت، بالمرسوم الرئاسي لرئيس مجلس الشعب القائم بأعمال السلطة ،كان لابد لها من الغياب ، والتخلي عن رحلتها اليومية ، وإلا لن تقوم لها قائمة فيما بعد ، بينما تمتلئ الصحف الصادرة عقب اغتيال السيد الرئيس بأنباء ترشيح نائبه .
كانت الطلقات تتردد في أصقاع البلاد وحواريها ، مطاردة أسماء ، وأشباح كانت تنشر صورها على محطات القطارات ومفارق الطرق وعبر التليفزيون ، مقرونة بالأسماء ، ورجال المباحث يطاردون البائعين ، ويرغمونهم على إغلاق مسجلاتهم ؛ فالحزن حزن البلاد ، ويجب الصبر عليه وممارسة طقوسه حتى آخر نفس ، ولو بلي الأذرع وضرب الأعناق !
فرضاً يدخل الحزن البيوت ، نعم ؛ فالمصاب كبير وجلل،رمز الوطن المفدى ، قائد العبور ، وثورة التصحيح ، وصاحب الاستفتاء العظيم ،الذي لم يحظ به أفضل من حكم في العالم ، صاحب المقولات الفذة،والقنابل الرهيبة التي كانت تدير الرؤوس ، وتحول الشعب إلى كيانات بلهاء ، صاحب المقولة الرهيبة :" من لم يغتن في عهدي سيظل معدماً " وغيرها ، وغيرها !!
في العراق كانت البداية ،ارتحل حسن بعد أن أمضى في ورشة البلاط بضعة شهور ، وتأكدت له مقدرته على إتقان الصنعة ، وهناك .. هناك ذاق مرارة التشكك وحلاوة القرش .
قيض له العمل مع عميل بالمناصفة ، وبعدشهر بالتمام والكمال كان أحد بلدياته يسوقه إلى ورشة أخرى لم تكن في حاجة إليه !!
لف البلاد طولاً وعرضاً ، شرقاً وغرباً ، لف وما هدأ ، آخر الأمر نام .. نام ،واستيقظت داخله الشكوك والوساوس ،تكتلت على صدره ، تطاحنت ، جثمت على أنفاسه ؛ فانتابه الأرق والفزع ، ودبدبت على كتفيه الكوابيس والتهيؤات .. في صورة زوج أمه ، غول له وجه بشع كريه ، بعصاه يطحن كتفه ، ذيل يمتد وراءه مثل كائن خرافي ، وشامة سوداء كبيرة، وضع الله فيها كل غضبه أو محبته لهذا المخلوق ، وشعر أسود كنبت عشوائي ، ها هو بوجهه الكريه ، يسدد نظرات نارية : " لازم تدوّر على شغلة تاكل منها..بلا مدارس بلا زفت ..يعني اللي اتعلموا خدوا إيه ؟ اتعلموا بس قلة الأدب والمسخرة " .
شاف أمه قطة لا حول لها ولا قوة ، تموء وتبكي بجانبه ، ترتمي تحت قدمي رجلها ، تعرف تماماً كم يخونها ، كلما تماسكت ، هيأت أولادها ليقفوا في وجه هذا الرجل ، صعقهم ، وحين خانتهم ، ذهب إلى قسم الشرطة : " هذا لص سرق ساعتي .. وهذا نمرود اعتدى عليّ بالضرب .. أما هذا فشيوعي كافر يرأس تنظيماً مسلحاً !! "
لم يرحم ضعف هذه السيدة - التي هي أمه - وحينما أنهى دراسته ، وبات ينتظر خطاب القوى العاملة ، انتظر طويلاً .. طويلاً ، وكتب رسالة مدح لوزير القوى العاملة مرة ، ثم أعقبها برسالة توسل ، ثم رسالة تحمل قصيدة نقلها من كتاب لأحد الزجالين ، وانتظر الرد ..انتظر طويلاً ، فقد كان الوزير مشغولاً مع السيد نقيب عام عمال مصر بقمع إضراب عمال النسيج ... وغيرهم !!
في انتظاره للرسالة النجدة ، طحن زوج أمه عظامه وجوعه ، ليال طوال نام فيها بلا طعام ، على لحم بطنه ، يتلوى ألماً وجوعاً ، وانتهى به الحال إلى العمل في ورشة بلاط ، بل والنوم في رطوبتها .
في العراق كان المشهد أكثر سهولة ، لحق به أخوه ، تلقفه بفرح طفولي ، ظل على حالته المرضية ، رغم محاولات البعض المتكررة للخروج به من هذه الحالة .
أخيراً قالوا : "دا طول النهار نايم ، وأخوه اللي بيصرف عليه "
بعد سنتين مريرتين عاد على رغمه ، حزيناً كافراً بكل شيء ، قوبل بامتعاض ، تردد نفس الكلام .. نفس الطحن .. نفس الاتهامات ، نام رهين حالته المرضية التي ازدادت سوءاً،ساقه زوج أمه إلى قسم البوليس ،وبماله من سطوة وضعه في الحبس ، وضعه دون ذنب جناه ، وتناسوه تماماً .
قابلهم هناك،أفاضوا في القول ، امتلأ رأسه بالذباب الأخضر، أداروا عقله المشتت ، تغلغل كلامهم بعيداً .. بعيداً في قاع رأسه ، أحس بطنين حاد ينهش مخه ، يضنيه ، أبداً ما شعر براحة واطمئنان يذكر . زوج أمه يتحدث بنفس الألفاظ ، يدخله السجن تحت نفس الكلام ، وبنفس الأريحية .
حار ما الذي يحدث له ؟ كان حديث زوج الأم أكثر وضوحاً . اختلط كل شيء . كأنه يسمع هذا الكلام لأول مرة رغم أنه ظل لسنوات طويلة يؤدي طقوس العبادة كما يجب ، يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، يصلي نائماً ، وقائماً ، ويقظاً ، هناك رأى طاقة نور تحتويه ، تصعق زوج أمه وتفتك به ، تحمله على جناحيها النورانيين ، تحلق به هائمة ، يقبل على المصلين ، يجد في انتظاره خليل الله "إبراهيم " ، يرحب به ، يشم رائحة غريبة ليس لها مثيل ، كان يشمها حين تأتي سيرة الجنان والجنات ، وآياتها . يضغطه الخليل بين أحضانه ، يربت على كتفه ، يؤنبه على تأخره ، يعتذر هو في خوف ووجل ، يشهد جميع الأنبياء ينتظرون قيامه للصلاة ، بعد قليل ينشط مفيقاً ، يفزع على صوت يناديه : " كافر .. صلي كويس .. صلي وامشي " .. كان يصلي عكس القبلة بالفعل ، اعتدل ، رجع إلى وضعه الأول ، انتهى ، بحث عن منديله ، لا يجده ، داخ بحثاً عنه ، ما قيمة قطعة من قماش ؟ كان معه .. أصبح المنديل ذا قيمة حيوية ..أين ذهب ؟ لا يدري ..ربما تركه في المسجد ..ربما ، جفف به وجهه ، بسطه أمامه ..نعم .. إنه لا ينسى . حين دخل الدار رأى المنديل !!
قصة طويلة وغامضة ، عن المنديل،عن خليل الله ، عن الصلاة مع النبيين ، كل ما فاهت به الأم حين كانت تبتعد عنه : " ربنا يكتبها لك يا حبيبي .. ولا تعلم .. قادر يا كريم " .
أصبحت قصة المنديل حقيقة،والصلاة مع النبيين حقيقة،ولقاؤه وخليل الله حقيقة ، فانكب يقرأ القرآن ، ودلائل الخيرات ، يقرأ ليل نهار ، أكله قراءة ،نومه قراءة ، شربه قراءة ،حتى تحولت الأشياء ، أصبحت للكلمات أجنحة ، وأرجل ، لشخوص عتاه ، يجلدونه لطماً وضرباً ، وإهانة ، كل يوم يعود يحمل بعض الكتب الدينية .. منذ شهور قليلة قال أخوه " إنت ليه مابتقراشي ؟ "
ورد بكل بساطة وربما إهمال : " واقرى ليه ؟ حاعرف إيه زيادة ؟ ولا القراية حاتاكلني وتشربني ؟ "
الآن ينكب موصداً عليه باب الحجرة ، يقرأ ليل نهار ، بدأت جدران الحجرة تضج من رائحة أنفاسه ،تتعرى الجدران من بعض الصور ، طالبته أخته الصغرى تفسيراً ، قال بإهمال وربما غضب دفين " حرام " .
لا يخرج إلا لتناول طعامه الذي زهده بعد ذلك ، استرسلت لحيته .. استرسلت ، يخرج للصلاة ظهراً ، لا يعود إلا عشاء ، ساور الأهل القلق .. وزاد همه ، كما بلغت كراهيته للعالم حداً شاسعاً ،كلما رأى التليفزيون مضاء أغلقه دون كلمة اعتذار ، ثم يردد بعصبية : " هذا رجز من عمل الشيطان .. حرام يا كفرة ".
لم يكن أخوه الشيوعي يدري بكل هذا ، كل ما رآه قراءته للقرآن ، فأمده ببعض الكتب الدينية من تلك التي تتحدث عن مسألة العدل والعدالة الاجتماعية ،أخيراً ارتدع زوج الأم ،وبدا الخوف على وجهه شاسعاً وقبيحاً ،ابتعد عنه لا يحادثه ، ولا يعاتبه ، واكتفى بالمراقبة بعد أن كان يشجعه ، بل ويصفق له !!
يوم اكتشف أخوه ما هو فيه ، أرغمه على حلق لحيته ،أحضر الحلاق ، أصبحوا في الحجرة ، بكى " حسن " مستسلماً ، بكى بحرقة ، فنحى أخوه الحلاق جانباً ، تركه على حريته ، ليفعل ما يريد ، ولم يطل الأمر ، أمر " حسن " الحلاق بإزالة اللحية وهو يبكي أيضاً ، بعدها ولمدة شهر كامل كان يحدق في وجه أخيه بجفاء وكراهية حقيقية !!
كان أخوه يدرك واهماً أن هذا كله موجه إليه هو،نعم ، إليه هو ، لكنه ما أساء لأحد ، يحتفظ بأفكاره لنفسه ، لم يفرضها على أحد مهما كان .. مهما كان قريباً ، ربما كان مرجع ذلك قصوراً في تفهم الأمور والخوف ، أو الإحساس باللاجدوى .
أمر الحلاق بإزالة الذقن الطويلة بنفسه ، وكان معه آخر النهار في عيادة الطبيب ، الذي بدا أنه يعاني أكثر مما يعانيه رواده من المرضى ، من لحظتها وهو يجرع الدواء ، لكم أرعب الجميع ، يتشبث بشيء كطفل ، ولا يتركه إلا بالدم ، يصرخ بقسوة ، يبكي .. ولا نوم ، أرق طويل لا ينفك .. طويل .. لا طعام .. ولا شراب ، استلزم قوة جبارة ليعتدل الميزان .. يعتدل الميزان أو البعض اليسير منه .
اليوم لا يدري .. هل قابل أحد هؤلاء المعلن عن أسمائهم أم لا00 هل كان في ساحة العرض وقت وقوع الكارثة ؟ لا يدري شيئاً ، ما عاد يتذكر شيئاً بالمرة ، جميع الوجوه التي قابلها في المسجد أو السجن ، قابل كثيرين .. كثيرين لا يذكر لهم ملامحا ، لا يذكر واحداً على وجه الخصوص ، فلماذا وبمجرد إذاعة الأسماء فرَّ ؟ما باح لأحد عن وجهته ، وما كان يدري إلى أين يتجه !!الرائحة تنهش أنفه ، تضيق أنفاسه تماماً ، الطرق على الباب لا ينقطع ، أحدهم مصر على فتح الباب ، يقاوم ، يتماسك ، الآخر يركل ، يركل ، يزعق : " افتحوا يا ولاد الكلب " لا يفتح .
حطت به قدماه في هذه المدينة ، وهو على يقين أنه لا يعرف أحداً فيها ، يخطو على غير هدى ، يسلك طرقاً ما عرف لها أسماء ، وحين صعد إلى هذه العشة لم يدر لم فعل هذا !
كان يخترق الشوارع كتائه،شارد العقل ، لكن قدميه لم تتوقفا ، لم يصبهما التردد ولو للحظة ، كانتا تسلكان طريقاً ما رآها من قبل ، خاض فيها كأنه يعرفها تماماً ، يتأمل كل شيء ، الناس ، البيوت ، المساجد ،النوافذ ، الأسواق الغافية ، الأقفاص التي توارى أسفلها البائعون ، كلاب المدينة الضخمة تعوي دون توقف، كأنها ذئاب استؤنست ، استمر زحفه ، أضاء في عقله أخيراً مشهد قلما سبق له رؤيته ، متى ؟ لا يعرف ، أو كأنها وصفة جغرافية لمكان ما ، كان المسجد ، وكانت البيوت على الجانبين ، وإلى اليمين يلتوي الشارع الطويل ببيوته المتهالكة ، وإلى اليسار كانت مدرسة تتوسط ما توازى من بيوت تهدمت جدرانها، وضريح عجيب بجانبه " حنفية مياه " تسقي الحي ،وعند المنزل رقم " 32 " توقف،مسح المكان بعينين زائغتين ،اندفع متقدماً إلى داخل البيت خفيفاً وهشاً ، يرتعد كأنه يتخلص من حمل ثقيل ، ويقبع داخل حظيرة الطيور !!
طفت صورة زوج الأم ، مجسدة ، فحط برأسه بين ساقيه أرغمها على الاختفاء ، مقاوماً ظهور هذا الرجل ، أذاقه الويلات ، وأورثه عللاً ، جعله آخر الأمر منهبة لهذا المكان الخالي من البشر، وحيداً مع دجاج وبط ، ينفذ ذرقها إلى معدته .. وحواسه جميعاً ، تسللت من داخله صور شتى لأشخاص عديدين ، لم يستطع السيطرة على أية صورة منها 0ها هو ذا "مسعد أبو ريا" باكياً يحدثه عن حبه لبدرية ، ومعاناته القاسية خلال غربته ، يحدثه عن أمه الغجرية ، الجدعة ، التي كان ينعتها بالساحرة ، تلك التي سحرت أباه ، فلهث خلفها ، وارتبط بها لتتحدى معه العرف والتقاليد .
أبوه الذي عاش عمره لا يقيم وزناً لأي شيء ، عاشها طولاً وعرضاً ، يمارس الكثير من الأعمال ، عندما يصير في يده الكثير يركن إلى الدعة ، ينتفش جوار صابحة كديك شركسي ، وحين ينهي ما معه ، يسعى لملء جيبه من جديد ، حدثه عن زهران ، وحصاره الدائم له ،ولبدرية ، وكيف فرَّ منه هارباً آخر الأمر ، لم يكن أمامه سوى الرحيل ، بحجة فك رهان الدار ، نعم ، والحقيقة التي لم يعيها تماماً هي أن محاصرة زهران له لم تكن لتترك له خياراً0 فجأة أدرك " حسن " أن مسعد من سكان هذه المدينة،تمنى صادقاً لو يعلم أين يكون ؟ يقف على أخباره . يتذكر مواقفه الباهرة ، كان الوحيد الذي ارتاح له،هناك في بلاد الغربة ملأه ثقة بنفسه ، لم يكن يعرفه ، وعرفه ، وشاركه المسكن والمأكل ، تحمله عاطلاً لشهر كامل ، ألحقه بعمل في ورشة ،رفض بشكل قاطع أن يسترد ما تكلفه من مال : " أين أجدك ؟ ليتني أخذت منه العنوان" .
:"أنا ذا وحيد..وحيد،وأنت في هذه المدينة ، ربما أكون معك الآن ، في مكان واحد ، لكنني لا أعرف أحداً في هذه البلدة ، كيف لي العثور عليك ؟ أخشى أن يكون أحد رآني ، ورصد دخولي المكان .. حين وشى بي البعثيون ، واقتادتني المخابرات ، كان الوحيد الذي وقف بجانبي ، يشد من أزري ، أسبوعاً كاملاً ، وهو يمدني بطاقة جبارة،ينقذني ، ويحبط كل المحاولات التي استهدفت قتلي " .
بكى ، تغرغرت عيناه بالدموع ، تكوم ، سحبه النعاس فنعس ، راحت الدجاجات تدنو منه على حذر، تنقر جسده ، تعتليه ، تنام هي الأخرى على كتفيه ورأسه .
حياة جافة ليس لها معنى ، هاهو ذا في عشة الفراخ بين الريش ورائحة الدواجن ، والأطعمة الفاسدة ، يمضغ العفن ، يقتله دبيب الأقدام الصاعدة والهابطة ، غرقت ملابسه في ماء بوله ، دوي أمعائه يطن مفزعاً الطيور ، جائعاً شريداً ، يتواري نهاراً خلف العشة ، يتخفى قدر الإمكان ، في الليل يدفن نفسه كطائر في العشة ، الجميع انصرفوا عنه ، ما رعاه أحد ، تخلصوا منه ، نال منهم قسوتهم ، وإهمالهم ، لم يحبه أحد في العالم حتى من اعتبرهم أحبته ، تزوجت وتركته وحيداً ، يتذكر المرات القليلة التي هيئ له فيها الاختلاء بها ، كانت جميلة ، ممشوقة القد ، دافئة ، لها عينان سوداوان كريمتان ، كان يحبها ، يتمناها ، قال أخوه : " جوز أمك مش حايوافق .. وأمك شرحه .. بس مش مهم مادام أنت بتحبها وهيه بتحبك " .
أقدام صاعدة ، دبيبها في رأسه ، تتقدم ، تقترب الخطوات، كانت " بدرية " تدنو من العشة ، تنحني ، تدخل رأسها قابضة على ذكر البط ، يفح الطائر ، يصيح ، أقفلت عائدة من حيث أتت ، كم هي جميلة هذه الشابة ، وكم هو جائع ، حزين ، ومتسخ القلب والروح ، لكم يحتاج .. يحتاج إلى حمام .. حمام يزيل هذه الرائحة .. رائحة البول ومخلفات الطيور .. الجوع يلوي مصرانه ، يجلدها ويجلدها ، معدته تعوى .. تصيح ،كأن بها وحشا ضاريا، ماذا يفعل ؟ التهم الذرة ،" وفت الطيور " من أمامها ، من وقتها والمغص يناوره ، لابد من شيء ، ثلاثة أيام ما ذاق غير هذه الحبات ، هذا الخليط من السرس وبقايا الخبز .
جذبت يده بشكل لا إرادى فرخاً صغيراً ، ضغط على رقبته بقوة ، أخمد أنفاسه ، مزقه قطعة قطعة ، أكل .. أكل غصباً ، تهيجت أنفاسه، أمعاؤه ، غمغم باكيا، يكاد يقيء ، الدماء لها طعم الموت ، ورائحة التوحش ، خنقته الرائحة ، حملت مصرانه إلى حنجرته ، تمايل ، كح ، كح ، رفضت معدته الوليمة ، كادت تسقط من حلقه ، الجوع أثقل ، وأمضى ، بكى ، نشج ، بعد قليل هدأ تماما !!
داخله دارت معركة ، فراشات وجنود ، عصافير وفانتوم ، أفكار تتصارع ، وعقل معطل ، بالكاد يحمله ، لماذا هو هنا ؟لملم جوانب الصورة ، تتضح معالمها ، يحاصره أشخاص بعينهم ، يفشل فى تحديد الشخوص ، علاقته بالجماعات كانت محدودة للغاية ، ما كان حدث بشكل عابر تماماً ، لا يذكر انتماء لأحدهم ، لا يذكر ، يعاود النظر ، يستحضر الصورة ، تدوم ، تتذبذب ، تهرب منه ، يتداخل فى بعضه ، يركز أكثر ، يرى فى الصورة حدثا .. يبدو آخر، تبهت الملامح ،يستنكر ما توصل إليه :"إزاي بقى ؟ " .
لو يستطيع الخوض قليلاً ، لكشف معالم الصورة ، ووقف على حقيقة الأمر ،ما تخلف إلا على مراهقين ، نعم ، ارتبط فترة تصل إلى شهور ، وإلا ما معنى الصورالمنزرعة من الحائط، خاصة صوره ، إغلاقه للتليفزيون .. وإصراره على أن يظل مغلقا ، بل حمله وإلقاءه ، هنا سمع صراخ أمه ، نزلت على وجهه لطمات ، وهياج وحش أنشب أظافره فى وجه زوج الأم ، حرقه لكتب" إحسان عبدالقدوس ، حناتدرس ، نجيب محفوظ ، نزار قبانى" . كان صدره رحى لمعركة رهيبة زلزلته .
تعود الصورة ، تتقهقر ، ويبدو المشهد باهتا ، يرى كتبا ومجلدات ، علامات القيامة ، المسيخ الدجال ، دلائل الخيرات ، يغلق على نفسه ، يقرأ بنهم ، لابد أنه ارتبط بهم ، مم يخاف ؟ لم يشارك فى شيء ، نعم ، كا ن فى البيت وقتها ، ما معنى وجوده في مكان لا يعرفه ، لا يدرى ما مصيره لو ظل هنا أكثر من ذلك ؟عليه بالرحيل والابتعاد ، العودة إلى بيته ، أوحشه وجه أمه وإخوته ، لأول مرة يشعر بمثل هذا التشوق ، نعم .. ثلاثة أيام ابتعد فيها عن العلاج ، هاهو اللعاب يسيل من فمه دون سيطرة ، ثقلت كتفه ، هاهي تتهدل ، أطرافه السفلية تتشنج تماماً ، لابد من تغيير المكان ، يزعق باكياً " أين أنتم ؟ " يقيء ، يقيء بشدة ، أحشاؤه تتلوى ، تعلو به عبر الفضاء ، يحط متخبطاً ، كأن صنبوراً في رأسه فتح فجأة ، تتسرب الأشياء رويداً رويداً ، كل لحظة يمكثها هنا بمثابة سنين طويلة ، كانت تنفلت وتتبدد من ذاكرته ، ما عاد يتذكر كيف أتى ، أنسيَ أسماء الأشياء ، كأنها تمسح بممحاة ، كل شيء يأخذ ذاكرة مغايرة تماماً ، أصبحت ذاكرة طفل ولد الآن، والآن فقط ، ما هذه الكائنات ؟ نعم .. هذه طيور .. دجاج وبط وأوز . هاجمه زوج أمه ، آخر مرة لمحه فيها كان يتخبط في الكلام ، يقلد الرئيس الفاني ، يزعق شاتماً أصدقاءه : " يا صيع .. شوفوا لكم شغلة تشغلكم .. استحليتم الحكاية ، ما خلاص .. انتوا مش في الدنيا .. أهو إندار عليكم بعد الشيوعيين " يهرول كأبله ، يسبُّهم ويتوعدهم : " والله لاني مبلغ عليكم .. ورميكم في السجن يا حوش " .
التقطت " بدرية " أكبرها بين هياج الطيور المباغتة ، هرولت على الدرج مرحة ، كانت تصارع زمناً موقوتاً ، بسرعة كان الطائر في الإناء .. باغتتها " حماتها " ، غزت المطبخ عليها ، كحالمة تسبح في منامها قالت : " بت يا بدرية .. مسعد فين يا بت ؟ "
بوغتت ، وارتجفت أوصالها ، تعثر لسانها بين شفتيها المرتعشتين ، تمالكت نفسها وأجابت : " ما أنت عارفة يامه إن مسعد هربان "
كانت تشمم رائحته في كل شيء ، فى أنفاس بدرية ، يلاحقها ، فتلاحقه ، وتتحرك دون إرادة مشوقة إلى حيث تقودها الرائحة : " ريحته في كل الدار يا بت .. .. مالية نغشيشي " . ودنت من الإناء .. تتفحص ما به : " لإيه ده يا بت ؟ ".
لم تتمالك " بدرية " نفسها ، بكت ولم تحر جواباً : " أنت بتخبي عليه يا بدرية ، إخص عليك، مسعد هنا يا بدرية ؟".
اتسعت حدقتاها برعب ممزوج بفرح طفولي .
تعلقت بها " بدرية " عشان خاطري يامه .. سيبيه نايم على الأكل ما يستوي !!".
انهارت الأم ، أقعت على الأرض ، سقطت رأسها على الصدر ، تبكي وحيدها ، من ارتجته من الدنيا ، وأوقفت حياتها عليه ، لاحقته كظل ، وزادت عنه ، فى كل البقاع والدروب ،ورقته ليلا ونهارا ، وباركته بالملح والشبه والجياد المطهمة ، والنار التي لا يخمد لها أوار ، كم كانت فريسة لليل الأرق ، وكم شربت من يحموم حيرتها وقلقها ، وتلا عبت بها الشياطين ، رأتها رؤيا العين ، وأطلقتها في إثره ، متوعدة ، هي الساحرة المسحورة ، ابنة الغجر ، رفضت الرجال واحدا بعد الآخر ، زهدتهم أجمعين ، لم تأت له بزوج أم يصليه مرارة اليتم ، تبكي العيد الذي ما أحسوا به ، وما دخل دارها كبقية البلدة ، ومرَّ عليها كمأتم .
أخرجتها " بدرية " من آلامها ، ربتت على كتفها حانية ، وقبلتها بحب دافئ، ثم دفعت طبق " العدلية " بين يديها ، فطنت الأم إلى ما يجب عليها فعله ، أزالت دمعاتها العالقة بطرف جلبابها ، وبأصابعها تلقط الغريب ، تبعدها عن حبات الأرز .
كان أمامها في الطبق يشاغلها ، يحادثها، هاهو في الخامسة عشرة يرفض المدرسة ، ويصر على موقفه ، والعرق يتصبب من كل جسده، إقناعا يحاول ، لاجدوى من التعليم يا أم ، لا جدوى ، القراءة والكتابة تكفى ، تفي ، كيف أتعلم بينما أنت تروحين منى ؟ تموتين على السكك ، يطاردك المخبرون ، وأهل المضارب ، بتربصك العاهرون في الخرابات، والسكك المهجورة : " اللى يعوزه البيت يحرم على الجامع .. مش كده ؟ "
آن أن يكون رجل الدار . ذهب القليل الذي خلفه أبوه . لم يبق غير الدار التي ورثها الولد عن أبيه ، ورهنت نصفها لخالته " أم شربات " ، هاهي ترقيه ، تطيب جسده طفلاً بالطيب والعنبر ، وتخط بالزعفران بعض حروف نقلتها عن أمها الفانية ، تطرد عن جسده كل حسد أهل الحارة ، كان جميلاً ، والعيون حسادة لا تترك أحداً لحاله ، عاشت معه عمراً من الخوف والوهن والرهبة، نامت مفتوحة الأجفان ، تصارعها الأصوات ليلاً ونهاراً ، تدميها ركلات رجال البوليس ، نعم ، بدأت الرحى حين انضم لمنظمة الشباب ، منذ زمن طويل ، ولم تنته برحيله ، وفك رهنية الدار :"يابنى الحاجات دى للحضر ، إحنا غجر وبس ، مالناش هنا حاجة "0ونسيت فى لحظة عبد العزيز ، لكنه كان يصرخ :" لنا كل حاجة يامه ، أنت نسيت أبويا ، أنا من صلب البلد دى ، أنا بقى دونا عن كل الناس ، باعيش بروحين ، نصي غجري ، ونصي التانى فلاح ، ولا نسيت يا أم مسعد ؟ ! ".
شافت العفاريت في عز الظهر الأحمر ، ناطحت الجدران الصماء ،حادثت دود الأرض ، خاطبتها لتوقفه ، شكت لحجارة الطريق والدار ، بللت واحة القلب ، فنبتت شجيرات الرضا والصبر ، وحين علمت بسبب سفره ، ماتت هذه الشجيرات ، وأصبح القلب صفصافا ، ونالت منها القسوة ، كان يريد الزواج من " بدرية " . وكانت تريد له الدار كلها دون سفر ، ومال خالته القادرة0و ما كانت تهمه هذه الأشياء ، كل ما كان يهمه " بدرية " ، وقرر ألا يتراجع ، غاب عن عينيها ، فاكتوت، وعميت ، وعاد أكثر عناداً ، عاد إلى الشركة بعد أن لفظها ، عاد مسحوراً حنوناً ، يحدثها عن حبه لـ " بدرية " كطفل ، يبكي على صدرها – هي أمه – ويحكي لها عن رفاقه العمال ، عن رحلته القاسية في بلاد الغربة ، عن المظاهرة الكبرى التي كادت تنهي عذابهم ، عذاب كل الحالمين بيوم تستوي فيه عدالة السماء .. وعدالة الإنسان ، كما تصور وقتها ، ويحكى كيف انفلت من الحصار الذي ضربوه من حوله ، ورحل ، يحكي لها عن"زهران " ابن الحارة ، ورفيقه القديم ، كيف اندس بينهم .. وأشعل النار في صدور الرجال ، فهاموا على وجوههم ، كيف كانت له اليد الطولى في الفتك بهم واحداً بعد الآخر ، كان يعلم أنه يعمل إلى جانب تجارته في المخدرات وفرض الإتاوات كمرشد ، ينكل بالرجال ، والنساء، ويدبر المؤامرات .
هاهى تراه يوم المظاهرة الكبرى ، مسعد يقتحم الدار لاهثا ، وحين كانت تدقق النظر فى ملابسه ، هالها ما رأت ، الملابس غارقة فى سائل له لون كهرمانى ، بعدها عرفت أن السائل أطلقه زهران على العمال بالتعاون مع البوليس . كانت تنعته بـ " أبو وشين " . تحذر ولدها من شره . أخذوه مرات . في كل مرة كانت تحس بأنهم سلخوا جزءاً من لحمها ، لاحقت خطواته .. من مكان إلى مكان . تحملت إهانات الجنود. ما كنت لتهتم بأي شيء. جاءها "زهران " ابن الحارة ، الباغي الكريه ، يتشفى فيها ، وفي ابنها ، قال لها :
" خلي ابنك يسيب بدرية ، وأنا أشهد معاه ، وأخرجه منها زى الشعرة من العجين " و لوح بمسبحته ، زارّاً ما بين حاجبيه : " وبعدين ياأم مسعد ..المفروض يبعد عن شوية العيال بتوع السياسة !!"
حارت ، كادت تطبق بأظافرها على رقبته . كان يضحك على كل أهل الحارة ، يتغلغل بينهم ، حتى نام الناس وقاموا على كراهيتهم له ، وخوفهم منه . يسير فى ركابه الكثيرون ، يمشون وراءه كالعميان . ورفض " مسعد " شرطه الغريب ، رغم علمه بثقل " الدية " . واستمر حبسه لثلاثة أشهر دون تهمة واضحة ، كان أحسن حظاً من زملائه ، بعضهم فصل من عمله تعسفا ، والبعض ما يزالون يعانون . و " زهران " يهدده .. رفيق الماضي - انضم معه لمنظمة الشباب في ساعة واحدة ، وقت كان لا يملك شيئاً ، وأصبح يملك كل شيء .. كل شيء ، حتى الشجر على الطريق .
كانت صابحة تخاف عليه من شر خالته العنود ، إنها لا ترضى الهزيمة بسهولة ، لقد اتفقت معها على الصفقة .. البيت مقابل زواجه من شربات ، وافقتها رغم سيرة " شربات " الشائنة ، وملاحقتها لـ " زهران " .
كانت ترى فيه جنون أبيه " عبد العزيز " ،أبوه الذي غامر .. وغزا عالمهم – هم الغجر – انتشلها من أهلها غير هياب ، عندما حاول البعض التحرش به هددهم جميعاً ، وأشهر غدارته في وجوههم :"اللى مستغِّنى عن حياته يحاول يوقف فى وشى".
من بعد انغمس معهم ، أصبح أكثر من ابن لهم . لكنه راح .. راح و " مسعد " في اللفة .
بكت .. بكت عمراً مضى .. وعمراً قادماً ، كان صراع قاس يدور داخلها عن الإبن الذي يدفع ديون أبيه ، لكنها لم تستطع تفسير نوع هذه الديون التي تدعيها ، فنزعت الفكرة من رأسها فوراً .
يتبع
تعليق