من يقتل الغندور رواية / ربيع عقب الباب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    من يقتل الغندور رواية / ربيع عقب الباب

    من يقتل الغندور ؟


    رواية





    ربيع عقب الباب










    كانت تفترش الأرض شاردة ، وبأصابعها المدببة ترص الحجارة .. .. حجرًا حجرًا ، وتبني منها شيئاً كان أقرب شبهاً بقلعة حصينة ، ثم تعود وتهدم كل ما أقامت ، وشفتاها ترتعشان بشكل هستيري ، وبيد أكثر تشنجاً تعود لتقيم قلعتها على نفس الأشلاء .. .. وبنفس الأشلاء وهي أشد إصراراً ، وحين تستوي البناية تماماً تمتد سبابتها ، وتقتحم القلعة ، وتعود بنفس السكينة وبنفس الإرتعاشة لتقوض ما بنت ، وقد اجتاز فكرها حدود الزمان والمكان ، سرح عبر أزمنة منفلتة ، تتذوق مرها وحلوها ، تنشق رائحتها الغامضة . تطارد "عبد العزيز" - زوجها -الفاني ، وهو منتصب كقدر عنيد ، ثم يعبرها بنظرة جانبية قاسية ، يتقدم مبتعداً دون كلمة ، فتفزع مهرولة ممسكة بتلابيبه ، يعود يخطر أمامها ، ينتقل في بهائه وعنتريته تماماً كما رأته أول مرة مفتوح الصدر عن غابة سوداء مدببة كمدينة غامضة من مدن شهر زاد ، مفتوح الساعدين ، ترتجف الأرض تحت وقع قدميه ، تحاصره تنهدات الصبايا الملاح 0
    ما وقعت عليه عيناها حتى فاضت ، هامسة مسلوبة الإرادة والكيان ، متهالكة تمضي ، شعرت بشيء ينحدر داخلها إلى أسفل ، ورفرف قلبها كأنه يتوقف الآن !!
    تراجعت معتصمة بالجدار ، فوراً كانت تسد عليه الطريق . أحجم عن السير كأن صاعقة خطفت منه البصر والقلب . كان مشهداً يثير الرعب والفزع :"إيه اللي موقفك كده يا بت ؟ "
    ردت مختلجة دون تردد :" بت لما تبتك .. .. إتكلم عدل يا روح أمك " .
    في لمح البصر كان يحملها ، كم كان قاسياً حين ألقى بها جانباً على الأرض ، من ثم زحفت معاندة تسد عليه الطريق مرة أخرى، وفي أقل من ثانية قررت،أن يكون لها،وهو يسخر منها .أوقعت به، وضحكت كثيراً . عرقلها فأصبحت أنفاسها في صدره ، كأنهما في مدينة ليس بها غيرهما .. .. تعانقا ،اعتصرها ، ومن فوره كان ينهك نفسه بحثاً عن أبيها ، الذي كان كعهده بعيداً عن الديار .

    لكم ضربها .. .. جعل لياليها وشماً على جسدها الفتي لا تنمحي آثاره ، وظلت تعانده زمناً ، كان يريدها زينة ،يفخر بها ، فيحملها إلى الحمام بنفسه ،ويزيح بيديه كل التراب ، يستخرج العطب الذي دب في قدميها الحافيتين ، ثم يرغمها على ملازمة البيت والتعود على الاغتسال ، ولم يفلح معها إلا بعد أن هجرها ، وهددها بالطلاق .
    علت وجهها بسمة مريرة ، اندفعت برغمها تبني قلاعها المنهارة ، وعادت لتهدم ما تبني ، ثم راحت بيقظة تامة تتابع قرص الشمس المستدير ، وهو ينحدر هناك ، بعيداً .. .. بعيداً ، تتابعه في حزن وألم ، أحست باختناق حاد ، كأن قبضة الليل الزاحف تطوق عنقها ، وتضغط .. تضغط ، شهقت والدموع تنهمر على وجنتيها حارة شاكية . قرص الشمس يبتعد .. يبتعد طرياً .. لا سبيل إلى إيقافه ، ومنعه عن المضي ، يرتمي في بحر السماء الممتد خلف الشجر ، يختفي تاركاً الفضاء نهباً لليل راح يجثم رويداً ..رويداً
    كانت عينا " صابحة " ازدادتا جحوظاً ، وهي تدور برأسها كأنها تطالع السماء لأول مرة ،تبني قلاعها ،وتهدم ما بنت ، فؤادها هائم في فراغ أحشائها،تهفو إليه ..إلى نجمها السيار الزائغ " مسعد "ولدها الوحيد، المنفلت من عنقود الموتى الذين حملت بهم ، وعاش بلا سند يقيله من عثراته ، ويحمي ظهره :" يكونشي عمره قصير زي أبوه ؟ " قال السحرة وأهل الفراسة عكس ذلك ، نعم قالوا عكس ذلك ، مازالت كلماتهم ترن في أحشائها ، تدوي كطبل : " عمره طويل يا صابحة يا بنت سعدية .. هايروحك للتراب .. ويكون له ذرية لها هيلمان وشنة ورنة مفيش كده "
    ما صدقت ما قيل ، ولو ودت عكس ذلك ، فكل شيء كان يسير إلى عكس ما قيل : لا ذرية .. لا حياة ؛ فمنذ شهر مضى دخل ببدرية ، تلك الجميلة المرغوبة ، وإلى الآن لم يقربها ، هي تعرف ، تعرف من عينيه ، وطريقة عبوره أمامها ، امرأته التي يعشقها،وتتغلغل عميقاً في نفسه ، هزمته ، بدرية هزمته ، خاصم أمه لأجلها ،خاصم الدنيا،تحدى كل من حاول عرقلة زواجه بها ، لكنها هزمته ، بدرية هزمته ، كامرأة بلا قلب ، حمل نفسه بالعداوات لأجلها،تأبت عليه ، تأبت عليه ، حولته لشبح هزيل ، واستعصت عليه قلاعها ، هي التي هامت به ، وسحرته ، وانسحرت به ، أخيراً دمرته ، كأنها ما أحبته ، ما حلمت به ، ما عيب شربات يا مسعد ؟ ما عيب ابنة خالتك ، امرأة تهتز لها صدور الرجال وحبالهم ، لها جمال طاغ ، وطازج يا مسعد ، هل عدمت الشوف ؟ ما عدت ترى جيداً ؟ نظرة واحدة من عينيها تذيب قلب مدينة بأسرها ، وتنهار تحت كعوبها العالية ، هزة من ردفها ، تجعل النشوة تطيح قتلاً في جوانح الرجال ، شربات لها رائحة أنثى الفراش ، لحمك ودمك الغجري يجري في شرايينها ، يا مسعد .. يا ولدي ، افهمني ، لا أقصد إلا صالحك ، وصالحنا نحن 0 زعق بأعلى صوت ، وأنا اخترت بدرية يا أمي ، بدرية هي كيت وكيت وكيت 0 وبدرية تأبت عليك ، قتلتك ، وهزمت فيك فتوتك ورجولتك ، أنت اخترت العذاب والموت ، وكذب السحرة يا مسعد ، كذبوا ، وصدق الزغبي مع خالتك القادرة ، نعم ، انتهى كل ما حلمت به ، هم الذين ضللوها ،سحرة الشؤم ضللوني :" عمر طويل يا مسعد ، وذرية تهتز لها الأرض طرباً وعجباً "
    تمتمت صابحة : " أنت وجع مبتلى ، يا نور العين الذي يرى ، ورب السكينة والهواجس ".
    أقبلت من خلفها بدرية ، في جمال سوسنة ناعسة ،رشيقة ذابلة الجفون ، حزينة ،ترتدي الأسود ، دنت من حماتها ، قرفصت إلى جوارها ، ربتت على كتفها : " قومي بقى يا أمه كفاية كده ، ارحمي نفسك وارحميني "0
    حدجتها صابحة بعينين زائغتين ، خامرتها مشاعر متناقضة ، هل تحب هذه البنية التي كانت سبباً حاسماً في مأساة ولدها أم .. .. .. .. ؟ لولاها ما كان هذا حاله ، نعم ، لقد نالت منها ومن ولدها
    في آن ، أطارت عقل مسعد ، جعلته يرفس كبغل ، وفي النهاية يقتل ، يقتل ، لو أنه سمع كلامها ، وتزوج شربات، ما وصل إلى هذه الحال ، وترك كل شيء ، وفر هارباً إلى مكان لا تعرفه ، ويبدو أنها لن تعرفه .

    بدرية حين هاجمتها عينا حماتها انزوت كهرة ، انخسف وجهها تماماً ، وبكت شاعرة بمدى كراهية صابحة لها ، بكت بصوت حار ، وشعور بالظلم يبتليها .
    ترفقت بها ، جذبتها إلى أحضانها كصبية غريرة ، ربتت عليها ، تهدهدها ، وتوغل في الهدهدة ، حتى غفت بدرية ، وسرقت عقلها ووجدانها رؤى الحلم الخطير ، صابحة توغل في الندب والعديد ، وتعود أصابعها تقيم قلاعها ، وسرعان ما تطيح بها ، ودموعها تنثال بلا توقف .
    دون إرادة قبلت بدرية بحنو ، وبرفق هزتها،دفعتها إلى حظيرة الدواجن ، لتغير الماء ، وتضع الحب ، فما ذنب هذه الطيور؟
    انسحبت تجرجر قدميها ، حملت الماء والحب ، وصعدت إلى السطح بنفس مكلومة ، ودموعها تنفرط حبات من الندى الدافئ ، تسحق برودة عيدان القش المتناثرة .

    بالأمس كانت وسط اللصوص والقتلة ، في تخشيبة القسم ، تنتظر بين وقت وآخر ، أن يخلوا سبيلها ، باتت في التخشيبة ، عانت الكثير ، وهي في وجع قاتل ، تبكي رجلها ، من قتله الحب ، وأودى به ، دون أن يكبح نفسه يقتل كلباً ، يقتل كلباً هكذا في عرض الشارع ، أمام شهود عديدين : " يا ترى يا مسعد أنت فين دلوقتي ؟ أراضيك فين ؟ واكل ولا جعان ؟ حي ولا ميـ .. .. .. .. ؟ "
    لم تستطع بدرية السيطرة على انفعالاتها ، فلملمت وجهها بين راحتيها ، واندفعت مبتعدة ، تهبط الدرج ، تنشج متهالكة ، تنسحق مع كل درجة حتى احتوتها أخيراً الشقة ، احتوتها حجرتها ، لتعود نفس الأنفاس لحصارها الدامي،نفاذة تمتد في جسدها،تتوه كأنها رهينة كابوس مريع ، وجسدها المشدود يعارك وحشاً ما ، حلم ، كان مجرد حلم تسلط عليها منذ قتل مسعد الزغبي ، لا تعرف له تفسيراً يريح رأسها ، تستيقظ ، تتخلص من جلبابها ، وتحط على سريرها ، سرعان ما تلتهمها الأوجاع ، والوساوس ،
    ثم يهاجمها الحلم ، الكابوس ، الأنفاس قوية نفاذة ، وهي ضعيفة مشلولة الإرادة ،تحاول،تتملص منه ، يلتهمها ثانية ، تهرع هاربة ، يجذبها، يحط فوقها ،يضغط ، تعاركه ،يتكتم أنفاسها بقوة ، تغيب، تخوض في بئر سحيقة ، مخلفة صرخة احتجاج موؤدة ، والشبح يجردها من ثيابها قطعة قطعة ، وهي أنفاس بلا روح ، تطالع ولا ترى ، تشم ولا ترى ، تُلتهم ، ولا تشعر بشيء !

    كان خلف الحظيرة ما يزال ، يغرق في سيل من عرق دافئ ، خافت الأنفاس ، يرهف حواسه تماماً ،يرقب بعينين مرعوبتين الأم ، وثقل فضيحة مدوية يضغط على صدره بقوة ، فتخونه قدماه تارة ، ويتحرك هنا وهناك في حذر ، لم يبرز من مكمنه حتى غادرت الأم السطح ، يتنفس عميقاً ، مصعداً أنفاسه الحارة المختنقة ، تسترخي أعصابه ، عضلات وجهه ، يبص هنا وهناك ، يحدق في ليل هذه المدينة الغامضة ، يرخي جفنيه ، يريحهما ، يحس بها تحمل كيساً من الرمل ، يدور بهواجسه في المكان ، والسماء بحر من الأسرار ، تدنو منه ، تكاد تضع سرها الأكبر في روحه ، نظراته لها حزن مدينة
    عمياء ، تنتابه رجفة ، تهز جسده بأكمله ، ويضيء سؤال وحيد في رأسه ، لماذا ؟ ثم يندفع إلى داخل الحظيرة مع الدجاج والبط !!











    أخيراً

    كان خلف الدار،الإعياء ينهك جسده ،ينهش قلبه المشدود إلى قدمه اليمنى التي اختفت خلف كتلة من الخرق ، في محاولة لحجز تيار الدم الذي لم ينقطع إلى هذه اللحظة من هروبه الدامي منذ ليال ثلاث ،ما ذاق فيها طعماً لنوم ، ما ذاق غير الدم ، دمه المتفجر ،ماشم سوى رائحته ،تردد البنايات المتناثرة كأشباح صدى أناته وأنفاسه ، تحوطه هذه الأشباح وترقب زحفه وتقلباته الدامية ، وتطبق عليه كقدر محتم 0يفزع هائماً ، يدور حول الشواهد القائمة في ذهول ، يلتاذ بجذع شجرة النبق الوحيدة ، هذه العجوز الحزينة ، الباكية ، ترنحت طربا اليوم على غير العادة ، شربت ماء الورد ، كما سحبت دموع الثكالى من شغافهن ، امتصتها ، ملحاً يروي عطشها وجوعها الممتد إلى كل خميس ، هشت له ، تنهدت ، أحاطها بذراعيه ، أحاطته ، تمايلت منتفضـة في فرح ، أخذته إلى أحضانها ، نشجت بألم مصدرة أنات واهنة ، انحدرت دموعها ، خالطت دمعا ته المترعات ، امتزجت .
    يعجلن بالانصراف ويخلفنها بين أصداء عديد لا ينقطع مع هذا الجريح ، فجأة تسفي الريح ذرات الغبار ، تطيح باتزانها وعبقها ، يزلزل جذعها الجاف كنقش أزلي ، تدميه خوفاً فيعلو أنينها ، يسكرها أنينه ، تعانقه حانية ، يدركه النعاس ، ينشق جذعها ، يدخل في قشرتها ، تجذبه بقوة ، يتراجع ، تجذبه ، فيفزع ويندفع مترنحًا ، يجر قدمه المثقلة 0 تنادي عليه ، يبتعد ، ترجوه ، يغلق أذنيه ، يتراجع ، يبتعد هناك ، فجأة يصطدم بشبح ، يصرخ ، يتوقف القلب ، يواجهه ، يدقق النظر ، الزغبي هو ، يجري ، يسد عليه الطريق ، يروغ منه ، يحاوره ، تمتلئ المقابر بالأشباح ، كلها تصرخ ، تدبدب ، تصرخ وهو يجري ، يجري ، وحين ينهك تماماً يرتمي أرضاً ، يلتقط أنفاسه ، بصعوبة يلتقطها ، وبرغمه يبكي ، يرفع وجهه ، كان أمامه ، الزغبي بوجهه القبيح ، يتحداه بهيكله الضخم كثور ، يطلق مسعد ساقيه للريح ، ينسى آلامه ، كل خطوة بعثرة ، كل حجلة بصدمة عنيفة ، كل زعقة بجرح ، وينفلت من قبضته محملاً بعشرين كدمة في جبهته .. ركبته .. صدره !!

    تنزف الدماء من كل جسده ، تغطيه ، كان عليه تسلق مواسير الصرف الصحي حتى نافذتها في الدور الثالث ، لم تكن لقوة في الأرض القدرة على منعه والحيلولة دونه ، بإصرار كان يتسلق المواسير ، برغم قدمه الناهشة الثقيلة الوطأة كزلطة تزن طنًا ، والحراسة المشددة المضروبة حول الدار منذ ثلاثة أيام ، لم ينس مسح المكان المشبع برائحة القروح ، والخرق ، ورائحة بارود مجهولة المصدر

    الظلام الراكد وشاح يغطي المدينة،التي لم يكن بها غير الفئران ، بجثثها الضخمة ، ونباح كلاب يتردد عن قرب ، وصياح ديكة يرتفع بين لحظة وأخرى دون مبرر كما كان يتصور .

    عندما عانقت عنقه السماء كان القمر يختبئ خلف سحابة وكتل سوداء، تتراكم كأشباح تطارده ، ترتمي بظلالها على امتداد الدور 0 تماسك ، استجمع كل ما بقى له من عافية ، بقوة ذراعيه كان جسده ينتقل من أسفل إلى أعلى ، أنفاسه تحاصر أنبوبة الصرف ، ترن داخل تجويفها ، تصدر ما يشبه همس مؤامرة ، زحف وجروحه العشرون تتسع مطلقة سائلها ، نار حامية تمتد عبر الجسد كله ، على حين غرة هاجمه الزغبي ، توقف عن الصعود مباغتاً ، كاد يقعى ، ها هو ذا بطعناته الداميات ، دمه الغزير ، تعلق بذيل جلبابه ، يخترف بين الحياة والموت ، يصدر شخيباً عالياً كذبيحة : " هيئ .. بك أكملت المائة .. هيئ يا عنين .. هيئ يا عنين " . لم يترك جلبابه إلا عندما ركله بقدمه الحافية في جمجمته ، غارت الجمجمة ، أصابت قدمه عظمة قوية ، اخترقت جلده لمسافة بعيدة ، غامت الرؤية أمام عينيه ، ترنحت رأسه ،لولا حذره في اللحظة الأخيرة لسقط غير مأسوف عليه .

    عاودت الأشباح التشبث بقدمه ، وإعاقته بشدة ، ظنه " الزغبي " ثانية ، بإيماءة بسيطة تأكد أنه كان رفيقه زهران بحقده وشره ، بوجهه الجهم الأسود ، الذي تعلوه ذبيبة واضحة ، بدا أكبر سناً ، كان يستميت للإطاحة به ، وتدمير محاولته المصيرية ، نعم ، كان متأكداً ، زعق مسعد : " زهران ، يا شجرة الزقوم ، يا طعنة الغدر التي نالت الجميع ، ما أسأت إليك رغم إساءتك إلى كل الناس ، زهران ، أنا مسعد صديقك ، رغم كل شيء ، صديقك 00من مد لك يد العون في الأزمات ، وساندك بكل ما يملك ، حاش عنك العيال ، كان بوقاً لك ، يزرعك في الحي ، والأحياء المجاورة ، زهران البوليس يحيط بالدار ، هل جئت بهم ، هم أخواتك ، أنت رجلهم ، آه ، زهران لابد من وصولي للشرفة ، زهران ، ابتعد عني الساعة ، وإلا نالك ما نال الزغبي ، إنك تشبهه " .
    بقفزة قوية كان يبتعد، زهران بعصاته المعقوفة كحية فرعونية يلوح ، ويتوعد ، ويختفي ، بينما مسعد يتقدم !!

    التقط أنفاسه برعب ، من بعيد علا صوت مخترقاً ستار الصمت ، أعقبه دوي لطلقات نارية ، راحت تتسع ، وتتناثر في فضاء مترام ، كانت تدوم فوق رأس مسعد ، تزلزله تماماً ، تفككت تلك الإرادة الفولاذية ، بسرعة أنهى صعوده ، مد ذراعه ملتقطاً خشب النافذة ، نط بحرص منجذباً للضلفة التي طاوعته دون صوت ،وهي تكاد تذوب رقة ،وارته خلفها مربتة على كتفه ، تدفعه إلى داخل الحجرة ، التي خفتت بها الأضواء . الذعر يأكل قلبه ، تهالك على الأرض ، دوي الرصاص يتضاءل مختفياً ، مرتمياً في حقول الليل البعيدة ، قد يكون هو المقصود بهذه الطلقات ، نعم ، فمنذ ثلاث ليال والبوليس يتعقبه ، ولن يهدأ لهم بال حتى يوقعوا به .





    أخيرا سكنت أوتار صدره،أحس براحة كبيرة تغمره ، اعتدل واقفاً خطا متقدما ، يسري خدر أنفاسها عبر هيكله القوي ، كانت ممددة في فراشها كغواية ، يترجرج جسدها الملفوف ، وهي تغير موضع نومها ، تغزو كيانه جهنم تبتلي جسده بتناميل وقشعريرة آسرة ، ينحسر القميص عن فخذين ممتلئين مسحوبين بضين ، بدت ثناياهما كدوائر من الحلي المصقولة ، الجسد مشدود مرمري في جمال خمرة معتقة ، جدائل شعرها فاحمة متناثرة تعانق ثدييها المدببين 0
    يرتمي مسعد محتضناً وجهها الملكي ، وكتفيها الضيقين في استسلام عجيب ؛فتقابله بسمة متألقة يتفتق عنها ثغردقيق كنبقة طازجة ، ها هي من ظلت لشهر كامل وليال تعاني عجزه ، وتتصدى بصدق لكل انفعالاته ونكوصه . ها هي أمامه ، ومسعد يبكي ، دون إرادة يبكي ، وخيبة الأمل تطل بوجهها اللئيم .

    نسي آلامه المبرحة ، علت وجهه بسمة مريرة ، تذوق فيها مرارة شهر عاناه إلى حد الجنون ، شهر أتى على رجولته التي كان يفاخر بها ، نعم ، انهزم أمام امرأة عمره ، زوجته التي اصطفاها دون بنات الحي ، وحارب من أجلها الدنيا ، ما كان ليتصور يوماً أن يضطر لقهر أمه ، ومعاملتها بجفاء ووقاحة بعد فشله في استمالتها لصفه ، كانت اتفقت مع خالته أم شربات ، وقطعتا شوطاً بعيداً في مؤامرتهما ، فشربات ليست قبيحة ، بل أجمل الجميلات ، أجمل من بدرية نفسها ، نعم ، ومرغوبة ، ولها دبة رجل تهتز لها قلوب وأفئدة الرجال في الحي ، وعليها طرقعة لبانه تدوخ أجدع شنب ، وساعة عبورها الشارع يصطف الرجال ، فتنهال التعليقات والكلمات ، والوعود الصادقة والكاذبة .

    يا مسعد أنت أولى بابنة خالتك ، جحا أولى بلحم ثوره ، هي جميلة تتفجر أنوثة ،ويتمناها الكثير ، عبده البقال صاحب السوبر ماركت الضخم ، وإبراهيم السمسار الذي امتلك أربع عمارات في سنتين ، ومحسن المرشد الرجل الأول في القسم ، بعد أن أوقع بعصابة المائة ، التي كانت تدبر لقلب نظام الحكم ، بل وحماية الشيوعيين ، وعزوز الذي يبيع ويستورد اللحوم المثلجة ، والحكومة تعتبره أحد رجالها الوطنيين الذين ساهموا في حل مشكلة الغذاء ، وزهران الذى يرى الآن متأبطا يهوديا إثر آخر ، ودلهم على من نهب الخوخة ، بل وشجعهم على رفع الأمر للسلطات ، إنه يتاجر معهم ، يتفاخر بهذا ، ويردد : " دي دولي ودي بينيامين ، ودا الواد موشى ، ياما لعبنا قدام الخوخة زمان وياما ضربته علق !! " 0
    كل هؤلاء كانت لهم رغبة فيها ، حكاية معها ، لكنه أبداً ما رغبها 0 أنفقت في ترويضه الساعات الغالية ، ولكنه أبداً ما لان لها ، كانت تتربص في حجرة نومه ، وهي عارية 0في دورة المياه 0 يجدها على عتبة الدار في السابعة صباحاً ، تغلق عليه الطريق : " عايزاك أنت يا مسعد !! " 0 وينفلت وهو لا يصدق كيف أفلت من ريحها الجهنمي ، وفي الشركة تتجر مع العمال ، وتمدهم بالبضاعة ، بالربا ، يبصرها على نواصي الحوانيت تسبق خطاه ، تتهالك بخلاعة مع أولاد الشارع الصعاليك ، ضبطها تبيعهم الحبوب والبودرة ، ومن بعد البانجو ، فكرهها لحد الموت ، وتنكر لدمائها الغجرية .
    لم يحب إلا "بدرية "، ما تمنى إلاها .هذا السحر المتألق الكامن
    في عينيها السوداوين ، لم يكن ليستسلم أمام حصار أمه : " يامه شربات ماتنفعنيش .. شربات فجرت وخلعت برقع الحيا ..صايعه مع كل واحد شويه "لم تكن لتستسلم إلا عندما رفس بقدمه كبغل متوعداً :" أنا ماشي ..حاتجوز بدرية غصبن عن الدنيا كلها ،اللي مش عاجبه يشرب م البحر"0
    ورفع أشياءه على كتفه مغادراً الدار التي تربى فيها . اهتزت ضبة الأم ، انفجرت باكية ، تطاردها الأفكار السوداء . إنها بهذا التصرف تضيع الولد من يدها ، لن تكون "حمه " لزوجته مثل باقي الأمهات . فوراً تخلت عن وعودها لأختها ، لمت الموضوع ، إنه ولدها،واحدها،لكن الخالة ما كانت لترضى الهزيمة بهذه البساطة ، دفعت بشربات إلى حجرة نومه بأسلحتها الجهنمية 0كل ما استطاعته تمزيق ثيابه بأظافرها ، واصطدامها بجسد ثلجي لا روح فيه ، فانسحبت صارخة تداري خيبتها وجسدها السخن ، الذي كان كثـير الفتـنة ، كثـيـــر النـدوب ، يمتلئ بآثـار أصـابع عشاقها !!






    بدرية طرزه على أثواب ماكينته حرفاً حرفاً ، بطول عدد الورديات التي تناوب عمله فيها ، مع حدفات المكوك ، كان يرقص منشداً ولا ينتهي ، يملأ الدنيا من حولها صخبا وغناء سلساً، وإحساس لذيذ يحتويه ، ويخدر أوصاله ، تتخطفه ألوان الطيف المبرزة على منسجه الفزع،ينتج لها فساتين التل والكتان والقصب، الدمور والساتان ، نعم ، والزفير،تتغير أنواع الخيوط لكنها وردته التي يبتعثها روحًا وجسدًا ، ينقشها بخيوطه الملونة ، فإذا هي تملأ الدنيا عليه ، حقولاً خضراً ، وأولاداً تخوض في النهر وتبتني البيوت على ضفته ، فتصير قصورًا ، مما حير الملاحظين ، وهم يتابعون هذه الشفرة ، فهناك ثوب يحوي حرف الباء بطول البرسل ، وآخر موشى بحرف الدال .. وهكذا !!
    عندما ساءلوه عن هذه الحروف ضحك وقال : " مكنتي تشتغل بمزاج خاص " . ولولا إنتاجيته المرتفعة ، وحاجتهم لهذه الإنتاجية في هذا الوقت لتخلصوا منه فوراً ، ووفروا على أنفسهم عناء البحث ومشقة التحري ، بالزج به في أحد الأقسام مثل البخار أو المصبغة أو على أقل تقدير عنبر المغسلة ،ذلك لأنهم لسنة كاملة عكفوا فيها على حل شفرة هذه الحروف ، فما تـوصلوا لشيء ،رغم كثرة تخمينـا تهم ، فمرة قالوا :" الواد دا ممسوس " وأخرى : " الولد ده ذكي .. وأكيد على صلة بتنظيم متطرف " .
    وفي نهاية الأمر عندما لم تتغير الحروف تأكدوا أن به مساً من الجن أرضياً أو علوياً !!

    تنفرج أسارير وجهه ، وهو يسبح عبر وهج عمره ، متغافلا آلامه ، يرفع ذراعه وبحنو كان يمررها على شعرها ،وشوق جارف يحتوي صدره ، يرفع خصلات الشعر من جانب الخد المورد ، يتحسس نعومته برهافة متزايدة ، يتمنى لو تصحو ،تنقذه من هذا الوجع الممتد داخله ، ويكاد يقهر أعصابه .
    رمشت عيناها ، تثاءبت ،فانبعثت أنفاسها مخترقة شغاف فؤاده ، أشرقت عيناها ، جفلت ، استوت زاحفة غير مصدقة أنه هو من يداعب وجهها ،ويقعد محتضناً فراشها بكل هذا الوهج 0لم يمت ، لم يقبض عليه ، هو الوجه المحبوب الذي عشقته عاجزًا 0 كانت على ثقة أنه ليس عجزًا كما بدا لها ، نعم ، هو حبها الأول والأخير ، مسعد ، من علمها تهجي حروف رسائله المجنونة ، عن العمل ، والوردية ، وملاحظين الورديات ، والأجور ، عن العمال الغلابة ،الذين يعيشون على الكفاف،عن مطالبتهم بزيادة الأجور ، وغيرها ، عن الحرب مع إسرائيل ، والسلطة التي تبث عيونها بين الماكينات ، ولا تتركهم يتكلمون في أمورهم الخاصة ، فيقفون فزعين،عن زملائه الذين أوقع بهم زهران ، وذهبوا خلف الشمس ، عن الكثير والكثير ، وحين فهمت بعض ما يكتبه ،كان يترك المصنع هارباً من بطش السلطة !! كم كان رقيقاً ، حنونًا ، يغور في قلبها كالسهم ، يفجر بركاناً من الحب والغضب ، ارتعاشًا وزلزالاً في عظامها ، علمها كل كبيرة وصغيرة في البلاد ، ذكى عقلها بكتبه التي كان يقتنيها خصيصاً لها ، هي من كانت تعيش في جهل ، جهل كاد يفتك بها،جعلها تحس بقيمة نفسها كفتاة جميلة دون أن تبتذل نفسها مثلما كانت شربات ، رفضت كل الخطاب الذين تمنوا نظرة منها ، وعاشوا يمنون أنفسهم بوصالها0 لكن هيهات ، حتى زهران الذي راح يتمسح بمسبحته ، ويدلس على أمها وذويها رفضته ، كانت تعرفه جيداً ، تصلها أخبار لياليه الحمراء ، تفريطه في رجولته حين ترك أخته أم قاسم ذليلة أولاد الليل ، يفترسونها كل وقت ، واستوى عنده كل شيء ، الشرف واللاشرف ، الكرامة واللاكرامة ، وحين أجبره الرجال في الحارة ، وشدوه أمامهم لأجل تخليص أخته ، خانهم وسط العراك،وجرى على جثث أهل الحارة ، وارتمى بين أحضان أولاد الليل ، لكنهم أبداً ما تركوا أخته ،وعاد إلى الحارة شامخاً ، بينما الأولاد الصغار يطاردونه ، وهم يغنون ، بل يضعون له ذيلاً عند مؤخرته ، ولم يتخلوا عن ذلك إلا عندما أشبعهم المخبرون ضربا في الحارات المجاورة ؛ وتأكد للرجـال في الحارة أنه محمي من قبل السـلطة في المدينة !!

    حاول مع بدرية ، رفضته بكل كيانها ، وصرخت في وجهه : " لم لحمك الأول يا عويل !! " ، وأغلقت في وجهه الباب ، رغم ما يقال عن سطوته وجبروته ، وعندما ظهر يوم قتل مسعد الزغبي وقفت في وجه رجلها ، ومنعته من استقباله ، لكنه كان كريماً ، فرفض الإذعان لها ، وقابله في دارها ، وفي أقل من ساعة كان مسعد زلزالاً ، كتلة من الغضب المدمر ، ونجح في دفعه إلى قتل الزغبي ، فاندفع صوب المطبخ ، واستل مقصًا ، وهبط كعاصفة ، بينما ظل هو معها محاولاً غوايتها .

    هاهو من أخذته في أحضانها لشهر كامل،تلعق دموعه الغالية ، دمعة دمعة ، واختلطت دموعهما : " اصبر .. بكرة يا مسعد ماتزعلشي يا حبة عيني .. هو احنا ورانا إيه ؟ إن ماكانشي بكرة يبقى بعده "

    ويأتي بكرة ، وهو كما هو ، يحدثها بأجمل حروف مرت بشفتي محب ، تنفرط على لسانه كلمات الحب الندية ، تتقطر من لسانه .. من شفتيه كشهد مصفى ، ولمساته في كل جزء من كيانها وعندما يخيم الصمت ، يتمدد الوجع والألم المضني .
    صحيح أنها قاست ، قاست وجعاً إلى حد التفتت والاحتراق ، تتوهج النار في جوانحها ، تحن الشرايين إلى مضاجعته ، يخفق ، يزعق باكياً ، يتمرغ في فضاء الحجرة كمحموم ، وتتكوم بدموعها لصق الجدار حتى الصبح القادم .

    جذبته ، طار في أيكة أحضانها الدافئة ، وبقسوة عجيبة ، كان يفرغ ما عجز عن البوح به خلال شهر كامل ، أشبعها تقبيلاً وحبا، وهي سكرى ، نشوانة ، مرج نهره موصولاً بأرضها البكر ، التي ما ذاقت طعم المضاجعة إلا الآن .. الآن يا بدرية عمري ، تعلمين أنني لست بعنين ، كما بدا لك ، أنا رجل مكتمل ، فياض الفحولة ، أنا رجلك وأنت امرأتي المحبوبة ، لم يكن عجزاً ، كان عرضاً زائلاً يا بدرية ، انفض السحر ، هذا الوهم المستقر في قاع نفسي ، وعمر في دروبنا ؛ ليذل الرجال ، ويحنط الكيانات ، يحنطها لتفتقد الزمان والمكان ، وتهيم فوق صراط التخبط .. هاأنا ذا يا بدرية .. يا وردتي ، أكمامك تعانق قطرات الندى سابحة في كيانك العصي عليّ ، لأول وآخر مرة ، هاأنا ذا يا سو سنتي رجلك ، فاملئ الكون غناءً وشدواً ، وباركيني حتى انهيار الليل المخاتل .


    كانت رهينة عالم ما تجاوزت حدوده ، في مدينة من السحر الخالص ، مخدرة بهذا النهر الدفق لأرضها العطشى ،تحن منذ الأزل لرضاب مائه ، يقلب طينتها العامرة بالكنوز والخبايا " أنت يا فارسي الرهوان ، بحر عرقك يغسلني مما ألم بي ، يدحر ديدان الشك التي هومت على جسدي ، وابتنت أعشاشاً بين ثناياي للغربان والبوم ، وعفاريت الحارة غير الطيبين "0
    لم يكن أمامه سوى التسليم ،وكان مستعداً لأي شيء ولوكان الموت ، فالدنيا أصبحت ملك يمينه ، له وحده ، وبين يديه ،وذراعيه ، وأنفاسه ، ليسقط العالم ، لحظة بالعمر كله ، نعم ، كانت مسألة حياة أو موت ، إزهاق روح هذا الكائن المدمر - الزغبي - نعم ، ويزحف برغم كل شيء إلى هنا،ولو لمرة واحدة ، كي يعتدل ميزان الكون في رأسه وعقله ، وكل هذا لا يقاس بما عاناه في المقابر لثلاث ليال ، تطارده الأشباح خلف كل جدار ، تزوم في وجهه أشلاء الموتى ، تباغته الشياطين الصعاليك ، كان شاهداً على ما يفعلون حيال الجثث الطازجة ، والأكفان ، وسوق الفتيات والفتيان،يتلون الجرح كحرباء على دائرة كهربية ،يزرق ويخضر، ويحمر، ويتضخم . كان لابد من رؤية بدرية ، وجلاء الأمر ، وتأكيد ذاته : " لم يكن الزغبي يا بدرية ، كان شيئاً آخر ، كانت أمي ، وخالتي أم شربات ، وزهران ، كانت بلدة بأكملها تعيش بالوهم ، بالوهم يا بدرية ، تربينا فيه ، وانغمسنا في أبجديته ، أنيسًا لأحلامنا ، جليساً لسمرنا ، كان جمالك الآسر يا بدرية من قهرني ، كنت كثيرًا عليّ ، وكنت أخشى وهج عينيك ، سحر هذا القوام المتفجر ، نعم كنت أخشى ، وأرتعب ، وكنت من أخشى ، وأخاف.الزغبي محض وهم ، وهم وحكايات تراكمت داخلي من زوايا الحارات ، والعطف البائسة في بلدتنا ، عن المعذبين بالوهم ، المدمرين باسمه الزغبي ، صاحب الكرامات والنفحات ، والقدرة السحرية 0ألا يبدو الأمر خارقاً للعادة ، إنه شيء فوق الزغبي وقدراته،نحن يا بدرية ، نحن من أخرجنا الزغبي إلى الوجود ، كما تركنا زهران يمشي كطاووس ، يستلب أرزاق الناس ، يدربهم على شرط الجيوب ، والنشل ، والسطو ، تركناه ، يحارب كل الأشياء الجميلة التي تربينا عليها منذ أول الخليقة ، فبمجرد مباركة الزغبي لي ، تبددت تلك النشوة ، تبددت ، وانسحق هذا الوهج الذي ظل لسنوات يتلظى داخلي ، وأصلى به ، هذا الحنين إلى عناقك ، إلى أن احتويك ، أبثك أشواقي البكر ، كان الزغبي ،والقوة الشريرة ، وكنت أحسه يهاجمني في لياليى السوداء ، يضحك بملء فمه ، ويغيظني ، يتوعدني : " سوف أريك النجوم ظهراً يا بن الأفاعي " وتهاجمني خالتي ، وهي تلوح بقبضتها : " ستأتيني زحفاً على ركبتيك يا رد السجون يا ابن الفلاح " .

    اختبأ في رائحتها ، توارى هرباً ، اصطلى وهجاً في جوانحه وثناياه ، وبارك جسدها الرطب وهجه الفوار ، واحتواه .

    إنه ليتذكر صوت أمه المتهلل ، تؤكد له ، وهو يعبر الدار مرتدياً أحلى وأزهى ثيابه بين الطبل والزمر : " إوعى تسلم على حد ، أنت سامعني ؟ حتى لو خرج أبوك من التربة ..اوعى .. أنا شايفه موتك بين صوابعك الليلة !! " وخرج ضاحكاً ساخراً من كلامها ؛ بينما تترقص الصبايا، والزينات تأخذ أشكالها النهائية !

    كان يدرك جيداً ما تعنيه أمه بحديثها على هذا النحو ، لكنه أشاح عنها مستخفاً ، وانسحب تحوطه كوكبة من الشباب ، والرفاق ،إلى دار العروس ؛فقد آن لها أن تغادر أهلها إلى داره هو ، هنالك لمح شبح زهران بعيداً ، يحاصر الدار بعينيه المتورمتين ، والمسبحة بين أصابعه ، وحوله بعض التجار وباشا قديم كان فرّ َإلى فرنسا إبان ثورة الضباط الأحرار، وعاد حين اعتلى الرئيس السادات سدة العرش !!

    كانت تنتظره يومها بفارغ الصبر،أدارت أمها الطقوس المرعاة ، أحضرت البلانة صباحاً ، قلمت الحواجب البكارة ، لقطت شعيرات العانة المستبدة ، مررت خلطتها على بقية الجسد للتأكد من خلوه ،وقطع دابر أية شعيرة ، ثم انطلقت بزفة إلى حمام البصل ، وهناك كانت آية من آي الخلق الكامل .

    تعتدل ، تلملم جدائلها ، تطرحها إلى الخلف ، فيتدحرج إلى أسفل في طراوة ، يطاول العجز ، كان يتأملها بعينين واهنتين ، وأنفاس لاهثة ضائعة ، تدخل جسدها في جلبابها الأسود ، فيضفي عليها جمالاً مذهلاً،تغادر الحجرة ، تجذب الباب خلفها ، فتصطدم بوجه صابحة يحاصر المكان بنظراته الغريبة ، كان مسعد يتابعها ، وما أن انفلتت حتى غرق في نوم عميق .

    حاصرتها أنفاسه نفاذة في ثناياها ، حبات عرقه خدر ، تثاءبت نشوى في عالم رهيف طري ، متسع بلا حدود ، أحزانها تتقهقر، تتباعد كسراب رافل في البعيد البعيد ، أوقدت " وابور الجاز " ، رفعت عليه طشت الماء العالي ، أشعلت آخر ، رفعت عليه إناءً مملوءاً بالماء أيضاً ، زحفت في ظلام الدار صاعدة الدرج إلى حيث عشة الطيور ، وشوشات غير محددة المصدر ، تداعب أذنيها، يطفو المشهد ، تترنح ، تحلق ، تحلق أجنحة وروحاً وقلباً وضلوعا .
    اجتذبتها محاولتها معه ، دوى صوتها باكياً ، يعود المشهد حياً بكل تفاصيله : " يا مسعد ماتسمعشي كلام الراجل ده ، الراجل اللي بيقول لك روح اقتله ده ، أنا شايفاه معاه إمبارح ، دا راجل بوشين ، إوعى يا مسعد "

    تراجع المشهد ، انجذبت خلفه ، كأنها تقبضه بين أصابعها ، به شيء لا تعرف ما هو ، كلما دنت منه ابتعد المشهد ، وانطفأت أنواره .عندما كانت تؤرق ، ويدرك " مسعد " النعاس ، بعد ألم كل ليلة تهرع إلى النافذة ، تلقط بعض نسمات طرية ، وتحبط الكابوس ، والانفعالات التي وهجها في كيانها كله ، بعد هنيهة ، تبصر " زهران " خارجاً من دار الزغبي عند الفجر ، رأته أكثر
    من مرة ، الآن يدفع مسعد لقتله ، تدور تائهة بينما مسعد يغادر الشقة كثور ، وبيده مقص كبير ، تصرخ ، تصرخ ، في دوامة تدور الصرخة ، فتسقط معها ، تسقط ، وتبتلعها هذه الدوامة ، فجأة هاجمتها أشباح منامية ، كانت دائماً ما تراها ، منذ يومين تحاصرها ، تشم رائحتها ، وظلت تراها لفترة طويلة ، ولا تعرف لها تفسيراً حتى قضى الغندور ولدها - بتحقيق النبوءة،وتأكدت بأنها كانت حقيقة حاولت بكل الطرق نسيانها فلم تفلح ..لم تفلح !!







    انتابت حسن رجفة مدوية ، أحس فوراً بالأرض غير مستقرة تحت قدميه ، وثمة شيء يرتفع به عالياً، ولأقصى ارتفاع حتى وازى مئذنة " عمرو بن العاص " المواجهة للمنزل ، ثم تعود نفس القوى الخفية تحط به ، فيرتطم بالأرض ، تتخلخل ضروسه ، وتطحن بعضها ، تتهالك،يدوي ألم حاد في عصب الفك العلوي ، وعلى الفور ، تروح العشر أظافر تنحت رأسه هرشاً ، حتى تفجر الدماء .

    تملكته هذه المشاعر الجهنمية عقب إذاعة بعض المعلومات عن قتلة رئيس الدولة في ساحة العرض العسكري مباشرة،رأى نفسه يهرول بين المغامرين ، هاهو ذا يتقدم من المنصة على ظهر عربة مرفوع الرأس ، ينتظر اللحظة الحاسمة ، كان المشهد جليلاً ، الرئيس يتابع سرب طائرات ، وهو ينطلق في مساره مطلقاً دوياً حاداً يصم الآذان ، الكل ينظر ، يتابع ، والرئيس مثلج الصدر ، جميع الحضور يفعلون مثله ، انحسرت الكابات عن رؤوسهم اللامعة ، ووجوههم العالية .

    ها هو ذا يدنو ، وها هي ذي العربة تنحرف عن المسار،حانت ساعة الصفر ، المشهد يزوم ، يتقدم خالد الإسلامبولي ،كان معه ، كان بشحمه ولحمه ، هكذا رأى نفسه داخل المشهد المراوغ ، يتبعهم آخرون ، سدد آليته ، وهو يندفع بأقصى سرعة ، إلى الهدف يتجه ، إلى المنصة المسكونة بالعظمة والكبرياء ، وأفئدة الرجال ، دوى صوت قنبلة ، علت سحب الدخان ، دب هرج ومرج ، رصاصات خالد تحدث سحراً شديد الألق ، سدد بلا هوادة ، دوت النداءات ، الصرخات ، امتص هذا الزهو ، وانحنى الكبرياء ، واختفى طابور الحرس فوراً ، الضربات لا تنقطع .. لا تتوقف ، أصبحت المنصة خالية من أي متابع ، كلهم انحدر تحت المقاعد ، تقهقروا أمام الفزع ، ونالت الرصاصات من الرئيس وبعض الحضور .
    تصور لحظة واجه " خالد الإسلامبولي " الرئيس كملك موت لا يقبل التأجيل ، هتف الرئيس مذهولاً ، مذهولاً ، وبرعب أتى على ملامح وجهه المنحوت " ليه .. ليه ؟ " لكن خالداً ما كان ليهتم ، أفرغ نيران رشاشه ، جميع من كانوا منذ لحظة فى المنصة ، يتابعون طرباً وكبرياء أصبحوا تحت المقاعد ، يقتلهم الخوف من هذا القضاء العاجل ،يتحينون الفرصة للخروج من المأزق الدامي . جرى هو ، ها هو ذا يجري منفلتاً .. بعيداً بعيدا .. عاوده نفس الإحساس المهلك ،تسربت قطرات من بين فخذيه،ينشطر نصفين ، كان هناك بينهم ..هل كان هناك ؟ يستدعي المشهد ، يتعجله ، لا يأتي ،يعيد تهيئ نفسه ، يفلح هذه المرة ، الآن يصبح أمامه ،ها هو ذا ، نعم كان هناك ،أطلق خزانة كاملة من آليته ، أية آلية تلك التي يتصور ؟ أطاح بأحدهم ، كان داخل المشهد بكل جوارحه ، ها هو يرى نفسه بوضوح ، يتمتم : " وكيف وصلت هنا ؟ أنت هنا .. في هذه الحجرة منذ أيام لم تبرحها .. لم تغادر هذه الحجرة منذ عودتك .. فكيف رأيت نفسك ؟ "
    اندفع إلى دورة المياه ، بسرعة يتخلص من لحيته المسترسلة
    نهائياً . كانت كلمات الرئيس ترن في أعطاف جوانحه ، كلماته كلها ، كلها " حاجيبك .. عامل لي فيها وطني .. " وأيضاً الكلمات الأخيرة : "ليه .. ليه ؟ ! "

    كان خوف فتَّاكٌ يسري عبر جسده ، يرجفه لحد الهوس ، فيدمي وجهه الموسى ، لا يدري من أية جهة حقاً يندفع كل هذا الدم ، يلصق الفوطة بوجهه الدامي لبضع ثوان ، يرتدي ملابسه في عجالة ، يبدو كمعتوه ، هرول خارجاً دون أن يعي تماماً أية وجهة يقصد ، وإلام يصل به كل هذا الرهق القاتل !
    عندما وطئت به قدماه محطة مصر، كان يتوارى داخل القطار الوحيد ،الذي كان على وشك القيام ، في هذه اللحظة 0
    كانت المحطة مكتظة برجال البوليس على غير العادة ، استطال المشهد ، كشف أبعاد الصورة ، الناس ، الراحلين والقادمين ، الراجلين والقاعدين ، أنصاف وجوه 0لا تحمل الوجوه أية معاني ، جامدة ، غامضة ، خادعة ، الهواء كانت له رائحة غريبة ، وطابع مأسوي ، كأن القيامة الآن ،الذهول والقلق والترقب ، ولامبالاة عجيبة تمسخ الوجوه بشكل واضح !!

    أدمى جيوبه بحثاً عن نقود .. أى نقدية ، ماوجد قرشاً واحداً ، لم يتردد كثيراً، فوراً تقدم منغمساً في إحدى دورات المياه 0رائحة البول قاسية مريرة مقيئة ، تفري أنفه وكيانه ،وتنهش حدقـتي عينيه ، كلما راح أحد الركاب يطرق الباب ، ويعالج فتحه ،ابتعد بعد إصابته بالفشل ، وعاد ممغوصاً مثقلاً بالآلام ، لا صوت .. لا تراجع ، الجدران المعدنية تكاد تطبق على صدره ، يختنق ، يقعى على الأرض باكياً .

    حين حط بهذه المدينة التي يجهلها ،كان جوٌّ من الكآبة يطوي الحارات والعطف ، ليس حزناً على ماتم ، لكنه تشكل الخوف من مجهول سرمدي ، لنفوس تعودت الخوف من غدها ، وشمسها القادمة ، تخرس الألسنة ، أو تطلقها .
    الشمس غابت، بالمرسوم الرئاسي لرئيس مجلس الشعب القائم بأعمال السلطة ،كان لابد لها من الغياب ، والتخلي عن رحلتها اليومية ، وإلا لن تقوم لها قائمة فيما بعد ، بينما تمتلئ الصحف الصادرة عقب اغتيال السيد الرئيس بأنباء ترشيح نائبه .

    كانت الطلقات تتردد في أصقاع البلاد وحواريها ، مطاردة أسماء ، وأشباح كانت تنشر صورها على محطات القطارات ومفارق الطرق وعبر التليفزيون ، مقرونة بالأسماء ، ورجال المباحث يطاردون البائعين ، ويرغمونهم على إغلاق مسجلاتهم ؛ فالحزن حزن البلاد ، ويجب الصبر عليه وممارسة طقوسه حتى آخر نفس ، ولو بلي الأذرع وضرب الأعناق !

    فرضاً يدخل الحزن البيوت ، نعم ؛ فالمصاب كبير وجلل،رمز الوطن المفدى ، قائد العبور ، وثورة التصحيح ، وصاحب الاستفتاء العظيم ،الذي لم يحظ به أفضل من حكم في العالم ، صاحب المقولات الفذة،والقنابل الرهيبة التي كانت تدير الرؤوس ، وتحول الشعب إلى كيانات بلهاء ، صاحب المقولة الرهيبة :" من لم يغتن في عهدي سيظل معدماً " وغيرها ، وغيرها !!

    في العراق كانت البداية ،ارتحل حسن بعد أن أمضى في ورشة البلاط بضعة شهور ، وتأكدت له مقدرته على إتقان الصنعة ، وهناك .. هناك ذاق مرارة التشكك وحلاوة القرش .
    قيض له العمل مع عميل بالمناصفة ، وبعدشهر بالتمام والكمال كان أحد بلدياته يسوقه إلى ورشة أخرى لم تكن في حاجة إليه !!
    لف البلاد طولاً وعرضاً ، شرقاً وغرباً ، لف وما هدأ ، آخر الأمر نام .. نام ،واستيقظت داخله الشكوك والوساوس ،تكتلت على صدره ، تطاحنت ، جثمت على أنفاسه ؛ فانتابه الأرق والفزع ، ودبدبت على كتفيه الكوابيس والتهيؤات .. في صورة زوج أمه ، غول له وجه بشع كريه ، بعصاه يطحن كتفه ، ذيل يمتد وراءه مثل كائن خرافي ، وشامة سوداء كبيرة، وضع الله فيها كل غضبه أو محبته لهذا المخلوق ، وشعر أسود كنبت عشوائي ، ها هو بوجهه الكريه ، يسدد نظرات نارية : " لازم تدوّر على شغلة تاكل منها..بلا مدارس بلا زفت ..يعني اللي اتعلموا خدوا إيه ؟ اتعلموا بس قلة الأدب والمسخرة " .

    شاف أمه قطة لا حول لها ولا قوة ، تموء وتبكي بجانبه ، ترتمي تحت قدمي رجلها ، تعرف تماماً كم يخونها ، كلما تماسكت ، هيأت أولادها ليقفوا في وجه هذا الرجل ، صعقهم ، وحين خانتهم ، ذهب إلى قسم الشرطة : " هذا لص سرق ساعتي .. وهذا نمرود اعتدى عليّ بالضرب .. أما هذا فشيوعي كافر يرأس تنظيماً مسلحاً !! "
    لم يرحم ضعف هذه السيدة - التي هي أمه - وحينما أنهى دراسته ، وبات ينتظر خطاب القوى العاملة ، انتظر طويلاً .. طويلاً ، وكتب رسالة مدح لوزير القوى العاملة مرة ، ثم أعقبها برسالة توسل ، ثم رسالة تحمل قصيدة نقلها من كتاب لأحد الزجالين ، وانتظر الرد ..انتظر طويلاً ، فقد كان الوزير مشغولاً مع السيد نقيب عام عمال مصر بقمع إضراب عمال النسيج ... وغيرهم !!

    في انتظاره للرسالة النجدة ، طحن زوج أمه عظامه وجوعه ، ليال طوال نام فيها بلا طعام ، على لحم بطنه ، يتلوى ألماً وجوعاً ، وانتهى به الحال إلى العمل في ورشة بلاط ، بل والنوم في رطوبتها .

    في العراق كان المشهد أكثر سهولة ، لحق به أخوه ، تلقفه بفرح طفولي ، ظل على حالته المرضية ، رغم محاولات البعض المتكررة للخروج به من هذه الحالة .
    أخيراً قالوا : "دا طول النهار نايم ، وأخوه اللي بيصرف عليه "

    بعد سنتين مريرتين عاد على رغمه ، حزيناً كافراً بكل شيء ، قوبل بامتعاض ، تردد نفس الكلام .. نفس الطحن .. نفس الاتهامات ، نام رهين حالته المرضية التي ازدادت سوءاً،ساقه زوج أمه إلى قسم البوليس ،وبماله من سطوة وضعه في الحبس ، وضعه دون ذنب جناه ، وتناسوه تماماً .
    قابلهم هناك،أفاضوا في القول ، امتلأ رأسه بالذباب الأخضر، أداروا عقله المشتت ، تغلغل كلامهم بعيداً .. بعيداً في قاع رأسه ، أحس بطنين حاد ينهش مخه ، يضنيه ، أبداً ما شعر براحة واطمئنان يذكر . زوج أمه يتحدث بنفس الألفاظ ، يدخله السجن تحت نفس الكلام ، وبنفس الأريحية .
    حار ما الذي يحدث له ؟ كان حديث زوج الأم أكثر وضوحاً . اختلط كل شيء . كأنه يسمع هذا الكلام لأول مرة رغم أنه ظل لسنوات طويلة يؤدي طقوس العبادة كما يجب ، يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، يصلي نائماً ، وقائماً ، ويقظاً ، هناك رأى طاقة نور تحتويه ، تصعق زوج أمه وتفتك به ، تحمله على جناحيها النورانيين ، تحلق به هائمة ، يقبل على المصلين ، يجد في انتظاره خليل الله "إبراهيم " ، يرحب به ، يشم رائحة غريبة ليس لها مثيل ، كان يشمها حين تأتي سيرة الجنان والجنات ، وآياتها . يضغطه الخليل بين أحضانه ، يربت على كتفه ، يؤنبه على تأخره ، يعتذر هو في خوف ووجل ، يشهد جميع الأنبياء ينتظرون قيامه للصلاة ، بعد قليل ينشط مفيقاً ، يفزع على صوت يناديه : " كافر .. صلي كويس .. صلي وامشي " .. كان يصلي عكس القبلة بالفعل ، اعتدل ، رجع إلى وضعه الأول ، انتهى ، بحث عن منديله ، لا يجده ، داخ بحثاً عنه ، ما قيمة قطعة من قماش ؟ كان معه .. أصبح المنديل ذا قيمة حيوية ..أين ذهب ؟ لا يدري ..ربما تركه في المسجد ..ربما ، جفف به وجهه ، بسطه أمامه ..نعم .. إنه لا ينسى . حين دخل الدار رأى المنديل !!
    قصة طويلة وغامضة ، عن المنديل،عن خليل الله ، عن الصلاة مع النبيين ، كل ما فاهت به الأم حين كانت تبتعد عنه : " ربنا يكتبها لك يا حبيبي .. ولا تعلم .. قادر يا كريم " .

    أصبحت قصة المنديل حقيقة،والصلاة مع النبيين حقيقة،ولقاؤه وخليل الله حقيقة ، فانكب يقرأ القرآن ، ودلائل الخيرات ، يقرأ ليل نهار ، أكله قراءة ،نومه قراءة ، شربه قراءة ،حتى تحولت الأشياء ، أصبحت للكلمات أجنحة ، وأرجل ، لشخوص عتاه ، يجلدونه لطماً وضرباً ، وإهانة ، كل يوم يعود يحمل بعض الكتب الدينية .. منذ شهور قليلة قال أخوه " إنت ليه مابتقراشي ؟ "
    ورد بكل بساطة وربما إهمال : " واقرى ليه ؟ حاعرف إيه زيادة ؟ ولا القراية حاتاكلني وتشربني ؟ "
    الآن ينكب موصداً عليه باب الحجرة ، يقرأ ليل نهار ، بدأت جدران الحجرة تضج من رائحة أنفاسه ،تتعرى الجدران من بعض الصور ، طالبته أخته الصغرى تفسيراً ، قال بإهمال وربما غضب دفين " حرام " .
    لا يخرج إلا لتناول طعامه الذي زهده بعد ذلك ، استرسلت لحيته .. استرسلت ، يخرج للصلاة ظهراً ، لا يعود إلا عشاء ، ساور الأهل القلق .. وزاد همه ، كما بلغت كراهيته للعالم حداً شاسعاً ،كلما رأى التليفزيون مضاء أغلقه دون كلمة اعتذار ، ثم يردد بعصبية : " هذا رجز من عمل الشيطان .. حرام يا كفرة ".

    لم يكن أخوه الشيوعي يدري بكل هذا ، كل ما رآه قراءته للقرآن ، فأمده ببعض الكتب الدينية من تلك التي تتحدث عن مسألة العدل والعدالة الاجتماعية ،أخيراً ارتدع زوج الأم ،وبدا الخوف على وجهه شاسعاً وقبيحاً ،ابتعد عنه لا يحادثه ، ولا يعاتبه ، واكتفى بالمراقبة بعد أن كان يشجعه ، بل ويصفق له !!

    يوم اكتشف أخوه ما هو فيه ، أرغمه على حلق لحيته ،أحضر الحلاق ، أصبحوا في الحجرة ، بكى " حسن " مستسلماً ، بكى بحرقة ، فنحى أخوه الحلاق جانباً ، تركه على حريته ، ليفعل ما يريد ، ولم يطل الأمر ، أمر " حسن " الحلاق بإزالة اللحية وهو يبكي أيضاً ، بعدها ولمدة شهر كامل كان يحدق في وجه أخيه بجفاء وكراهية حقيقية !!
    كان أخوه يدرك واهماً أن هذا كله موجه إليه هو،نعم ، إليه هو ، لكنه ما أساء لأحد ، يحتفظ بأفكاره لنفسه ، لم يفرضها على أحد مهما كان .. مهما كان قريباً ، ربما كان مرجع ذلك قصوراً في تفهم الأمور والخوف ، أو الإحساس باللاجدوى .

    أمر الحلاق بإزالة الذقن الطويلة بنفسه ، وكان معه آخر النهار في عيادة الطبيب ، الذي بدا أنه يعاني أكثر مما يعانيه رواده من المرضى ، من لحظتها وهو يجرع الدواء ، لكم أرعب الجميع ، يتشبث بشيء كطفل ، ولا يتركه إلا بالدم ، يصرخ بقسوة ، يبكي .. ولا نوم ، أرق طويل لا ينفك .. طويل .. لا طعام .. ولا شراب ، استلزم قوة جبارة ليعتدل الميزان .. يعتدل الميزان أو البعض اليسير منه .
    اليوم لا يدري .. هل قابل أحد هؤلاء المعلن عن أسمائهم أم لا00 هل كان في ساحة العرض وقت وقوع الكارثة ؟ لا يدري شيئاً ، ما عاد يتذكر شيئاً بالمرة ، جميع الوجوه التي قابلها في المسجد أو السجن ، قابل كثيرين .. كثيرين لا يذكر لهم ملامحا ، لا يذكر واحداً على وجه الخصوص ، فلماذا وبمجرد إذاعة الأسماء فرَّ ؟ما باح لأحد عن وجهته ، وما كان يدري إلى أين يتجه !!الرائحة تنهش أنفه ، تضيق أنفاسه تماماً ، الطرق على الباب لا ينقطع ، أحدهم مصر على فتح الباب ، يقاوم ، يتماسك ، الآخر يركل ، يركل ، يزعق : " افتحوا يا ولاد الكلب " لا يفتح .

    حطت به قدماه في هذه المدينة ، وهو على يقين أنه لا يعرف أحداً فيها ، يخطو على غير هدى ، يسلك طرقاً ما عرف لها أسماء ، وحين صعد إلى هذه العشة لم يدر لم فعل هذا !
    كان يخترق الشوارع كتائه،شارد العقل ، لكن قدميه لم تتوقفا ، لم يصبهما التردد ولو للحظة ، كانتا تسلكان طريقاً ما رآها من قبل ، خاض فيها كأنه يعرفها تماماً ، يتأمل كل شيء ، الناس ، البيوت ، المساجد ،النوافذ ، الأسواق الغافية ، الأقفاص التي توارى أسفلها البائعون ، كلاب المدينة الضخمة تعوي دون توقف، كأنها ذئاب استؤنست ، استمر زحفه ، أضاء في عقله أخيراً مشهد قلما سبق له رؤيته ، متى ؟ لا يعرف ، أو كأنها وصفة جغرافية لمكان ما ، كان المسجد ، وكانت البيوت على الجانبين ، وإلى اليمين يلتوي الشارع الطويل ببيوته المتهالكة ، وإلى اليسار كانت مدرسة تتوسط ما توازى من بيوت تهدمت جدرانها، وضريح عجيب بجانبه " حنفية مياه " تسقي الحي ،وعند المنزل رقم " 32 " توقف،مسح المكان بعينين زائغتين ،اندفع متقدماً إلى داخل البيت خفيفاً وهشاً ، يرتعد كأنه يتخلص من حمل ثقيل ، ويقبع داخل حظيرة الطيور !!
    طفت صورة زوج الأم ، مجسدة ، فحط برأسه بين ساقيه أرغمها على الاختفاء ، مقاوماً ظهور هذا الرجل ، أذاقه الويلات ، وأورثه عللاً ، جعله آخر الأمر منهبة لهذا المكان الخالي من البشر، وحيداً مع دجاج وبط ، ينفذ ذرقها إلى معدته .. وحواسه جميعاً ، تسللت من داخله صور شتى لأشخاص عديدين ، لم يستطع السيطرة على أية صورة منها 0ها هو ذا "مسعد أبو ريا" باكياً يحدثه عن حبه لبدرية ، ومعاناته القاسية خلال غربته ، يحدثه عن أمه الغجرية ، الجدعة ، التي كان ينعتها بالساحرة ، تلك التي سحرت أباه ، فلهث خلفها ، وارتبط بها لتتحدى معه العرف والتقاليد .

    أبوه الذي عاش عمره لا يقيم وزناً لأي شيء ، عاشها طولاً وعرضاً ، يمارس الكثير من الأعمال ، عندما يصير في يده الكثير يركن إلى الدعة ، ينتفش جوار صابحة كديك شركسي ، وحين ينهي ما معه ، يسعى لملء جيبه من جديد ، حدثه عن زهران ، وحصاره الدائم له ،ولبدرية ، وكيف فرَّ منه هارباً آخر الأمر ، لم يكن أمامه سوى الرحيل ، بحجة فك رهان الدار ، نعم ، والحقيقة التي لم يعيها تماماً هي أن محاصرة زهران له لم تكن لتترك له خياراً0 فجأة أدرك " حسن " أن مسعد من سكان هذه المدينة،تمنى صادقاً لو يعلم أين يكون ؟ يقف على أخباره . يتذكر مواقفه الباهرة ، كان الوحيد الذي ارتاح له،هناك في بلاد الغربة ملأه ثقة بنفسه ، لم يكن يعرفه ، وعرفه ، وشاركه المسكن والمأكل ، تحمله عاطلاً لشهر كامل ، ألحقه بعمل في ورشة ،رفض بشكل قاطع أن يسترد ما تكلفه من مال : " أين أجدك ؟ ليتني أخذت منه العنوان" .
    :"أنا ذا وحيد..وحيد،وأنت في هذه المدينة ، ربما أكون معك الآن ، في مكان واحد ، لكنني لا أعرف أحداً في هذه البلدة ، كيف لي العثور عليك ؟ أخشى أن يكون أحد رآني ، ورصد دخولي المكان .. حين وشى بي البعثيون ، واقتادتني المخابرات ، كان الوحيد الذي وقف بجانبي ، يشد من أزري ، أسبوعاً كاملاً ، وهو يمدني بطاقة جبارة،ينقذني ، ويحبط كل المحاولات التي استهدفت قتلي " .
    بكى ، تغرغرت عيناه بالدموع ، تكوم ، سحبه النعاس فنعس ، راحت الدجاجات تدنو منه على حذر، تنقر جسده ، تعتليه ، تنام هي الأخرى على كتفيه ورأسه .

    حياة جافة ليس لها معنى ، هاهو ذا في عشة الفراخ بين الريش ورائحة الدواجن ، والأطعمة الفاسدة ، يمضغ العفن ، يقتله دبيب الأقدام الصاعدة والهابطة ، غرقت ملابسه في ماء بوله ، دوي أمعائه يطن مفزعاً الطيور ، جائعاً شريداً ، يتواري نهاراً خلف العشة ، يتخفى قدر الإمكان ، في الليل يدفن نفسه كطائر في العشة ، الجميع انصرفوا عنه ، ما رعاه أحد ، تخلصوا منه ، نال منهم قسوتهم ، وإهمالهم ، لم يحبه أحد في العالم حتى من اعتبرهم أحبته ، تزوجت وتركته وحيداً ، يتذكر المرات القليلة التي هيئ له فيها الاختلاء بها ، كانت جميلة ، ممشوقة القد ، دافئة ، لها عينان سوداوان كريمتان ، كان يحبها ، يتمناها ، قال أخوه : " جوز أمك مش حايوافق .. وأمك شرحه .. بس مش مهم مادام أنت بتحبها وهيه بتحبك " .

    أقدام صاعدة ، دبيبها في رأسه ، تتقدم ، تقترب الخطوات، كانت " بدرية " تدنو من العشة ، تنحني ، تدخل رأسها قابضة على ذكر البط ، يفح الطائر ، يصيح ، أقفلت عائدة من حيث أتت ، كم هي جميلة هذه الشابة ، وكم هو جائع ، حزين ، ومتسخ القلب والروح ، لكم يحتاج .. يحتاج إلى حمام .. حمام يزيل هذه الرائحة .. رائحة البول ومخلفات الطيور .. الجوع يلوي مصرانه ، يجلدها ويجلدها ، معدته تعوى .. تصيح ،كأن بها وحشا ضاريا، ماذا يفعل ؟ التهم الذرة ،" وفت الطيور " من أمامها ، من وقتها والمغص يناوره ، لابد من شيء ، ثلاثة أيام ما ذاق غير هذه الحبات ، هذا الخليط من السرس وبقايا الخبز .

    جذبت يده بشكل لا إرادى فرخاً صغيراً ، ضغط على رقبته بقوة ، أخمد أنفاسه ، مزقه قطعة قطعة ، أكل .. أكل غصباً ، تهيجت أنفاسه، أمعاؤه ، غمغم باكيا، يكاد يقيء ، الدماء لها طعم الموت ، ورائحة التوحش ، خنقته الرائحة ، حملت مصرانه إلى حنجرته ، تمايل ، كح ، كح ، رفضت معدته الوليمة ، كادت تسقط من حلقه ، الجوع أثقل ، وأمضى ، بكى ، نشج ، بعد قليل هدأ تماما !!
    داخله دارت معركة ، فراشات وجنود ، عصافير وفانتوم ، أفكار تتصارع ، وعقل معطل ، بالكاد يحمله ، لماذا هو هنا ؟لملم جوانب الصورة ، تتضح معالمها ، يحاصره أشخاص بعينهم ، يفشل فى تحديد الشخوص ، علاقته بالجماعات كانت محدودة للغاية ، ما كان حدث بشكل عابر تماماً ، لا يذكر انتماء لأحدهم ، لا يذكر ، يعاود النظر ، يستحضر الصورة ، تدوم ، تتذبذب ، تهرب منه ، يتداخل فى بعضه ، يركز أكثر ، يرى فى الصورة حدثا .. يبدو آخر، تبهت الملامح ،يستنكر ما توصل إليه :"إزاي بقى ؟ " .
    لو يستطيع الخوض قليلاً ، لكشف معالم الصورة ، ووقف على حقيقة الأمر ،ما تخلف إلا على مراهقين ، نعم ، ارتبط فترة تصل إلى شهور ، وإلا ما معنى الصورالمنزرعة من الحائط، خاصة صوره ، إغلاقه للتليفزيون .. وإصراره على أن يظل مغلقا ، بل حمله وإلقاءه ، هنا سمع صراخ أمه ، نزلت على وجهه لطمات ، وهياج وحش أنشب أظافره فى وجه زوج الأم ، حرقه لكتب" إحسان عبدالقدوس ، حناتدرس ، نجيب محفوظ ، نزار قبانى" . كان صدره رحى لمعركة رهيبة زلزلته .
    تعود الصورة ، تتقهقر ، ويبدو المشهد باهتا ، يرى كتبا ومجلدات ، علامات القيامة ، المسيخ الدجال ، دلائل الخيرات ، يغلق على نفسه ، يقرأ بنهم ، لابد أنه ارتبط بهم ، مم يخاف ؟ لم يشارك فى شيء ، نعم ، كا ن فى البيت وقتها ، ما معنى وجوده في مكان لا يعرفه ، لا يدرى ما مصيره لو ظل هنا أكثر من ذلك ؟عليه بالرحيل والابتعاد ، العودة إلى بيته ، أوحشه وجه أمه وإخوته ، لأول مرة يشعر بمثل هذا التشوق ، نعم .. ثلاثة أيام ابتعد فيها عن العلاج ، هاهو اللعاب يسيل من فمه دون سيطرة ، ثقلت كتفه ، هاهي تتهدل ، أطرافه السفلية تتشنج تماماً ، لابد من تغيير المكان ، يزعق باكياً " أين أنتم ؟ " يقيء ، يقيء بشدة ، أحشاؤه تتلوى ، تعلو به عبر الفضاء ، يحط متخبطاً ، كأن صنبوراً في رأسه فتح فجأة ، تتسرب الأشياء رويداً رويداً ، كل لحظة يمكثها هنا بمثابة سنين طويلة ، كانت تنفلت وتتبدد من ذاكرته ، ما عاد يتذكر كيف أتى ، أنسيَ أسماء الأشياء ، كأنها تمسح بممحاة ، كل شيء يأخذ ذاكرة مغايرة تماماً ، أصبحت ذاكرة طفل ولد الآن، والآن فقط ، ما هذه الكائنات ؟ نعم .. هذه طيور .. دجاج وبط وأوز . هاجمه زوج أمه ، آخر مرة لمحه فيها كان يتخبط في الكلام ، يقلد الرئيس الفاني ، يزعق شاتماً أصدقاءه : " يا صيع .. شوفوا لكم شغلة تشغلكم .. استحليتم الحكاية ، ما خلاص .. انتوا مش في الدنيا .. أهو إندار عليكم بعد الشيوعيين " يهرول كأبله ، يسبُّهم ويتوعدهم : " والله لاني مبلغ عليكم .. ورميكم في السجن يا حوش " .




    التقطت " بدرية " أكبرها بين هياج الطيور المباغتة ، هرولت على الدرج مرحة ، كانت تصارع زمناً موقوتاً ، بسرعة كان الطائر في الإناء .. باغتتها " حماتها " ، غزت المطبخ عليها ، كحالمة تسبح في منامها قالت : " بت يا بدرية .. مسعد فين يا بت ؟ "
    بوغتت ، وارتجفت أوصالها ، تعثر لسانها بين شفتيها المرتعشتين ، تمالكت نفسها وأجابت : " ما أنت عارفة يامه إن مسعد هربان "
    كانت تشمم رائحته في كل شيء ، فى أنفاس بدرية ، يلاحقها ، فتلاحقه ، وتتحرك دون إرادة مشوقة إلى حيث تقودها الرائحة : " ريحته في كل الدار يا بت .. .. مالية نغشيشي " . ودنت من الإناء .. تتفحص ما به : " لإيه ده يا بت ؟ ".
    لم تتمالك " بدرية " نفسها ، بكت ولم تحر جواباً : " أنت بتخبي عليه يا بدرية ، إخص عليك، مسعد هنا يا بدرية ؟".
    اتسعت حدقتاها برعب ممزوج بفرح طفولي .
    تعلقت بها " بدرية " عشان خاطري يامه .. سيبيه نايم على الأكل ما يستوي !!".
    انهارت الأم ، أقعت على الأرض ، سقطت رأسها على الصدر ، تبكي وحيدها ، من ارتجته من الدنيا ، وأوقفت حياتها عليه ، لاحقته كظل ، وزادت عنه ، فى كل البقاع والدروب ،ورقته ليلا ونهارا ، وباركته بالملح والشبه والجياد المطهمة ، والنار التي لا يخمد لها أوار ، كم كانت فريسة لليل الأرق ، وكم شربت من يحموم حيرتها وقلقها ، وتلا عبت بها الشياطين ، رأتها رؤيا العين ، وأطلقتها في إثره ، متوعدة ، هي الساحرة المسحورة ، ابنة الغجر ، رفضت الرجال واحدا بعد الآخر ، زهدتهم أجمعين ، لم تأت له بزوج أم يصليه مرارة اليتم ، تبكي العيد الذي ما أحسوا به ، وما دخل دارها كبقية البلدة ، ومرَّ عليها كمأتم .

    أخرجتها " بدرية " من آلامها ، ربتت على كتفها حانية ، وقبلتها بحب دافئ، ثم دفعت طبق " العدلية " بين يديها ، فطنت الأم إلى ما يجب عليها فعله ، أزالت دمعاتها العالقة بطرف جلبابها ، وبأصابعها تلقط الغريب ، تبعدها عن حبات الأرز .
    كان أمامها في الطبق يشاغلها ، يحادثها، هاهو في الخامسة عشرة يرفض المدرسة ، ويصر على موقفه ، والعرق يتصبب من كل جسده، إقناعا يحاول ، لاجدوى من التعليم يا أم ، لا جدوى ، القراءة والكتابة تكفى ، تفي ، كيف أتعلم بينما أنت تروحين منى ؟ تموتين على السكك ، يطاردك المخبرون ، وأهل المضارب ، بتربصك العاهرون في الخرابات، والسكك المهجورة : " اللى يعوزه البيت يحرم على الجامع .. مش كده ؟ "

    آن أن يكون رجل الدار . ذهب القليل الذي خلفه أبوه . لم يبق غير الدار التي ورثها الولد عن أبيه ، ورهنت نصفها لخالته " أم شربات " ، هاهي ترقيه ، تطيب جسده طفلاً بالطيب والعنبر ، وتخط بالزعفران بعض حروف نقلتها عن أمها الفانية ، تطرد عن جسده كل حسد أهل الحارة ، كان جميلاً ، والعيون حسادة لا تترك أحداً لحاله ، عاشت معه عمراً من الخوف والوهن والرهبة، نامت مفتوحة الأجفان ، تصارعها الأصوات ليلاً ونهاراً ، تدميها ركلات رجال البوليس ، نعم ، بدأت الرحى حين انضم لمنظمة الشباب ، منذ زمن طويل ، ولم تنته برحيله ، وفك رهنية الدار :"يابنى الحاجات دى للحضر ، إحنا غجر وبس ، مالناش هنا حاجة "0ونسيت فى لحظة عبد العزيز ، لكنه كان يصرخ :" لنا كل حاجة يامه ، أنت نسيت أبويا ، أنا من صلب البلد دى ، أنا بقى دونا عن كل الناس ، باعيش بروحين ، نصي غجري ، ونصي التانى فلاح ، ولا نسيت يا أم مسعد ؟ ! ".
    شافت العفاريت في عز الظهر الأحمر ، ناطحت الجدران الصماء ،حادثت دود الأرض ، خاطبتها لتوقفه ، شكت لحجارة الطريق والدار ، بللت واحة القلب ، فنبتت شجيرات الرضا والصبر ، وحين علمت بسبب سفره ، ماتت هذه الشجيرات ، وأصبح القلب صفصافا ، ونالت منها القسوة ، كان يريد الزواج من " بدرية " . وكانت تريد له الدار كلها دون سفر ، ومال خالته القادرة0و ما كانت تهمه هذه الأشياء ، كل ما كان يهمه " بدرية " ، وقرر ألا يتراجع ، غاب عن عينيها ، فاكتوت، وعميت ، وعاد أكثر عناداً ، عاد إلى الشركة بعد أن لفظها ، عاد مسحوراً حنوناً ، يحدثها عن حبه لـ " بدرية " كطفل ، يبكي على صدرها هي أمه ويحكي لها عن رفاقه العمال ، عن رحلته القاسية في بلاد الغربة ، عن المظاهرة الكبرى التي كادت تنهي عذابهم ، عذاب كل الحالمين بيوم تستوي فيه عدالة السماء .. وعدالة الإنسان ، كما تصور وقتها ، ويحكى كيف انفلت من الحصار الذي ضربوه من حوله ، ورحل ، يحكي لها عن"زهران " ابن الحارة ، ورفيقه القديم ، كيف اندس بينهم .. وأشعل النار في صدور الرجال ، فهاموا على وجوههم ، كيف كانت له اليد الطولى في الفتك بهم واحداً بعد الآخر ، كان يعلم أنه يعمل إلى جانب تجارته في المخدرات وفرض الإتاوات كمرشد ، ينكل بالرجال ، والنساء، ويدبر المؤامرات .
    هاهى تراه يوم المظاهرة الكبرى ، مسعد يقتحم الدار لاهثا ، وحين كانت تدقق النظر فى ملابسه ، هالها ما رأت ، الملابس غارقة فى سائل له لون كهرمانى ، بعدها عرفت أن السائل أطلقه زهران على العمال بالتعاون مع البوليس . كانت تنعته بـ " أبو وشين " . تحذر ولدها من شره . أخذوه مرات . في كل مرة كانت تحس بأنهم سلخوا جزءاً من لحمها ، لاحقت خطواته .. من مكان إلى مكان . تحملت إهانات الجنود. ما كنت لتهتم بأي شيء. جاءها "زهران " ابن الحارة ، الباغي الكريه ، يتشفى فيها ، وفي ابنها ، قال لها :
    " خلي ابنك يسيب بدرية ، وأنا أشهد معاه ، وأخرجه منها زى الشعرة من العجين " و لوح بمسبحته ، زارّاً ما بين حاجبيه : " وبعدين ياأم مسعد ..المفروض يبعد عن شوية العيال بتوع السياسة !!"
    حارت ، كادت تطبق بأظافرها على رقبته . كان يضحك على كل أهل الحارة ، يتغلغل بينهم ، حتى نام الناس وقاموا على كراهيتهم له ، وخوفهم منه . يسير فى ركابه الكثيرون ، يمشون وراءه كالعميان . ورفض " مسعد " شرطه الغريب ، رغم علمه بثقل " الدية " . واستمر حبسه لثلاثة أشهر دون تهمة واضحة ، كان أحسن حظاً من زملائه ، بعضهم فصل من عمله تعسفا ، والبعض ما يزالون يعانون . و " زهران " يهدده .. رفيق الماضي - انضم معه لمنظمة الشباب في ساعة واحدة ، وقت كان لا يملك شيئاً ، وأصبح يملك كل شيء .. كل شيء ، حتى الشجر على الطريق .

    كانت صابحة تخاف عليه من شر خالته العنود ، إنها لا ترضى الهزيمة بسهولة ، لقد اتفقت معها على الصفقة .. البيت مقابل زواجه من شربات ، وافقتها رغم سيرة " شربات " الشائنة ، وملاحقتها لـ " زهران " .
    كانت ترى فيه جنون أبيه " عبد العزيز " ،أبوه الذي غامر .. وغزا عالمهم هم الغجر انتشلها من أهلها غير هياب ، عندما حاول البعض التحرش به هددهم جميعاً ، وأشهر غدارته في وجوههم :"اللى مستغِّنى عن حياته يحاول يوقف فى وشى".
    من بعد انغمس معهم ، أصبح أكثر من ابن لهم . لكنه راح .. راح و " مسعد " في اللفة .
    بكت .. بكت عمراً مضى .. وعمراً قادماً ، كان صراع قاس يدور داخلها عن الإبن الذي يدفع ديون أبيه ، لكنها لم تستطع تفسير نوع هذه الديون التي تدعيها ، فنزعت الفكرة من رأسها فوراً .



    يتبع
    sigpic
  • ربيع عقب الباب
    مستشار أدبي
    طائر النورس
    • 29-07-2008
    • 25792

    #2
    38

    شابه الولد أباه ، كما شابه " زهران " أباه قديماً ، أبوه الذي كان يريد المضارب ، يريدها خالصة له ، لا يعرف أحد من أين جاء بكل هذه الأموال ؛ فقد طرد من الخدمة في دوار البيومي الكبير قبل الثورة بكثير ، ثم عمل نفراً في الداخلية ، أوغل الناس في اتهامه بالاتجار في المخدرات والسرقة وأنه كان يتقاسم الغلة مع اللصوص بالقرب من المقابر الملاصقة لتل الواقعة . هذا ما كان الناس يرددونه وبسخرية حين راح أبو زهران ينفق عن سعة ، للحصول على المضارب ، تمكن بالفعل من شراء بعض العقود ورشوة الموظفين ، لكنه فشل تماماً في إجلائهم عن هذه البقعة ، تلك التي لا يعرفون لها بديلاً ، يقطنونها منذ قدموا إلى هذه البلدة مرجفين ، يطاردهم رجال المباحث وجنود جلالة الملك من بلدة إلى أخرى ، ثم حطوا رحالهم هنا على شفير النهر الجاري إلى جوار العرب البدو النازحين من غزة وفلسطين وسيناء ، أقاموا عششهم ضعيفة متهالكة ، لحق بهم بعض المتيسرين من أهل البلدة ، وحطوا بينهم ، وأنس الجميع لهم كما أنسوا بهم ، ما عادوا قادرين على العودة إلى سيرتهم الأولى كغجر رحًّل ، ليس لهم مكان معين ، كانت الأرض كلها أرضهم على اتساعها ، وسرعان ما اكتسبوا بعض صفات ساكني القرى ، من الفقراء ، كانوا أكثر تأنقاً وجمالاً ، فأصبحوا لا يشاهدون إلا حفاة ، يتمرغون في أسمال بالية ، ويبدعون من الحيل الكثير .

    باع لـ " عواد " نفر قليل منهم ، وابتعدوا مخلفين أهليهم ، قابضين ما أوتوا من مال ، باحثين عن رقعة جديدة ، بعيداً عن الخوف والذعر الدائم من مطاردة الحكومة . وتوقف مشروع عواد الكبير ، ليعود " زهران " وبعد عشرين عاماً لنفس الدورة ، على أمل أن يمكن منهم دون الحاجة إلى إنفاق الجديد من الأموال ، ويحقق ما فشل أبوه في تحقيقه .

    سحبت " بدرية " الطبق ، ففاحت رائحة الطعام بعبقها في كل الدار ، و همت الأم مخلفة كل ما حاولته ذاكرتها ، تقدمت على أطراف أصابعها ، متجهة صوب حجرته ، حملت " بدرية " طشت الحموم إلى حجرتها 0كانت الأم بجانب " مسعد " ، تقعد ملاصقة لسريره ، وهو يغط في نوم عميق ، أصوات أنفاسه تشرخ صمت الليل الجاثم 0 أقفلت " بدرية " بحماس ، وعادت تحمل الماء الساخن ، وتضعه وسط الحجرة إلى جوار الطشت .

    كانت الأم تقبل رجليه وثيابه ، صوتها يتغنى بألم ممزق ، وبكاؤها يتردد : " لما قالوا لي وحيدك فين .. قلت وحيدي مهاجر .. ولما قالوا لي وحيدك مهاجر .. قلت مكانه في الحشا مليان ، ولما قالوا وحيدك راح .. كل الديابة .. كل الحددادي يا نضري قطعت طريقه يا زين . قلت اللي راح العدا ويًّا غراب البين .. يا هم قلبي عليك . دا صورته ماليه القلب والحشا منصان .. قاعد ومتربًّع ويًّا دود البطن يا نضري ، كان فيه عويل في النواحي دي . لبِّس رجالها طُرح . طَرح العويل الحنضل .. طَّرحت أحزان . كان الفرح منصوب لأجل عريس زين . صابه عيار العويل . والهم فدان مدِّد في القلب . يا حبة عين أمك "
    أسرعت " بدرية " وبحنان دافق قبلت رأسها .. دموعها تسيل على وجهها ، أوقفتها ، سحبتها خارجة بها من الحجرة ، آن أن توقظه ، وتحممه ؛ فالوقت ضيق والحكومة ما تفتأ تهاجم الدار ، وهو على لحم بطنه من ساعة قتل " الزغبي " في عرض الشارع .

    وضعت الطبلية على الحصير بعد الحموم والتطيب وحلاقة الذقن المهملة ، ألبسته أزهى ثيابه ، فتحت الباب منطلقة إلى المطبخ ، همت الأم غازية عليه الحجرة مرتمية على صدره ، تعانقه ، تقبله ، ودموعها تتسارع غاسلة وجهه المختلج وشفتيه المترقصتين حزناً . اعتدلت وراحت تزيل عن وجهه آثار دموعها بطرف طرحتها ، وهي تتمتم محدثة نفسها وإياه ، تؤنبه برقة على فعلته ، تصب عليه خيبتها ، فهاهو زرع العمر يذوي .. يذوي ، بسبب رجل تافه ، كان على وشك القتل أو الموت في أية لحظة ، ثمن زهيد لحياته الغالية .

    اقتحمت بدرية الحجرة بعودها المشدود المتباهي بليلته الأولى مع من تحب ، وضعت صينية العشاء المكتظة بالآنية والأطباق ، يفوح منها رائحة تذيب أصلب معدة في العالم . حاطته الأم وبيدها تمزق ذكر البط المجفف بالدهن ، تتصاعد منه أبخرة ضبابية ، وهي تقدم يداً وتؤخر أخرى بسبب الحرارة العالية . بدرية تملأ جانبه الآخر ، تلتصق به وتضع القطع في فمه ، وهو يلوكها متباهياً ، يلتهم بنهم ، بينما غاصت عينا الأم في فراغ لا حدود له ، يمتد داخلها ، ففزعت قائمة ، بتوجس انطلقت متقدمة صوب باب الشقة ، حطت خارج الباب والخوف يقتلها ، كانت ترى أختها الوحيدة تقتحم عليهم الشقة ، فتنهي هذه اللحظات الضنينة الباقية لتنعم برؤية الغالي ، هاهي بشرها ودناءتها تصرخ في وجهه . هذه الأخت التي تتعاهد مع الشياطين لتحقيق ما تصبو ، إنها قادرة على شم رائحة المطبخ والزفر على بعد كيلو ، وهذه رائحة " مسعد " التي جلست إليه صغيراً ، وأرضعته ثدييها حين كان الوقت يتأخر بصابحة ، اختارته زوجاً لابنتها " شربات " ، نعم إنها تشم رائحته .. هاهي تخشى حدة أنفها . لقد أجرمت في حق ابنها حين تحالفت مع أختها لإرغامه على الزواج من " شربات " هاهي نتيجة عملها الأسود ، حكت لها أختها كيف أن " الزغبي " رجل شرير وقبيح وابن ز0000 إلا أن سره باتع وقدرته الخارقة تعرفها البلدة والنجوع المجاورة ، إنه لا يتورع عن أي عمل ، يعذب الرجال الصغار ، يقتلهم قتلاً رتيباً وعلى الهاديء ، ويفت من رجولتهم ، تراهم يأتونه زحفاً على بطونهم ، تركبهم الشياطين ، هم المرضى بداء الحب والعشق ، حكت لها أيضاً كيف أنها لم تطق صبراً حين تعرت " شربات " أمامه ، ويكتب بماء الزعفران على جسدها ، نعم ، ليلتها أمرها بالخروج وأطلق عليها شياطينه ، فدمدم جسدها وانقصمت كل قطعة فيه ، ورضخت " شربات " حباً في " مسعد " ، كم انتابها الخوف ، أكل قلبها ، ابنتها البكر تعرى هكذا ، لكن كله يهون لأجل عيني "مسعد " الجميلتين ، إنهما يتيمان ولا ينفع إلا أن يكونا معاً ، يجري في عروقهما دم غجري .
    قصف " الزغبي " شباباً في عمر الزهور ، كانت تعلم ، ووافقت أختها على فعلتها النكداء ، لا تعرف لماذا وافقتها ، لكنها بالتأكيد كانت تدرك أن " شربات " الوحيدة سترث منزلاً كاملاً يدر دخلاً معقولاً ، وابنها وحداني أيضاً لا يحتكم إلا على راتبه ، ولولا سفره ما استطاع الارتباط بـ "بدرية" . كانت تعلم أيضاً أن ابنها يقاسي آلاماً فظيعة .. فظيعة ، ولن تستطيع إحكام القبضة عليه إلا بدرية ، وتخليصه من هذا الوش ، وعمل المظاهرات . كلمات " زهران " ترن في أذنيها : "ابنك بقى بلطجي .. حرامي .. عملين مظاهرة .. عايز يسرق ما ييجي وانا اعلمه "

    كل ما استطاعته تنبيهه ليلة زفافه : " حط إيدك في جيبك .. وماتسلمشي على حد مهما كان " . ما إن رأته يذوي أمامها ، انزوت بـ " بدرية " ، وبعدها، كانت النار، كان بركانها الموقوت طارت ، وحطت كقنبلة على "الزغبي "، فجرها قلب الأم وخوفها فى الهواء ، الصبيان يتفننون في منعها ، ألقت بنفسها بين قدميه النجستين : " ابني يا زغبي .. ينوبك ثواب دا وحداني .. يا زغبي دا هوه الحيلة والسبيلة يا زغبي .. أنا قدامك أهوه اللي أنت عايزه خده .. وبلاش الولد " . قهقه الزغبي بصوت تردد في عتمة المكان ، اهتزت له القبة الجانبية التي تعلوها عمامة ،ويسترها حرام أخضر في أحد الأركان ، داهمتها صورته البشعة ، رأته في تلافيف الدخان المتصاعد مع البخور : " إنت خلاص ما عدتشي فيك من الهم مرم يا وليه .. أنا عايز ألف جنيه "
    علا صدرها .. أطبقت بأظافرها على رقبته ، نعتته بأخس الصفات : " يا زا .. ياابن .. " . أقبل الصبيان ، ألقوا بها في الخارج . لم تشك لـ " مسعد " ، لم تشعره بما تعانيه ، تخشى عليه من شر " الزغبي " ، وهاهو يناله أخيراً ، سعت إلى أختها تشكي لها ،تترجاها أن ترحم ولدها ، وتذهب إلى " الزغبي " ؛ ليوقف هذا الموت .. الموت . الولد أصبح جلداً على عظم ، حالته من سيئ إلى أسوأ ، و " شربات " جميلة ، خطَّابها كثيرون ، يتمنون الرضا منها ، تتاجر في كل شيء ، تركل الرجال بالحذاء ، وفوق هذا هى مرتبطة بـ " زهران " ، لكن " فطومة " أختها ما كانت لترتضي الهزيمة ، لقد فعلت الكثير لأجل هذه اللحظة التي يرتمي فيها بين قدمي " شربات " ويقول لها : " سامحيني .. كنت أعمى .. أنت الوحيدة وأنت الحبيبة " . تريده زوجاً لها ولو لليلة واحدة ، ليلة واحدة ، وبعدها يذهب كما يشاء ، خلفت أختها وعيناها غير قادرتين على رؤية الطريق .

    كان صوت " الزغبي " يرن في أعطاف صدرها ، هذا الخسيس السفاح ـ يطالبها بخمسة آلاف جنيه إنقاذاً لولدها ، الزغبي الذي ملأ البلدة بالرعب ، غرر بالنساء والأبكار ، أوهم العاقرات ، فاختلطت الأوراق ، واختلطت الأنساب ، " مسعد " يتحول إلى قط قلمت أنيابه ، وأظافره .. يتضاءل ، تحيط بعينيه هالة سوداء ، بدت خطوط سابقة لأوانها ، يرتعد جسده بقسوة ولا يتوقف ، ركضت إلى عشيرتها ، لكنهم ورغم مهارتهم الفائقة عجزوا عن تقديم شيء ، وحين هالهم ما ارتسم على ملامحها قالوا : " نقتله حباً في مسعد يا غالية " . رفضت لأنها تعرف أن موته ليس حلاً بقدر ما هو إيذان بموت وحيدها ، من يفك العمل إذن ؟ رغم معرفتها بمقدرة صبيانه ، لكنهم اتفقوا على جمع نثار العشيرة من مختلف القطر في ختان أحد الأولاد ، وإجبارهم على المشاركة وجمع المبلغ المطلوب ، وبالمناسبة ترى عشيرتها الذين طال بعدهم ، وبعدت الشقة بينهم ، في آخر اللقاء تمسكت بألا يخبر أحـد منهم " مسعد " ، وأخذت عليهم عهداً بكتمان السر ليوم موتها .

    في اليوم الذي اتفقوا عليه أي يوم الوليمة ، وهي وسط عشيرتها وذويها أتاها من يخبرها أن " مسعد " هجم على الشيخ الزغبي ، وطعنه بمقص ، ولم يتركه حتى مات غارقاً في دمه وأحشائه وسط صبيانه وفتواته ، وعلى مرأى من " زهران " الذي كان في هذا الوقت في بيت " مسعد " ، ونسي أن يخبرها عن إصابة الزغبي لولدها بجرح نافذ بقدمه ، و لم يتركه حتى قهقه منبئاً بموته .

    كان الليل يبتلع نجومه وأقماره ، ويحول وجه الأرض إلى كتل من الأشباح اللا متناهية ، وكانت الأم لخوفها أشعلت النار في منقد ، قلبها مخطوف يتهدج ، ويضيق بانفعالاته . كانت على يقين غريب من حضور أختها رغم تأخر الوقت ، تعد العدة لاستقبالها المتوقع ، فما صفتْ جذوةُ النار حتى تناهى إلى سمعها وقع خطوات خافتة على السلم ، فألقت البخور وأصنافاً من الأخشاب النفاذة الرائحة ، رشرشت على الدرج أمامها بعضاً من الماء المخلوط ، فما برزت الأخت أمامها حتى ارتعبت ، وتقهقرت إلى الخلف ، وفطومة تبسمل وتحوقل ، تأتي بأشياء وألفاظ من شأنها إبطال مفعول قنبلة موقوتة ، ثم صرخت في وجه أختها شاتمة ، وتراجعت أم " شربات " ناقمة ، فزعة .

    بحبٍّ فائق ورقة كان يروي ظمأ أرضها ، يمتد بالخدر والنشوة ،والعذاب المشتهى ، سائخة الروح تناضل آخر قطرة من المطر المذيب ، المفتت كيانها ، ثم ترتمي وراحة عظمى تحتويه ، وتغلق أمام ألمه المتربص به الأبواب ، لكن هيهات ؛ فالألم يشتد .. يغالي شرِهاً ، كأنه يقول له : " هكذا أوصاني الزغبي .. ووصايا الموتى أوامر واجبة " .




    ثقيلة .. ثقيلة ساقه ، أحس بنفسه مشلولاً رغم تطهير " بدرية " لها ، الألم يزداد ، يجذب روحه من مرابطها إلى أسفل .. أسفل حيث يشع الجرح ، ويأتيه صوت "الزغبي " ساخراً : " أنت ميت يابن الغجرية " . يستولي عليه النعاس ، يرحمه من أوجاعه ونشوته ، تحط على صدره ، وهي عارية متجردة من أية ثياب ، بدت كبجعة ، تسند رأسها على صدره مفعمة بمشاعر فواحة ، تستعيد كل اللحظات البائسة والليالي المواتية ، التي كانت تمني بها نفسها ، كانت تراه في كل ركن من أركان الحجرة يبكي .. يتألم ، فتجذبه إليها ، تداعبه كطفل ، وبحب، كأنها تدربه على ممارسة الحب ، تلاعبه ، ينام في أحضانها حتى كبرت أوجاعه ، أفلست تماماً ، عزت عليه نفسه ورجولته ، كان على يقين أن ما هو فيه له صلة ما بالزغبي الدجال ، الشرير ، كم حكى لها عن شرور هذا الرجل ، وكيف أنه لا يؤمن بمثل هذه الترهات ، رغم تصرفاته العكسية حياله ، نعم عاش لا يقتنع بأية كرامة لهذا الرجل ، يضحك على الذقون والقوارير ، يلتهم مال الخلق بكلام فارغ ، ويقول : " لو كان عدد المدارس نصف عدد الحوانيت لما استطاع الزغبي .. عندنا في البلدة أربعمائة مسجد مقابل عشرين مدرسة " . لقد جلس أمامه ، تحداه أن يفعل شيئاً ، والزغبي يهدده: "حاربطك ، حاربطك يا مخلط " 0
    استهزأ به " مسعد " ، طالبه إن كان قادراً فليفعل ، فوراً كان الزغبي ينفذ تهديده ، قام " مسعد " بعد هنيهة ، وأنزل سرواله ، ثم أخرج عضوه ، انزعج الزغبي ، تراجع ،و" مسعد "يسخر ضاحكاً .اغمق لون الزغبي ، ازرق وجهه كالنيلة ، وهو يردد مبرراً ، " دمك زفر .. دمك زفر "0
    كان متأكداً من عدم جدواه ، إن ما يتناقله الناس عنه محض ترهات ، وأوهام ، رعتها البيئة والتربية المجافية لروح الإنسان والدين !!
    كل شيء يتسرب .. وعيه .. فهمه للأمور يضيق .. يضيق ، ماكينته ما عادت تخضع له ، هي الأخرى ، كانت عصية عليه ، أصبح لا يغني لها .. لايراقصها ، تخلى عن عاديَّاته فلم يعد اسم "بدرية " يوشي " برسل "الأثواب، يقابلها بوجهه الجهم المحمل بأعباء لياليه السوداء ، فتقابله بنفس كارهة ومزاج معتل .

    في خلال أسبوعين كان قد جذب إليه الأنظار ، تعجب رؤساؤه من تدهور أحواله ، والهبوط إلى أقل من الحد الأدنى للإنتاج .
    بدأت المسألة بلفت نظر ، ثم خصم يومين من مرتبه ، ولا أحد يسمع له ، الأصدقاء راحوا .. وراحت أيامهم . بعضهم ذهب إلى الجبهة ، ولم يعد إلى الآن ، والبعض الآخر في المعتقلات بعد أحداث يناير 77 ، والباقون ارتحلوا فقراً وبؤساً ، لم يبق غير "زهران "الذي اختار الطريق السهلة ، حتى أصبح علماً يشار إليه قبل أن يختار طريقه هذي ،كان " مسعد " يقعد إليه ، يحدثه عن" بدرية ".. كيف أوقعها في حبه حتى لم تعد تطيق بعده ، ولو لساعات ، كيف علمها القراءة والكتابة والحساب والأشياء الأخرى ، علمها كيف تكون حرة ولها رأي في حياتها .. اختيارها ، كانت رسائلها منه ألفاظاً تختلط على دوي الماكينات . يبدأ الرسالة .. لمن يبوح .. ؟ لماكينته .. هذه الآلة التي لا تفهم إلا لغة واحدة ، لا يتفهمها إلا المكوك المندفع في حركته ، حتى المكوك تلفظه بعيداً حين تفرغ من خيوطه ، تلفظه بعيداً ، وتحتضن مكوكاً آخر .. بدرية كيف ؟ وهو لا يستطيع رفع عينيه في وجهها . تنتظر في ذهول عجزه ،أين هذا الفحل الذي كان يدميها قبلاًوعناقاً ؟ أين ؟ ما عاد منه شيء اللهم إلا الدموع والحزن وخيبة الأمل ، ليال طوال ، وأخيراً يخترق عتمة ذاته ، يسحب المقص ، كانت ترقبه ، تتابعه من النافذة مع " زهران " ، الذي كان يمرح في الدار كأنها داره ، يا للهول ، يدنو من دار "الزغبي " ، ينادي عليه بصوت جهوري ، ينادي بنفاذ صبر ، وحين كان الشيخ"الزغبي" يعبر العتبة متقدماً ، أخرج "مسعد " المقص ، ارتد الشيخ مذعوراً ، محاولاً الانفلات ، عاجله بطعنة في جنبه ، وهي تصرخ مرعوبة أغلق عليه الطريق ، هرول " الزغبي " زاعقاً، تابعه بإصرار، لاح عته على ملامح " مسعد "، طعنة أخرى في كتفه ، يقعى الزغبي أرضاً ، يتلوى ، يزحف على الأرض كثعبان ن ، والدماء تندفع من كل جسده ، يحط " مسعد " فوقه مسدداً إليه طعنات متلاحقة .

    ماج الشارع بالناس ، حين كان يطعنه الطعنة العشرين ، ويتهدد الجميع الذين حاولوا إنهاء هذه المذبحة . أغمى عليها ، و " زهران " يتفرج نشواناً ،تهاوت على أرضية الغرفة، بينما كان يسلك طريقه مندفعاً ،وقدمه التي قذف بها الزغبي تخلف خطاً طويلاً من الدماء الطازجة .

    كانت تحبه كثيراً ، وكانت على استعداد لتحمل عجزه العمر كله ، لكن قدره يلازمه مهما حاولت ، لن تستطيع رد هذا القدر الغريب ، لقد أفلت من براثن الحكومة مرات كثيرة ، لعب معهم لعبته المحببة ، ودائماً ما كان يكسب جولاته ، خاض في مظاهرات ، دبرها بنفسه ، وظنت أنه لن يفلت منها ، وسرعان ما يخبط عليها بيت أبيها ، ويختفي في حجرتها ، هذه المرة لن يفلت .. لن يفلت .

    امتلأت الدار برجال البوليس الذين قلبوا كل شيء رأساً على عقب ، سألوا عن " مسعد " ، ولما يئسوا ساقوا أمه أمامهم ، وهي تبكي .. وتولول ، تنعي حظها العاثر ،رجلها ، الذي ذهب إلى الموت طواعية .

    كانت تراه في كل شيء ، في صحوها .. ونومها القلق .. في الصحون التي تراصت فارغة ، في فراشها الخالي .. في سقف حجرتها ، هناك حيث كان ، وصوت بكائه يتردد ، يحدثها بألم : " أنا هنا يا بدرية .. في الطل .. تطاردني الأشباح .. ويترصد ني الزغبي " . حين نامت بعد ثلاث ليال جاءها في منامها : " إنني قادم يا بدرية .. إلى حضنك البكر مشوق إليك " . أجفلت وقامت من نومها، فإذا هو أمامها يداعب شعرها ، ويتملى وجهها .
    ما كان النوم بمستطيع أن يغمر عينيها ، آن له الانسحاب قبل أن يسحب من هنا ، ويهان وسط الحارة . نعم لابد أن ينسحب . ليس من الحجرة وحسب ، بل من حياتها ، آن .. آن . علا صوتها ، وحين مررت راحة يدها على وجهه وشعره المسترسل سمعته يردد : " لازم تتجوزي يا بدرية ؟ لازم تتجوزي "

    بكت بحرقة ، أنشبت أظافرها فى لحمه ، تهزه .. وتؤنبه . تشهق ، وهي تصم أذنيها . تلطم خديها الموردين ، ثم حطت بشفتيها على وجهه وشفتيه ، أصرت على إيقاظه . تأوه ، اتسعت عيناه في الحال .
    كانت في وهج جمرة طازجة ، ربتت على صدره ، وبحنان متناه مسحت على وجهه ، أومأت :"يللا يا مسعد..الفجر هايدن ".
    لمها بين أحضانه ، دفعها بعيداً : " لازم تتجوزي .. إنتِ زي فلقة القمر .. وألف مين يتمناكي .. إوعي تسوقي فيها ، وتعيشى الدور للآخر ، الحياة للحياة يابدرية " . وضعت كفها على فمه : " إوعى تكمل .. والله ما يحصل إن حد يلمسني بعدك .. أنا خلاص اكتفيت ، وشبعت الليلة دي ، خدت زادى كله منك !! ".
    انبرى يستعطفها بتوجع : " إوعديني تتجوزي يا بدرية " .
    بثقة وصرامة : " حاضر هاوعدك يا مسعد "
    اندفعت نحو المطبخ ،كان يرتدي ملابسه ضاغطاً على فكيه من الألم . أقبلت " بدرية " ، بيدها سكين المطبخ : "هاوعدك يا مسعد بدية " وقبل أن يحط حد السكين على الأنف الجميل كانت يد " مسعد " تخطفها ، تلم جسدها بين جناحيه ، بينما دماء غزيرة تتسرب من خدش سطحي ، دفعها عنه وحالاً أحضر علبة البن ، و بلسانه يمص قطرات الدم ، التى لم تتوقف إلا بعد سكب علبة البن عليه .
    قال " مسعد " : " ليه يا بدرية حرام عليك ".

    بين نهنهاتها :"حرام عليك أنت .. ارحم نفسك وارحمني "0
    بإصرار:" حارحمك يا بدرية بس لازم تتجوزي .أنت سامعة "0


    بغلٍّ عجيب كانت تمزق وجهها بأظافرها ،احتضنها بحرارة باكياً . وقبل أمه الجزعة ، واندفع دامع العينين ، ووجه بدرية ممتلئ بدمائها الحارة ، خطا تجاه النافذة وهو يردد : "ابني في بطنها يامه .. ابني يامه .. الحقيها يامه " وتوارى عن ناظريهما .

    كان يهم بالنهوض حين صاحت الطيور صاخبة ، كشيخ هرم . استطاع الوقوف، وزحف " حسن " ، خطا متقدماً بتؤدة فرضتها عليه حالة التشنج التي صلبت عظامه ، دار حول نفسه متقدماً ، نبش عن مدخل السطح ، حدق في سماء ممتدة ،بعيدة رافلة أمام عينيه في صفحتها النجوم ، دار معها ، السماء صامتة ، بعيدة ، والأضواء في المدينة متناثرة ، ضعيفة هنا .. مضاءة قوية هناك في البعيد .

    أخيراً توصل إلى المخرج .. يهبط .. يترنح .. يتمايل بقوة ، يكاد يسقط من الإعياء ، يتماسك ..يتماسك . ساقاه تتشنجان . يتحرك . أصبح خارج الدار ، أصابته حيرة ، إلى أين يتجه ؟ أمسك حائراً ، يفكر، أي طريق يسلك .داخ .فكر في العودة حيث كان . أمامه دنيا غريبة .. غريبة . ليل هادئ له رائحة محجر . باغته زوج أمه . كان بهيكله الممتد . لم يكن كآخر مرة رآه فيها . كان في النزع الأخير . أربع سنين وهو يخرف خرف الموت . يوم عاد من الرحلة الخائبة ، ضيع حسن عقله بعودته مسالماً . يعكف على الصلاة وقراءة القرآن ، وكان هو زوج الأم - يتهدد الناس أجمعين كمعتوه :
    " دي السلطة كانت عملاكم سلمة .. يضربوا بيكم ناس تانيين .. بس حاتتخلص منكم بدري بدري "
    قابلته أصوات عبر البيوت المواجهة : " سلم نفسك يا مسعد .. سلم نفسك لاحسن نضرب في المليان !!"

    حار .. لف حول نفسه ، إلى من يتحدثون ؟ هاهم يجذبون الأجزاء النارية ، يكشفون عن أنفسهم . دون تفكير كان يجري ، يركض بقوة ، يجر ساقيه المتشنجتين ، لحقت به آلياتهم ، واجهته من الأمام ، وبنفس السرعة كانت تطلق نارها ، تنسفه تماماً ، ما بقي من ملامحه شيء ، وآهة غريبة مذبوحة تتردد في ليل المدينة الغامض ، راحت ترتمى بعيداً .. بعيداً في أفلاك سماوية ، وتسرى في مجرات لانهائية ، بينما " مسعد " ملتصقا بماسورة المجاري ، لا يأتي ببنت شفة ، لا يأتي بحركة 0كاد يسقط حين أطلقوا عليه النار ، أحس بالطلقات تخترق جسده هو .. ظل في مكمنه معلقاً ، تخترقه صرخة القتيل .. تخترقه وتهريء تماسكه الواني .

    تجمر الخلق ، بلغ الليل منتهاه ، عرايا بملابس نومهم .. حفاة .. مبعثرى الشعور والثياب . لم يكتشف أي منهم أن الذي لاقى حتفه شخص آخر ما عرفه أحد من قبل في هذه المدينة ، لكنهم كانوا على يقين أن القتيل هو : " مسعد عبد العزيز أبو ريا " .




    عود إلى المقابر ، إلى الخرائب ، إلى الموتى . يجرجر قدمه العليلة ،جاحظ العينين ، يفتك به ألم صاعق ، يدبدب بخبل غير مصدق ما وقع ، يسلم نفسه لنوبة بكاء متواصلة،يفترش الأرض ناعياً هذا الكائن الذي أوقعه سوء حظه في هذه المهلكة ، بدلاً عنه .
    يجهده تفكيره في حقيقة هذا الكائن،لماذا هو بالذات من أطلقوا عليه النيران ؟ منذ أيام وهم يحاصرون المنطقة ، لماذا كان يجري ؟ كان أقرب إليهم من بنادقهم ؟ هل كان كثير الشبه به إلى هذا الحد ؟ الطول .. الحجم .. الملامح .. الثياب ؟
    يطوي المقابر طيًا ، تتصاعد أتربة ناعمة ، تتهيأ أمام عينيه الشواهد وساكنوها ، هياكل تدب في رحابة هذا العالم الغريب ، تتدحرج على الأديم ، ترتع في رحابته ، وتتلاعب بأعصابه ، والنخيل متشابك كمؤامرة .
    إلى حضن شجرة النبق الحنون أسلم نفسه ، تعلق بها رافعاً رأسه في واحة السماء،تحنو عليه النبقة ، تميل لاثمة وجهه، تجهش ، تختلط دموعهما ، دموعها شهد تقطر داخل فمه ، يستطيبه بتهلل ، تنهل من دمعاته أملاحا رائعة المذاق ، متوحدين كعاشقين يتناجيان ، ما عاد يرضى بالبعد عنها دليلاً .

    تفتح صدرها ، تأخذه فينسى كل أوجاعه .. كل أوجاعه ، تبثه سعادة ما ، تحيله إلى تلك الليلة . هذه الوحيدة .. والأخيرة التي استطاع فيها رد اعتباره أمام امرأة عمره ، يقهر التردد والضعف الذي كاد يقتله ، أنه رجل مكتمل ليس من عيب به ، وحبه لبدرية كان قوياً ومدمراً في نفس الوقت .

    يرتجف محموماً ، يتحسس جسده ، هاهنا كانت تضع رأسها ، نعم ، نفذت رائحة عرقها مخدرة عبر شرايينه وكرات دمه ، تنساب ، تنساب ، فترفرف رياش صدره محلقة نشوى ، تذيقه حلاوة النشوة التي نعم بها بعد صراع دام طويلا ، وانتظاركلفه عمره ، فأرجفها ، سرقها من دنياها بعيداً في اللا مكان ، رواها من عنفوانه ، وألم روحه رغم بلوغ جرحه ذروة الوجع ، مستبيحة جسده ، تنتشر ألماً يحتويه ، ويزعق في كيانه .

    يقتحمه نفس الشخص المجهول ،تبعث صورة مقتله كما شهدها ، تحاصره آليات رجال البوليس ، كان يحلق، فسقط ، لكن شيئاً ما كان يثقل خطواته ، يستبقيه لتفتك به رصاصات عمياء وكان هو معلقاً .. معلقاً ، يقول أنها النهاية ، لقد انتهى ، سوف يحرم من " بدرية " ، لن يراها بعد الليلة ، نعم ، لن تكتحل عيناه برؤيتها ، سوف ترتبط بأي من كان ، تنسى " مسعد " وما وقع منه ، العذاب الذي ابتلاها به ليلة بعد ليلة ، ونهارًا خلف نهار
    يا مسعد ، كانت تغزوه كوحش . بدرية تدنو منه . تؤكد بحزم دام على عدم الاستجابة لتوسلاته الغرائبية بضرورة الزواج ، حسمت المسألة ، لم يتخيل مجرد التخيل أن يصل الحال بامرأة ، مهما كانت مولهة بفتاها أن تحدث مثل هذا التشويه العمد بوجهها الجميل ! لا .. لم يتصور مهما كان حجم هذا الحب . قد تنتحر زوجة أو حبيبة .. فهذا أيسر وأبسط مما كانت تريده ، إنه شيء ما سمع به من قبل ، شيء ضد طبيعة النساء ، لا .. لا يمكن ، لولا يقظته لتحولت لمسخ .. مسخ إنسان ، مزقت وجهها بأظافرها ، إنها خدوش سطحية سرعان ما تلتئم ، أي ضمير شقي ، يرتضي لها الانتظار مدى الحياة وإلى البعث ، تعد الأيام والليالي وحيدة مترملة ، يأكلها العنكبوت والفزع والأشباح - هي الشابة الجميلة المشتهاة - وتأنيب الضمير حين يأكل عمرها وجمالها مرور الأيام ، والحسرة على ما فات لأجل لاشيء ، وتكتشف أنها انتظرت وهماً !

    أيام هنا قضاها مختبئاً يحاور، ويناور "خليفة التربي " الذي عمر أكثر مما يجب ، فأحنت السنون ظهره ، وسرقت الليالي الكالحة نور عينيه ، مع ذلك كان عريساً جديداً للمرة التاسعة ، وأباً لثلاثين ولداً وبنتاً ، كان يجري أمامه كثعلب ، يتوارى خلف البنايات ، والرجل يخدع نفسه ، يظن بشيخوخته الظنون ، فيبتعد عنه مبسملاً محوقلا ، يقرأ الفاتحة لأمواته وأموات المسلمين والنصارى .

    يفتك به جوع قاتل ، تزعق " مصرانه " كثعابين مجنحة فيأتي على أوراق شجرته الحبيبة ، يغمس ثغره في دموعها النازفة ، فتذوب رقة كأنثى ، تنادي آمرة : " طبي يا ثمار .. استوي والحقي المسكين " تنضج الثمار .. وتتدلى أوراقها وفروعها ، يقتطف منها ما يشاء ، يلوكها ، تعود الشجرة لمناجاة ثمارها .. فتطيب .. تتدلى فيتخير ، ويلوك ، ثم ينهار رويداً .. رويداً . يقعى تحتها مستجلباً وجه بدرية النازف دماً ، يفزع قائماً ، يزعق مذهولاً ذاهب العقل ، يدور في رحابة المقابر ، صاحت تئن متوجعة تحت قدميه ، وتهمهم بأصوات جماعية كنازلة : " ألا تنظر تحت قدميك يا أعمى ؟ "
    يناجي الشواهد القائمة ، تلك البارزة الحروف كنهار ، يجالسها ، يتحدث إليها ، علها تخرج عن صمتها المريب والغامض ، لكن هيهات ، يدور مع التواءاتها ، يتسلل عبر حجرات .. وأسوار .. ومصاطب طينية وأحجار ، كأنه في مدينة أتاها سخط السماء بغتة ، فأصبحت أثراً بعد عين ، ثم يلتقي به .. هاهو الزغبي .. هاهي رخامته الكبيرة شاهده كبيرة عالية المقام ، مقبرة لها قبة سماوية كضريح ولي ، يقرأ " مسعد " كلمات الرخامة : " هنا يرقد سيدي الشيخ العلامة .. والقطب الفهامة ، الزغبي بن علي بن زكريا بن رضوان المطروقى .. الذي ينتهي نسبه الرفيع إلى الإمام علي كرم الله وجهه ، يوم الثلاثاء 8 من ذي الحجة 1401 هجرية .. الموافق 6 من أكتوبر 1981 ميلادية "
    ما أكمل قراءته للرخامة حتى أبصر الزغبي ، يتربع على الجدار المواجه ، يقهقه عالياً،فزلزل "مسعد "الرعب ،أحس بقلبه يرفرف ، ينقلب طائراً:"كده ياد يا مسعد .. دانا كنت باحبك .. ماتيجي أفكك ياوله ..تعالى ..قرب مني شوية ..مانتش عايز ؟ بس أنا لازم أفكك ".

    يهرول بعرج ، يطير مختفياً ، والزغبي خلفه ، يجري كسهم ، قشعريرة تسري في جسده ، تهزه بعنف ، يرتمي على جذع شجرة النبق ، يختفي خلفها ، يدفن وجهه مرتعداً في جذعها، ينهنه باكياً : " مانش عايز يا زغبي .. ابعد عني يا شيخ .. ينوبك ثواب .. ابعد دمرت حياتي " . يخوض " مسعد " في مشهدها ، هاهي أمامه تسرع قابضة على السكين في ثبات ، هاهي تقطع الأنف الجميل ، تشق الشفة ، هذه الشفة العلوية الجميلة التي كانت أقصر من السفلية ، لكم لثمها ، لها رائحة كبريائها ، سمع صرخة أمه عليه وقت دوت الطلقات ، الدماء تملأ حدقتيه ، حين انفلتتا من الدار كان يصعد ثانية إلى حجرته ، يصعد خائفاً ، بقوة كان يسيطر على مخاوفه ، واستطاع الانفلات بصعوبة بالغة ؛ فقد حاصر الناس الدار كما حاصروا شقتهم .

    يناديه شاهده ، ينطلق باحثاً في مقابر العائلة ، هناك وجد نفسه وجهاً لوجه ، هاهو شاهده أمامه ، يقرأه : " هنا يرقد مسعد ابن عبد العزيز بن أبوريا الجمعه 11 من ذي الحجة 1401 هجرية الموافق 9 من أكتوبر 1981 ميلادية " قرأه بصعوبة ، المقبرة كانت عبارة عن حائط واطئ . راح يتصور أي فتى هذا الذي يرقد بدلاً عنه : " يا ترى أنت مين .. ابن مين ؟ "
    جاءه صوت متهدج : " أنا حسن .. من بعيد جيت .. أنا مبسوط إني في آخر حياتي كان ليه قيمة .. طول عمري ضايع .. مات أبويا وأنا يدوب عندي خمستاشر سنة ، أمي كانت ست طيبة ، جميلة والكل طمعان فيها ، لكن الراجل ده قدر يضحك عليهم كلهم ، وطفشهم واحد ورا التاني ، اتجوزها بعد كده بثلاثة سنين ، ورَّانا الويل أنا واخواتي ، وحطم حياتنا ، كده كفاية واللي عايز تعرف أكتر ؟ "
    حوم مشتعلا ، يبحث عن مصدر الصوت : " ماتدورشي .. ماهو أنا أنت .. تتصور الراجل اللي هو جوز أمي مات ... أنا قابلته هنا .. مات .. ماكنش مصدق إنه حاييجي اليوم ده .. قابلته . وشه أسود ..أنت راجل طيب،عشان كده جيت من آخر الدنيا عشان أموت بدالك !! ".

    تلاعبت برأسه تلك السنة التي قضاها بعيداً . هناك في بلد الهروب .. الهروب الذي قرره خلاصاً من مأزقه .. ومأزق هذه البلاد ، كان ذلك عقب أحداث 17 و 18 يناير الشهيرة ، لم يكن لديه خيار .. إما ترك نفسه فريسة للالتهام.. والضياع خلف غياهب السجون ، وإما اتخاذ قرار فوري بالابتعاد : فالإطاحة مبدأ عام .. الإطاحة بكل من اختلفوا رأياًَ وعملاً مع الحكومة .. ومع الرئاسة على وجه الخصوص 0 وترك أمه .. تركها تعاني آلام بعده – هو رجلها الوحيد – كما ترك " بدرية " فريسة هذا العالم البغيض ، يحوم حولها " زهران " ككلب ، بكل جبروته وهيلمانه، لغوايتها .

    مضى محملاً بالوجع .. وآلام انهيار الأحلام والأماني ، تسوقه إحباطاته .. وعذاب لا حد له .. لا نهاية ترتجى . وهناك .. وبمجرد هبوطه ،كانوا يسعون وراءه ، يرمحون ، يناورون ، يلعبون اللعبة الغبية مرة بعد أخرى ،لاعبهم بذكاء ، هناك الجبهة تكونت . فر من أمامهم ، ذاب داخل البلاد . كانوا وراءه ، عرضوا الكثير .. طلب رقعة شطرنج ، قتلهم غيظا ،قهرهم واحدا بعد آخر . انزوى بعيداً ، في شمال البلاد يمارس عمله الوحيد الذي يعرفه . أطلقوا عليه مخبريهم .. وعيونهم ،سبح في رفضه وابتعاده ، وتعلق بمركبة راحلة .
    رأى وجوهاً يعرفها تماماً ، تتحدث بكلام كان صدى لما يمور داخله ، لكنه كان يبتعد .. ينأى بعيدا ، يروي روحه بالظمأ .. والوحدة بالرهان المستحيل ، لا يريد شيئاً ، كفاه .. كفاه . هكذا كان يصرخ ، لو أراد كانت بلاده أولى ، لكنه رفض .. سد أذنيه عن الاستماع إليهم ، وكرس جهد طاقته للعودة السانحة .. وفي الوقت المناسب لانتشال " بدرية " ، ولم شملها . أغرق نفسه في عمل لا ينتهي . شاف أشياء عجيبة .. وأحداثاً يشيب لها الصغار ، نهشت قلبه الغربة ، وكلما لذعته ، طالع صور الأحبة ، واكتفي ، هناك قابل الكثيرين ، وبما له من علاقات محدودة قدم ما استطاع من عون .

    تذكر بعض الأسماء ، يعيد على نفسه بعضها ، تتحرك بها شفتاه : إبراهيم ناجي المواردي ، ذكريا محروس أبو هاشم ، حسن أبو اليزيد منصور .توقف عند هذا الحد.يتأمل كلاً منهم ،كأنهم أمامه شحماولحما. سرعان ما اختفى بعضهم ، ما تبقى سوى " حسن " ماثلاً بوجهه الجميل ، روحه الخفيفة الظل ،نفسيته المعقدة ، وفشله الذي لازمه ، كيف لجأ له 0 أنبأه بمحاولات البوليس ، محاولات أصحاب الجبهة ، ودعه ، وهو يتمزق من أجله ، ظل يلازمه في أحلامه لفترة طويلة ، يشعر بمدى العنف الذي صده به ، هو لم يقصد ، كان خائفاً عليه 0ابتعد صامتاً . بذقنه المسترسلة ، وشعره الأشعث .
    مرت أيام عديدة . كل خميس تأتيه أمه ، تأتيه بماء الورد ، وبرميل كبير مملوء بالماء ، وسبت مكدس بالقرص والفواكه . معها كانت " بدرية " ملثمة الوجه .. ملثمة . ليتها تنسى نفسها ! تجعله يراها ، اشتاق إلى وجهها .. اشتاق إلى رؤيتها .يرى تأثير ما فعلته . لكنها لا تسمح له . كل مرة يراها فيها ينتابه الحنين الجارف . يحس بقلبه يرفرف في صدره ، قدماه تدفعانه إلى الظهور ، وحملها على ساعده ، فيقمع كل هذه الأحاسيس .. يقمعها ، أصبح في عداد الموتى وهو حي يرزق : " هذه مصيبة .. مصيبة "
    كان في عيني أمه شيء لم يستطع تفسيره أبداً . كان وجهها طيباً .. طيباً وراضياً ، لم تكن تذرف الدموع على من ثكلته .
    وكان يعلم مقدار حبها له،تبحث في جنبات المقابر ، تقطعها كأنها تبحث عن شيء ضائع ، ثم يدركها التعب ، تحط إلى جانب زوجة ابنها الملثمة ، وهي تبحث لم تزل كمعتوهة ، أيكون مس من جن أتى على عقلها ؟ حين تعرى فخذا بدرية ذات مرة كان ينادي عليها : " استري نفسك يا بنت الرفضي " كأنها سمعته ، فما انتهى حتى كانت تسدل جلبابها ساترة فخذيها الفتيين ، ثم يردد بألم " لإمته ؟ لإمته حافضل كده يا بدرية ؟ "
    وإذا به يشهد أنواراً إضافية ،هنا في المقابر ، في الناحية القبلية ، يدور حول نفسه ، يتأكد مما يرى ، النور مشع يطويه ، يجذبه برغمه ، تحرك بحذر ، في جسده رعدة فاتكة ودهشة تعقد لسانه تماماً، هنا تحت الأنوار المتلألئة رأى عجباً ، رأى دنيا غريبة وعالماً كأنه السحر ، كان سحرًا ، تلك السوق الواسعة ، انفسحت أمامه ليرى فيها وجوهاً صعقه رؤيتها . رأى" الزغبي " يتوسط الطريق ، ترتمي على صدره مسابح كبير وكثيرة ، ذقنه الطويلة تمتد على صدره ، كما بدت عيناه واسعتين ، الخلق يتمرغون تحت قدميه ، يعانون وجعاً قاسياً ، يصرخون بأصوات مدوية ، وإذا " بزار " ينطلق من أحد الجوانب ، ونساء فرطن شعورهن ، تتدحرجن على تراب ناعم ، تتلوين ممغوصات ، تحرك مبهوراً في الظلام، كان يتحسس خطاه ، رأى رجالاً أنيقين مطربشين يأكلون ما لذ وطاب ، من حولهم شجر من فاكهة وأعناب ، يمسك أحدهم كرباجاً ، يطيح بجسد كائن ممزق الثياب .

    يتحرك كمعتوه دائراً ، شهد أربعة رجال يطرحون امرأة على الأرض ، كانوا أكثر شبهاً بالمخبرين ، اثنان يجذبان الذراعين ، واثنان يفسحان الساقين ، ورجل ضخم يفترس المرأة ، وهي تصرخ ، الناس من بعيد ينظرون .. يتفرجون ، الجنود من خلفهم يطحنون عظامهم ضرباً ، أقعى على الأرض ، يبكي مصعوقاً ، بالقرب منه كان بائع " هيروين " ، وشبان هزيلو الأبدان ، يتشممون ، بعضهم كان يبكي ، والبعض يأخذ حصته ؛ زحف على ركبتيه ، زحف ، رأى جموعاً غفيرة تخرج من فتحات المقابر،وكل معه عظمة، يلتهمها بشراسة ، كانوا مهلهلي الثياب ، هاهي ذي عربة مسرعة ، تركبها امرأة جميلة كغواية ، هاهي ذي سكرى ، تمضي بسرعة ، تلقى بكتل من أوراق الدولارات بهستيريا، تدوس أجساد الجموع التي كانت ما تزال تأكل عظام الموتى .

    هنا جرى .. جرى مذعوراً ، العالم الغريب يزحف نحو المدينة النائمة .

    يجري .. يركض منسحقاً ، ينادي على " الزغبي " ، يبحث عن برهان ، هل مازال في مقبرته ؟ .. أم غادرها ، ينادي على" حسن " ، ليس من صوت ، هاهو ذا خليفة التربي ، يحوم في المقابر محدودب الظهر،الأضواء كما هي قوية ..شديدة الوهج تمتد ، تغرق المدينة . صاح ثانية ، بكى بشدة متربعاً تحت جذع النخلة الوحيدة ، كل شيء هنا غير متكرر ، إلا الأموات ، حتى الأموات مختلفون ! ساقه تئز ،كأن تياراً كهربياً يسري فيها ، أصبحت ثقيلة .. ثقيلة ، الألم ديدان تزحف فيها بكاملها ، تقهقر لاهثاً خلف مارأى، يتمعن الوجوه ، كلها كانت مألوفة ، كلها غريبة ، سرعان ما كذب كل شيء ، أو سارع بتكذيبه ، عزا ما رأى إلى الأشباح التي حتماً تقضي عليه !

    رجع منشغلاً بحالة أمه الغريبة ، كانت أشبه بمجنونة ، كان يرى إشفاق النسوة بها ، في الأسبوع الأول سرق مخلاة كبيرة مكدسة بشتى أنواع القرص والفواكه ، لم يرحم الكفيف الذي راح يلطم على وجهه مطارداً الأولاد الأشقياء ، الذين تجرءوا عليه فجأة ، ولهفوا منه خميسه ، وأكل أولاده ، وبحجر شج رأس أحدهم ، وأنهى حياته نزفاً !

    في الأسبوع الثاني حين سبقت " بدرية " أمه ، غافلها وسحب " السبت " من وراء ظهرها، وهي منكبة تبكي بحرقة عليه ، تمنى لو ضمها صدره وأشبعها لثماً ، وقضى معها ليلة مشابهة لتلك الليلة البديعة الروعة ، كان الغضب يرتسم على وجه أمه ، ثم تخفي وجهها مبتسمة فرحة ، وتعود تحدق في الشواهد القائمة كأنها تبحث عن شيء مجهول !

    بعد العشاء من تلك الليلة كانت " صابحة " تتلصص متوارية داخل المقابر ، متماسكة قوية ، توقفت أمام مقبرته ، دارت حول نفسها ، مرات كثيرة دارت ، كان يرقبها ، كم أشفق عليها ، ثم تركت لفة كبيرة تفوح منها رائحة ذكر بط ، وذهبت .

    داومت على ممارسة هذا الطقس كل مساء ، حاملة أشهى وأطيب الأطعمة ، ما برز لها ، ولا حادثها ، نفسه تضيق .. تضيق، يقرر إنهاء هذا الشتات ، هذا الضياع ، قدمه تؤلمه ، يحسها ثقيلة كالملح ، يمتد ألمها عبر جسده مفتتاً عظامه ، حين رفع عنها الأربطة وجدها حمراء وزرقاء ، زحفت ألوانها بعيداً ، بدأ يفقد شهيته للطعام ، داهم شباناً يغتالون أكفان الموتى عقب الدفن مباشرة ، وآخرين رآهم يزحفون عبر فجوات المقابر ، ثم يخرجون بعد وقت يسير يخرون عرقاً واضمحلالاً دون أن يكون معهم شيء .
    أخر الأمر كان يهاجم شباناً كوحش قاس ، كانوا يرغمون شابة ، يجلدونها حباً ، وهي تبكي وتتوجع ، فروا أمامه ، ارتعبوا من هيئته الزرية ، كان يبدو وحشاً خرافياً غريب التكوين !!

    في نفس هذا الأسبوع الذي قرر فيه الانتهاء دهم"بدرية" ، وهي ما تزال ملثمة الوجه ، قرأ لها آيات من القرآن على روحه هو ، حادثها كثيراً ، حدقت فيه بريبة ، أجفلت .. ابتعدت عنه ، يكاد يكشف لها عن شخصه : " ياابنة الأفاعي أنا هو يا بدرية النور ؟ "

    حين اخترقته عينا أمه زحف مبتعداً ، وهي تدبر أمراً ، لقد ترك الطعام على مدى ليلتين ، لم يقربه ، ليلاً كانت " صابحة " تخوض في المقابر ، قوية كمارد ، تهيم بحثاً عنه .. يلاعبها ، ويقتلها لفاً ، تقعد باكية وهي تردد : " أنا أمك يا وله .. ماتخافشي يا وله .. أنا صابحة يابن الكلـ .. .. يا مسعد ؟ ".
    أول الأمر ظنها " خليفة " معتوهة أتي على عقلها موت ولدها ، فلاحقها،وألح في إبعادها ، بل وتخويفها : " وارد التربة ماعندوش يامه ارحميني يا وليه " ، دفعته بعيداً ، ولم يجد بداً من تركها وشأنها ، بيد أنها عاودت النداء " أنا عارفة إنك هنا .. ياد يا مسعد .. أنا أمك ".




    كان " عواد " كلافاً ، في ضيعة البيومي الكبير ، كان ذلك منذ زمن بعيد .. بعيد ، كان يملك حماراً أعجف ، وبيتاً من الطين وبقرة ضامرة لا حول لها ولا قوة .

    تمر به الأيام والليالي والشهور القمرية ، وهو كما هو ، لا يملك سوى حماره وبقرته الضامرة ، وكسرة خبز وزلعة يتقاسمها مع الدود والمش ، كان كل من حوله يكبر ، يمتلك طيناً ، ومع مرورالأيام أصبح يرى النعمة تتراقص على ملامح الخفراء 00 والباشكاتب ، حتى الصبايا الملاح وغير الملاح كانت وجوههن تبيض وتسمن مثل بنات الحضر ، عندما يجن الليل تحتويهن الغيطان مع عشاقهن ، وكانت " بهانة " تلك المرأة التي رأى ساقيها عرضاً ، وهو يتوارى في غيط الذرة عصر يوم قد شغفته حباً ، هام بها هو الكلاف ، وحين عرض عليها الزواج كانت تسخر منه ، وتزدريه ، في نفس الليلة كانت تختفي مع سلامة - الذي يملك ثلث فدان - في زريبة البهائم
    بكى طويلاً ، توارى بألمه بعيداً ، لو كان يملك مجرد ثلث فدان مثل سلامة لإرتضته " بهانة " وأصبح هو سيدها ، لكنه لا يملك سوى حمار وبقرة ضامرة وعشة من طين ، ووظيفة ورثها أباً عن جد ، أظلمت الدنيا في وجهه ، وانغمس في عمله .

    قرر " عواد " أمراً كان على جانب كبير من الأهمية ، اختفت تماماً تلك الدموع التي كان يذرفها ليل نهار ، حتى"بهانة "التي كانت من قبل تظهر ضيقها به ، ما عادت ترى منه شيئاً ، أهملها تماماً ، وتعمدت مرة بعد أخرى أن تعاكسه كلما مرت أمامه، فمرة يخيب ظنها ، وتبتعد وهي أشد ما تكون زعزعة وشكاً في سحرها عليه ، لم تهدأ - هي المرأة - حتى وقفت على حقيقة الأمر0ليلتها كلفها الأمر القليل من التعري ، والسباحة معه في حجرة المتبن ، وبعض الأوجاع التي جاءت نتيجة الحرمان الطويل الذي عاشه " عواد "..
    وفي الليلة التالية كانت تدنو من الدوار ، وتسر إلى" سلامة " الخفير أمراً .

    وفي الليلة الثالثة دهمه البيومي الكبير ، وهو يسرق أعلاف الماشية ، ساقه بحمله آمراً عماله بسحب " عواد " ، وشده إلى ناف الساقية ، رغم أنه كان نادراً ما يستخدم الساقية في الري ، وقرر بأريحية : " عليه ري فدان كامل من الأرض اليوم "
    وفعلاً تم ذلك على مشهد ومرأى من عمال البيومي ، الذين تفننوا في تنفيذ أمر سيدهم ، إلى حد جعل " عواد " ينعق كشاب أضناه الحب !!

    طرده البيومي شر طردة ، بهدمته التي تستر جسده ، وصادر داره وحمارته وبقرته الضامرة ، وآلت ملكية كل أشيائه للخفير " سلامة ".

    استقر " عواد " في " سمنود " ، حيث تزوج بعد بلوغه الأربعين ، أنجب " أم قاسم " التي قيل عنها بعد خطف أولاد الليل لها ، أنها عندما تقف ملوحة بساعدها تتحرك أكوام السباخ من مكانها ، وتهب الرياح ، وعندما تمشي تموت الأشجار طرباً وعصفاً ، وعندما تنام تسمع لها شخير مدينة متاخمة.

    وبعد عشر سنوات من مولد " أم قاسم " ولد " زهران " ، وفي اليوم الذي وصل فيه الرئيس السادات إلى سدة العرش الجمهوري كان بلغ العشرين من عمره .

    دخل " عواد " سمنود ليلاً ، شاف أياما وليالي سوداً للغاية ، انتهت بمجرد قبوله نفراً في الداخلية ، على يد أحد أقرباء مصطفى النحاس باشا ، وعندما سمع بموت " البيومي " كان يرقص طرباً ، ويقطع السكة لهثاً إلى المحلة ، وقد اتسعت عيناه بشكل مرعب ، وبينما كانوا يندفعون بجثة البيومي إلى مثواها الأخير ،كان " عواد " يسلك الطريق المظلمة سعياً إلى الإسطبل ، هناك عثر على أموال ومجوهرات طائلة ، سبق ورأى البيومي يخبئها ذات ليلة ، ويبدو أنه عاش بهذه العادة حتى مات .

    بين يوم وليلة كان " عواد "يقرر نهائياً العودة إلى مسقط رأسه ، ينهي هذا الغياب المفروض عليه ، وبمجرد استقراره راح يغري بعض الغجر للبيع له ، وفعلاً أفلح في التخلص من بعضهم ، ظل لسنوات يحاول ويناور مع الباقين ، ولم يكتب له النجاح ، بينما ظلت سخرية الناس بالشب الذي جر الساقية ، وطرد بفانلته الداخلية وسرواله !!

    أخفى " عواد " الأموال عن ولديه ، وقسا على نفسه قسوة بالغ في رسم حدودها ، ودفع بـ " زهران " ابن ثماني سنوات إلى العمل في مصانع البلدة وورشها ، أخيراً ألحقه بشركة الغزل ، كانت دروسه القاسية هي القاسم المشترك بينه وبين ولده " الناس كلهم وحوش .. حوش، يخافوا ومايختشوش ، زمارة تلمهم
    وعصاية تفرقهم ، حب نفسك وبس ، إوعى تقول ناس ، ولا حد "

    مات الرجل محملاً بلعنات الإبن ، واستهزاء الناس، تاركاً أمواله ومجوهراته في مكان سري ، لم يطلع أحداً عليه ، لكنه والحق يقال .. والجميع يشهد بذلك رفض رفضاً قاطعاً طلب أحد أولاد الليل من الهجامين وتجار المخدرات بالزواج من" أم قاسم "وعد هذا تعدياً عليه وعلى عائلته ، فشن عليهم حرباً ، ودفع المأمور بين وقت وآخر إلى تجريد الحملات ومهاجمة أوكارهم ، والنيل منهم !
    عاش " زهران " لنفسه وحيداً .. بائساً ، يصب لعناته على العسكري " عواد " ، نسي تماماً أمر أخته " أم قاسم " ، التي فاتها خطابها ، بسبب ارتباط عواد بالبوليس ،وتشنيع أولاد الليل بها ، الذي استمر حتى تمكنوا في غفلة من "زهران " من خطفها ؛ انتقاماً من الرجل الفاني،وزهران يرتعد خوفا وهلعاً،رغم التفاف أهل الحارة من حوله،وإصرارهم على تخليصها مهما كلفهم الأمر،وفعلاً انطلقوا وزهران بينهم ، ، وحين دوت فوق رؤوسهم الطلقات كان يختبئ ويتحين الفرصة للهرب !!
    بعدها لم يعرف " زهران " سوى التباكي والجري إلى أقسام البوليس ، يعرض عليهم خدماته ، دون تكليف ، رغم سعيهم إلى تجنيد الكثيرين ما وجدوا سبيلاً ، رحبوا به تماماً ، عاملوه بصراحة باهظة،أصبح في فترة وجيزة أكبر وأخطر مرشدي البلدة المعروفين .

    حين كان يخبئ عشر أوقيات أفيون ، عثر مصادفة على أموال أبيه ، بجوارها بعض العقود الابتدائية للدوار الذي كان يسكنه أبوه ، وعقوداً أخرى محررة دون إمضاء كانت بعدد الدور التي يعشش فيها الغجر والعرب النور ، كما عثر على المجوهرات !!

    لم تطل فرحته كثيراً ، اكتشف مدى الخديعة التي فرضها عليه أبوه ، كانت العملة لا قيمة لها ، حرمت الحكومة التعامل بها منذ سنوات ، وبعد طول معاناة ، انتقى من بينها قطعاً ذهبية ، ونجح بمشقة في بيعها لأحد التجار الذي حولها إلى مصوغات ، كما باع المجوهرات كلها .

    اتسع نشاطه ، وكثرت رحلاته التي لا يعرف بطبيعتها أحد ، يذهب هناك بعيداً ، في قلب الصحراء ، ويعود محملاً ببضاعته، من خلفه تدوي بعض طلقات طائشة لحرس الحدود .

    تغيرت حاله تماماً ، بدا تياها ندياً ، يتحرك دون وجل ، ينفق بلا حساب ، يلبس أحلى وأبهى الثياب ، فارق قمقمه الذي خزنه فيه " عواد " ، يتجر بكل شيء في حرية تامة ، مع إعطاء عمله كل الحق ، دائماً ما كان في قسم البوليس ، يبلغ ويدس الدسائس لمن لا يروق له ، ولا يروق لسادة القسم ، وكانت عرباته في خدمة تجريدات الحكومة .

    الغريب أنه لم يتعمد أبداً الإساءة لـ " مسعد " رفيق الطفولة صراحة إلا حين وقعت عيناه على " بدرية " ، أحس لأول مرة في حياته بالحب يغزو قلبه ، فصمم على نيلها ،مهما كلفه الأمر، ولم يستطع التحكم في مشاعره ، فاقتحم عليها الدار طالباً يدها وسط ذهول أهلها ، وانسحاقهم ، ولولا خوفهم من قوم "مسعد " لما ردوه هكذا ، وقفاه يقمر عيشاً، صارخين في وجهه : " دي مخطوبة .. ماعندناش بنات للجواز "
    كان لرفض هذه العائلة الفقيرة طلبه معنى واحد ، أن أهل هذه البلدة التعيسة يتآمرون عليه ، ولابد من تأديبهم واحداً وراء الآخر وأنهم يحقرونه ، ويبخسونه حقه ، فقرر نيل " بدرية " رغماً عن أهلها جميعاً ، ولو أدى الأمر إلى الإطاحة بـ " مسعد "، الذي دأب على اقتفاء أثرها كل ليلة ، والانزواء بها كلما لاحت له الفرصة ، ولابد من جعل " بدرية " تبكي دماً لكونها تجاسرت ورفضته هو " زهران " .

    من فوره عمل على التنكيل بـ " مسعد " ، وعد خطواته ، واتهامه بأشياء لا حصر لها ، سعى خلفه بشكل فاضح حتى وهو في أصعب الظروف ، مما جعل الأمر يبدو وكأنها عداوة شخصية لفتت نظر المسئولين ، الذين كانوا على أتم استعداد لخدمة رجلهم لولا شخصية " مسعد " المتمردة ، والأوامر الصريحة من جهات عليا بعدم إثارته والبعد عنه .

    رغم هذا كان أول ضحاياه " مسعد " ، وثانيهما "شربات " التي حولتها المحاولات المنهكة والفاشلة سعياً وراء " مسعد " إلى أنثى متهتكة ، بعد أن صعب عليها اختراقه ، وظلت تكن له حباً خالصاً ، وتتمنى بصدق أن يكون من نصيبها .

    يوم سمع " زهران " صرخات " بدرية " تتردد من النافذة وهي تحاول إثناء " مسعد " عن عزمه ، كان في المقهى المواجهة للدار ، جرى صاعداً ، اقتحم شقة " مسعد " بلا مشقة ، رجته " بدرية " أن يمنعه ، ويغلق عليه الطريق0 لم يبذل قدراً ولو ضئيلاً ، واندفع " مسعد " إلى مصيره ، بينما كان يراقب ما يحدث ، إلى جوارها في النافذة ، ويبذل مجهوداً خارقاً لمنعها من إلقاء نفسها ، وحين رأت الدماء تتفجر من جسد " الزغبي " ، أغمى عليها ، فحملها بين يديه ، وساعة مرق من باب الشقة بعد هروب " مسعد " كان يزداد إصراراً على نيلها ، وإلحاقها بداره ، لتكون له وحده .
    هاهو يعود لأوراق العسكري " عواد " ، يخرج العقود المسودة بأسماء بعضها اختطفه الموت ، ومازال الآخرون يتوالدون ويتناسلون ، نفض عنها التراب ، في رأسه تتأسس مدناً وبيوتاً شاهقة ليس لها شبيه ، سوف يجعل أعتابها تقوم على قفف من القروش والملاليم المعدنية ، لابد أن يصبح حلم العسكري "عواد " حقيقة ، يصبح له أبعديات ،كل واحدة منها أكبر من تلك التي كانت للبيومي الكبير قبل الثورة ، راح يغري رجال "المضارب " مرة ، ويتهددهم ، ، أحنى له البعض شوكته ، ونال ثمناً زهيداً ، كما أصر الأكثر تماسكاً على البقاء ، فلم يزده ذلك إلا تشبثاً بما قرر ، دائماً ما كان يأتي بالبنائين ليلاً ، فيقيمون المباني ، يحولون هذا الخراب من العشش إلى حوزة " زهران " بين عويل وبكاء البعض ، ومن دواوين الحكومة استصدر عقوداً وهمية ، وإذناً بالتمكين بالقوة الجبرية ، وانتظر على مضض اللحظة المناسبة .

    كانت هذه الأفعال قمينة بإثارة أولي الأمر عليه،استشعرت الحكومة خطراً من جانبه ، أصبح محاطاً برجال أشداء ، كما أنه كان السبب الأول في ظهور ما يسمى بالسيوف في هذه المدينة ، فحاولت القضاء عليه ، بعد أن جهزت من بين رجاله رجلاً آخر ، لكنها رأت أن تترك له الحبل على الغارب ؛ فالوقت لم يحن بعد لظهور شخصية في مثل ذكاء " زهران "، وتركته يحفر قبره بيده !!



    حين كانت " صابحة " تنزع الأساور الذهبية والمشاء لله عن ساعديها وجيدها ، كان الطبيب العجوز ينهي عملية بتر الساق التي أصابها العطب تماماً، وباتت تشكل خطراً داهماً على الجسد كله .

    دفعت " صابحة " بهذه الأشياء إلى كبير " المضارب " قائلة له : " عايزه له خمسين راس يا شيخ زايد " بينما " مسعد " أسير غيبوبة طويلة ، العرق يغسل جسده محموماً ، وهي تنزوي بعيداً ، تطالعه بدموع حارة ، تمور في رأسها أشياء عجيبة ، غير مصدقة أن النائم أمامها الآن هو فلذة كبدها ، من خرجت به من زواج استنزف عمرها : " ما الذي تعنيه ساق ؟ لا شيء .. حسبي أنه بخير ، لقد مكنني الله من إنقاذه في اللحظة المناسبة ، هاهو يتنفس أمامي .. يتنفس بملء رئتيه ، وصدره يضيق ويصفر ، وقلبي عليه ينخلع .. وينزف "، تهرع إليه ،تحط بجانبه ، تلتصق به، تزيل عن وجهه العرق ، تسبح في ملامح وجهه التي تلاعبت بها أنامل الرجل الخبيرة ، ندبة في خده الأيسر ، قطع في الأذن ، شق في الذقن ،هكذا فعل بابنها ، أصبح كائناً آخر ، هو ولدها ، من يتحرك داخلها ، من له الحب والحنان والعطف والحياة ، وعلى أعدائه الكراهية والبغض والموت .

    كان لابد من فعل كل هذه الأشياء الفظيعة ، نعم ، فكرت في كل ذلك بقوة وحسم ،لم تتردد مثقال ذرة،كان قلبها ينزف ، هاهو قرطه يتدلى من أذنه بلون الفضة .

    ليتها ابتعدت به إلى هنا أول الأمر ، لكنها لم تكن تريد له حياة الغجر ، ولا عيشهم ، لم تكن .. ولم يكن " عبد العزيز " يحلم بذلك ، كانت تريده مثل أبيه ، ينعم بحريتهم ، ويسلك الحياة متمتعاً بكافة الحقوق ، يكون له اسم في دوائر الحكومة ، في مدارسها ، وشهادة ميلاد ، ليس مثل قومها بلا أسماء يعيشون ، بلا أسماء يذهبون 0

    حين حثت أحد الجيران بالجري مع " بدرية " إلى المستشفى الأميري لإيقاف النزيف ، الذي كان شديداً ، كانت تدنو من ابنها المقتول .. القوم يحيطونه ، ويبكونه : " يا عيني على شبابك يا مسعد "شقت طريقها مندفعة مولولة ، بين محاولات القوم لقطع الطريق عليها ، حدقت في وجهه ، طويلاً تندب ، خامرتها الشكوك حول المقتول غيلة ، لم يكن في وجهه جزء لم تتلاعب به الطلقات ، مدمر الملامح ، حطت منهارة بجانبه ، تلطم بحرقة ، وتصرخ ، تمرر كفها على ثيابه ، هنا أدركت أن المقتول ليس ولدها " مسعد " كما تصورت . توقفت لبرهة مذهولة ، طالعت نظرات القوم ، عاودت البكاء صارخة نادبة بصدق عجيب ، بينما يحاولون قلقلة جسدها ،ودفعها على الابتعاد لمباشرة الإجراءات ، وحين واجهوها : " دا ابنك يا وليه؟ "
    ولولت ولم ترد ، تابعوا سؤالها بإصرار : "ردي يا وليه ؟ ابنك دا ولاّ لأ ؟ "
    طأطأت رأسها باكية : " أيوه يا سعت البيه "

    أخفت الأمر عن " بدرية " ، لم تخطيء مرة واحدة أمامها ، وحين كانت تضع الحب والماء للطيور صباح الجريمة ، لم يعد عندها شك ، أن القتيل لم يكن ابنها فقط ، بل شمت دم القتيل في الصورة التي تتصدر البطاقة الشخصية التي التقطتها من عشة الدجاج : " يا قلب أمك يا خويا " وعلى الفور هاجمها إحساس عجيب ، أسرعت صوب أشياء " مسعد " ، قلبتها رأساً على عقب ، أفرغت محتوياتها ، كانت تبحث عن شيء بعينه ، نعم التقطت حقيبة صغيرة سبق وقلب محتوياتها رجال البوليس ، وسألوها عن أصحابه ومعارفه واحداً واحد ، كان الكثير من الصور بلا أسماء ، لم تستطع التعرف على البعض ، مما أحنق عليها رجال البوليس ، وساقوها أمامهم حيث قضت يومين في تخشيبة القسم .

    هاهي ذي تعثر على بغيتها أخيراً ، نفس الملامح .. الوجه البريء الوسيم ، خلفها كانت بعض الكلمات بالحبر الأزرق ، لم تقرأ منها حرفاً ، نبشت ثانية ، جمعت كل الصور التي لم تتعرف على أصحابها ، بعد لأي جمعت كل الصور كافة ، حملتها ، اندفعت بها خارج الحجرة .
    في المطبخ كانت تشعل فيها النار ، تتخلص من رمادها 0 كل هذا و " بدرية " بعيدة هناك في المستشفى ، أجهدت تماماً فحطت في مكان قصي ، تبكي ، في رأسها دوامة من الأفكار : أين ذهب ؟ وإلى متى ؟ ومن هذا الغريب ؟ كيف كانت صورة البطاقة هي نفس الصورة التي وجدتها في أشياء ولدها ؟ كيف لم تعرفه ؟ هي التي تعرف كل أصدقائه ورفقائه واحداً واحد ، تعرفهم .. وتعرف أصولهم وملامحهم ، ازداد الأمر غموضاً في رأسها ، لكنها عادت تتذكر عدد المرات التي أرغمت على حرق أشياء تخص ولدها ورفاقه ، عدد المرات التي هاجمتهم فيها قوات البوليس ليلاً ونهاراً ، وعدد المرات الفاشلة التي حاولت فيها التحايل على الجنود ، وكم اللكمات التي صدعت رأسها ، والبكاء المنفرد وحيدة مع خياله الجميل وهو يردد : " إيه قيمة إني أعيش زي البغل ومن غير كرامة .. من غير تمن يامه ، عمرنا بينسرق مننا كل لحظة ، نعد السنين ونقول إمتى تكون نهاية العمر 00وربنا ماقالشى كده 00ربنا00"

    كان القتيل قريب الشبه بـ " مسعد ، له وجهه الجميل ، عيناه الزائغتان ، اللتان تطفحان نقمة وحباً لهذا العالم بأسره :" اللي غايظني يامه الظلم المكشوف ، عيني عينك .. والافترى . إحنا عايشين في الهم ليل نهار ، وغيرنا مطمن على بكره بتاعه " تعيد تفحص الملامح مرة بعد أخرى ، كأنها لم تعد تعرف : " هل صحيح هذا القتيل ليس ولدها مسعد ؟ "

    غرقت في ممارسة الطقوس المتبعة في مثل هذه الظروف ، هذه المرة كانت تبكي بصدق ، تبكي تشتت ولدها ، كما بكت الضحية التي لم تعرف عنها سوى الملامح ، ثم راحت تولي اهتمامها بـ " بدرية " تلك التي مزقت وجهها حباً ، ولولا التماسك الذي أبدته " صابحة " والصدفة العجيبة التي ألقت بمدير المستشفى الأميري في طريقها ، ساعة دخولها؛ ليرى حجم الألام التي كانت تخوضها ، والجمال الفائق الذي كانت تتمتع به"بدريه" لم كتب لهذه الجروح الشفاء وبهذه السرعة ، فعلى الفور تم لها نقل دم على وجه السرعة وإيقاف النزيف ، وبنفس السرعة في الأداء دون أن تتكلف " بدرية " ثمن محقن واحد !

    في ظهيرة اليوم التالي غادرت " بدرية " المستشفى ، منهارة تجرجر قدميها يأساً ، ليست لديها أية رغبة ، ولولا تشجيع " صابحة " لها لانتهت : " عايزه أشوف ابن الغالي يا غالية .. والنبي ما تحرميني أشوف خلفه " . فانتبهت "بدرية " ، مررت كفها على بطنها دون إرادة ، وهي تردد : " كله في علم ربنا يامه " وكانت معها في المقابر في الخميس الأول .

    تصنع " صابحة " الرحمة بالسمن البلدي والدقيق الأبيض ،وتجلب له أحلى وأغلى فاكهة .

    في الخميس الذي سرق فيه " السبت " من " بدرية " ، تأكدت أن روحه تنادي " بدرية " ، وأنه هنا يحوم حول مقبرته ، كانت مشوقة لرؤيته سليماً لم يمسه شيء ، لكنها فشلت ، رغم سعيها في الليل واضعة كميات من الغذاء في طرف طرحتها ، تكفي فيلاً ، فيها من الزفر والمقدد والمشمر والمحمر ما فيها ، تضعه على مقبرته ، وتنسحب بعد أن تفشل في استنطاقه واستدراجه ، تنسحب باكية بعد أن هيأت نفسها للقائه ،دون جدوى تذهب محاولاتها،و " بدرية " ما تبقى من أثر لجراحها ، تتأوه في كبد

    كانت " صابحة " رغم جسارة قلبها نواحة بكاءة ، وما زاد من ألمها حالة " بدرية " المحزنة ، وانكبابها على أحزان قاتمة ، هي من حاولت تشويه ملامحها إيثاراً لهذا الرجل"مسعد " الذي تكن له ما يفوق تصور " صابحة " ، كم أنهكها الضعف والشفقة ، وأصرت " صابحة " على فض ما عندها وكشف المستور ، وتنحية هذه الآلام والعذابات التي تعيشها هذه الزوجة الفتية ، لكنها دائماً ما كانت تتراجع خائفة ، بزلقة لسان تحرم من ولدها إلى الأبد ، فلتنتظر قليلاً ، قد تأتي الرياح بما تشتهي .

    تمر الأيام ، تمر وتترى ، والرياح معاكسة حرون ، و "بدرية " تقتلها ليل نهار،وعندما قرر أهلوها حملها على ترك بيته أبت، رفضت رفضاً قاطعاً ، بينما توميء إلى بطنها : " دا ابن مسعد..أوديه فين ؟ لازم يشوف الدنيا في بيت أبوه ".

    كان " زهران " قد سارع لأكثر من مرة إلى بيت أبيها ، راح يغدق عليهم ذات الشمال وذات اليمين ، وهو أشد ما يكون إصراراً على نيلها ، وضمها إلى حظيرة حريمه .

    تموت " صابحة " ألماً ، تنهكها تباريح الضمير ، لكنها ظلت على كتمانها ،تمني نفسها بقرب اليوم الذي تستطيع فيه كشف الأمرلها ، خاصة بعد أن وصلتها أخبار زيارات"زهران"لذويها،وطلب يدهاقبل أن تنقضى شهور العدة، حتى أختهاأم شربات و" شربات " دمرهما الحزن عليه ، أصبحتا أقرب من ذي قبل ، أكثر رقة ورحمة ، وندمتا على ما جنت يداهما ، كانتا تدركان إلى أي حد تحب " صابحة " ولدها الوحيد ، لكنهما أبديتا أسفاً شديداً لمقتل " الزغبي " الذي كان بإمكانه حل عقدة "شربات " ، التي لم تفلح معها " الزارات " وحلقات النساء والزحف خلف المشعوذين ، وربطها بأحد الأثرياء في المدينة بعد الوعود الكاذبة والطويلة التي قطعها " زهران " على نفسه أكثر من مرة عقب انتهاكها والتغرير بها وإفساد حياتها ؛فـ "شربات "جميلة كملكة ، وامرأة فراش مدربة ، تستحق أحسن ما أنجبت البطون من رجال ، المفاجأة التي هزت " صابحة " هذا العته الذي بدا على ملامح " شربات " ، وتجلى في عينيها الجاحظتين ، فشاب حنقها عليها وعلى أختها بعض الفتور ، وتأكدت من لوعة البنت على فراق " مسعد " وأن الأمور في البلدة لن تمر على خير !!

    بعد أيام قليلة فاجأتها " بدرية " حانية " إبنكم عمال يرفس .. عايز يشوف حالنا المايل يامه " ثم أجهشت .

    صممت " صابحة " على إنهاء الأمر رحمة بهذه الشابة التي تذبل زهرة شبابها يوماً بعد يوم ، دون أن تفعل شيئاً : " ألا قوليلي يا بدرية ؟ ".. بعد تردد قالت " لو مسعد عايش معانا دلوقتي تعملي إيه ؟ "أرخت " بدرية " وجهها في انكسار "اعمل إيه يامه ؟ حاعمل ايه ؟ " وعادت لبكائها " يا بت يا بدرية بلاش عياط عشان اللي في بطنك "

    قامت مربتة على كتفها ، تضمها إلى صدرها في حنان فائق ،نسيت تماماً أو تناست إصرارها على فضح الأمر ، لكنها في الصباح كانت تغزو بها " المضارب " وترغمها على السفور فبدا وجهها جميلاً رائقاً يشوبه قلق وشحوب ، كانت تريد له رؤيتها ، بعد إلحاحه الباكي ، جذبت " صابحة " لثامها على مشارف المضارب ، نحته جانباً ، كان أمامها هذا الرجل الأعرج : حسن أبو اليزيد منصور ، راعي الغنم الذي يلبس الخيش .

    حدقت في وجهه وهيكله في استغراب واضح ، ظلت لدقيقة تعيد النظر لغير ما سبب ، إلا إصراره على قطع الطريق عليهما ، دون كلمة ، وهي تخلفه وراءها ، كانت تسترق النظر وتفكر ، ثم أبعدت أية أفكار كانت تخامرها في هذا الوقت ، لقد شدتها فحولته ، إصراره على متابعتهما ، انتصاب قامته،حجم الجروح التشوهات في وجهه ، وشيء غامض اقترن برائحة لم تستطع سبر أغوارها .

    كان " مسعد " يتذكر تلك الدمية التي تعثر بها ، ذات ليلة في المقابر ، نعم ، كانت حقيقة ، وكانت مفاجأة مذهلة أن يشهد " أم قاسم " بكل هذا التهرؤ وهذه الآلام ،لقد رجته أن يلمها بين أحضانه ، يضغطها بين ضلوعه أكثر وأكثر ، ونامت .. نامت على صدره ، لكم بكى .. بكى هذه البنية ، بكى كل شيء كان جميلاً فيها ، كانت أنفاسها ما تزال تتردد داخل شعاب صدره ، وصوت أنفاسها واهناً ، هي التي كانت ترعد مدينة بأكملها ، لم يعد لأنفاسها دوي الريح وعصفها ، نعم انتهت وألقى بها أولاد الليل كخرقة بالية لا حول لها ولا قوة ، راح يبحث عنها في اليوم التالي كأنه يبحث عن إبرة في مدينة الموتى ، فما وقف لها على أثر كان يريدها .. يريد أن يبثها بعضاً من آلامه ، وينال بعضاً من حيويتها القديمة ، لكنها سارعت .. وانفلتت ، ترى على أية طريق ينتهي أجلها ؟ وأية كرامة تلك التي يتمتع بها أخوها ؟

    آهة خرجت من صدره كنار موقد .. بهتت هذه المقابلة ، شاخ به الزمن ، فهاهي بدرية بشحمها ولحمها ، من كان يذوب فرقاً لرؤيتها ، هاهي أمامه إنسانة أخرى ، مجهولة له ، وهاهو خامد كشيخ هرم .



    مضت شهور طويلة دون أن يتمكن من كشف حقيقة الأمر أبداً كم نظرت إليه نظرات مستطلعة ، كان يشوبها الخوف والقلق وشيء لم يستطع سبره ، سرعان ما تدير وجهها بعيداً ، دون لأي أو هاجس .

    كأن ما يجذبها إليه حجم التشوهات التي لعبت بوجهه أول الأمر ، من عادة الرؤية ، اعتياد إنساني لا يشي بشيء غير عادي

    هاهي ذي يأتيها المخاض ، هنا في مضارب الغجر ، في أطراف بلدة ناعسة ، يرتع فيها المخبرون وتاجرو الحشيش ، وحاملو السيوف وركائز الخيام ، على فراش وضيع سوف تلقي بولدها - ولده - كانت تزعق ..تزعق في قوة ، تستنجد بأولياء الله .. بـ " مسعد " الفاني ، وهو حي بجانبها يتوجع ويتلوى ، يحوم حولها كنحلة ، مشتعل القلب والأعصاب ، ثم يسترخي ، ينهض متشنجاً ، بينما تكون غريقة عرق ساخن وغزير ، تنادي عليه : " مسعد .. يا مسعد ابنك .. يا مسعد ، ابننا يا مسعد .. أنا حسه بيك جانبي .. نفسك مالي عليه المكان .. أنت فين انطق؟ وحين نطق الأعرج أنكرته ، وطوحت بوجهها بعيداً !!


    أقبل ولده ، تلقفه بين يديه فرحاً ، ثم جرى خارجاً ، غمسه في الماء كثيراً ، ضربه على مؤخرته برفق وأمه تتابعه عن كثب ، تضحك من جنونه وشغفه ، تكاد دموعها تخونها ، والطفل يصرخ .. يصرخ ، وشمه بين رفض " صابحة " : " حايفضل هنا .. هنا بين أهله وناسه .. يامه هنا أسهل ، هنا مفيش إلا العرف .. هناك حاجات تانية .. ، ريس على ريس ، وعبيد بتحارب عبيد ، هنا مايجوعشي .. هناك يجوع ويتعرى ، ويموت يوم ما يرفع رأسه ويطلب حقه "

    الشيء الغريب الذي لم يسترع انتباه " مسعد " وأمه هو خفوت أنفاس المولود ، وعدم فطنته لكل ما فعله " مسعد " به ، فما كان الصراخ سوى تخيل وتهيؤ نفسي ، لم يكن حقيقة ، ومع ذلك فاتت هذه على " صابحة " المرأة المحنكة .

    أسماه " الغندور " لغندرته وجماله المذهل ، ولونه الخمري الذي يليق بغجري زعيم ، في زمن انفرطت فيه جماعتهم ، واختلطت ملامحهم ، كما ذابت تلك الفروق الجوهرية بينهم وبين جميع ساكني هذه المدينة ، الكل أصبح سواء ، طبعاً وتطبعاً ؛ فقد جاء زمن كان من الهين أن تفرق بين فلاح وغجري على بعد كيلومترات عدة .

    فتش في ملامحه عن صورته هو ، شكله . علامات طالعتها " صابحة " فيه وهو وليد وجده شبيهاً به ، هكذا قرر ، وهو يحدق متعجباً من حجم البلغم واللعاب المتساقط على رقبته ، والعينان اللتان تشبهان عيني صقر .. والأنف الأشم ، تكوينه البدني ، ما رأى شيئاً ، وعزا ذلك لحداثة مولده ، كما كانت "صابحة " ترى فيه ما تريد هي ، وتنط حاجلة كمهر ، تطوف بالبيوت ، تلقط القطع الفضية ، وتحجل هنا وهناك بفرح حقيقي ، تملأ خرجه . ذهبت لأقصى ما تصورت ، لم تكل حتى حصلت على كميات وفيرة من الفضة ، وضعتها على أعلى مكان من المضارب ، بينما " بدرية " لا ترى فيه أي شبه بأبيه الفاني رغم أنها كانت تستميت فى تذكر ملامحه ، أكثر من مرة فتصاب بفشل . أكان له شارب أم لا ؟ كيف يبدو داخل ملابسه ؟ حجمه ، لون عينيه ، أنفه ، أكان كبيرا أم أفطس ؟ كانت تبكي .. تبكي بحرقة ، وذكرى ليلة مقتله، ليلة شوهت وجهها مائلة أمام عينيها ، وكيف أدركها مسعد ، وانتشل السكين من بين أصابعها ، خمشها لوجهها ثم انفجار الدم ، وتوالي الرصاص بالخارج ، وموته ، كانت تجهد نفسها في فهم ما فعل ، تتصور حجم الغضب والرفض الذي استولى عليها ، لمجرد قوله : " لازم تتجوزي .. لازم " كيف هانت عليها نفسها إلى هذا الحد !!

    باعت " ناعسة " شعرها لأجل رجلها ، ولكن أكانت على استعداد للتفريط في جمالها وتبشيعه ؟ فبعض الجدائل لن تغير شيئاً ، وما جرم " مسعد " ؟ كان يطالبها برقة وحب ألا تطيل من عمر الأحزان ، تنفض عنها سريعاً كل آلامها وإلا هلكت ، وطار " مسعد " بأجنحة ألمه ، وحط ، فصاده الرصاص ، الحزن لن يرجع الطيور إلى السباحة والتجديف ، الحزن موت يا بدرية ، وتسعة أشهر كاملة انقضت من عمرك ، وأنت في جفاف .. جفاف ، تذوبين حناناً لرجل .. لرجل ، تتخيلين ماذا لو كان " مسعد " بجانبك الليلة ، يأخذ ولده على صدره ، يهدهده ، يغمسه في الماء البارد الطاهر والمعطر بالطيب ، يلف به على بيوت الله بيتاً بيتاً ، يرتجي من شيخ القبيلة وشمه وتعميده : " إنه دميم .. دميم ليس فبه أي جمال ، ليتني تخلصت منه ، لكنه ابن مسعد " كان غريباً أن تكن له هذا القدر من الكراهية !

    هاجمتها تلك الصورة السرمدية البشعة ، كانت دائماً ما تتراءى لها ، وتغلق عليها كل منافذ السباحة ، كلما حنت لـ " مسعد " شخص ما كانت لا ترى له ملامح ، يهاجمها وهي مستسلمة ، تموت نشوة ولذة ، كان في طول " مسعد " الفارع ، يحملها إلى فراشها ينزع عنها ثيابها قطعة قطعة ، وهي لا حول لها ولاقوة ، بلا إرادة تتابع ، يعريها تماماً ، كانت تائهة ضائعة ، رأسها ثقيلة كأنها تحت تأثير مخدر ، وكانت أنفاسها تخنقها ، فتسبح ، تسبح في عالم غريب ، وحين اشتد الألم كانت تجاهد للتخلص من قبضته ، أحكم وثاقها ، تخمش وجهه بأظافر حادة ، أذاب كل مقاومتها ، توهجت نارها ، توهجت كل ليالي الحرمان والوجع الفتاك ، وانبثقت روح شبقة ، ثم يخلفها هذا الشبح وحيدة بين اليقظة والمنام ، ما تبقى منه سوى بعض قطرات من الدم المتخثر وقطع ضئيلة من اللحم بين أظافرها . كثيراً ما هاجمتها هذه الواقعة الغريبة ، فتحاول تذكر كل شيء ، تتوه في بئر سحيقة ، وتعاود ابتعاثها ، تدقق في ملامح الشبح ، وحجم انفعالاتها " هل كان مسعد ؟ أم وهم الحنين إلى أحضانه ؟ لا تعرف .. ليتها تعرف ! "

    يوم أتى أهلها لإخبارها بنوايا "زهران "،وإلحاحه في طلب يدها ، لم تعد تحس كراهية لهذا الرجل مثلما كانت ، إنه دائماً مايعاود طلب ودها ، حتى بعد زواجها .تربص بها أكثر من مرة خارج المضارب ، سرعان ما كان يبتعد ، ويتجنب نظرات هذا الأعرج الذي يجعلها نصب عينيه ، يتجنب الشجار ، كانت تلاحظه يعد عليها أنفاسها ، إنها أشد ما تكون حناناً إلى " مسعد " ، كانت تظن أنه وبمجرد نزول ولده إلى الحياة سوف يتحول كل هذا الحنين إلى الصغير ، ولكن الحال كان غير ذلك تماماً .
    كانت متشككة من كل شيء أمامها ، حتى هذا الأعرج الذي لا يفارق حجرتها ، هاهو ذا في زاوية ينتصب كقدر ، لا يفارقها لحظة ، ماله بها ؟ ليس من بقية أهلها ، إنه محض غجري أعرج فقد ساقه في مغامرة غرامية كما أخبرتها " صابحة "، تتعطف عليه هي وحماتها 0 كان أمامها " مسعد " يطعن الزغبي ، ويفر هارباً ، يلاحقه الزغبي ، وزهران إلى جوارها ، يجذبها محاولاً منعها .. وإبعادها عن النافذة التي كانت على وشك السقوط منها ، تستأسد وهي تصرخ ، تستنجد بالناس أن يمنعوا " مسعد " ، ثم تغيب عن وعيها،غير أنها كانت تحس بـ " مسعد "يؤنسها ..ويدفيء فراشها .

    اقتحمت عليها " صابحة " الحجرة ، بشت في وجهها متهللة ، تضاءلت أشباحها مبتعدة ، حتى أصبحت عبارة عن نقطة بعيدة .. بعيدة ، ثم اختفت تماماً .

    حملت " صابحة " حفيدها فرحة ، أخفته في ملاءتها ، اندفعت كسهم مقذوف خارجة ، تضرب له الودع ، وتقرأ له طالعه ، ترصد النجوم ، وعرفت نجمه و مساره ، وطالعه ، وعادت تنكفئ ، وقد نال منها الإعياء حزينة مقهورة ، تحدق في وجه الغندور في ذهول مجنون .

    كانت ترى فيه قبحاً ما تصورته . أهالت على وجهها التراب فزعة ، تبكي رجلها الذي ترك ميراثاً ثقيلاً ، بكت طويلاً .. طويلاً ، حومت عبر البلدة ليالي كنحلة ضالة ، نطحت الأبواب ، كل السحرة والمشعوذين ، وأهل الفراسة من قومها ، لم تصدق نفسها ، ما صدقتهم مجتمعين ، اتهمتهم بالدجل والخرف ، انقطعت تناجيه هو ، وتهدهده ، تلاعبه بأسى ، وتدفنه في أحضان أمه آخر الأمر .

    مرة أخرى سعت ، مشاوير متكررة عل هؤلاء أخطأوا ، ولا جديد .. لا جديد : " وبعدين .. إيه العمل ؟ "

    مسد لحيته وبعد برهة : " مفيش إلا إن أبوه يرجع شويه عن الناس .. وبلاش من أعماله الخسيسة دية ".
    أرجفها .. أرهقها وما رحمها ، ماذا تفعل ؟ وماذا يفعل أبوه ؟ أبوه يعيش مسكيناً كظل أخطأ صاحبه ، يرعى الأغنام ، يتألم ليل نهار ، أخيراً تردد : " هي اللعنة تلاحق أبناءك يا عبد العزيز "

    كظمت انفعالاتها وزحفت خلف " مسعد " أمسكت بتلابيبه " إيه اللي بتعمله من ورايا يا مسعد ؟ "
    أصابه الخرس ، ثم ازدرد ريقه بطيبة وجفاف : " إيه بس يامه .. كل خير طبعاً " وبصوت من فقد صاحبه القدرة على التحكم في مشاعره : " قولي إيه اللي بتعمله من ورايا ؟ " باستخفاف قال مسعد : " وإيه اللي يقدر يعمله أعرج مشوه يامه غير البكى على اللي راح ؟ "
    أمسكت بخناقه : " قولي يابن الكلب .. قول "

    أفاقت من وحشيتها : " مالك يامه .. حد قالك حاجة ؟ مانت عارفاني يامه زي المرايه " تمالكت نفسها ، عانقته ناشجة ، ولم تذع سر هذا الغضب ، خلفته وهو أشد استغراباً منها .

    هام " مسعد " قاصداً مملكته الأثيرة ، يبحث ثانية عن موتاه عن الزغبي .. وحسن .. وعن أم قاسم ، التي اختفت ، واشتد جزعه عليها ، يقطع المقابر جيئة ذهاباً ولا يقف لها على أثر .

    انقطعت " صابحة " لتربية الغندور ، تشهد لعبه وفرح أبيه فتزوم ، وتقلب ضبتها استغراباً ، تشهد كلفه حين يغيب عن عينيه فتمصمص شفتيها متشككة ، تشقى بما تحمل ، تنتظر اليوم الذي تتحقق فيه النبوءة ، عصراً عند منحنى مرتفع " في الليلة الثامنة بعد أحد عشر ربيعاً "

    شهدت أول علامات ما تنبأت به النجوم أمامها على ملامح الفتى ، في الشهر الثاني لمولده ، فقد ظهرت أسنانه قوية كالماس ،
    عدم ملاحقته لأمه - هو الرضيع - والشعور بغيابها ، وقبل أن ينتهي العام الثالث كان هو الرضيع يتلاعب بفتحات الأغنام كلها ، الأمامية والخلفية ، وفي العام السابع كان يحطم أعناق النعاج ويلقي بها للكلاب ، وفي العام الأخير هدد شيوخ القبيلة وتوعد نساءهم وبناتهم الأبكار ببلاهته وغباوته ، حتى هاجت العشيرة وهاجموه ، وحين وقفوا أمامه ماجرأ أحد منهم على الاقتراب ، واستنكروا فعلهم ، شاعرين بهيبة عجيبة ، فقد رأوا أمامهم فتى سماوي الطلعة كأنه ملك من السماء خانته ذاكرته ، بينما كانت جدته ترى فيه شيطاناً قبيحاً ، وحين كانوا يبتعدون بأدبارهم رويداً .. رويداً ، كانت " صابحة " أكثر دموية وكفراناً بهذا الولد الغريب الذي أخذ كل قوتها رغماً عنها، وبسببه تركت ولدها يقاسي الأمرين بعد رحيل " بدرية " وارتباطها بـ " زهران " فجأة .

    كانت نادراً ما ترى ولدها ، دائماً يهيم في عالم غريب ، يبتعد كثيراً عن المضارب ، و ينقطع لأيام . ساءت أحوال أغنامه كما ساءت صحته ، وكلما سعت خلفه لتقف على حقيقة ما يفعل شدَّها حديث السحرة والدجالين إلى حيث يكون الغندور .. هذا الكائن الغريب الذي لا يستطيع وحده غسل عينيه أو إبعاد اللعاب عن رقبته .


    يتبع
    sigpic

    تعليق

    • ربيع عقب الباب
      مستشار أدبي
      طائر النورس
      • 29-07-2008
      • 25792

      #3

      كان حزن ثقيل يكتوي به قلبها ،رغم فرحتها الأكيدة والغامضة بمولودها الجميل " الغندور " ، تلوعها غصة لا تزول ، كان يعرف مداها ، هاهي ذي بجانبه تتألم ، كم تسنى له خلال فترة ليست بالقصيرة لفت انتباهها كما يتصور ، وكم باءت محاولاته بفشل ذريع ، كل شيء فيها بدا مربكاً ، أحاسيسها .. مشاعرها تجاهه – الأعرج – الذي ما استطاع أخذ مكان " مسعد " حتى الآن ، تراكمت الأحزان ، عقلت كل انفعالاتها فما تمكنت بحكم عشرتها له أن تقف على حقيقته ، وأبداً لم يجعل لليأس عليه سلطاناً وانتظر .

      يباغته شبح الجريمة ، يطارده من دفع حياته بدلاً عنه ، ذكرياته الطويلة عن المصنع والرفاق ، يحن لتلك الأيام الخصبة ، يحس جيداً بأن قدر الرجل دائماً العمل .. الفعل من أجل الأسمى والأجمل ، وأن التجارة وجمع الأموال خدعة نسائية ، ترهل الإنسان ، وتحيله إلى كائن مستوحش وأناني لا يرى غير وجهه في وجوه الناس فهاهو " زهران " حتى وهو يؤدي عملاً خسيساً راض تماماً عن نفسه ، وعندما حلم بالثروة ووضع كل آماله فيها حققها ، لكن هل هو سعيد مثلما كان ؟ تحول إلى كائن بشع .. نهم إلى أي شيء ، واختلطت الأوراق فما فرق بين طيب وخسيس ، نسي رجولته تماماً في حين يصبح حلماً للصغار ، تخافه الناس ، وتسير في ركابه العاهرات وأرباب السوابق ، كم كان يتعجب من سرعة عدو الأيام ، من سرعة تأثيرها على الناس ، تأثيرها عليه هو ، ولده يكتب عليه النفي ، يربى بعيداً عن قومه ، بلا شهادة ميلاد .. بلا اسم ، يعيش في زمن ضائع غريب ، كم تمنى له حياة أجمل ، حلم بدخول المدرسة ، يصبح مثل رفيقه محمود ، الذي تشغى رأسه بالعلوم ، ويتصدى لرئيس القسم .. لمدير الشركة نفسه ، فينشر في سيقانهم الفزع والانبهار . كم كانوا يضيقون من لكشفه ما هم عليه من جهل . يوم قبضوا عليه بتهمة إحراز منشورات .. والدعوة للإضراب ندموا أشد الندم ، اعتبروها غلطة لا تغتفر ، فقد أدخلوه – دون تحقيق – واحداً ، وخرج من السجن بعد ثلاثة أشهر خمسة رجال ، يتحدثون نفس اللغة .. نفس الحديث . كم هددوه .. أحالوا عليه " زهران " ، يراقبه ويقتفي أثره أينما ذهب كظل ، فدوخه على عقله ، وجعله مسخرة إخوانه من المرشدين . اعتقلوا " محمود " مرات عديدة ، وفي آخر الأمر أرغموه على ترك المصنع ، وألحقوه بمصنع وهمي ظل يبحث عنه سنة كاملة .

      كانت ليلته الوحيدة مع " بدرية " ما تفتأ تهف عليه ، تناوشه ، فينتشي ، ويشعر بحجم الكابوس الجاثم على صدره ، يغوص في تواريخه معها ، في بكائه .. وارتمائه على الأرض ، ككلب يبكي ضعفه ، وهي عارية تنتظر رجلها ، مخلصها من نارها المستثارة ، التي أججها ، ولم يعطها حقها لتفتر جذوتها ، ويعتدل مزاجها .

      كانت تتخلص من أسابيع النفاث وتهم مرتدية لونها وبهاءها الأول ، تخطر أمامه كغزالة فتية ، فتدور معها كل أحشائه ، يرشق عصاه أمام أغنامه في مواجهة السماء ، ويتابعها بكلف عن كثب .
      نار تصطلي بداخله ، تفتت انتظاره الطويل ، طالبته"صابحة" بعدم التعجل ، والتحلي بالصبر الجميل ، حتى باخ صبره وتشوه انتظاره ، وهي غافلة عنه ، تديم النظر فيما حولها – الوحيد الذي كان بعيداً عن محيط تفكيرها هو – الأعرج التعس ، وأفلت منه الزمام ، نسي رجاء أمه ، لم يستطع كبح جماح نفسه ، والبعد عن محاصرتها ، وعد أنفاسها ، بل وقطع الطريق عليها ، لم يتركها تمضي إلا بعد رؤيته لنظرة فزع ، انتشرت على وجهها،ومغصت في بطنه .

      متيم بها ، يمضي إلى الصمت .. إلى حيث المقابر تنام في سكون ، يغسل بدموع حارة حرارة قلبه ، تتواصل معه الأشباح ، تدبدب من حوله متراقصة ، وهو بينها أنيساً غير وجل ، يرتاح على جذع شجرة النبق ، يحتضنها بقوة ، يعرج ناحية مقبرته ، يقرأ الفاتحة ، يحادث " مسعد " هو " حسن أبو اليزيد منصور " : " يا حسن .. إنني أكفر عن ذنوب لا تنتهي .. أكفر عن موتك بدلاً عني .. يا مسعد رزقت بالغندور ساعة أراه يشبهني ، ومرة أراه غريباً عني دميماً .. أهبل ومعتوهاً ، أرى الريالة تتساقط على ذقنه فأنكره ، ظهرت له أسنان في شهرين ، فألقت به بدرية ، بدرية لم تعد بدرية ، أصبحت شيئاً آخر لا أعرفه ، ما عادت تلك الحبيبة التي كانت تجري خلفي ، وتتعرف عليّ ، تشم رائحتي ، لم تعد كما هي .. يا حسن أرني وجهك ربما كان شبهك أنت "

      طاف حول المكان زاعقاً : "يا أم قاسم .. أين أنت ؟ اظهري ..أنت من سيجيبني عن كل أسئلتي .. أم قاسم "
      همت الريح وعصفت،فتماسك وانتظر ، تحركت جدران المقابر الواطئة " هاهي ذي قادمة "
      علا صوت " تريد نصيحتي .. ليست امرأتك .. اتركها لحال سبيلها .. اتركها يا وله ، وابحث عمن تستحق "
      كان هيكل ضئيل يتكوم إلى جوار المقبرة ، يتكوم كصرة تصدر عنه تأوهات وآهات ، دنا منه ، مد ساعديه ليحمل الصرة الحية كانت أم قاسم بشحمها ولحمها ، جذبته ، كانت كومة ضئيلة .. ضئيلة ، أية قوة التي جذبته بها ؟ حط على صدرها ، كانت غارقة في دموع غزيرة : " شفت زهران .. شفت زهران سايبني مرمية زي الكلبة .. زهران ابن أمي وأبويا "

      أخيرا سيطر على اهتزاز جسده ، أسكن صوتها قلبه بين جنباته : " زهران .. ماحدش عارف هو عايز إيه ؟ المال وعنده كتير ، البيت عنده تلاتة ، والنسوان حواليه زي الهاموش .ولسه عايز .. "

      ندت عنها آهة : " أيوه .. لكن أبوه كان عنده كرامة ولاّ إيه يا مسعد يابن صابحة ؟ "

      تاه في حديثها الموجع غاص في سنواته الماضية :"زهران لازم قوة توقفه عند حده وإلاّ حايبلع الكل ..أنا أخته الوحيدة سابني لكلاب السكك تنهش في لحمي00 مش لاقيه حته تتاويني "

      يحصي عدد المرات التي أودى به فيها زهران ، بينما كانت أم قاسم تردد بضعف : " أنا جعانه .. جعانه ، أكلني ياد يا مسعد يابن الساحرة "

      بسرعة تراجع .. تراجع زاحفاً ، غادر المقابر فوراً ، بعد قليل كان يخترقها ثانية حاملاً صرة كبيرة ، احتوت على ما استطاعته يداه من زاد .

      داوم على هذا الفعل ولأيام ،بينما " بدرية " تستحوذ على تفكيره ، نفد صبره تماماً ،ما عاد في مقدوره الانتظار ،حاصرها في زاوية حائط ، ضغط على صدرها الضيق المشدود ، طقطقت ضلوعها ، كاد يزهق أنفاسها ، أجفلت منه ، رائحته تنفذ عبر مسامها ، وهي متيقظة لمواجهته ، هذا الرجل الوحيد البشع الذي ما شعرت نحوه بأي ميل .

      في المرة الثالثة والأخيرة غافل القوم ، تسلل إلى حجرتها ، ارتمى فوقها ، يلهبها بأنفاسه وهي ثائرة تركل وتتملص ، يدميها حباً يعريها .

      صمم أن تكون الأخيرة ، أفلح في إذابة جمودها ، لكن حين فاجأها بكشف شخصيته كانت تصرخ ، وتملأ الدنيا ضجيجاً ، وتصر على الانسحاب نهائياً عن " المضارب " بين دهشة الأم وذعر ولدها .

      قررت بعد فشلها في حمل ولدها ، مغادرة المضارب وحيدة سرعان ما عاودت الكرة ، يذيبها حنين ساحق لولدها .

      كان أمرا بالغ القسوة ، فبمجرد همسه في أذنيها : " أنا مسعد يا بدرية " ، تراجعت ذاهبة العقل ، تراجعت .. تراجعت ، جحظت عيناها ، استشاط انفعالها لمدى بعيد ، كرت عليه بأظافر مشهرة ، بأسنانها تنقض عليه ، وهي تصرخ .. تصرخ بهستيريا ، وتندفع خارجة ، وصوتها يدوي في فراغ العالم الغريب .
      تحرك من فزعه ، قذفت به قدماه خارج العشة ، اندفع خلفها ، كانت اختفت بينما ضحكاتها تتناهى إليه بعيدة .. بعيدة .

      لحقت به أمه وهو يطحن رأسه في فلق خشب ضخم ، كست وجهه دماء غزيرة .. ودموع حارة ، كان يلعن الساعة التي قرر فيها كشف حقيقة أمره لها ، كان يكفيه منها النظرة .. القرب ، الحلم الدائم في أن تجمع بينهما الأيام .

      خاض في ملامح " أم قاسم " الهادئة ، القوية ، التي أصبحت ركاماً هزيلاً ، مع ذلك ظلت على هدوئها ، تصر على الحكمة والتأسي ، نالت منها شياطين الأرض واحداً بعد الآخر وهي كما هي ، رزينة هادئة ، أكلتها الوساوس ، والهياكل العظمية ، وهي كما هي ، نحل جسدها البرد ورطوبة المقابر ، وهي كما هي .

      كان عصياً على أمه ، انفلت من بين أصابعها ، لا يعي شيئاً كلما حاول الفهم ، استغلق عليه الأمر ، حين فقد القدرة على التصور جري هلعاً ، من مجهول غير مدرك ، آه ، كان على استعداد لتقبل وحشيتها .. دمامة ما لم تفعله ، وحال بينها وبينه ، لن ينسى رغم ما حدث أنها أرادت تشويه وجهها الجميل لمجرد تفكيره في مستقبلها ، كان يريدها أن تتزوج ، لا تنتظر قتيلاً ، حال بينها وبين القتل العمد ، نعم كان على استعداد .. .. ولكن !

      باهت الصور ، كما تساقطت قطرات الحب متهاوية كأوراق خريفية غير مستقر ، ناحت بصدره بومة الأحزان على العمر الذي ولى ، على الأيام النابضة بالحياة والنضال الشريف مع رفاقه .

      أصبح الأمر بعيد المنال ؛كأن مئات من السنين مرت ، وحالت بينه وبين ما يفكر ، الزغبي .. والبديل المقتول ، أحداث 75 و 77 ، ورحلة العراق ، شربات جمر اللذة المفعمة بالحياة ، زهران وأم قاسم 0

      هتف : " أنت فين يا أم قاسم ؟ " كان داخل المقابر ، يدور مع التواءاتها " أنت فين ؟" طارده " خليفة التربي " مجازفاً ، وهو سادر فى ضبابة أحزانه ، حين اصطدم بها ، ألقى بنفسه في صدرها الضامر ، بكى ، بكى طويلاً : " معذورة يابن المسحورة "
      سهم متوجعاً " إزاي معذورة يا أم قاسم إزاي يا بنت الناس ؟ "
      بمشقة كانت تكشف له ما غمض عليه : " قولي .. لو أنك الساعة دي جاتلك طوفة ، ورحت تلف على زمايلك القدام ، وقلت لهم : أنا فلان .. ابن فلان ، وتأكدوا إنك فلان إبن فلان . قلت لهم : تعالوا نحارب من تاني : نضرب .. ونوزع منشورات .. ونعمل مظاهرات ، نصحي الناس من سكرتهم ، تفتكر حايردوا عليك ، دول حايموتوك ، حايدوسوك بالجزم ، اعذرني ياخويا يا حبيبي "
      زم شفتيه : " الموضوع غير كده يا أم قاسم ، غير كده خالص ، دا موضوع بين راجل وست ، راجل عاشرته ، شمت ريحة عرقه ، اتعرت قدامه ، واتعرى قدامها .. إزاي ؟ "
      ابتسمت في ضعف :" أصلك اتغيرت خالص يا مسعد ياخويا ، وعشان السلامة بعت نفسك للمسخ اللي اسمه حسن ابو اليزيد "

      بات أمر نسيانها من المحال ،كيف تنسى " صابحة " ما تفوهت به ألسنة السحرة والنجوم ، عن الشقى حفيدها الغندور ، هامت دون مستقر ، تحصي الأيام نهاراً .. نهاراً ، وترصد الليالي المقمرة ، وحين زعقت " بدرية " متألمة وهي ترضعه ، ثم بغضب تلقى به جانبا ، تأكدت أن النبوءة في طريقها للتحقق ، وما حدث الليلة كان شاهدها الأول . نبتت أسنان الصغير ، ولم تمض سوى ثلاثة أشهر على ولادته ، من ليلتها حرم عليه ثدي أمه ، وانسحبت بدرية عن المضارب ، تحوطها كراهية صابحة ، وشفقة وعذاب مسعد .. وألقوا بالصغير للنعاج ، ترضعه وترعاه

      عندما اكتملت سنته الثالثة كان قوياً كصبي على وشك البلوغ يسيل من بين شفتيه اللعاب ، يمتد غاسلاً عنقه وأعلى جلبابه ، ضبطته جدته يضاجع النعاج ، ، فى الاسطبل ، يتلاعب بفتحاتها السفلية ، وثغاؤها يخالط ثغاءه ، فشدَّ إلى فلق خشب لثلاثة أيام ، ومنع عنه الطعام ، حتى زحف لاهثاً متأتئاً ، فأكل قلب " صابحة " الخوف عليه ، ومن فورها خلصته ، وحرمت عليه ممارسة عمله كراع للماشية ، بل حملته ودارت به هنا وهناك ، في رحلة علاج لا جدوى منها ، والغندور يشب .. ويكبر بصورة مذهلة ، تظهر عضلاته قوية .. قوية و " الريالة " تنحدر على عنقه وجلبابه ، وكلامه تأتأة لا معنى لها ، وصابحة تحصي الأيام والسنين ، تنحتها رقماً بعد رقم .. صباح مساء ، العمر يتقدم بها، وسرها حبيس روحها ، لا يفارقها ساعة من نهار أو ليل ، لا تذيعه ، تناجي نفسها كمعتوهه ، تداوم على نفس المشوار كل ربيع إلى السحرة وأهل الفراسة ، من الغجر والحضر تذهب " والعمل إيه يا ناس ؟ "
      بنفس اللغة واللهجة " يرجع أبوه عما يفعله في الناس "
      تهرع إلى " مسعد " ، تعقد له محكمة رهيبة ، ولا تصل إلى شيء ، فتتابع خطواته ليل نهار ؛ علها تقف على حقيقة أفعاله المجرمة .. فما وصلت لشيء غير طبيعي يوقف نزيفها الذي وصل إلى حد الموت .

      يمزق صدرها غثيان ، تقتلها وحدة اختارتها بمحض إرادتها ، تتمنى لو شاركها أحد ، تأمل إلى آخر رمق أن يكون ما ساقه السحرة محض كذب وافتراء ، لكن كيف وهذا الولد لا يشابه أحداً في العائلة ؟ فصدت دمه ، كوته بالنار ، ومازال على صمته وبلهه .

      كانت الوحيدة التي تلاحقه كظله ،الوحيدة التي تبكي لأجله ، فقد غرق أبوه في أوجاع نفسه ، ما عاد يرى ، أصبح أكثر ارتباطاً بالمقابر ، يسامر " أم قاسم " ، يبتني معها آمالاً عجيبة ، مضى وقتها ، كان يقسم أن يثأر لها من أولاد الليل ، ويعيدها عزيزة مكرمة إلى الحي ، ما عاد يهتم بأمر بدرية التي أنكرته . أنكرته ، ولم تستطع تقبله على هذا الشكل ، تساءل لأكثر من مرة ، أين هذا الحب ؟ لم يجد جوابًا ، يتذكر ليلته الوحيدة معها ، كيف خرجت من المطبخ تستل سكيناً ،كادت تجدع أنفها ، تشق شفتيها لولا انقضاضه عليها ، لم يعد يصدق شيئاً ، ليته تركها تفعل،لعاشت تعشق التراب الذي يمشي عليه ، ليته تركها ، لكنه ما عاد بقادر على تصديق هذا أيضاً ، راح يتصور أشياء غاية في الغرابة ، إن ما كانت تكنه له هذه الفتاة لم يكن حباً على الإطلاق ، فهل كان شيئاً أجبرت عليه ؟ وممن أجبرت ؟ لا يعرف ، ليته يعرف ليرتاح من جهنم هذه ، كان يختبئ في حجرتها ، هي الفتاة البكر ، ينام على سريرها دون أن يمسها ، كانت سعيدة ، كانت تريد ، علا صوته بقهقهات صاخبة ، ثم أمسك برأسه بين قبضته ، يكاد عقله ينفلت .. حتى أم قاسم لم تستطع مواساته ، كانت تحاول فقط تضميد جروحه .. جروحه النوازف التي لا تمل النزف بينما " بدرية " تسعى خلف " زهران " ، تفرضه على البيت الذي رفضه ، ورغم انصرافه عن هذا الأمر إلا أنه ضمها إلى نسائه .

      في العام السابع لإحصائها الدامي داهمته يقبض على رقبة نعجة عجوز ، يلويها ، يحطم عنقها ، من بعد يمزقها بأنيابه ، يشرب دمها عن آخره ، ثم يلقي بلحمها لكلاب الحراسة ، التي أحاطت به مهمهمة !!

      كادت تفقد عقلها ، ندت عنها صيحة استنكار ، لم تتصور أن تصل حاله إلى هذا الحد ، على الفور كانت تدبر أمر قتله ذبحاً أو بالسم ، ثم تقمع انفعالاتها وتهبط تماماً هاتفة " إنه ابن مسعد .. إزاي يهون عليك يا صابحة ؟

      أغلقت فمها ، لم تنقل لـ " مسعد " ما رأته ، توعدت " الغندور " بالويل والثبور ، إن هو عاد إلى فعلته ، وهي واثقة بأنه لم يع كلامها ، وكم كانت دهشتها حين استجاب لها، بينما هي ترتعد هلعاً ، عندما وصل رقمها إلى أحد عشر حجراً كان أمر الغندور قد استفحل حتى كاد يقضي على مسعد ؛ فقد تلاعب بنساء المضارب ، وبناتها الأبكار ، فهمن وراءه صرعى فحولته الغريبة والشيطانية .

      كان أمره أغرب من الخيال ، لو حكى الناس أمراً كهذا ما صدقته ، ما صدقته فما بالها وهو يحدث أمامها .

      في الليل بينما السكون مهيمن على المضارب ، والسماء بعيدة .. بعيدة .. كانت تدبر مع " مسعد " أمر سفرها إلى ذويها ، أوحت لـ " مسعد " بأن الغندور لن يرضى بهذه السفرة ؛لذا فعليه أن يخدره ، ويضعه أمامها على بغلتها حتى تصل المحطة ، ولن يصعب عليها الزج به في القطار .
      خدره " مسعد " ، قيده بقوة ، وضعه أمام جدته على بغلة ، واندفعت به بعيداً يلاحقها أحد الصبيان .

      استقر بها المقام في بلد ما ، فشلت في السيطرة عليه كما فشلت في إعاشته ، وخشيت على نفسها ، فوجبة الغذاء لم تكن لتكفيه ولولا ترابطها وحزمها لانقض عليها ، بعد ثلاثة أيام فاجأته يصارع بقايا البغلة المسكينة ، التي أصرت على شحنها لتكون مطيتها في رحلة قد تطول 0 أدركت ضرورة التخلص منه فوراً ، فقد وصل الأمر منتهاه ، وقبل أن يفتك بولدها كما تنبأ السحرة ، ويروح ضحية هذا المسخ الأبله ، فلتنتهي هذه المسألة الآن .

      كانت تلوم نفسها كثيراً ، لماذا تمسكت به إلى هذا الحد ؟كان يجب أن يرحل مع أمه .. تلك المرأة الخائبة ، التي ما أحست يوماً نحوها بعاطفة مؤكدة ، لقد دمرت ولدها تماماً ، ثم رحلت لتلحق بزهران ، أصبحت ملك آخر ، تركت لها معتوهاً أبلهاً، يكاد يفتك بها في كل لحظة ، صبت الكثير من اللوم على نفسها ، كان في إمكانها تدمير هذه المرأة نهائياً ، لقد أتت على ولدها ودمرته ، هاهو ذا شيطانها يقضي على أبيه " هذا قاتل أبيه "

      في الصباح التالي لفعلته ، دست له السم ، لكنه لم يأت 0 بجزع هرعت تبحث عنه ، دون جدوى ، ما بقي على اليوم المشئوم سوى أربعة أيام .

      نهش قلبها الخوف على ولدها ؛ فالأيام تكتمل ، لم يبق سوى القليل لنبوءة ما أحست فيها بطعم الصدق ، غير أنها كانت تبدو محققة ، دارت خلفه كمجنونة شعثاء تقتفي الأثر ، تترسم كل غريبة حادثة على الطريق حتى وقفت بها أهواله على مشارف "المضارب "، عصرا في الليلة الثامنة بعد العام الحادي عشر .
































      لم يعد أحد ، هاهو ذا وحيداً ، رحلت الأم بولده ، الغريب الأبله ، لا يعرف لم كان السفر همها الدائم ؟ أي شيء أبعدها عنه كل هذه السنين ؟ دموعها لا تفارق عينيها ، شاردة ، تقتفي خطى الغندور ، ماسرها هي الأخرى ؟ بدرية لم تتحمل ، أصابتها لوثة ، كانت تعطف عليه هو الأعرج ، كان يرى في عينيها حنواً وعطفاً ، سرعان ما تحول كل هذا إلى لا شيء ، قتلها المسخ الذي رسمه ووسمه ، عاش فيه بقية عمره ، كل عمره ؛ خوفاً من انجلاء الحقيقة والسجن ، هو الذي ما خاف سجناً أو موتاً في يوم من الأيام ، الموت أهون عليه من نظرات " بدرية " الفزعة ، وصراخها يستبد بقلبه،كان لابد له من رؤية ملامحه، أترى00 أفرطت أمه في حقه إلى هذا الحد ؟ لكنها معذورة ، تريد ولدها بجانبها ، بعد أن خطفه الموت يعود فجأة؛ ليبعث ! كيف تحتم عليه أن يقضي عمره هكذا بلا غاية سوى رعاية قطيع من الغنم ، في هذا المنفى العجيب ، أية قوة شيطانية داهمت روحه ؟ حطت به؟ تذكر رفاقه وزملاءه واحداً واحد ، وتساءل أين هم .. إلام وصلوا ؟ ومن فوره كان يسعى خلفهم ، يطرق الأبواب ، يترسم الخطى ما وجد أحداً ، كل شق لنفسه طريقاً ، هذا تاجر كبير ، وذاك مدير عام .. وهذا حوت يتجر في كل شيء ، وهذا وزير …………

      ماذا أصبح هو ؟ لا شيء . كلهم كان له الهدف الخاص ، كان هدفه " بدرية " : " بدرية يا مسعد .. لما راحت أصبحت ماذا ؟ تخليت مع من تخلوا ، وتركتم الدنيا تضرب، تقلب ولا حياة فيما تنادي 00أضعتم كل شيء هباء "

      كان يطالع القسوة وحجم التغييرات التي طرأت ، حال الناس التي أصبحت أسوأ مما كانت ، كان يأس ما يحاول الالتفاف حول عنقه ، وروح تتواثب ترفض الدعة والإذعان : " نعم كان لابد من معاودة الطريق .. لكنك أصبحت في الخارج .. ما عدت عاملاً ، أنت ميت في كل السجلات ، أنت راعي الغنم ، من يخيف الكبار والصغار ، أصبحت مثل " أم قاسم " أم قاسم مازالت جميلة ، تقول إن لها أولاداً كثيرين .. هكذا قالت ، مالها تتغيب كثيراً .. أين تذهب ؟ أما أنت بلا ولد تعيش وحيداً ، أنجبت مسخاً مثلك يا مسعد بابن صابحة ، لابد من تغيير ، لن أتحمل العيش على هذه الوتيرة .. لا يامه .. ما في مقدورك يا أعرج .. خضت حرباً لا قيمة لها ، نسيت كل أفكارك ، كل ما تعلمته من الأيام ، الكتب والرجال العظام ، نزلت آخر الأمر للزغبي ، أنت مجرد رجل تافه ، لا قيمة لك ، نسيت واجبك وهمك ، سعيت وراء وهم تخلى عنك في أول فرصة ، تخليت كما تخلى زملاؤك ، تركتم الناس تتخبط ، ونجم " زهران " يصعد مع أمثاله "

      كان دوي يعلو مع عقارب ساعته ، رويداً .. رويداً ، انتبه ، انتصب قائماً ، اتجه إلى قمة المزلقان على مشارف المضارب ، الدوي يتعالى .. يتعالى ، عيناه تبحثان عن مجهول ما ، كان قلبه يخفق ، يخفق بعنف .

      كان " زهران " بعد المحاولات القانونية وغير القانونية يقرر أخيراً أن ينهي هذا الأمر، دون إبطاء ،بالقوة الجبرية ، ما ظل يؤجله سنة وراء سنة أصبح أمراً ملحاً ، لا يقبل التأجيل ولا المماطلة والتسويف ، لابد من إجلائهم عن هذه البقعة .

      يزحف منتشياً محاطاً برجال أشداء ، جذب موكبهم أهل الحارة فراحوا يزحفون مستطلعين ، أمامهم كان " بلدوزر " ضخم يصدر صوتاً مخيفاً ، على يمين " زهران " كان رئيس القوة ، وجمع من الجنود المدججين بالأسلحة الحديثة ، يزحفون في اتجاه " المضارب " ، وهمهمة غامضة تصدر عن زحفهم ، بينما تزعق أحجار البازلت تحت دويهم ، تتلوى مدكوكة في الأرض مخلفة آثاراً بارزة ، كلما عبروا شارعاً التفت حولهم جموع أخرى ، و " زهران " يضحك سعيداً بملء فيه ، ويترنح ثملاً !!

      كان لابد من تسوية " المضارب " بالأرض ، ما أفلحت طرقه السلمية في إجلائهم عنها ، كفاهم مماطلة ، كانوا يسيرون نحو هدفهم رأساً .

      ساعة وقف " حسن أبو اليزيد منصور " باستغراب أمام رفيقه القديم ، على قمة المزلقان ، كان الغندور قد وصل تواً مخلفاً جدته تدور من بلد إلى أخرى بحثاً عنه !
      توجس " مسعد " خيفة ، بش برغمه مرحباً ، فدفعه " زهران " بعصاته المصقولة في صدره ، انفلت تماسك الأعرج ، انحدر على المزلقان ، لم يتوقف حتى أصبح تحت المنحدر العالي ، صاحت بدرية فجأة " يا زهران يا كلب .. يا كلب " يتقدم زهران نازلاً المزلقان صوب الأعرج ، قابلته بدرية، واندفعت كنمرة قاصدة ساقه ، وقع على الأرض ، انقضت على ساقه ، تنهش ، تنهش !

      رأى " الغندور " أباه ملقى لا حول له ولا قوة ، فتأتأ ، همهم بكلام غير مفهوم ، اندفع كسهم مرشوقاً في بطن " زهران " بينما الجنود بآلياتهم يحيطون برئيسهم ، لم يفلحوا في زحزحة " الغندور " وأمه إلا بعد أن أصبح قلب " زهران " بين أسنانه ، والدماء تزحف مترسمة طريقها منحدرة على المزلقان الذي استطاع " زهران " صعوده في محاولته للهرب ، عند ذلك كانت بدرية تحتضن " مسعد بقوة " وهو بغضب يزيحها بعيداً ، كانت تعلم كل شيء ، فضح " زهران " نفسه أمامها ، لكن صوتها ظل حبيساً ، ما سمعه سوى صابحة " أنت بتقتل أبوك يا غندور "
      جرى الناس خائفين ، فروا بجلودهم ، كما انسحب الجنود ورئيس القوة يرتعد بينهم ،مكتفين بخروجهم أحياء من "المضارب " ، ومعهم رئيسهم لم يمس
      " مسعد " في مكانه لا يبارحه ، جاحظ العينين ، غير قادر على استيعاب الأمر ، ما كان ليتصور هذا من " بدرية " ، وبمثل هذه السرعة ، تنكل بزوجها كما نكلت به من قبل ، وأيضاً لم يصدق ما تم من " الغندور " ، كأنه جاء على قدر ، ذلك الذي ينعته بالأهبل ، ، كيف وصل الأمر بزهران إلى الإستعانة بالقوة لسرقة بيوتهم في وضح النهار ، أين " أم قاسم " بين هؤلاء ؟ ليس لها وجود ، هل هي في المقابر ؟

      اقتربت منه بدرية 0كان يحدق في وجهها تائهاً ، فتخفض رأسها أرضاً ، تجاهد كي ترفعه من مكانه ، ثم تبتعد مهيلة التراب على رأسها!!

      غزت " صابحة " المضارب في الوقت الذي ساقوا فيه" الغندور " مثخناً بالجراح ، وقفت على ما حدث ، فازداد ذهولها بدلاً من سعادتها بنجاة ولدها ، حطت على الأرض محدقة في صفحة السماء ، تحولت الشمس إلى بقعة حمراء، راحت تتضاءل تتضاءل ، وصابحة تتفرس وجه بدرية بكراهية حقيقية معلنة عن فشلها تماماً في تفهم الأمور على وجهها الصحيح ، وهي تضغط على أسنانها : " آه تعبت في تربية كلب ابن كلب .. يا تعبي يا همي "

      هرول " مسعد " ، يدب في الأرض دون وعي ، يتخبط في الأرصفة والجدران ، يرى من خلال غلالة ضبابية ، مشى طويلاً ، ورحى طاحنة تدوم في عقله وسمعه ، اقترب من ميدان الشون ، كانت رائحة جيفة تخترق أنفه،توقف ، دمدمت الرائحة ، أصبحت لا تطاق ، دون أن يعي ، كان يرصد مصدرها ، يدنو من عربة القمامة التي تبرز عليها وسط الظلام حروف بيضاء " مع تحيات مجلس المدينة "

      هناك كان كائن هزيل مكوماً في خرق بالية ، يبدو أن الكلاب نالت منه حظاً ليس وفيراً ، سد أنفه ، اندفع بقوة .. اندفع ، بينما كان أربعة رجال جسام يغلقون عليه الطريق من بعيد ، دون أن يرصد تحركاتهم 0 كان عقله يبتعد به بعيداً إلى حيث المقابر ، وأم قاسم ، وإصرارها على الرحيل لمواجهة زهران ، وعدم سماعه شيئاً من أخبارها حتى الآن !!

      جحظت عيناه ودمعت ، بعكازه يخترق الطريق ، واهناً يكاد ينكفئ ، والرجال يخلون سبيله في إنكار ، يتخبط في ظلام ليل حالك ، بعكازه ودبيبه ، من خلفه تتعالى أصوات الكلاب ، وهو سادر لا يتوقف عبر أحياء وبرك وبلدان ، كأنه يهرب من مصير يلاحقه ، أجهده السعي ، توقف ، يضرب بعينيه في فلول الليل الشاحبة ، يستدير راجعاً من حيث بدأ ، وفكرة تستحوذ على تفكيره ، وفي تشنج يرفع العكاز بقوة ساعده ضاغطاً على ضروسه

      كانت الأم تتابع مسار الشمس ، وهي ترتمي بعيداً متوارية عن الأنظار ، مخلفة السماء بقعة باهتة ، ظلت على حالها جامدة طوال الليل ، تائهة في بحر زاخر من الأحداث والرؤى ، تتسرب رطوبة الليل في بدنها ، تلسعها ، لا تنفك قاعدة تغزل أنشوطة ، سرعان ما تعود لفكها ، تعقد وتفك ، تعقد وتفك ، تديم النظر في صفحة السماء ، رأت خيوط النور تبرز على استحياء ، تصبغ السماء رويداً .. رويداً ، تهزم في لحظة ليل المضارب الثقيل الوطأة ، ثم راحت شمس النهار تبرز هزيلة .. هزيلة ، تنبعث قوية ، هللت لها الطيور كما هللت لها " صابحة " بفرح ، اعتدلت كأنها ما رأت الشمس في مثل هذا البهاء ، ثم تتعارك سحب داكنة كان لها ملامح " الغندور " ، الذي سيق إلى السجن لحين البت في أمره ، وكالمعتاد يكون الإعدام شنقاً أو المؤبد .

      انتظر الناس كثيراً قرار القاضي في قضية " زهران " ففاجأهم بالحكم على قتلة الرئيس السادات الذين تم بالفعل إعدامهم قبل سنوات طويلة مضت كما حدث بذلك أحد الشعراء الصعاليك في مقابلة خاصة مع محرر مجلة " النجمة " الأكثر رجعية ، كان شاهد عيان ، عبر عن إعجابه بهم لحظة ارتقائهم سلم المشنقة بقصيدة شعبية رائعة لن يكتب لها الذيوع

      أرجئ البت في أمر " الغندور " الذي جذب إعجاب كل من سمع به ، حتى " شربات " كانت تموت شوقاً وتلهفاً وتمني نفسها بمضاجعته ؛ ولو لليلة واحدة ، أصبح " الغندور " على كل لسان ، زان صدور الشباب والشابات ، فجأة ظهرت فرقة غنائية جعلت اسم " الغندور" شعاراً لها !!

      كانت المفاجأة التي أذهلت الجميع بالفعل ، صدور مرسوم رئاسي بالعفو عن الغندور ، دون النظر بعين الاعتبار إلى حكم المحكمة التي أدانته .

      عاد " الغندور " إلى المدينة أكثر شراسة واحتياجاً ، يفتك بالنسوة والبنات الأبكار هو الأبله ، يفترس أذهان الناس بكثرة ما يحكي عنه ، من أفعال ، المذهل بالفعل تمكن شربات منه ، ومعاشرتها له ، واتساع نطاق عملها تحت حمايته ، و الغريب الذى لم يصدقه أحد ، أنه جمع بين شربات وبدرية الأم فى بيت واحد ، ومن وقتها اختفت بدرية ، ولم يعد أحد يسمع عنها شيئا ، أخيراً دوت إشاعات مفادها : أن البيوت التي وقف بأبوابها " الغندور " تحولت إلى خرابات تنعق فيها البوم .





























      خاتمة


      على إحدى المنافذ الرئيسية لشركة الغزل الكبيرة توقف " مسعد " ، ورأسه تستعيد كل اللحظات التي عاشها فيها ، كل المعارك التي خاضها ضد الإدارة ، المظاهرات التي دبرها مع زملائه ، الإضرابات ، قعقعات الجنود ، وهي تركض خلفهم ، ضربات العصى ، هدوء المصنع الغريب في لحظات الذروة ، دوي الماكينات غير المحتمل ، صوت الزعيم ، تفجر الدموع من مآقي الرجال

      حين انفثأ ليل المدينة ، وابيض وجه الأرض كان مسعد يقبض على عكازه لم يزل ، وكلمات أم قاسم ترن في جوفه ، أذنيه ، كيانه بأكمله ، يتأمل كل شيء ، ينتظر دوي الناعورة ، بانتهاء الوردية ، وصدره مرجل يغلي ، وكلمات حبيسة تمور ، تتحرك : " من هنا البداية .. والنهاية يا مسعد .. موت زهران مش نهاية اللي احنا فيه .. الغندور لسه حي ..الغندور .. من هنا ممكن نحاصره .. نقضي عليه .. دا نجاك من الموت يا مسعد .. والمصايب
      السودا اللي عاملها " .. دا هو اللي خلص على زهران .. زهران يامه .. وصرخ مسعد برغمه : " بدرية " ولكن دوي الناعورة طغى على صرخته ، وانداحت البوابات الكبيرة ، أمام جحافل العمال ، المائجة ، التي تحولت إلى فرسان تجري ، وتركض كأنها تهرب من موت محقق ، وحين حاول مسعد الكلام لم يجد شيئاً ، ولكنه كان يتحرك دون أن يسمعه أحد ، أو يفهمه أحد 0
      خلفته الجموع أخيراً وحيداً ، فدار حول نفسه ، فجأة طوح بعكازه في الهواء ، فعلا ، علا بسرعة جنونية ،لكن الشمس كانت قد توارت خلف سحب سوداء راحت تتزايد بشكل عجيب !!


      المحلة الكبرى يوليو – 1990

      sigpic

      تعليق

      • فواز أبوخالد
        أديب وكاتب
        • 14-03-2010
        • 974

        #4
        راااااااااائع بل أكثر من راااائع أستاذنا الكبير

        ربيع عقب الباب

        كأني أقرأ لنجيب محفوظ

        تحياااااااااتي لشخصك الكريم .


        .........
        [align=center]

        ما إن رآني حتى هاجمني , ضربته بقدمي على فمه , عوى من شدة
        الألم , حرك ذيله وولى هاربا , بعد أن ترك نجاسته على باب سيده .
        http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=67924

        ..............
        [/align]

        تعليق

        • د.إميل صابر
          عضو أساسي
          • 26-09-2009
          • 551

          #5
          القدير ربيع

          مسألة تقنية تجعل الكتاب غير صفحة الانترنت الطويلة.
          في الكتاب يمكنك التوقف والعودة فتعرف أين كنت وتواصل الرحلة،

          في صفحة الانترنت الطويلة، مالم تكن هناك علامات فاصلة، يصعب الوصول لمكان التوقف،

          أرجوك إن لم يكن يزعجك،

          وضع علامات على الطريق، أرقام صفحات، عناوين فرعية،
          لا أدري،
          لكن هذه مشكلة صادفتني، قلت أخبرك بها، حتى لا تفسد التكنولوجيا متعتنا،

          سأحاول المعاودة.

          كن بالخير
          [frame="11 98"]
          [FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Tahoma][FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Simplified Arabic][COLOR=blue][SIZE=5][SIZE=6][FONT=Tahoma][COLOR=#000000]"[/COLOR][/FONT][/SIZE][FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy][FONT=Simplified Arabic][COLOR=#000000][FONT=Tahoma]28-9-2010[/FONT][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT]
          [FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy]
          [FONT=Tahoma][SIZE=5][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]هناك أناس لو لم يجدوا جنازة تُشبع شغفهم باللطم، قتلوا قتيلا وساروا في جنازته[/FONT][/COLOR][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]لاطمون.[/FONT][/COLOR][/SIZE][/FONT]
          [COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic][FONT=Tahoma][SIZE=5]لدينا الكثير منهم في مصر.[/SIZE][/FONT][/FONT][/COLOR][/COLOR][/FONT][/SIZE][/COLOR][/FONT][/SIZE][/FONT][SIZE=6]" [/SIZE]
          [SIZE=4]د.إميل صابر[/SIZE]
          [/FONT][/SIZE][/FONT]
          [CENTER][FONT=Tahoma][COLOR=navy][B]أفكار من الفرن[/B][/COLOR][/FONT][/CENTER]
          [CENTER][U][COLOR=#000066][URL]http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?p=484272[/URL][/COLOR][/U][/CENTER]
          [/frame]

          تعليق

          • ربيع عقب الباب
            مستشار أدبي
            طائر النورس
            • 29-07-2008
            • 25792

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة فواز أبوخالد مشاهدة المشاركة
            راااااااااائع بل أكثر من راااائع أستاذنا الكبير

            ربيع عقب الباب

            كأني أقرأ لنجيب محفوظ

            تحياااااااااتي لشخصك الكريم .


            .........
            أهلا صديقى فواز
            أرجو أن تكون قد أعجبتك صديقى بحق

            ما الذى أعجبك فيها
            أية شخصية كان لها الحضور الأروع
            أى شخصية لم تقنعك
            ما رأيك فى زاوية التناول .. هل كانت موفقة .. أم خاننى التوفيق ؟؟؟

            ليتك قلت لى لأتعلم من رأيك و رؤيتك

            محبتى
            sigpic

            تعليق

            • ربيع عقب الباب
              مستشار أدبي
              طائر النورس
              • 29-07-2008
              • 25792

              #7
              المشاركة الأصلية بواسطة د.إميل صابر مشاهدة المشاركة
              القدير ربيع

              مسألة تقنية تجعل الكتاب غير صفحة الانترنت الطويلة.
              في الكتاب يمكنك التوقف والعودة فتعرف أين كنت وتواصل الرحلة،

              في صفحة الانترنت الطويلة، مالم تكن هناك علامات فاصلة، يصعب الوصول لمكان التوقف،

              أرجوك إن لم يكن يزعجك،

              وضع علامات على الطريق، أرقام صفحات، عناوين فرعية،
              لا أدري،
              لكن هذه مشكلة صادفتني، قلت أخبرك بها، حتى لا تفسد التكنولوجيا متعتنا،

              سأحاول المعاودة.

              كن بالخير
              أهلا بالرائع أميل
              و الله صديقى .. كانت التجربة ، بلا عناوين ، و لا تنتمى لأسلوب روائى فى العربية ، فقد كانت التقنية مختلفة ، ربما كانت قريبة من كتابات ماركيز ، و كانت مسألة تحطيم الزمن و المكان أول ما حاولت ، ثم جعل الفارق بين الفصل و الآخر ، مجرد نصف صفحة فارغة لا أكثر مع وجود كلمة تختلف فى البنط و الحجم أو كل فصل !
              سوف أحاول هنا صديقى

              أنتظر رأيك .. أنتظر لأتعلم ، و أرى بعض عيوبى هنا

              محبتى
              sigpic

              تعليق

              • فواز أبوخالد
                أديب وكاتب
                • 14-03-2010
                • 974

                #8
                المشاركة الأصلية بواسطة ربيع عقب الباب مشاهدة المشاركة
                أهلا صديقى فواز
                أرجو أن تكون قد أعجبتك صديقى بحق

                ما الذى أعجبك فيها
                أية شخصية كان لها الحضور الأروع
                أى شخصية لم تقنعك
                ما رأيك فى زاوية التناول .. هل كانت موفقة .. أم خاننى التوفيق ؟؟؟

                ليتك قلت لى لأتعلم من رأيك و رؤيتك

                محبتى

                أستاذي الفاضل ربيع عقب الباب

                أنا في بداية المشوار وأنت أستاذ فيه ربما تجاوزت

                خبرتك ثلاثة عقود ..... وأنا أتابع ماتكتبه بنهم لأتعلم فقط

                أما أن أسجل رؤية نقدية للنص .. فأعتقد أن المشوار لازال

                طويلا جدااااااا ..

                تحياااااااتي لشخصك الكريم .


                .........
                [align=center]

                ما إن رآني حتى هاجمني , ضربته بقدمي على فمه , عوى من شدة
                الألم , حرك ذيله وولى هاربا , بعد أن ترك نجاسته على باب سيده .
                http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=67924

                ..............
                [/align]

                تعليق

                • فواز أبوخالد
                  أديب وكاتب
                  • 14-03-2010
                  • 974

                  #9
                  كتبت المشاركة أعلاه ... ثم إتجهت لصلاة المغرب في المسجد

                  وما إن كبرت حتى أخذ الشيطان يوسوس لي .. إلى أن وصلت

                  لردك أستاذي ربيع على مشاركتي .. فقال لي .. أنت غبي

                  هو لم يقصد المعنى الظاهر للفظ ولكنه كان مؤدبا جداااااا

                  وأحب أن يوصل لك معلومة .. كيف تدرس النص وتقرأه

                  بتمعن لتستفيد .. ووضع لك النقاط التي يجب أن تتوقف

                  وتتأمل فيها ... وصدق من قال :

                  إذا نسيت شيئا فأعمد الى الصلاة فسيذكرك الشيطان ...!!

                  تحياااااااااتي ومووووودتي لك أستاذي ربيع عقب الباب .


                  .....

                  ...
                  [align=center]

                  ما إن رآني حتى هاجمني , ضربته بقدمي على فمه , عوى من شدة
                  الألم , حرك ذيله وولى هاربا , بعد أن ترك نجاسته على باب سيده .
                  http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?t=67924

                  ..............
                  [/align]

                  تعليق

                  • ربيع عقب الباب
                    مستشار أدبي
                    طائر النورس
                    • 29-07-2008
                    • 25792

                    #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة فواز أبوخالد مشاهدة المشاركة
                    أستاذي الفاضل ربيع عقب الباب

                    أنا في بداية المشوار وأنت أستاذ فيه ربما تجاوزت

                    خبرتك ثلاثة عقود ..... وأنا أتابع ماتكتبه بنهم لأتعلم فقط

                    أما أن أسجل رؤية نقدية للنص .. فأعتقد أن المشوار لازال

                    طويلا جدااااااا ..

                    تحياااااااتي لشخصك الكريم .


                    .........
                    أهلا بك فواز الرائع
                    نحن هنا لا نكتب نقدا بمعناه الاكاديمى
                    نحن نسجل انطباعات ما ، ربما تجاوزت إلى التفاعل مع الفكرة
                    و قالت شيئا مهما يعتد به ، و اثنت على العمل أو نقضته ، و قالت ما لم يعجبها ، أو يلاءم ذائقتها !!
                    قل أى انطباع خاص بك ، قل فيه ما تراه هو الصدق أو أقرب إليه

                    محبتى أخى الجميل
                    sigpic

                    تعليق

                    • عائده محمد نادر
                      عضو الملتقى
                      • 18-10-2008
                      • 12843

                      #11
                      فانسحبت صارخة تداري خيبتها وجسدها السخن ، الذي كان كثـير الفتـنة ، كثـيـــر النـدوب ، يمتلئ بآثـار أصـابع عشاقها !!

                      قرأت لحد هذا السطر
                      جميل وممتع ماقرأت وفيه مساحة كبيرة للخيال الذي يصاحب القاريء
                      لم أرى بدا أن أقول لك أن هذه الجملة الصغيرة رأيتها لاتخدم النص أبدا(( غير مأسوف عليه)) بعد أن كاد يقع من على الماسورة ويمكن أن تحذفها
                      سأتابع الرواية ربيع لأنها فعلا مشوقة لحد الآن
                      أعتذر لتأخري عليك
                      ودي ومحبتي لك
                      الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                      تعليق

                      • د.إميل صابر
                        عضو أساسي
                        • 26-09-2009
                        • 551

                        #12
                        سيد الربيع
                        فكرة بسيطة وعملية تلك التي قمت بها بتلوين أول كلمة في المقاطع

                        أرجوك اقبل عذري هذه الأيام إذ أني أتعامل مع الإنترنت بصعوبة بسبب انقطاع وصلة ال دي اس ال واضطراري لاستخدام انترنت شركات الاتصالات وهو مكلف جدا للقراء

                        فقط اتابع بسرعة لأكون موجودا

                        ساعود بتركيز خلال وقت قصير انشالله
                        [frame="11 98"]
                        [FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Tahoma][FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Simplified Arabic][COLOR=blue][SIZE=5][SIZE=6][FONT=Tahoma][COLOR=#000000]"[/COLOR][/FONT][/SIZE][FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy][FONT=Simplified Arabic][COLOR=#000000][FONT=Tahoma]28-9-2010[/FONT][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT]
                        [FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy]
                        [FONT=Tahoma][SIZE=5][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]هناك أناس لو لم يجدوا جنازة تُشبع شغفهم باللطم، قتلوا قتيلا وساروا في جنازته[/FONT][/COLOR][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]لاطمون.[/FONT][/COLOR][/SIZE][/FONT]
                        [COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic][FONT=Tahoma][SIZE=5]لدينا الكثير منهم في مصر.[/SIZE][/FONT][/FONT][/COLOR][/COLOR][/FONT][/SIZE][/COLOR][/FONT][/SIZE][/FONT][SIZE=6]" [/SIZE]
                        [SIZE=4]د.إميل صابر[/SIZE]
                        [/FONT][/SIZE][/FONT]
                        [CENTER][FONT=Tahoma][COLOR=navy][B]أفكار من الفرن[/B][/COLOR][/FONT][/CENTER]
                        [CENTER][U][COLOR=#000066][URL]http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?p=484272[/URL][/COLOR][/U][/CENTER]
                        [/frame]

                        تعليق

                        • عائده محمد نادر
                          عضو الملتقى
                          • 18-10-2008
                          • 12843

                          #13
                          بهتت هذه المقابلة ، شاخ به الزمن ، فهاهي بدرية بشحمها ولحمها ، من كان يذوب فرقاً لرؤيتها ، هاهي أمامه إنسانة أخرى ، مجهولة له ، وهاهو خامد كشيخ هرم .

                          وصلت إلى هنا ربيع
                          قرأت ولمدة ثلاث ساعات حوالي
                          حتى لف رأسي وتشقلبيت عيني
                          رائعة ربيع صدقني
                          ملحمة أدبية
                          وأحداث سريعة وكأني كنت أقرأ نصا قصيرا وليس رواية
                          كن بخير
                          سأبقى متابعة
                          الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                          تعليق

                          • د.إميل صابر
                            عضو أساسي
                            • 26-09-2009
                            • 551

                            #14
                            سرقتني السجالات،
                            والتشتت الفكري،

                            سأعاود المحاولة
                            [frame="11 98"]
                            [FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Tahoma][FONT=Tahoma][SIZE=6][FONT=Simplified Arabic][COLOR=blue][SIZE=5][SIZE=6][FONT=Tahoma][COLOR=#000000]"[/COLOR][/FONT][/SIZE][FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy][FONT=Simplified Arabic][COLOR=#000000][FONT=Tahoma]28-9-2010[/FONT][/COLOR][/FONT][/COLOR][/FONT]
                            [FONT=Simplified Arabic][COLOR=navy]
                            [FONT=Tahoma][SIZE=5][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]هناك أناس لو لم يجدوا جنازة تُشبع شغفهم باللطم، قتلوا قتيلا وساروا في جنازته[/FONT][/COLOR][COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic]لاطمون.[/FONT][/COLOR][/SIZE][/FONT]
                            [COLOR=#333333][FONT=Simplified Arabic][FONT=Tahoma][SIZE=5]لدينا الكثير منهم في مصر.[/SIZE][/FONT][/FONT][/COLOR][/COLOR][/FONT][/SIZE][/COLOR][/FONT][/SIZE][/FONT][SIZE=6]" [/SIZE]
                            [SIZE=4]د.إميل صابر[/SIZE]
                            [/FONT][/SIZE][/FONT]
                            [CENTER][FONT=Tahoma][COLOR=navy][B]أفكار من الفرن[/B][/COLOR][/FONT][/CENTER]
                            [CENTER][U][COLOR=#000066][URL]http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?p=484272[/URL][/COLOR][/U][/CENTER]
                            [/frame]

                            تعليق

                            • عائده محمد نادر
                              عضو الملتقى
                              • 18-10-2008
                              • 12843

                              #15
                              ربيع
                              رائعة هذه الملحمة الدموية
                              لم أستطع تركها ودوار صار يدور بي مع الأحداث
                              زغللت عيني الرواية ربيع
                              أكثر ما أعجبني أحداث قتل حسن والمواسير وعشة الفراخ
                              مالم أفهمه كيف كان الغندور ابن زهران
                              ربما النهاية جاءت على عجالة وفي بعض الغموض
                              مامعنى
                              زلعة
                              قمينة
                              رائع أنت بكل المقاييس
                              سأعود لها مرة أخرى فربما فاتني شيء
                              ودي الأكيد لك
                              الشمس شمسي والعراق عراقي ..ماغير الدخلاء من أخلاقي .. الشمس شمسي والعراق عراق

                              تعليق

                              يعمل...
                              X