قراءة في مسرحية «أخناتون» لأحمد سويلم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    قراءة في مسرحية «أخناتون» لأحمد سويلم

    قراءة في مسرحية «أخناتون» لأحمد سويلم

    بقلم: أ.د. حسين علي محمد

    إذا كنا قد وجدنا بعد هزيمة 1967م المسرح السياسي التحريضي المباشر، الذي يطرح كثيراً من السياسة وقليلاً من الفن، عامداً إلى مشاركة الجمهور ومخاطبة عقولهم. وإذا كانت هذه المسرحيات قدّمت رؤيتها من خلال مسرح الإسقاط السياسي الذي يعمد إلى الإبعاد سواء أكان الزماني أم المكاني في التاريخ حتى ينجو كاتب مسرح الإسقاط من عوائق الرقابة .. فإننا نجد مسرح الثمانينيات الشعري قد آثر مواجهة المجتمع وطرح قضاياه على الخشبة وأمام الجمهور، حتى يُشارك بدلوه في الدلاء.
    ومن المسرحيات التي تُواجه المجتمع بقضاياه مسرحية "أخناتون" لأحمد سويلم، التي يشعر متلقيها أن مؤلفها لم يخلد إلى السكينة والراحة والتكرار الأجوف لما يقوله التاريخ، بل قدّم بطلاً معاصراً من لحم ودم، بطلاً يحزن ويتألم، ويُكاشف، ويُواجه وينسحب في النهاية، لكنه لا يُناور، بل يُواجه دائماً,
    ومن خلال هذه الخصيصة ـ الحصار ـ يقدِّم أحمد سويلم نموذجاً طيبا لبطل الثمانينيات الذي يحس أنه مُحاصَر من قوى لا قبل لـه بها، وهو يلمس وتراً حساساً في عصب حياتنا المعاصرة. فالبطل في الثمانينيات يُحس أنه مُحاصَر و"غير مرغوب فيه"، والحصار يفرض حلقاته ويُضيِّقها عليه. وبهذا تُضيف المسرحية لبنة طيبة للبناء المسرحي المعاصر، لتميزها بلمس هذه الخصيصة المعاصرة، "لأننا عندما ندرس الأعمال الأدبية الكبرى نجد أن كلا منها يُعبِّر عن خاصية عميقة خالدة، وكلما أمعنت هذه الخاصية في العمق ارتقى العمل الأدبي إلى القمة، وأصبح خلاصة للروح القومي في شكل محسوس، وموجزاً للملامح الأساسية في فترة تاريخية محددة"(1).
    وأحمد سويلم لم يختر "أخناتون" لأنه داعية توحيد حوربت دعوته، وإنما اختاره كقناع تاريخي بسبب رغبته في التغيير والتجديد، وفضح ما كان قائماً وسائداً. اختاره ليقدِّم لنا ـ وجهاً لوجه ـ صورة المصلح الديني، أو المجدد الديني، الذي يُواجه مجتمعاً دينيا تقليديا محافظاً، فلا يتقبّل مجتمعه آراءه الإصلاحية أو التجديدية، ويقف في طريقه أصحاب النفوذ والمصالح، ويُقاومونه بكل السبل، فلا يجد البطل مفرا من هجرة هذا المجتمع الجامد القاسي.
    وتبدأ مأساة "أخناتون" قبل أن يتولى الحكم بعد وفاة أبيه، ويتضح ذلك في هذا الحوار الذي يدور بين الكاهنين (الأول والثاني) والكاهن الأكبر:
    الكاهن الأول: لا نعرف عنه كثيراً
    هو بالنسبةِ للناسِ وليُّ العهْدْ
    ـ الحاكمُ بعْدَ أبيهِ الرَّاحلْ ـ
    وبهيئتهِ يبدو للناسِ أليفا محبوبا
    أما عن نظرته الدينية للآلهةِ
    فهذأ أمْرٌ لا يُمكنُ أنْ نتأكَّدَ منهُ الآنْ
    الكاهن الأكبر: وعلى كُلٍّ
    فأنا لا تعنيني نظرته الدينيةُ للآلهةِ جميعاً
    ما يعْنيني موقفُهُ منْ آمونَ ومنْ آلهةِ الوادي
    كان أبوهُ الرّاحلُ لا يُصدرُ أمْراً منْ غيْرِ مشورتنا
    حتى اقتنعَ الناسُ بنا .. وبآمونَ الربْ
    الكاهن الثاني: وأنا من رأيِ أخي
    (يظهر في الشاشة الخلفية رمز الشمس في أثناء كلام هذا الكاهن)
    فالفرعونُ الشابْ
    مختلِفٌ عنْ والدِهِ الرّاحلْ
    تلكَ حقيقتُهُ .. يا أبتِ
    نالَ ثقافتهُ وتعاليمهْ
    خارجَ طيبهْ
    أعرفُ عنْهُ أيضاً كيفَ يُحبُّ العُزلةَ والتفكيرَ وقول الشعرْ
    وأنا أخشى هذا الصِّنفَ من الناسْ(2)
    وبعد هذا الحوار يتبدّى لنا خوف الكهنة من "أخناتون"، ليس بسبب عدم تدينه، أو دعوته للتوحيد، أو رفضه للآلهة جميعاً، وإنما نعرف من كلام الكاهن الأكبر خوف الكهنة على مكانتهم الاجتماعية وسلطتهم الدنيوية، ويظهر هذا من قول "الكاهن الأكبر" السابق:
    كان أبوهُ الرّاحلُ لا يُصدرُ أمْراً منْ غيْرِ مشورتنا
    ويتراوح رأي الكهنة بين الحذر من "أخناتون" أو فرض الرأي عليه حتى يصير طوع بنانهم (ويستقرون على الرأي الثاني) ويتعاهدون على تنفيذه في حفل التتويج، حيث يعاهدونه باسم الرب آمون على حكم الشعب:
    الكاهن الأول: فإذل فكّر (آمونحتبُ) يوماً في العبثِ بآرائه
    ثارَ عليْهِ الشعبُ وثارتْ حاشيتُهْ
    فالفرعوْنُ هنا قدْ خانَ العهْد !
    الكاهن الأكبر: هُوَ ذا .. هُوَ ذا .. هذا ما أعنيه تماماً(3)
    ويتم تتويج "أخناتون"، وتطلب منه أمه (الملكة تي) في حفلِ التتويج أن يُحبَّ شعبه، وأن يحكم بالعدل:
    خُذ عنِّي يا ولدي
    احكم بالعدْلْ
    واغرسْ في أرضِكَ شجرَ الحكمهْ
    هذا شعبُكَ يسعى لكْ
    فاسعَ إليه
    واجعله في عينيْكَ وفي قلبِكْ
    يرعاكَ(4) الرب(5)
    ويُعاهدها على ذلك.
    وتبدأ المواجهة منذ "المشهد الأول"(6)، فالكهنة يرون في الشعب بقرةً حلوباً، ولا يهمهم إلا ما يأخذونه من الشعب الجائع، كإتاوات المعبد، ويمثل ذلك قول الكاهن الأكبر، بينما الكهان في الخلفية لا يهمهم يسوقون الناس بالسياط لدفع الجزية:
    صوت الكاهن الأكبر: آمون .. أقوى آلهةِ الوادي
    آمون .. سيد طيبهْ
    يأمرُكُمْ آمونُ بتقديمِ قرابينِهْ
    وبدفْعِ الجزيةِ في موْعدِها
    أوْ يقْتلُكمْ قتْلا
    يأمرُكمْ آتونُ بطاعةِ كهنتِهِ
    أوْ يقْتلُكمْ قتْلا
    يأمرُكمْ بإطاعة حاكمكمْ
    مادامَ الحاكمُ في طاعةِ آمونْ
    أوْ يقْتلُكمْ قتْلا(7)
    فالكاهن الأكبر يضع الجزية وطاعة أمون والكهنة والحكام في جانب، والتهديد بالقتل في جانب آخر، وهذا ما يؤجج ثورة "أخناتون"، ويُشعل فتيلها(8).
    وحينما تبدأ ثورة "أخناتون" نرى جزع أمه الشديد، فهي تعلم قدرة الكهنة على تأليب الشعب على الحاكم، وسحب البساط من تحت قدميه إذا لم يستمع لكلماتهم، ولهذا فهي تطلب منه أن يجعل إلهه له وحده، ويترك الكهنة وشأنهم!
    تي: ما هذا يا ولدي ؟
    أخناتون: (مستغرقاً لا يرد)
    تي: لا يا ولدي
    أنت ابني فافعلْ مثلَ أبيكْ
    لا تخرجْ عنْ طبعِهْ
    خذ عني يا ولدي كيْ تُسعِدَ شعبَكْ
    خُذ عنِّي مثلَ أبيكْ
    لا تخرجْ عنْ أمري
    آمرُكَ بأنْ تتخلّى عمّا في عقْلِكْ
    أنْ تتركَ آلهةَ الوادي للكهنةِ والناسْ
    أما آتونُ إلهك هذا .. فهو إلهُك وحدكْ
    ليس إله الكهنةِ والناسْ
    يا ولدي أنا أدرى منكَ بأسرارِ الحكمْ
    دعْ دينَ الآباءِ، ولا تُنكرْهْ
    دعْ آلهة الوادي .. فلها الكهنةُ والأعوانْ
    ولهمْ جبروتٌ .. ولهمْ سُلطانْ
    لن تقدرَ وحدكَ أنْ تقفَ أمامَ الآلهةِ الأخرى(9)
    وتطلب من زوجته "نفرتيتي" أن ترده إلى عقله، وتقول لها "نفرتيتي" أنها ستقف بجوار زوجها، ولن تتخلّى عنه، وهنا تُواجهها الأم بحنوّ وحزم بصيرين:
    تي: ماذا تُجدي وقفتكِ بجانبهِ الآنْ ؟
    والأخطارُ هنا منْ حوْلِهْ
    لا بدَّ لهُ أنْ يتأَهَّبَ لمواجهةِ الحُكْمْ
    .. لا أنْ يبدأ بمُعاداةِ الكهَنهْ
    مَنْ مِنْ حكّامِ الوادي عاشَ بعيداً عن ظلِّ الكَهَنهْ ؟
    مَنْ منهمْ عاشَ وحيدا ؟
    فالكهنةُ في كلِّ زمانٍ ظلُّ الآلهةِ على الأرْضْ
    يُسْدونَ البركةَ للحكّامْ
    وبأمرِ الدينِ كذلكْ
    يبْقى الحاكمُ أوْ يُعزلْ(10)
    إن الملكة "تي" تحب ابنها، ولكنها تعلم أنه ليس بإمكانه أن يُواجه العاصفة وهو أعزل، وهي تعرف سطوةَ الدين، بل سطوة الكهنة الذين يُوظفون الدين ليكون عوناً لهم وخادماً في تحقيق أهدافهم، ولذا حينما تُثني "نفرتيتي" على رجاحة عقل زوجها وحكمته وسداد تفكيره تتحسَّر الأم على عدم الوعي، وتُخاطب "أخناتون" مفَطِّنةً له، والحسرة تعصفُ بها:
    تي: (في حسرة)
    يا ولدي .. لن يترككَ الكهنهْ
    لن تغمضَ أعينُهمْ عنكْ
    لن يُرضيهمْ آتونُ إلهُكْ
    لن يُرضيهمْ
    انجُ بنفسكَ يا ولدي من سلطانِ الكهنهْ
    فأنا أعرفُهمْ(11)
    ولكن "أخناتون" الثائر يقول إنه يعرف طريقه جيدا، ويعرف أن الكهنة ضعفاء، لأنهم ليسوا مُتَديِّنين كما يقولون (أو يزعمون)، وإنما يتخذون الدين مطية يصلون من خلاله إلى أغراضهم، وقناعاً للحكم واستنزاف أموال الفقراء:
    أخناتون: أنا أدرى بالكهنةِ منْ أنفسهمْ
    أعرفُ ما يتخفَّوْن وراءه
    من أقنعة الدين الجوفاءْ

    الكهنةُ يا أُمّاهُ سعداءٌ بالآلهةِ العدّهْ
    فلُكلِّ إلهٍ سُلطانْ
    ومعابدُهُ
    وإتاواتهْ
    والكهنةُ يتخذون من الدينِ طقوساً وتجارهْ(12)
    وتفشل أمه في إثنائه عن ثورته، ويطلب منها أن تعود، أما هو فسيبدأ المواجهة: سيدعو إلى عقيدة التوحيد والنقاء، وعدم الابتزاز باسم الدين، وسيواجه الكهنة المتاجرين بالدين:
    أخناتون: عودي يا أمّاهُ لبيتِكْ
    بلْ عودي للكهنةِ ، قولي : أخناتونُ لكمْ بالمرصادْ
    قولي إنِّي قرّرتْ
    ألاّ أتخلّى عمّا أدعو لهْ
    شعبي لنْ يحكمَهُ بعدَ اليومْ
    فرعوْنٌ فاسدْ
    شعبي لنْ يرضى ربا آخر منْ آلهة الوادي
    فإله الوادي آتونْ
    يبرأُ منْ تجّار الدينْ(13)
    ويتفق الكهنة على محاكمة "أخناتون" وبخاصة أن كثيراً من مدن الوادي امتنعت عن دفع إتاوات الرب، واستمعت للفرعون "أخناتون" وأعوانه.
    (يتبع)
  • د. حسين علي محمد
    عضو أساسي
    • 14-10-2007
    • 867

    #2
    ولقد كان الكهنة يظنون أن الناس سيقفون في وجه الفرعون فيكف عن دعوته، لكن بصيرة الناس الثاقبة وجدت في الفرعون الإخلاص فسارت وراءه، وبدأ نفوذ الكهنة يتقلّص، فقرّروا محاكمة "أخناتون" لاتهامه بالإلحاد والخروج على دين الآباء والأجداد.
    (يطرق الكاهن الأكبر المنصة لكي يُعلن الحكم من ورقة أمامه)
    الكاهن الأكبر: نحن رجالَ الدينْ
    كهنةَ آمونَ الأعظمْ
    نُعلنُ أنّا حاكمْنا أخناتونْ
    وحكمْنا بالقتْلِ العادلْ
    إذْ خَرَجَ على دينِ الأجْدادْ
    وأتى بإلهٍ منْ وحْيِ خيالهْ
    وانْشقَّ على آمونَ الأعظمْ
    إنا باسمك يا آمونْ
    قدْ حاكمْنا أخناتونْ
    وحكمْنا بالقتْلِ عليهْ
    وعلى أتباعِهْ
    فليُقتلْ .. فليُقْتَلْ(14)
    ويحاول الكاهن الأكبر أن يستميل "آي" قائد القصر وفارسه، و"حور محب" قائد الشعب إلى جانبه، ويُعلن "الكاهن الأكبر" عن خطته لمحاربة الفرعون المارق وإسقاطه:
    الكاهن الأكبر: أما نحنُ فلهُ أعْددْنا العُدَّهْ
    لن نسكتَ بعدَ اليومْ
    لنْ يتفوَّقَ أخناتونُ عليْنا .. مهما كلَّفَنا الأمْرْ
    فالكهنةُ يمتلكونَ الألسنةَ الناعمةَ ..
    ويمتلكونَ المنطقَ والحُجَّهْ
    وإذا كانَ يُحاربُنا بالمالِ وبالسُّلْطهْ
    سنحاربُهُ بالمالِ وبالسُّلْطهْ
    ولديْنا أكثرُ منْ أموالِهْ
    ولديْنا سُلطتُنا في الناسْ(15)
    وهنا يتضح الصراع كما يفهمه الكهنة؛ إنه صراع ـ أو حرب ـ "من أجل السلطة والمال"، ونعرف أن الفرعون يريد الثورة ضد الظلم، والقهر، والسلب، ولكن الكاهن سيبذل كل جهده ـ وكل الكهنة معه ـ حتى يتم النصر على الفرعون المارق.
    ويلتف حول الكاهن الأكبر المستفيدون من السلطة، ويستميلون الملكة الأم "تي" إلى جانبهم، ويوزعون منشوراً على القادة وولايات المشرق التابعة للملكة بأن "أخناتون" مارق، وقد حكم الكهنة عليه بالقتل، ولكن الملكة الأم تؤوب إلى رشدها، وتعود لتقف بجوار ابنها طالبةً منه العودة إلى دين الآباء والأجداد وعدم معارضة الكهنة، ولكن "أخناتون" لا يوافق.
    ويتزوج "آي" من "نيجميت" أخت "أخناتون"، ويكون عيناً للكهنة على القصر، وهو المكلف بحراسته، ويفكِّر "آي" في القضاء على "أخناتون" حتى يعتلي العرش بعده، ويطرح على نفسه عدة حلول يختار أفضلَها:
    آي: الحلُّ الأمثلْ
    أن نطلبَ منهُ أن يتخلّى عنْ عرشِ الدولهْ
    فإذا رفضَ وعاندَ قيّدْناهُ وأوْدعناهُ سجْنَ القصْرْ
    فبهذا الحلِّ منافعُ شتّى بالنسبةِ لي
    لنْ أجدَ الأمرَ عسيراً .. كيْ أعلوَ فوقَ العرشْ
    فالكهنةُ أضمنهمْ وأُسيْطرُ بالحكمِ عليْهمْ
    والجيشُ معي
    والشعبُ بعيدٌ عمّا يحدثُ في القصْرْ(16)
    وفي المشهد الأخير تتجمّع كل الخيوط لتصل بنا إلى لحظة المكاشفة، حيث يتعرّف "أخناتون" على الخونة الذين يُحيطون به من كل جانب، وعلى رأسهم "آي" فارس القصر، وقائد الجيش، وزوج أخته (نيجميت)، ويدافع "أخناتون" عن دينه الجديد وربه الواحد في مواجهة الأرباب الكثر الذين باسمهم يسلب الكهنة الأموال والعطايا من الشعب، ولهذا فهو يتنحّى عن الحكم بعد أن يدين كل من حوله بتهمة التآمر عليه:
    أخناتون: إني لا أُعْفي كهنةَ آتونَ من التهمهْ
    لا أُعْفي آي
    لا أعُفي غيرَ الشعبَ الطيبْ
    فأنا أعرِفُ أهلي وأصالتَهمْ
    لكني أُشهِدُ ربي آتون
    أني أُصدرُ حكمي في مرضاتهْ
    (همهمة)
    أعلنُ باسمِ الشعبِ، وباسمِ الفرعوْنْ
    وباسمِ إلهي آتونْ
    أني قرَرْتُ نزولي عنْ عرشِ الدولهْ
    بإرادةِ إخناتونَ الفرعوْنْ
    لا بإرادةِ كهنةِ آمونَ أو الخونهْ(17)
    إن موقف (أخناتون) في النهاية موقف انهزامي، حيث ينسحب من المعركة، التي استخدمت فيها الأسلحة غير الشريفة ، وهو يعلم أنه يترك الساحة للأوغاد واللصوص والخونة والسفاحين، بل يطلب من الذين يحبونه أن يتبعوه إلى أرض أخرى.
    ولقد وقفت أمه (الملكة تي) ووزيره المخلص (رعموسى) ضد هذا القرار ، ولكنهما لم يستطيعا أن يثنياه عن قراره .
    رعموسى : (مقاطعا) لا يَا مَوْلايْ
    لا يُمْكِنْ
    لن نَسْمَحَ لَكْ
    تي : لا يَا ولَدي
    لَنْ يَرْضَى الشَّعْبُ بهذَا أبداً .. لو عَرِفَ حقيقةَ ما يَحْدُثْ
    أخناتون : أماه .. دعيني أفعلْ ما يُرْضيني
    يكْفِى أني طيلةَ عُمري ناصرتُ العَدْلْ
    يكفى أنّى آخيتُ الفقراءَ المُحْتاَجينَ .. وبلَّغْتُ رسالةَ آتونْ
    وأنكرني قَوْمي .. فأرَادُوا قَتْلي
    وكأنّي أدعُو لخَرَابِ العالمْ ‍!
    فلا بحث عْن أرضٍ أخرى .. صالحةٍ عَذْرَاءْ
    تؤمنُ بالحبّ وبالرَّحْمَهْ
    تَرْضَى أن يتآخى الناسُ وينتشرَ العَدْلْ ! (18)
    إن شخصية (أخناتون) هنا تحمل ظلالا من شخصية النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مفارقته أرض الكفر (مكة) إلى أرض الإيمان والنور (المدينة المنورة)، وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد هاجر من مكة إلى المدينة فلأمر سماوي ، ولحظة مرحلية ، يعود بعدها بتسعة أعوام فاتحا مكة ، وناشرا دينه ، لينضوي تحته قومه الذين حاربوه ووقفوا في طريق الدين الذي جاء به من عند ربه .
    لقد كان من الممكن أن يقنع (أخناتون) شعبه بأفكاره ويجندهم للوقوف معه ضد الكهنة ، لا أن يفر من المعركة منهزماً شاعراً بعدم قدرته على الصمود والتغيير، ما دامت هذه القوى المدافعة عن مكاسبها موجودة ، وتجند كل شئ للوقوف فى طريقه.
    يقول بعد المقطع السابق :
    أخناتون : يا سادةَ هذَا الوَادِي
    حتى لو أنّي واصلتُ الحُكْمَ ولم أتنَازلْ عنْ عَرْشِي
    فأناَ لَنْ أجِدَ مَكاَناً بَينْكَموُ للدعوةِ والحُبّْ
    فقلوبكمو أرضُُ جَرْدَاءْ
    لا تصلُح للزَّرْع ، ولا يَرْويهَا المَاءْ !
    وأنا لا أدعو لخرابِ العَالَمْ !
    أتركُكُمْ . أبحثُ عن أرضٍ أخرى صالحةً ، تتلقى كَلِمَاتِي
    تَنْموُ فِيها كَلِماَتِي
    يُشْرِقُ فيها آتونُ عَلَى مَخْلُوقاتِهْ
    أتركُ للشَّعْبِ محاسبةَ الكهنةِ والخَوَنَهْ
    فَهُوَ الحَكَمُ العَدْلُ
    فَمَنْ شَاءَ الربَّ، ومن شَاءَ الحبَّ، ومن شَاء الإيمانْ
    فليتْبَعْني (19)
    إن البطل هنا ، تجسيد حي للمصلح الديني في العالم الثالث ، الذي يجد نفسه محاصرا بين قوسين ، مطاردا من الحكام وأصحاب المصلحة، لا يقدر على أن يقول ما يرغب فيه وما يعتقده فهما صحيحا للدين ؛ فالقوى صاحبة المصلحة (الحكام ، وكبار رجال الدين) تعوقه وتهدده ، وهي قادرة على القضاء عليه في اللحظة التي تحس فيها أن مصالحها مهددة ، وليس أمام المصلح الديني في هذه اللحظة (إن نجا من القتل أو الاغتيال) غير خيارين أحلاهما مر : إما أن يكون صوت هذه القوى لا صوت نفسه ، وإما الابتعاد عن هذا المجتمع الذي لا يسمع ، ولا يستجيب !
    وقد اختار (أخناتون) الحل الثاني ، لأنه يرفض أن يكون صوت غيره ، خاصة في أمور تمس العقيدة ، ولذا لم يستجب لصوت أمه وهي تناديه :
    تي : لا يَا وَلدي. لاَ
    احكُمْ يا ولدى بالقتلِ عَلَى الخَوَنهْ
    لا تتركْ هَذَا الوادِي يَتَقَاسَمُهُ القتلةُ والسَّفاَّحُونْ
    ابقَ على عَرشِكَ يا وَلدى ، واقْتُلْهُمْ
    خَلِّصْ شعَبك مِنْهُمْ
    ابقَ .. ولا تَتَعَجَّلْ (20)
    وتعبر زوجته المخلصة (نفرتيتي) عن موقفه وتصميمه على ترك الحكم ، ومغادرة أرض الخونة والسفاحين ، فهو يرفض أن يعيش بين الباطل ، وأن يكون سوطه المسلط على رقاب الضعفاء والفقراء ، مبتزا نقودهم كإتاوات للمعبد وعطايا الكهنة .
    نفرتيتي : أمّاهْ
    لن يَرضْى زَوجي أن يَحْيا في أرضٍ تتلون من حوله
    يملؤها الخونةُ والسَّفَّاحُونْ
    لن يَرْضَىِ أنْ يَحْيا بَيْنَ البَاطِلْ
    فَهُوَ العَائِشُ بالحقّ
    وهِو الطيِّبُ لا يَرْضى غيرَ الصِّدْق
    فأريحي نَفْسَك يا أمَّاه (21).
    .................... .........
    الهوامش:
    (1) د. صلاح فضل: منهج الواقعية في الإبداع الأدبي، ط2، دار المعارف، القاهرة 1980م، ص143.
    (2) أحمد سويلم: أخناتون، دار المعارف، القاهرة 1982م، ص10 ، 11.
    (3) السابق، ص12.
    (4) هذا خطأ نحوي، والصواب: يرعك الرب، واقعة في جواب الشرط.
    (5) السابق، ص18.
    (6) السابق، ص15.
    (7) السابق، ص23 ، 24.
    (8) في معالجة هذه الفكرة يُنظر: حسين علي محمد: "أخناتون من مأساة الفرد إلى مأساة الجماعة"، مجلة "أصوات معاصرة"، العدد (20)، يوليو 1982م.
    (9) السابق، ص28.
    (10) السابق، ص28.
    (11) السابق، ص29.
    (12) السابق، ص30.
    (13) السابق، ص33.
    (14) السابق، ص38 ، 39.
    (15) السابق، ص41.
    (16) السابق، ص72 ، 73.
    (17) السابق، ص98.
    (18) المصدر السابق ، ص 98 ، 99.
    (19) المصدر السابق ، ص 99.
    (20) المصدر السابق ، ص 100.
    (21) المصدر السابق ، ص 100.

    تعليق

    • صادق حمزة منذر
      الأخطل الأخير
      مدير لجنة التنظيم والإدارة
      • 12-11-2009
      • 2944

      #3
      [align=center]

      من النادر أن يتخلى صاحب عرش عن عرشه
      وبهذه البساطة .. مع أن القضية المطروحة هنا هي ذات مضامين تعبر عن الحب واللإيمان
      والحرية والعدل .. وعندما يهزم كل هؤلاء فلا فائدة من البحث عن مكان آخر ..
      والإشكالية الثانية هنا ,, هي تبرير الضعف والهزيمة
      إن تصوير الانهزام على أنه نبالة المحارب هو محض هراء يدق أسافين الخنوع واليأس في نفوسنا نحن أصحاب الحقوق المغتصبة .. خصوصا وأن هذا العمل المسرحي هو إسقاط تاريخي لحالة معاصرة ..

      د. حسين علي محمد

      أشكرك على القراءة الممتعة لمسرحية إخناتون لأحمد سويلم

      تحيتي وتقديري لك
      [/align]




      تعليق

      يعمل...
      X