قراءة في مسرحية «أخناتون» لأحمد سويلم
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
إذا كنا قد وجدنا بعد هزيمة 1967م المسرح السياسي التحريضي المباشر، الذي يطرح كثيراً من السياسة وقليلاً من الفن، عامداً إلى مشاركة الجمهور ومخاطبة عقولهم. وإذا كانت هذه المسرحيات قدّمت رؤيتها من خلال مسرح الإسقاط السياسي الذي يعمد إلى الإبعاد سواء أكان الزماني أم المكاني في التاريخ حتى ينجو كاتب مسرح الإسقاط من عوائق الرقابة .. فإننا نجد مسرح الثمانينيات الشعري قد آثر مواجهة المجتمع وطرح قضاياه على الخشبة وأمام الجمهور، حتى يُشارك بدلوه في الدلاء.
ومن المسرحيات التي تُواجه المجتمع بقضاياه مسرحية "أخناتون" لأحمد سويلم، التي يشعر متلقيها أن مؤلفها لم يخلد إلى السكينة والراحة والتكرار الأجوف لما يقوله التاريخ، بل قدّم بطلاً معاصراً من لحم ودم، بطلاً يحزن ويتألم، ويُكاشف، ويُواجه وينسحب في النهاية، لكنه لا يُناور، بل يُواجه دائماً,
ومن خلال هذه الخصيصة ـ الحصار ـ يقدِّم أحمد سويلم نموذجاً طيبا لبطل الثمانينيات الذي يحس أنه مُحاصَر من قوى لا قبل لـه بها، وهو يلمس وتراً حساساً في عصب حياتنا المعاصرة. فالبطل في الثمانينيات يُحس أنه مُحاصَر و"غير مرغوب فيه"، والحصار يفرض حلقاته ويُضيِّقها عليه. وبهذا تُضيف المسرحية لبنة طيبة للبناء المسرحي المعاصر، لتميزها بلمس هذه الخصيصة المعاصرة، "لأننا عندما ندرس الأعمال الأدبية الكبرى نجد أن كلا منها يُعبِّر عن خاصية عميقة خالدة، وكلما أمعنت هذه الخاصية في العمق ارتقى العمل الأدبي إلى القمة، وأصبح خلاصة للروح القومي في شكل محسوس، وموجزاً للملامح الأساسية في فترة تاريخية محددة"(1).
وأحمد سويلم لم يختر "أخناتون" لأنه داعية توحيد حوربت دعوته، وإنما اختاره كقناع تاريخي بسبب رغبته في التغيير والتجديد، وفضح ما كان قائماً وسائداً. اختاره ليقدِّم لنا ـ وجهاً لوجه ـ صورة المصلح الديني، أو المجدد الديني، الذي يُواجه مجتمعاً دينيا تقليديا محافظاً، فلا يتقبّل مجتمعه آراءه الإصلاحية أو التجديدية، ويقف في طريقه أصحاب النفوذ والمصالح، ويُقاومونه بكل السبل، فلا يجد البطل مفرا من هجرة هذا المجتمع الجامد القاسي.
وتبدأ مأساة "أخناتون" قبل أن يتولى الحكم بعد وفاة أبيه، ويتضح ذلك في هذا الحوار الذي يدور بين الكاهنين (الأول والثاني) والكاهن الأكبر:
الكاهن الأول: لا نعرف عنه كثيراً
هو بالنسبةِ للناسِ وليُّ العهْدْ
ـ الحاكمُ بعْدَ أبيهِ الرَّاحلْ ـ
وبهيئتهِ يبدو للناسِ أليفا محبوبا
أما عن نظرته الدينية للآلهةِ
فهذأ أمْرٌ لا يُمكنُ أنْ نتأكَّدَ منهُ الآنْ
الكاهن الأكبر: وعلى كُلٍّ
فأنا لا تعنيني نظرته الدينيةُ للآلهةِ جميعاً
ما يعْنيني موقفُهُ منْ آمونَ ومنْ آلهةِ الوادي
كان أبوهُ الرّاحلُ لا يُصدرُ أمْراً منْ غيْرِ مشورتنا
حتى اقتنعَ الناسُ بنا .. وبآمونَ الربْ
الكاهن الثاني: وأنا من رأيِ أخي
(يظهر في الشاشة الخلفية رمز الشمس في أثناء كلام هذا الكاهن)
فالفرعونُ الشابْ
مختلِفٌ عنْ والدِهِ الرّاحلْ
تلكَ حقيقتُهُ .. يا أبتِ
نالَ ثقافتهُ وتعاليمهْ
خارجَ طيبهْ
أعرفُ عنْهُ أيضاً كيفَ يُحبُّ العُزلةَ والتفكيرَ وقول الشعرْ
وأنا أخشى هذا الصِّنفَ من الناسْ(2)
وبعد هذا الحوار يتبدّى لنا خوف الكهنة من "أخناتون"، ليس بسبب عدم تدينه، أو دعوته للتوحيد، أو رفضه للآلهة جميعاً، وإنما نعرف من كلام الكاهن الأكبر خوف الكهنة على مكانتهم الاجتماعية وسلطتهم الدنيوية، ويظهر هذا من قول "الكاهن الأكبر" السابق:
كان أبوهُ الرّاحلُ لا يُصدرُ أمْراً منْ غيْرِ مشورتنا
ويتراوح رأي الكهنة بين الحذر من "أخناتون" أو فرض الرأي عليه حتى يصير طوع بنانهم (ويستقرون على الرأي الثاني) ويتعاهدون على تنفيذه في حفل التتويج، حيث يعاهدونه باسم الرب آمون على حكم الشعب:
الكاهن الأول: فإذل فكّر (آمونحتبُ) يوماً في العبثِ بآرائه
ثارَ عليْهِ الشعبُ وثارتْ حاشيتُهْ
فالفرعوْنُ هنا قدْ خانَ العهْد !
الكاهن الأكبر: هُوَ ذا .. هُوَ ذا .. هذا ما أعنيه تماماً(3)
ويتم تتويج "أخناتون"، وتطلب منه أمه (الملكة تي) في حفلِ التتويج أن يُحبَّ شعبه، وأن يحكم بالعدل:
خُذ عنِّي يا ولدي
احكم بالعدْلْ
واغرسْ في أرضِكَ شجرَ الحكمهْ
هذا شعبُكَ يسعى لكْ
فاسعَ إليه
واجعله في عينيْكَ وفي قلبِكْ
يرعاكَ(4) الرب(5)
ويُعاهدها على ذلك.
وتبدأ المواجهة منذ "المشهد الأول"(6)، فالكهنة يرون في الشعب بقرةً حلوباً، ولا يهمهم إلا ما يأخذونه من الشعب الجائع، كإتاوات المعبد، ويمثل ذلك قول الكاهن الأكبر، بينما الكهان في الخلفية لا يهمهم يسوقون الناس بالسياط لدفع الجزية:
صوت الكاهن الأكبر: آمون .. أقوى آلهةِ الوادي
آمون .. سيد طيبهْ
يأمرُكُمْ آمونُ بتقديمِ قرابينِهْ
وبدفْعِ الجزيةِ في موْعدِها
أوْ يقْتلُكمْ قتْلا
يأمرُكمْ آتونُ بطاعةِ كهنتِهِ
أوْ يقْتلُكمْ قتْلا
يأمرُكمْ بإطاعة حاكمكمْ
مادامَ الحاكمُ في طاعةِ آمونْ
أوْ يقْتلُكمْ قتْلا(7)
فالكاهن الأكبر يضع الجزية وطاعة أمون والكهنة والحكام في جانب، والتهديد بالقتل في جانب آخر، وهذا ما يؤجج ثورة "أخناتون"، ويُشعل فتيلها(8).
وحينما تبدأ ثورة "أخناتون" نرى جزع أمه الشديد، فهي تعلم قدرة الكهنة على تأليب الشعب على الحاكم، وسحب البساط من تحت قدميه إذا لم يستمع لكلماتهم، ولهذا فهي تطلب منه أن يجعل إلهه له وحده، ويترك الكهنة وشأنهم!
تي: ما هذا يا ولدي ؟
أخناتون: (مستغرقاً لا يرد)
تي: لا يا ولدي
أنت ابني فافعلْ مثلَ أبيكْ
لا تخرجْ عنْ طبعِهْ
خذ عني يا ولدي كيْ تُسعِدَ شعبَكْ
خُذ عنِّي مثلَ أبيكْ
لا تخرجْ عنْ أمري
آمرُكَ بأنْ تتخلّى عمّا في عقْلِكْ
أنْ تتركَ آلهةَ الوادي للكهنةِ والناسْ
أما آتونُ إلهك هذا .. فهو إلهُك وحدكْ
ليس إله الكهنةِ والناسْ
يا ولدي أنا أدرى منكَ بأسرارِ الحكمْ
دعْ دينَ الآباءِ، ولا تُنكرْهْ
دعْ آلهة الوادي .. فلها الكهنةُ والأعوانْ
ولهمْ جبروتٌ .. ولهمْ سُلطانْ
لن تقدرَ وحدكَ أنْ تقفَ أمامَ الآلهةِ الأخرى(9)
وتطلب من زوجته "نفرتيتي" أن ترده إلى عقله، وتقول لها "نفرتيتي" أنها ستقف بجوار زوجها، ولن تتخلّى عنه، وهنا تُواجهها الأم بحنوّ وحزم بصيرين:
تي: ماذا تُجدي وقفتكِ بجانبهِ الآنْ ؟
والأخطارُ هنا منْ حوْلِهْ
لا بدَّ لهُ أنْ يتأَهَّبَ لمواجهةِ الحُكْمْ
.. لا أنْ يبدأ بمُعاداةِ الكهَنهْ
مَنْ مِنْ حكّامِ الوادي عاشَ بعيداً عن ظلِّ الكَهَنهْ ؟
مَنْ منهمْ عاشَ وحيدا ؟
فالكهنةُ في كلِّ زمانٍ ظلُّ الآلهةِ على الأرْضْ
يُسْدونَ البركةَ للحكّامْ
وبأمرِ الدينِ كذلكْ
يبْقى الحاكمُ أوْ يُعزلْ(10)
إن الملكة "تي" تحب ابنها، ولكنها تعلم أنه ليس بإمكانه أن يُواجه العاصفة وهو أعزل، وهي تعرف سطوةَ الدين، بل سطوة الكهنة الذين يُوظفون الدين ليكون عوناً لهم وخادماً في تحقيق أهدافهم، ولذا حينما تُثني "نفرتيتي" على رجاحة عقل زوجها وحكمته وسداد تفكيره تتحسَّر الأم على عدم الوعي، وتُخاطب "أخناتون" مفَطِّنةً له، والحسرة تعصفُ بها:
تي: (في حسرة)
يا ولدي .. لن يترككَ الكهنهْ
لن تغمضَ أعينُهمْ عنكْ
لن يُرضيهمْ آتونُ إلهُكْ
لن يُرضيهمْ
انجُ بنفسكَ يا ولدي من سلطانِ الكهنهْ
فأنا أعرفُهمْ(11)
ولكن "أخناتون" الثائر يقول إنه يعرف طريقه جيدا، ويعرف أن الكهنة ضعفاء، لأنهم ليسوا مُتَديِّنين كما يقولون (أو يزعمون)، وإنما يتخذون الدين مطية يصلون من خلاله إلى أغراضهم، وقناعاً للحكم واستنزاف أموال الفقراء:
أخناتون: أنا أدرى بالكهنةِ منْ أنفسهمْ
أعرفُ ما يتخفَّوْن وراءه
من أقنعة الدين الجوفاءْ
…
الكهنةُ يا أُمّاهُ سعداءٌ بالآلهةِ العدّهْ
فلُكلِّ إلهٍ سُلطانْ
ومعابدُهُ
وإتاواتهْ
والكهنةُ يتخذون من الدينِ طقوساً وتجارهْ(12)
وتفشل أمه في إثنائه عن ثورته، ويطلب منها أن تعود، أما هو فسيبدأ المواجهة: سيدعو إلى عقيدة التوحيد والنقاء، وعدم الابتزاز باسم الدين، وسيواجه الكهنة المتاجرين بالدين:
أخناتون: عودي يا أمّاهُ لبيتِكْ
بلْ عودي للكهنةِ ، قولي : أخناتونُ لكمْ بالمرصادْ
قولي إنِّي قرّرتْ
ألاّ أتخلّى عمّا أدعو لهْ
شعبي لنْ يحكمَهُ بعدَ اليومْ
فرعوْنٌ فاسدْ
شعبي لنْ يرضى ربا آخر منْ آلهة الوادي
فإله الوادي آتونْ
يبرأُ منْ تجّار الدينْ(13)
ويتفق الكهنة على محاكمة "أخناتون" وبخاصة أن كثيراً من مدن الوادي امتنعت عن دفع إتاوات الرب، واستمعت للفرعون "أخناتون" وأعوانه.
(يتبع)
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
إذا كنا قد وجدنا بعد هزيمة 1967م المسرح السياسي التحريضي المباشر، الذي يطرح كثيراً من السياسة وقليلاً من الفن، عامداً إلى مشاركة الجمهور ومخاطبة عقولهم. وإذا كانت هذه المسرحيات قدّمت رؤيتها من خلال مسرح الإسقاط السياسي الذي يعمد إلى الإبعاد سواء أكان الزماني أم المكاني في التاريخ حتى ينجو كاتب مسرح الإسقاط من عوائق الرقابة .. فإننا نجد مسرح الثمانينيات الشعري قد آثر مواجهة المجتمع وطرح قضاياه على الخشبة وأمام الجمهور، حتى يُشارك بدلوه في الدلاء.
ومن المسرحيات التي تُواجه المجتمع بقضاياه مسرحية "أخناتون" لأحمد سويلم، التي يشعر متلقيها أن مؤلفها لم يخلد إلى السكينة والراحة والتكرار الأجوف لما يقوله التاريخ، بل قدّم بطلاً معاصراً من لحم ودم، بطلاً يحزن ويتألم، ويُكاشف، ويُواجه وينسحب في النهاية، لكنه لا يُناور، بل يُواجه دائماً,
ومن خلال هذه الخصيصة ـ الحصار ـ يقدِّم أحمد سويلم نموذجاً طيبا لبطل الثمانينيات الذي يحس أنه مُحاصَر من قوى لا قبل لـه بها، وهو يلمس وتراً حساساً في عصب حياتنا المعاصرة. فالبطل في الثمانينيات يُحس أنه مُحاصَر و"غير مرغوب فيه"، والحصار يفرض حلقاته ويُضيِّقها عليه. وبهذا تُضيف المسرحية لبنة طيبة للبناء المسرحي المعاصر، لتميزها بلمس هذه الخصيصة المعاصرة، "لأننا عندما ندرس الأعمال الأدبية الكبرى نجد أن كلا منها يُعبِّر عن خاصية عميقة خالدة، وكلما أمعنت هذه الخاصية في العمق ارتقى العمل الأدبي إلى القمة، وأصبح خلاصة للروح القومي في شكل محسوس، وموجزاً للملامح الأساسية في فترة تاريخية محددة"(1).
وأحمد سويلم لم يختر "أخناتون" لأنه داعية توحيد حوربت دعوته، وإنما اختاره كقناع تاريخي بسبب رغبته في التغيير والتجديد، وفضح ما كان قائماً وسائداً. اختاره ليقدِّم لنا ـ وجهاً لوجه ـ صورة المصلح الديني، أو المجدد الديني، الذي يُواجه مجتمعاً دينيا تقليديا محافظاً، فلا يتقبّل مجتمعه آراءه الإصلاحية أو التجديدية، ويقف في طريقه أصحاب النفوذ والمصالح، ويُقاومونه بكل السبل، فلا يجد البطل مفرا من هجرة هذا المجتمع الجامد القاسي.
وتبدأ مأساة "أخناتون" قبل أن يتولى الحكم بعد وفاة أبيه، ويتضح ذلك في هذا الحوار الذي يدور بين الكاهنين (الأول والثاني) والكاهن الأكبر:
الكاهن الأول: لا نعرف عنه كثيراً
هو بالنسبةِ للناسِ وليُّ العهْدْ
ـ الحاكمُ بعْدَ أبيهِ الرَّاحلْ ـ
وبهيئتهِ يبدو للناسِ أليفا محبوبا
أما عن نظرته الدينية للآلهةِ
فهذأ أمْرٌ لا يُمكنُ أنْ نتأكَّدَ منهُ الآنْ
الكاهن الأكبر: وعلى كُلٍّ
فأنا لا تعنيني نظرته الدينيةُ للآلهةِ جميعاً
ما يعْنيني موقفُهُ منْ آمونَ ومنْ آلهةِ الوادي
كان أبوهُ الرّاحلُ لا يُصدرُ أمْراً منْ غيْرِ مشورتنا
حتى اقتنعَ الناسُ بنا .. وبآمونَ الربْ
الكاهن الثاني: وأنا من رأيِ أخي
(يظهر في الشاشة الخلفية رمز الشمس في أثناء كلام هذا الكاهن)
فالفرعونُ الشابْ
مختلِفٌ عنْ والدِهِ الرّاحلْ
تلكَ حقيقتُهُ .. يا أبتِ
نالَ ثقافتهُ وتعاليمهْ
خارجَ طيبهْ
أعرفُ عنْهُ أيضاً كيفَ يُحبُّ العُزلةَ والتفكيرَ وقول الشعرْ
وأنا أخشى هذا الصِّنفَ من الناسْ(2)
وبعد هذا الحوار يتبدّى لنا خوف الكهنة من "أخناتون"، ليس بسبب عدم تدينه، أو دعوته للتوحيد، أو رفضه للآلهة جميعاً، وإنما نعرف من كلام الكاهن الأكبر خوف الكهنة على مكانتهم الاجتماعية وسلطتهم الدنيوية، ويظهر هذا من قول "الكاهن الأكبر" السابق:
كان أبوهُ الرّاحلُ لا يُصدرُ أمْراً منْ غيْرِ مشورتنا
ويتراوح رأي الكهنة بين الحذر من "أخناتون" أو فرض الرأي عليه حتى يصير طوع بنانهم (ويستقرون على الرأي الثاني) ويتعاهدون على تنفيذه في حفل التتويج، حيث يعاهدونه باسم الرب آمون على حكم الشعب:
الكاهن الأول: فإذل فكّر (آمونحتبُ) يوماً في العبثِ بآرائه
ثارَ عليْهِ الشعبُ وثارتْ حاشيتُهْ
فالفرعوْنُ هنا قدْ خانَ العهْد !
الكاهن الأكبر: هُوَ ذا .. هُوَ ذا .. هذا ما أعنيه تماماً(3)
ويتم تتويج "أخناتون"، وتطلب منه أمه (الملكة تي) في حفلِ التتويج أن يُحبَّ شعبه، وأن يحكم بالعدل:
خُذ عنِّي يا ولدي
احكم بالعدْلْ
واغرسْ في أرضِكَ شجرَ الحكمهْ
هذا شعبُكَ يسعى لكْ
فاسعَ إليه
واجعله في عينيْكَ وفي قلبِكْ
يرعاكَ(4) الرب(5)
ويُعاهدها على ذلك.
وتبدأ المواجهة منذ "المشهد الأول"(6)، فالكهنة يرون في الشعب بقرةً حلوباً، ولا يهمهم إلا ما يأخذونه من الشعب الجائع، كإتاوات المعبد، ويمثل ذلك قول الكاهن الأكبر، بينما الكهان في الخلفية لا يهمهم يسوقون الناس بالسياط لدفع الجزية:
صوت الكاهن الأكبر: آمون .. أقوى آلهةِ الوادي
آمون .. سيد طيبهْ
يأمرُكُمْ آمونُ بتقديمِ قرابينِهْ
وبدفْعِ الجزيةِ في موْعدِها
أوْ يقْتلُكمْ قتْلا
يأمرُكمْ آتونُ بطاعةِ كهنتِهِ
أوْ يقْتلُكمْ قتْلا
يأمرُكمْ بإطاعة حاكمكمْ
مادامَ الحاكمُ في طاعةِ آمونْ
أوْ يقْتلُكمْ قتْلا(7)
فالكاهن الأكبر يضع الجزية وطاعة أمون والكهنة والحكام في جانب، والتهديد بالقتل في جانب آخر، وهذا ما يؤجج ثورة "أخناتون"، ويُشعل فتيلها(8).
وحينما تبدأ ثورة "أخناتون" نرى جزع أمه الشديد، فهي تعلم قدرة الكهنة على تأليب الشعب على الحاكم، وسحب البساط من تحت قدميه إذا لم يستمع لكلماتهم، ولهذا فهي تطلب منه أن يجعل إلهه له وحده، ويترك الكهنة وشأنهم!
تي: ما هذا يا ولدي ؟
أخناتون: (مستغرقاً لا يرد)
تي: لا يا ولدي
أنت ابني فافعلْ مثلَ أبيكْ
لا تخرجْ عنْ طبعِهْ
خذ عني يا ولدي كيْ تُسعِدَ شعبَكْ
خُذ عنِّي مثلَ أبيكْ
لا تخرجْ عنْ أمري
آمرُكَ بأنْ تتخلّى عمّا في عقْلِكْ
أنْ تتركَ آلهةَ الوادي للكهنةِ والناسْ
أما آتونُ إلهك هذا .. فهو إلهُك وحدكْ
ليس إله الكهنةِ والناسْ
يا ولدي أنا أدرى منكَ بأسرارِ الحكمْ
دعْ دينَ الآباءِ، ولا تُنكرْهْ
دعْ آلهة الوادي .. فلها الكهنةُ والأعوانْ
ولهمْ جبروتٌ .. ولهمْ سُلطانْ
لن تقدرَ وحدكَ أنْ تقفَ أمامَ الآلهةِ الأخرى(9)
وتطلب من زوجته "نفرتيتي" أن ترده إلى عقله، وتقول لها "نفرتيتي" أنها ستقف بجوار زوجها، ولن تتخلّى عنه، وهنا تُواجهها الأم بحنوّ وحزم بصيرين:
تي: ماذا تُجدي وقفتكِ بجانبهِ الآنْ ؟
والأخطارُ هنا منْ حوْلِهْ
لا بدَّ لهُ أنْ يتأَهَّبَ لمواجهةِ الحُكْمْ
.. لا أنْ يبدأ بمُعاداةِ الكهَنهْ
مَنْ مِنْ حكّامِ الوادي عاشَ بعيداً عن ظلِّ الكَهَنهْ ؟
مَنْ منهمْ عاشَ وحيدا ؟
فالكهنةُ في كلِّ زمانٍ ظلُّ الآلهةِ على الأرْضْ
يُسْدونَ البركةَ للحكّامْ
وبأمرِ الدينِ كذلكْ
يبْقى الحاكمُ أوْ يُعزلْ(10)
إن الملكة "تي" تحب ابنها، ولكنها تعلم أنه ليس بإمكانه أن يُواجه العاصفة وهو أعزل، وهي تعرف سطوةَ الدين، بل سطوة الكهنة الذين يُوظفون الدين ليكون عوناً لهم وخادماً في تحقيق أهدافهم، ولذا حينما تُثني "نفرتيتي" على رجاحة عقل زوجها وحكمته وسداد تفكيره تتحسَّر الأم على عدم الوعي، وتُخاطب "أخناتون" مفَطِّنةً له، والحسرة تعصفُ بها:
تي: (في حسرة)
يا ولدي .. لن يترككَ الكهنهْ
لن تغمضَ أعينُهمْ عنكْ
لن يُرضيهمْ آتونُ إلهُكْ
لن يُرضيهمْ
انجُ بنفسكَ يا ولدي من سلطانِ الكهنهْ
فأنا أعرفُهمْ(11)
ولكن "أخناتون" الثائر يقول إنه يعرف طريقه جيدا، ويعرف أن الكهنة ضعفاء، لأنهم ليسوا مُتَديِّنين كما يقولون (أو يزعمون)، وإنما يتخذون الدين مطية يصلون من خلاله إلى أغراضهم، وقناعاً للحكم واستنزاف أموال الفقراء:
أخناتون: أنا أدرى بالكهنةِ منْ أنفسهمْ
أعرفُ ما يتخفَّوْن وراءه
من أقنعة الدين الجوفاءْ
…
الكهنةُ يا أُمّاهُ سعداءٌ بالآلهةِ العدّهْ
فلُكلِّ إلهٍ سُلطانْ
ومعابدُهُ
وإتاواتهْ
والكهنةُ يتخذون من الدينِ طقوساً وتجارهْ(12)
وتفشل أمه في إثنائه عن ثورته، ويطلب منها أن تعود، أما هو فسيبدأ المواجهة: سيدعو إلى عقيدة التوحيد والنقاء، وعدم الابتزاز باسم الدين، وسيواجه الكهنة المتاجرين بالدين:
أخناتون: عودي يا أمّاهُ لبيتِكْ
بلْ عودي للكهنةِ ، قولي : أخناتونُ لكمْ بالمرصادْ
قولي إنِّي قرّرتْ
ألاّ أتخلّى عمّا أدعو لهْ
شعبي لنْ يحكمَهُ بعدَ اليومْ
فرعوْنٌ فاسدْ
شعبي لنْ يرضى ربا آخر منْ آلهة الوادي
فإله الوادي آتونْ
يبرأُ منْ تجّار الدينْ(13)
ويتفق الكهنة على محاكمة "أخناتون" وبخاصة أن كثيراً من مدن الوادي امتنعت عن دفع إتاوات الرب، واستمعت للفرعون "أخناتون" وأعوانه.
(يتبع)
تعليق