إلى وجوه حميمة ,طي ذكريات عالم قديم..
أحمد
أحمد
القسم الأول :
I
رائحة الشعراء..رائحتهم تلك التي تفوح بالحكايا والنبوءات تدهمه فيما هو منكب على رسائل ومدونات دبك , التي تنضح بالنبوءة الأكبر,من بين كل النبؤات .. نبؤة الحب ..هذا النوع الغريب من الحب ,الذي جمع بين الكرسني وحجب النور..فاطمة السمحة وود النمير ..هذا الحب البّري المتوحش ,المتعطش, الذي ربط بين كثيرين وكثيرات ,حفلت الرسائل والمدونات بتسجيل ,أدق تفاصيل تواصلهم ..هذا الحب الذي كاللعنة في تخلله, لحياة البلاد الكبيرة ,وإسهامه فيما حل ويحل بها..كحب أبوجريد لمسك النبي,الذي سيشكل حياة الأشرمين من بعد .. حبه هو شخصيا للكساندرا ,التي يجيء طيفها متسللا رائحة اللافندر المتماهية في أغنية الحب لن ينتظرك :
Cause love ain't gonna wait for you
Don't run, don't hide
Love ain't gonna wait for you
It's so good, it's so right
Love ain't gonna wait for you
You know that it's true
حياة دبك لغير المقربين منه, تبدو غريبة ومتناقضة في الآن نفسه,إذ تنهض في قدرته على تسريب تلك المشاعر المتباينة:التوبة,القدر,الثورة,التراجيديا,القلق والشغف حد الموت..
وكلما أقتربت منه أكثر,كلما أكتشفت: أن هذه المشاعر المتناقضة هي الإختصار لمعنى الحب/القضية عنده..إذ لم يكن ثمة فرق واضح, أو حدود فاصلة في ذاكرته المتعبة,بين حنينه إلى حبيبته نينا وحلمه الموغل في الضباب : مملكة "مارتجلو" القديمة,التي دفعه إيغاله في ذكرياتها البائدة,لمحاولات السيطرة المتكررة,على جلابي ودعربي!..
كان دبك مدفوعا بهذه المشاعر المختلطة,التي كادت أن تودي بحياته ,التي سيختمها هناك في آخر الدنيا,لا تؤانسه سوى ذكريات صراعه المستميت ,وحبه المتجدد في عزلة البرد والصقيع ..
كان دبك في شبابه رجلا إستثنائيا,لا تنقصه الشجاعة,ويدرك أن أصعب شيء لمن هو مثله :الإبتعاد عن الشر.. وظل جلابي ود عربي ,هو التجسيد الحي لما يطلق عليه دبك شرا.
حبيبته نينا الورتابة,تكرر مرارا بخفوت "نظراتك تخيفني..تثقبني..من أين جئت بهذه العيون؟"..
وكعادته عند تلقف يدها,لا يعلم ما هو أفضل شيء,يمكن أن يقوله لها الآن!.
دبك رغم مرور سنوات طوال ,لا يزال يتذكر في قيلولاته المتكاسلة,كل ما مر بحياته من مرارات وأسى..كأن كل شيء حدث البارحة فقط,وبين ذكرى وأخرى ,يتوقف ليستعيد كل وقائع التاريخ المتواتر,لمملكة "مارتجلو" التي لم يعد لها وجود,منذ حل ود بندة بأرضها,ناقلا هذه الذكريات والتاريخ لحفيده الكلس,في سبعة مدونات ,ستؤرق قراءتها وتحليلها هذا الآخير لعشرات السنوات ,إلى أن يقضي نحبه بين فخذي إمرأة عابرة ,في إحدى المحطات النائية البعيدة ,خارج حدود العالم المأهول.
وفيما أنامل غلوريا تحاول التسلل من فتحة بنطلون الكلس, لتمارس هوايتها المحببة:العبث بما تعتبره مقتنياتها الخاصة,المهاجرة عبر البحار,كان الكلس يحاول التركيز في قيادة عربته الشيفي الطاعنة في السن,بينما تتبدى له شوارع برينسس آن..هذه البلدة الريفية الناهضة أقصى الساحل الشرقي لميريلاند,خالية من زحامها .يسودها صمت كئيب ألفته,خاصة في الشتاءات الباردة كهذا الشتاء..
كانت حركة أوراق الشجر,قد اختنق حفيفها المعتاد, عند ملامسة الهواء المكتوم .كأن البلدة لم تعد هي البلدة ذاتها, التي أصطفت على جانبيها أشجار الأوك المتمايلة ,بطيورها التي لا تتوقف عن التغريد ,والتي تبادل فيها صبيحة اليوم,ثلاثة من الآفرو أميركان, النار مع البوليس الفدرالي
..
كأنها ليست البلدة ذاتها ,التي شهدت محاولات سطو الآفرو أميركان الثلاثة, على مكتب البريد الوحيد,الذي ينتصب في منتصف سمرست آفنيو ,بتردد من يترقب حوالة مجهولة ,تضل طريقها إليه!..
عندما رد البوليس على نيران الآفرو أميركان الثلاثة-الذين كان قد أعتقد في البدء أنهم مكسيكيون-التي أنطلقت من أسلحتهم الأتوماتيكية,ساد الهرج والمرج أنحاء البلدة,التي لم يخفي سكانها سخطهم,من عنف الشرطة,التي حملوها مسئولية مقتل إثنين,والحالة الخطيرة للثالث..
لا أحد يعرف كيف علمت أجهزة الإعلام الولائي بالخبر,إذ إنتشر إنتشار النار في الهشيم,ولاكته (سي إن إن )أكثر من مرة ,خلال ذلك اليوم مصورا بالتفاصيل الدقيقة ,منذ أتكأ أحد البلاك,على شجرة أوك عجوز,يراقب الطريق ,إلى أن دهم البوليس المكان..
كان الأهالي أثناء سخطهم ,قد أستعادت ذاكرتهم كل مرارات الماضي,منذ جاءت سفن تجار الرقيق,تحمل أسلافهم لتحط بهم هنا,في هذه البلاد البعيدة..
"وفي ميدان البريد أمام الكنيسة كان يتم تصنيفهم, فيمضي بعضهم خدما للمنازل,وآخرين للمزارع أو المصانع,أوالأشغال الأخرى العديدة, التي يزخر بها العالم الجديد..الصغيرات الجميلات فتحت لهن الملاهي وعلب الليل أبوابها,وآخرون أشرعت لهم وحدات الجيش الوليد أبوابها.."...
لاذت غلوريا بصمت أعتاده ,وأناملها الرقيقة تتوتر, فيصدر إحتكاكها بفتحة البنطلون تشنجا غير مألوف.. يلحظه للمرة الأولى..
إستمر غضب الأهالي لساعات,يضفي على البلدة مناخا من التوتر والتحفز,إلى أن بدأت تسترد هدؤها المعتاد,شيئا فشيئا ,وتعود إلى ذاتها المقموعة ,كبلدة صغيرة معزولة على ساحل مغمور للأطلسي الرهيب,تعتمد حركة الحياة فيها ,على الفروع الصغيرة للمؤسسات الفدرالية والولائية, وبعض فروع الشركات الخاصة,ولولا الجامعة الصغيرة, التي قامت بموجب سياسات التمييز الإيجابي,لكانت حركة الحياة هنا شبه معدومة,خاصة في الصيف, عندما يغادر الطلاب..
إذن كل شيء عاد إلى سيرته الأولى .كأن شيئا لم يكن ,إذ أعتاد الناس هنا, العثور على جثث ضحايا صراعات حرب المخدرات, في الصبيحات الباكرة,متمزقة أمام دورهم ,أو رؤية أشخاص في الرمق الأخير ,بأنوف نازفة وأجساد متمزقة,وثياب مضرجة بالدم,فالعنف جزء من مكونات هذه البلدة العريقة..
العربات أيضا أخذت تقل شيئا فشيئا,والبرودة الصقيعية تشتد, فتحاصر الأضواء المتراقصة بين الإضاءات المتقطعة,إشارات المرور الملونة,التي أخذ اللون الأخضر بينها, يأخذ زمنا أطول ,قبل أن ينطفيء مفسحا للبرتقالي فالأحمر,إلى أن ثبت تماما بين أضواء الشارع المتراقصة,في هذا الطقس البارد الذي يصعب التنبوء بتقلباته.
غرقت البلدة الريفية في الصمت.وحدهما الباروالنادي الليلي,كانا لا يزالان مشرعان أبوابهما يتحدان الصمت والمناخ..
ربما تبدأ بعد قليل ندف من الثلج في التساقط,وربما يختنق الجو تحت وطء مطر متقطع..ربما تعصف رياح مثقلة ,بالرطوبة العكرة للغابات ,التي تسيج البلدة من كل إتجاه ,لا تتخللها سوى طرق الأسفلت,والجسور,والبيوت المتناثرة,ومزارع الدواجن...
أوقف الكلس عربته الشيفي القديمة .. صعد وغلوريا للدور الأول من المبنى العتيق,حيث شقته الصغيرة,التي تبدو من الداخل كعالم معزول..غريب عن هذا المبنى الكبير,بجدارياتها ذات الوجوه الأفريقية,حادة التقاطيع,وتماثيل الأبنوس,التي توزعت في أنحاء الشقة في نظام دقيق...
فيما مضت غلوريا تخلع حذائها وثيابها لتستحم,وترتدي - كالعادة- قميص نوم شفاف يكشف كل شيء,كان هو قد شغل الراديو القديم,بعد أن ضبط موجاته ,على إحدى الإذاعات المغرمة ب"الكنتري ميوزيك" ,ثم مضى يفتح النوافذ ,المطلة على الشارع المزدحم بالمحلات التجارية,قبل أن يغير ملابسه ,ويستلقى في سريره المجاور لنافذته المحببة,التي يرصد منها حركة الناس وضجيجهم وإيقاع حياتهم اليومية الحافلة بالجنون..
ومثل كل ليلة .. ما أن يرمي بجسمه الفارع ,متهالكا على السرير,منتظرا غلوريا تنهض من التسريحة,بعد أن تكون قد فرغت من سقيا زهور الشرفة,وجاءت لتغفو على صدره ,تفوح منها رائحة الشامبو اللافندر,تأتي طيوف الذكريات, أو هذه العوالم ذات الوقائع العجيبة,التي لا يدري كيف يسميها. تأتي ممزقة كل الغلالات ,التي تلف قلبه وذاكرته,لتحتل فضاء الشقة ,فلا يعد يرى سوى عوالم طاعنة في القدم ,تتفتق عن أصوات الماضي العريق,الذي يمد جذوره في مملكة "مارتجلو" وود بندة وجلابي ودار صباح والأرباب.. فيمتليء بشعور رطب,عطن,يتسرب من دريب الريح عند مفرق الأودية الثلاثة,لا تلبث تسرباته تستحيل إلى تدفق عارم,يعطي نكهة خاصة لهذا الجو المتقلب,الذي ينحاز في هذه اللحظة بالذات, لمطر يتساقط في وتيرة واحدة,ما يضطره للنهوض..
يغلق النوافذ. يسدل الستائر,فتصبح الشقة, أشبه بسفينة غارقة,في بحر من الضوء الخافت,الذي يبتلعها جزء فجزء ,فتطفو على السطح الممالك المتعاقبة,لعالم البلاد الكبيرة,ضاربة القدم,في هذا الفضاء الحلمي ,المعتق في الأطياف الباهتة,التي تبدأ في التشكل شيئا فشيئا,ليجد الكلس نفسه واقفا عند ودبندة,الذي كان وقتها يجوس في مستنقعات الماضي,فيما كانت بت فدر الله قد عكفت على وضع الخططفي ذاكرتها,بكوخها المعتم ذو الأثاث العتيق .الغريب.المتنافر.الذي كان معظمه من الفخار والخشب,والذي يتوسطه ,في مكان يصطاد العين العابرة : صندوق خشبي عتيق يحتوي على رماد رفاة جانو قرمط !...
كان الكوخ نائيا في أطراف الحاضرة, ذات الشوارع البائسة,المعتمة,التي تعاني الوحدة والبؤس, منذ أعتلى الهلاليون عرشها . حيث أصبح لفصولها الثلاثة,الخلو من الربيع ,طعم العرق الزنخ ,بوسخ الغبار وحرارة الإستواء العكرة ,وفيما كانت هي تضع تلك الخطط الفاشلة,التي تقلبها واحدة إثرأخرى ,وسرعان ما تتخلى عنها لتقفز للتي تليها ,أو التي تولد في هذه اللحظة,كانت إبنتها حجب النور,ترقبها في لا مبالاة,وهي تفيق للتو من إحدى قيلولاتها ,التي يدهمها فيها ذلك الفتى الفارع, الذي يبلل حشايا "عنقريبها" ,الذي جففته الوحدة القاسية لذلك الكوخ المعزول ..
صبيحة ذلك اليوم ,الذي رأى فيه ود بندة حجب النور,كانت هي قد نالت قسطا من الراحة ,دون أن تقلق أنوثتها ,تلك الأحلام المعتادة ..
إلتفت بغطائها الصوف العتيق ,الذي ورثته أمها بت فدرالله عن جدتها ,التي زعمت أنه كان للكنداكة .. إعتاد هذا الغطاء الملكي,إستلقاء كنوز حجب النور تحته, في دعة وحبور,متجاورة في تدوراتها وتعرجاتها الغارقة في الحوار, مع الكنوز الملكية للكنداكة ,ومسك النبي ,وأم حجل وكل الكنوز الأخرى,التي تعاقبت داخله لمئات السنوات,تاركة ظلالا خافتة. دافئة. لفتنة لاترى إلا في البوح ,الذي يرتج في جسم حجب النور,الذي كان قد أكتسب معارفه الملكية المبكرة ,من هذا الغطاء.. فظلت حجب النور تجاهد إخفاء هذه المعارف ,عن بت فدرالله,التي لم يكن ثمة شيء يخفى عليها ,مع أنها كانت تدعي عدم معرفتها ,بهذا الحوار المتواصل ,بين جسد إبنتها, والأجساد التي تعاقب عليها الغطاء, منذ أهداه أحد تجار درب الأربعين للكنداكة إلى أن آل إلى جدة بت فدرالله في ظروف غامضة.,ضمن غنائم وأسلاب الجيوش المتحالفة ,التي دهمت بلدة الأرباب في زمان بعيد.
هي شخصيا بت فدرالله, كانت قد عاشت هذا الحوار الليلي المتواصل ,طيلة حياتها العامرة بالأشجان واللوعة.. داخل هذا الثوب تحاور جسدها مع أجساد نساء كثر, وتألمت كثيرا لحكايا قلوب محطمة وأخرى مسترقة, وتوقفت طويلا عند قلب مستبد, لم تكشف ذاكرة الثوب عن هويته ..ولكم شعرت بالحزن والأسى, وهي تتحسس الآثار الحميمة, التي خلفها ود النمير وأم حجل كالبصمة التي لا تختفي على كل حشايا هذا الثوب,الذي لا يخلو من آثار بقع منطفئة لا يمكن إزالتها عن ذاكرة الثوب..
عندما بدأ جسد بت فدر الله في اليباس ,مع بروز التكورات الأولى لحجب النور ,قدمت لها هذا الثوب, الذي سترث معه في الحقيقة, أشجان والتياعات النساء أجمعين.
كانت بت فدرالله, قد خرجت في ذلك الصباح ,إلى الحاضرة في أحد شئوونها الكثيرة, التي لا تدري هي نفسها شيئا عن أكثرها .وبينما بدأت تعسيلة النوم مرة أخرى, إثر صحوة الصباح ,تدهم حجب النور شوشت خطى مترددة غفوتها المؤجلة..
قمعت تعسيلتها المعتادة ,ونهضت. فرأت ود بندة, الذي تسمر يحدق فيها كالمصروع, الذي باغته ملاك, وفاجأه أنه سيكون النبي القادم .
إنتفض قلبها.. لكن لم يكن ود بندة ,هو ذات ذلك الوجه ,الذي تتبدى عنه أحلامها ,يببللها بالدفء.. ضغطت بأقدامها على الأرض ,ويدها على قلبها .تحاول تثبيته في مكانه ,كان كل شيء حولها ,قد بدا مختنقا...
تحت ظل تلك الخميلة .متكئة على كوخه. تزوج الكرسني حجب النور ,التي تجردت آخيرا من كنفوسها القطني ,وإزار الصوف الذي يغطي صدرها ,مبقية فقط على رحطها المحلى بالخرز الملون والعاج, الذي ورثته بت فدرالله عن جدتها الكبرى ,وزعمت أنه الرحط نفسه الذي أرتدته الكنداكة ,ليلة قطف عريسها وردة جرحها وتركها بلا جرح...
تزوجا إذن محاطين برائحة الجروف النيلية, وأشجار الجوافة التي سيجت الخميلة, بما يشبه الدخان الذي لاح في قلبه طيفاهما الغائمان كرمش محاصربدموع متكاثفة ..
كان كوخ الكرسني نموذجا مصغرا ,لغرف نوم بني هلال المتوارثة ,عبر االفردوس المفقود والبحر الملون, وصحراء الشمال القاحلة,والتي كانت كعادة قصور الخلافة , مثلما لاتخلو من المباهج والليال الحمراء ,تحتشد أيضا بإرث الروم والفرس ,ممثلا في التماثيل الأنيقة ,والسجاجيد الحريرية.
كانت هذه التماثيل ,تزين الجنبات الأربع للكوخ ,الذي لايبدو خارجه الفقير كداخله الوثير, الترف.. وحيث يجثم صندوق صغير ,قرب تمثال للهلالي الكبير, وضعت حجب النور الصندوق, الذي يحمل رفاة جانوقرمط ,الذي لم يعرف الكرسني محتواه, أو كيف وصل إلى هنا أبدا.
في تلك الليلة ,تجرعا كثيرا من عرق البلح ,الذي بدأت صناعته تروج ,حتى لم يعودا يتذكران شيئا, عن كيف ومتى وأين ألتقيا, وتزوجا .. فقط التنهدات التي تكشف عن أفكار متناهية الصغر ,كالذرات. كانت هي ما يشكل هذا التوحد الكلي في الصمت, الخاضع لعذابات مختزنة في الذاكرة والجسد, والأحلام الهاربة ..
حفر الكرسني عميقا .. عميقا ,حيث تنقبض الأرض وتفيض "كجمام" الوديان ,ليخمد بعدها كل شيء: الحياة الممتدة على ضفاف الخميلة .. الكوخ الذي لطالما تراءى لعرافي قصر أبي هلال ,في كراتهم البلورية ,وخطوط يد الكرسني ,وملامح وجهه المخدد بالعزلة ووحشة البرية ..
كانت لحظتها قد بدأت أصائل ضيقة تكتم الأنفاس, برياحها المعتقة ,في الهبوب الجافة ,التي تسحق الرياح ,المحملة برائحة طين الجروف ,والطمي وعشبات معونة النيل ..
يستحيل هذا المسحوق, شيئا مزيجا من النداوة الواهنة, والبرودة المختنقة ,وفي هذا المزيج, بدأت تلوح في أفق حياة حجب النور متجددة ,تلك النبواءت التي حملها صوت بت فدر الله ,و"الفقرا" حيران جانو قرمط , لتلازمها لوقت طويل, حتى بعد أن يستلم طفلها أبي جريد مقاليد الحكم في دار صباح ,ململما أطراف البلاد الكبيرة تحت سلطته, لتدخل دار الريح, تحت ظل هذه السلطة ,طائعة مختارة ,وفاء من ودبندة لذكرى شيخه جانو قرمط..
II
أولئك الغرباء الذين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب "الفقرا",الذين كانوا قد بدأوا يتقاطرون على مارتجلو ,منذ تلك اللحظة .التي إستلم فيها ود بندة مقاليد السلطة في مارتجلو ,موحدا دار الريح كلها تحت حكمه ,ومغيرا إسمها من مملكة مارتجلو إلى مملكة ود بندة ,التي أتبعها بمحض إرادته, لسلطة الهلاليين, والطائفة الجريدية في دار صباح ..
منذ تلك اللحظة الفارقة بين عالمين :عالم مارتجلو القديم ,الذي لا تزال تشكل وجوده بقايا التعاليم العتيقة للمقدس دالي,وعالم ود بندة ودار صباح ,الذي بدأ يأخذ طابع الهلاليين و الجريديين شيئا فشيئا ,مضت رياح التحولات كانسة أمامها كل شيء ,إلى أن وصلت ذروتها في الشلال ,فتغير إسمها مرة أخرى إلى مملكة "جلابي ود عربي" .. هذه المملكة التي أصبحت تعج بالغرباء ,أكثر من أي وقت مضى ..
الغرباء شديدي الشبه بأولئك "الفقرا" الذين تمردوا على تعاليم دالي ,فأنتهى الأمر بمارتجلو إلى فيضان, لا تزال آثاره في ذاكرة المكان ترتسم بوضوح . فالفقرا الذين تواترت إليهم الحكايات العديدة ,عن جنة عدن,والألياذة والأوديسة ,والمغنين الجوالة ,ووصلتهم نتف متفرقة من هيرقليطس ,فبدأوا يتأملون حول الطبيعة والقدر ,إلى أن حكى لهم أحد تجار طريق الحرير, كان قد ضل طريقه من الفلسفة إلى التجارة والترحال ,ما تناهى إليه عن سقراط وافلاطون وأثينا ..
هذه المتواترات المتفرقة التي كانت تصل مع قوافل التجارة ,بصورة متفرقة ,جذبت إهتمام تلك الفئة من الناس, وفتحت شهيتهم ,التي وجدت المزيد في رحلات بعضهم,التي امتدت لعقود من الزمان,جابوا فيها البحاروقطعوا صحارى وجبال ,ليعودوا بعدها طاعنين في السن ,دون أن يتعرف عليهم أحد ,فجيلهم كان قد انقرض ,وظلوا هم وحدهم على قيد الحياة ,كأن تلك الرحلات الطويلة المضنية ,مدت أعمارهم ,ومدتهم بأسباب البقاء ,ومقاومة الزمن الذي كانت خطاه ,تدب في عظامهم باستماتة النخر الدؤوب.. فيصرون على الحياة أكثر فأكثر,بتلك التجمعات التي يقيمونها,ليحدثوا الناس عن أرسطو ويوربيدس والهيلينيين والقرون الوسطى ,لكن كانت معرفتهم تقف عند هذه التخوم ,دون أن تتقدم شبرا واحدا ,فذاك كان منتهى معارفهم الفاشلة ,التي لم تكن حياة الناس اليومية ,بحاجة إليها - مثلما كان الكلس يعتقد ,في أواخر أيامه,التي قطف فيها وردة جرح شهرزاد ,متجنبا لقاءها بعد ذلك,إلى أن غادر إلى بلاد اليانكي - وفي الحقيقة كان العالم كله يقف عند هذه اللحظة ,منتظرا دورة نهايته المأساوية ..
ربما أن هذا الخليط من الحكايات المتناثرة ,التي لا تخلو من سحر وعبثية ,لم تحسم الجدل القائم بين أيهما خلق أولا :الدجاجة أم البيضة ..الأمر الذي أوحى لجلابي ود عربي ,بالتوحد مع دارصباح,ونشر طابع حياتها ومعتقداتها في دار الريح ..
III
كان التعب والأعياء قد نالا من حجب النور ,بعد مقاومتها الطويلة للكرسني ,فاستسلمت في حضنه, على صهوة الجواد ,الذي نهب بهما الأرض ,وأخذ وقع حوافره يتباعد شيئا فشيئا عن حاضرة دار صباح ,إلى أن وصلا إلى تلك الخميلة, التي تشبه الخميلة التي أقامت فيها بت فدرالله كوخها,الذي شهد طفولة حجب النور وصباها ....
ترجل الكرسني وأنزلها عن صهوة الجواد برفق,وهو يقودها إلى داخل الخميلة,التي أنتصب فيها كوخ يشبه كوخ بت فدرالله.أجلسها تحت شجرة تمرهندي,ترمي بأغصانها على الكوخ حتى لتكاد تخفيه عن العيون المتلصصة ,وهي صامتة جزعة,لا تقوى على أن تنبث ببنت شفة ..
حاول تهدئة مخاوفها ,بصوته الذي تناهى إليها كأنه قادم من البعيد .. من أعماق ذكرياتها المبللة,وأحلامها الدافئة .. حكى لها حكايته من المبتدأ إلى المنتهى , دون أن يخفي عنها شيئا من أسرار حياته,التي لطالما أحاطها بالعزلة ,التي لم يفتح عوالمها القصية ,حتى لصديقه الوحيد ودبندة ..
كانت أساريرها قد بدأت تنفرج ..لم تقوى على إخفاء تهللها,إذ أدركت من حكايته, حقيقة تلك النبؤة ,التي لطالما آمن الفقرا أتباع جانو قرمط بها ,وعاشت بت فدرالله منذرة حياتها لأجلها.. لم تكن تلك النبؤة .. إذن,محض خيال شعبي ,وآوان تحققها قد حان .. فتبسمت في وجهه للمرة الأولى ,منذ تلك اللحظة التي دهم فيها كوخها, بصحبة خدمه الخواص ,وأختطفها بغتة ,فلم تعي نفسها إلا وهي في حضنه ,على الجواد الذي نهب الأرض ,خارجا من حاضرة دار صباح ,خروج السهم من الرمية ...
تنفس الكرسني الصعداء,فقرأت في عينيه الوجد ,الذي كان يتعاظم داخله منذ ذلك اليوم ,الذي جاء فيه خاطبا ,فزجرته بت فدرالله ,كما زجرت ود بندة من قبل . وكانت حجب النور قد أدركت ,أنه حبيبها الوحيد وقدرها المكتوب ,فمضت تتفقد الكوخ صامتة ,بينما الكرسني يستعيد توبيخ بت فدرالله لود بندة .. هذا التوبيخ الذي كان قد نال منه أبلغ منال ,فأوغل في عزلته ينادي حجب النور,دون أن يتلقى ردا..لملم شتات نفسه في البرية ,وهو يعدو بين شجيراتها ووديانها ..كان يطارد طيفها بصوت ملؤه الألم ,حتى تضامنت معه وحوش الخلاء الكاسرة,فاتكأ على صدر صديقه الكرسني,يذرف دمع المحبين..
خرجت حجب النور من الكوخ تتفقد المكان حوله :الخميلة ببركتها الصافية وأشجارها الظليلة وطيورها الجميلة ,التي أخذت تعزف لحن عرس ,يشعل في نفسها الشوق واللهفة.
كان الكرسني في عزلاته الليلية ,حين يجلس جوار تقابة النار,نديمه الوحيد في الخلاء الموحش ,قبل أن يلتقي ود بندة ,يبث ذلك الطيف الذي يتراقص ,مع لهب التقابة نجواه.. يحدثه عن الذي قصر أو طال ,يلقي إليه بندف أوجاعه .. كان يحترق كل يوم وليس سوى نار التقابة يواسيه هسيسها الذي يزحف عميقا في حشاياه ,إلى أن إلتقى ود بندة ..
كان يراقبها وهي تتفقد المكان . يلحظ إنفلاتات عينيها تسيل برغائب محتجزة . متشحة بظلال هي مزيج من الإستسلام والتحفز ,تجعل جسمها الممتليء, يرتعش إرتعاشات خفيفة لا تكاد تبين.. ذلك الإنطفاء الذي لمحه في عينيها ,لحظة إختطفها ,يشعر به الآن تحل محله جذوة ,تومض كلهبة صغيرة ,تبدأ في التنامي شيئا فشيئا ,تدفع خديها للتورد ,الذي يبين ناعما ,ساحرا وآسرا ,يطال كل بشرتها فتكتسي بالنضار ..
منذ رآها في اللحظة الأولى تلك ,بعد أن حكى له عنها ود بندة ,سلبته السيطرة على نفسه .. كانت ملامحها الدقيقة هي ذات تلك الملامح ,التي كثيرا ما دهمت أحلامه,فملأته بالسعادة والحبور ,الذي يفيق منه مكتئبا ,عندما يكتشف أن ذاك لم يكن سوى محض حلم ..
تطفو تلك الملامح ,التي كانت ترتاد مخيلته على سطح ذاكرته الآن,تنطوي على وجهها الماثل أمامه ..لم يكن محض حلم..
وكانت هي تتمعن جسمه الفتي ,والصفرة الخفيفة البادية على وجنتيه ,والحزن الخفي الذي يسكن عينيه .. كانت تحاول أن تبلور النبؤة القديمة . تضاهيها بهذه الملامح ,التي أخذت تغزوها وتحتلها
لم يطق الكرسني الإنتظار أكثر.حملها بين زراعيه ,إلى داخل الكوخ ..
كانت كل تلك الأصداء للأحاديث المكررة ,التي لطالما رددتها بت فدرالله ,وشيوخها الفقرا أتباع جانو قرمط , على مسامعها ,عن أساطير الأصل المقدس ,والتقاليد التي كذلك الأكسير ,الذي يحيل المعادن الوضيعة إلى معادن ثمينة,فالناس معادن..تتناءى الآن وتتلاشى بعيدا عن ذاكرتها الغضة التي ينهض فيها وجه واحد فقط ,لطالما رأته في أحلامها الغامضة ,هو : وجه الكرسني ...
ينتفض كيانها كله ,إثر كل رعشة في جسد الكرسني ,المتمدد تحت ثوب الكنداكة الذي يغطيها , كجبل يزرع عروقه في أرض صلدة.. يهتزان محترقين كطائر خرافي يتجدد في النار ,التي ما أن تحرقه ,حتى ينبعث من جديد ,نافضا رماده ..
كانا كشعلة لا تنطفيء إلا لتتوقد مرة أخرى ..لا يحسان مغيب الشمس,أو إطلالتها من جديد ..عتمة الليل أو تسلل خيوط الفجر الأولى ..البرق والرعد والمطر,أو السكون الذي يسبق العاصفة ويتلوها.. صمت العصافير والنسور والسحالي ,أومشاركتهما بغتة لذة الإرتعاش ,بسلام يسود بينهما إلى الأبد ..
وكانت الطبيعة حول كوخهما تكتسب طورا جديدا , يخرج من أعماق الحكايا والقصص التي أنشدتها ,أشعار الحب وقصائد الهوى الجامح ,تخصهما بالسحر والخلود .. فتنأى دار صباح بضجيجها وزحامها .. يبقى فقط وجه حجب النور والكرسني ,يضيئان العتمة .يمتزجان في الفجر الوسن.يخترقان أحلام النوم العميق,يزرعان السهر والحمى ..
تبصم إرتعاشاتهما الأخيرة على الصمت والسكون, وكل دروب وأزقة دار صباح ,مفضية إلى نبؤة الخلاص في أبي جريد الصغير,القادم من رحم حجب النور , بكل أحلام أبي جريد الكبير وجانو قرمط ,لدك عرش أبي هلال ..إذن كان أبو جريد يتشكل لحظتها في رحم حجب النور التي غرقت على صدر الكرسني في نوم عميق كنوم أهل الكهف ..
IIII
تقول الحكاية المروية عن بت فدرالله ,أن السلطان جد أبي هلال بعد أن قتل جانو قرمط ,قطع جثته ست عشرة قطعة ,فرقها على المداخل الأربعة لدار صباح ,لكن الفقرا السريين, الذين تبقوا من طائفته ,دون أن يعلم السلطان بوجودهم ,تمكنوا من إستعادة كل الأجزاء عدا عضو الذكورة ..
ومضى الفقرا, يستخدمون السحر في إعادة تركيب جسد جانو ,لتنجب منه بت فدر الله الصبية المراهقة وقتها ,درتها الوحيدة حجب النور.. والتي تقول النبؤة الخاصة بالفقرا ,أن ذلك الفتى الوحشي الذي يعيش في البرية ,والذي هو من دم أبي هلال ,سينجبها هلاليا صغيرا هو المنقذ المنتظر ,الذي يخلص دار صباح ,من قبضة أبي هلال ,ليبدأ مجد الفقرا في سلالتهما التي ستحكم كامل البلاد الكبيرة ..
الليلة التي ولدت فيها حجب النور,إحتضنتها الحمائم ورعتها,وانسابت سيول عارمة في مجرى النهرين ,تدفقت مياههما ,حتى أغرقت أجزاء واسعة من حاضرة دار صباح ,فخرجت التماسيح تستلقي في دعة وحبور,وهي تلاطف الأهالي الطيبين..
V
في وحدته القاسية يتأوه الكلس محاصرا برائحة الشعراء ,وهو يرمق ببصره الجدران البيضاء ,في غرفته الغارقة في الصمت . يتكيء على صدر غلوريا .. على سقط التواريخ,وبقايا من ذكريات تشظت في هجير السنوات ,فيدهمه طيف دبك البعيد,منشغلا بما يراه من حيرة, تتآكل عيني نينا الواسعتين ..هذه الحيرة التي لحظها منذ أول لقاء لهما ,في صباهما الباكر,حين أخترقا عالميهما ,غارقين في غلالة برزخية ,تقاطع فيها الألم مع العنف والتلظي . معلنان مواجدهما الوليدة ,للوادي وأشجار القمبيل ,وشجر القنا ..
منذها,بقدر ما أقتربا من بعضهما, بقدر ما كانت المسافة بينهما تزداد إتساعا ..
كان دبك يدرك أن نينا الورتابة , لا تنتمي إلى عالمه,لكنه كان يدرك أيضا أنها قدره,الذي ليس منه فكاك ..ذلك الحس الأسطوري الذي يهيمن عليه ,ويتغلغل عميقا في روحه وجسده ,يدفعه دفعا للتشبث بهذا القدر اللذيذ ..وفي غمرة هذا الكر والفر ظل مخلصا لها,وظلت وفية له ..
كانت سعيدة بسيطرته عليها ,وفهمه دخائلها ورغباتها..هذا الفهم ,تشكل عبر سنوات طويلة ,ظل يشعر خلالها بحاجته المستمرة للحب, في كل ما حوله . كان لا يحتمل خيبات الحياة, التي تجبره على معاناة آلامه وحده,دون أن تصدر منه آهة واحدة,وأورث هذه العادة للكلس الذي يشعر الآن, في هذه البلاد الباردة ,بأحزانه المنقضية كلها تتجدد,في إستدعاء ذاكرة الحكايا القديمة ,حكايته وشهرزاد غفوته المؤجلة ,المحاطة باللافندر ,ورائحة الشعراء والغفوات المؤجلة , وتلك الأحزان..
تلك الأحزان التي أرقت الحكماء والحكيمات,وهم يرون تعاليم دالي ,تنهار مع زحف الرفاهية ,وتحريف الفقرا المتمردين لتعاليم دالي العتيقة ,وزعمهم أنها لم تكن مكرسة للعزلة ,وأن الحكماء والحكيمات ,نصبوا أنفسهم سدنة لهذه التعاليم ,وفسروا ما رمى إليه دالي خطأ ,فباطن ما رمى إليه دالي, يتناقض ويتعارض مع مظاهر التعاليم المعمول بها ..
كانت مملكة مارتجلو تستحم كعادتها ,في شلالاتها . حين أعلنت هذه الأصوات ,بداية رياح المحنة ,التي ستذروها في "فِجاج القِّبل" الأربعة . سرت رعدة في أنحائها كلها ,فارتدت أعمدتها العتيقة ,التي حال لونها..هذه الأعمدة الشامخة في عزلة الوديان وقحل الصحراء ,ووحشة الجبال ..
لم تكن هذه المحنة من المحن ,التي أعتادت عليها مارتجلو ,بطبيعتها الضارية ,وهبوبها العاصفة ,فالغرباء الذين ضلوا طريقهم إلى مالحة ,وألقت بهم الأقدار إلى مارتجلو,تمكنوا من إقصاء الحكماء والحكيمات ,الذين لطالما حملوا هموم المملكة ,كي تنعم بالسكينة والرخاء ..
هؤلاء الغرباء نشروا الأكاذيب ,وحرفوا تعاليم دالي ,فلم يعد الناس يثقون بالحكماء ,إذ تغيرت نظرتهم ,وأمتلأت نفوسهم بالشك والريبة والظنون ..
عندما أطبق الظلام ,على كون ذلك الزمان البعيد,أخذ المقدس دالي حفنة تراب ,من القبل الأربعة .عجنها بعصير زهور البرية ,ولحاء صندل الردوم والقمبيل ,وصاغ في العزلة مملكته ,التي ستتعاقب عليها دول ,لم تخطر على بال قداسته مطلقا ..
ولسوف تبرز من بين كل الحكايا, في هذه العزلة البديعة : حكاية ود بندة ,المرسومة بحميمية وحزن شفيف,على جدر كهف المقدس دالي ,وعلى المدونات حائلة اللون ,"التي سيستعين بها دبك ومن بعده الكلس , في هذه البلاد الباردة,في إعادة كتابة تاريخ المكان وأحوال الناس ..
"يحكي الكلس نقلا عن هذه المدونات,التاريخ الشخصي للمقدس دالي ,وعذاباته ومواجده ,التي كقصة حب مأساوية الطابع ,لم تكتمل إذ حاصرها الهجر والرحيل .. ويمضي الكلس إلى أن المقدس دالي,كان يعتقد أن أجناسا أخرى ,غير الإنسان ,ورثت معه هذا الإقليم الشاسع,وأن ما يعرفه قداسته ,إنما عرفه من كائنات ما وراء هذا العالم ,كما آمن بأن النجوم شموس أخرى,ولطالما تملكه ظن عجيب ,بأن كائنات خارج حدود هذا العالم ,ستسيطر على الأقليم, وتتزوج نساء شعبه ,فتنجب مسوخا مغرمة بصناعة أسلحة القتل الرهيبة,وتشرب الدم شربها للماء .."...
"ربط دالي بين حركتي المد والجزر,وتحركات القمر,الذي إذا صار في أفق من آفاق البحر ,أخذ ماؤه في المد مقبلا مع القمر,ولا يزال كذلك إلى أن يتحول القمر ,عن كبد السماء ,فينتهي المد فإذا تحدر القمر عن مكانه مرة أخرى,إبتدأ المد مرة ثانية ,وأنحسر الجزر ,وهكذا.. فيكون كل يوم وليلة بمقدار مسيرة القمر فيهما .." ...
"وربط دالي بين القمر وتأثيراته على الناس و الحيوانات ,والحشرات والأشجار وزهور البرية
للمفارقة أن دار الريح التي استلهم فيها دالي إستنتاجاته ,لم يكن بها نهر أو بحر!!..وهو الأمر الذي جعل أولئك الفقرا يشككون في كل تعاليم دالي ومزاعمه .." ...
الأسباب الحقيقية وراء إنهيارمملكة مارتجلو كما يرجح الكلس - على الرغم من أن أولئك الناجون من الطوفان,لم يؤكدوا بصورة قاطعة ومباشرة - تتمثل في التغيرات الجذرية التي أحدثها الفقرا ,الغرباء الذين ضل معظمهم الطريق ,فوجدوا أنفسهم في الشلال..
هذه التغييرات ,التي أكدت نفسها في "ليلة الأنس الكبيرة " .. لكن المدونات تؤكد في سياق متصل ,أن لهذه الليلة جذرها العميق ,في حياة مارتجلو منذ القدم ,وبروزهذه الليلة في حياة مملكة جلابي ودعربي ,ما هو إلا صدى لتلك الحياة العميقة ,بعيدة الجذور,التي لم تكن تخلومن اللهو والمرح,فأهل مارتجلو عندما أصيبوا بأدواء الترف,أخذوا يؤلفون الأغنيات والرقصات الجريئة , المتمردة,محتفلين بآلهة لم يرد لها ذكر في تاريخ الديانات والعقائد ..
كانوا يتركون بيوتهم ,وهم يملأون طرقات مارتجلو,يقيمون الإحتفالات حول أبراج دالي,يسرفون في شرب "البقو" ,وأكل المشويات ,حتى يفقدون وعيهم من السكر والتخمة ..
كانوا يستمرون في الخروج عن وقارهم, الذي صاغته العزلة,فيقومون باستعراضات داعرة, بعد أن يكونوا قد خلعوا ثيابهم الغريبة ,وأشهروا أعضائهم في إنتشاء مجنون,وقد تتوجت رؤوسهم بأكاليل من أغصان شجر القمبيل .. يتلامسون ويتبادلون الكلام الفاضح,وهم يحملون تمثالا ضخما لعضو ذكورة ,على قاعدة من عضو الأنوثة!!..غير آبهين بمنتهيات دالي ..ولا يتفرقون إلا بعد أن يختموا إحتفالهم بممارسة الجنس في شغف وجنون ..
كان الحكماء والحكيمات في شعب مارتجلو,قبيل الطوفان قد نادوا ,بأن خير وسيلة لإعادة مارتجلو إلى سابق عهدها ,بأن يتولوا هم إدارة أمرها ,بعد أن إستيأسوا من خلفاء دالي المتعاقبين,تغيير الحال..إذ إستمر خلفاء دالي في ترك الأمور للغرباء ,الذين أخذوا يسنون القوانين ,وهم سكارى,ويبرمون المعاهدات اليوم لينقضونها غدا ,حيث جعلوا من مجلس السلطان مجمعا للمرتزقة وتجار الحروب,الذين كانوا قد نشطوا في التحريض ,ضد ممالك الجوار في دار الريح ..
كأن لعنة خفية حلت بمارتجلو ,فالجشعون الذين يطمحون لأمجاد زائفة ,أخذوا يديرون المملكة كما يشتهون ,كانوا يتلكأون في خدمة مارتجلو,ويسارعون في إلحاق الأذى بها,خدمة لمآربهم الخاصة ,ولا يمنعون ضررا,أويؤدون واجبا عاما ..
كانت النساء الحكيمات ,قد إستيأسن ,وأيقن أن مارتجلو تمضي لا محالة إلى زوال .. كن يصرخن :
"لا ينبغي أن نربي ضباعا بيننا .."...
,فيجيب الرجال الحكماء:
"تسببنا لأنفسنا في ذلك,فعلينا أن تقبل العقاب إلى أن يتعقلوا.."..
فتحتج النساء الحكيمات :
"يجب أن نجد طريقة ,نعيد بها ثقة الناس في تعاليم دالي..وثقتهم فينا .."..
فيطرق الرجال الحكماء رؤوسهم ,يفكرون في وسائل لم يسبق لهم إتباعها ..
كانت أحوال مارتجلو قد تغيرت منذ وقت طويل ,لا يعلمه أحد ,فخلفاء دالي المتعاقبين ,جميعهم لم ينفذوا التعاليم بذات القدر ,ولم تحتل تعاليم دالي مكانها مجددا ,إلا بعد ذلك الطوفان ,إذ عمل الناجون على أسترداد مملكتهم البائدة ,من قبضة التاريخ والذكريات,وإحيائها بالتعاليم كما كانت ,في عهدها الأول قبل مجيء الغرباء,مستهدين بأن أنصلاح آخر الأمر,لا يكون إلا بأوله ..
وهكذا بدأت تعاليم دالي تحيا من جديد,وتسترد مكانتها لتتشكل مارتجلو مرة أخرى:وطنا في العزلة ,يهدف إلى السلم ولا شيء غيره ..
كانت تعاليم دالي أشبه بأحكام ديانة تمرد عليها معتنقيها,لهثا خلف التغيير خارج حدود هذه المملكة,الغارقة في غبرة التاريخ,إذ أشارت بعض مدونات الناجين من الطوفان ,إلى تأكيدات بأن الذين أخذهم الطوفان,ستظل أرواحهم المعذبة هائمة دون مستقر,إذ لن يرمى بهم في مملكة دالي السماوية,وإنما سينتهي بهم الأمر,مقذوفين إلى حمم الجحيم مباشرة ..
الذين أصروا على نبذ تعاليم دالي العريقة ,كانوا مؤرقين بهذه المملكة الوحيدة البائسة ,في هذا العالم المحاصر بكوارث الطبيعة ,والكوارث التي من صنع البشر ..
فمارتجلو كالمنبت ,لا تتفاعل مع ما حولها..غارقة في عزلتها , محاصرة برائحة الغرباء والشعراء والفقرا, الذين تقطعت بهم السبل ..
لكن الحكماء والحكيمات ,كانوا يرون ,أن هؤلاء لم ينسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا ,من هذه العظات الكثيرة "الكوارث التي حولهم"والتي تحمل أخبارها ,حكاوي التجار العابرين ,الذين يضلون طريقهم , فيجدون انفسهم في مارتجلو ..
تمضي المدونات في وصف" ليلة الأنس الكبيرة..
"إستحمت النساء بالماء الذي غليت فيه أوراق البرية المعطرة,وجذور القمبيل والمحريب والسعدة ,والحرجل والمحلب والسنا سنا.. كان هذا المزيج السحري ,يسيل على أجسادهن الممتلئة ,فيملؤها ألقا على روائها.. مشطت النساء شعورهن ,وتعطرن بعصارة الصندل والمسك والقرنفل,وتزين بزهور البرية, وأرتدين كنافيسهن المميزة ,بعد أن غطين نهودهن, وتركن بقية أجزاء صدورهن ,يضربها الهمبرييب ..
كان ذوقهن في التزين يجمع بين التمرد الحديث لمارتجلو على العزلة,ورفاهيته الفجة في عالم تملؤه هواجس الجوع والحروب ..مضين في طريقهن إلى ساحة الخلوة الكبيرة ,وأجسادهن المثقلة بالظمأ تتمايل وترتج ..
كان أبوي دالي من أهل هذا الإقليم المتسع ,الذين تؤكد الروايات الموثوقة ,أنهما لم يجيئا كالكثيرون , من خارج الإقليم,فقد خلقوا هنا,ولا يعرفون لهم وطنا غير هنا.. فهم ليسوا كالهلاليين الذين جاءوا من خلف البحر الأجاج ,أو أقصى الصحراء ,حيث تغرب الشمس ,عند الضفة الأخرى من البحر المالح ,لتشرق في دار صباح..
كان دالي يدرك أنه ليس خالدا ,ولذلك قرر بناء مدينة عظيمة ,لها سمة الخلود ,بالحصن الذي يحيطها ويعزلها عن كل ما حولها . داخل هذا الحصن ,ذو البوابات الثلاثة ,التي تكون مملكة الشلال رفعت أعلام طوال ,من نسيج غيرمعروف . وزرعت الأشجار المثمرة,في كل مكان يتخلله وادي أزوم ,وفرعيه"سجللو- والله مرقاا",وعند مفترق هذين الفرعين شيد دالي ,معبدا كبيرا أنيقا من صخور "جبلي مرة وأب كردوس" ,تفضي سراديبه إلى أنفاق وكهوف عين فرح السرية ,التي كان دالي كثيرا ما يعتزل فيها ,لينحت بنفسه التماثيل الآدمية ,والنصب التذكارية التي تزين ,أزقة ودروب وشوارع مدينته الخالدة ,ومن بين كل الوجوه التي حملتها التماثيل,تكرر وجه عميق التقاطيع أطلق عليه إسم "شطة"وآخر بوجهين غامضين أطلق عليه:"ود بندة/جلابي".. كانت هذه الوجوه الثلاثة, تلح على خياله المبدع ,دون أن يدرك لذلك سببا..
ولإهتمامه العميق بالنجوم, فعل المقدس دالي شيئا عجيبا ,إذ إقتطع من جبل أب كردوس, ثلاثون صخرة قائمة,كل واحدة بطول رجلين ,وزنة أثنا عشر رجلا متوسطي الحجم ,وقام بصفها في شكل دائرة ,وضع عليها أفقيا صخورا أصغر ,تزن كل واحدة منها رجلا صغيرا, في حجم فقير بائس.. وعلى مداخل هذه الدائرة الصخرية ,صنع دائرة صخرية أصغر ,على نفس النظام ,بحيث أنه عند الإعتدال الربيعي والإنقلاب الشمسي,تشرق الشمس عند الأفق ,متدفقة بين فتحات الصخور ,كما أنه في اليوم الأول من كل صيف ,تشرق أشعة الشمس ,مواجهة مكعب الصخور..الأمر الذي جعل الكلس يتفكر كثيرا ,ويستنتج إهتمامات دالي الفلكية ,ومعرفته بالوقت والتاريخ ,إذ أن دراسة الخصائص الفلكية ,للمكان الذي شيد فيه دالي هذه الأبراج الصخرية ,كشف عن دورة الست وخمسين عاما ,اللازمة لحدوث كل كسوف ,كما أن تحريك هذه الصخور بمقدار معين ,مرة كل سنة .يعطي معلومات مهمة ,عن الأحداث القمرية القادمة لمئات السنوات ..
ومع ذلك يعتقد الكلس, أن دالي لم يكن سوى نبيا ضل طريقه إلى النحت والفلك, وشئوون الحكم في مملكة خارج نطاق التاريخ.. معزولة في الجغرافيا ..
هذه المدينة التي إبتناها العظيم دالي ,والتي نهضت على أنقاضها بعد مئات السنين "جلابي ود عربي",ببلداتها الثلاثة ,في ذات مواقع المدينة القديمة ,أصبحت أثرا بعد عين - كما تشير أحدث المدونات المجهولة- إذ أنه في أحد الظهيرات البعيدة ,حل بسماءها غيم أسود قاتم اللون ,حجب نور الشمس ,وملأ نفوس الأهالي بالذعر والفزع .. ثم بدأ البرق والرعد يهزان كل شيء ,تلى ذلك صوت غريب ,مجلجل ,قادم من مكان سحيق .. كان صوت سيل عات. أغرق كل شيء ,حاملا معه الحجارة الكبيرة ..
لم ينج من هذا السيل سوى قلة ,كانوا قد تعلقوا بجذوع الأشجار ,هؤلاء كانوا قد كتبوا شهاداتهم بلغة "الفور" المجهولة ,حول هذا الطوفان ,الذي لم تصمد أمامه سوى ,تلك الأبراج التي شيدها دالي, من صخور جبل مرة وجبل أب كردوس الثلاثون ,ومتاهته الشخصية بين النبوة والملك والعلم والفن ..
الناجون الذين تعلقوا بجذوع الأشجار,لم تنج سلالتهم مما يشبه اللعنة فيما بعد,إذ كانوا يلدون أطفالا غير طبيعيين ,بعاهات غريبة ,كأنهم تلك المسوخ التي تشرب الدم ,التي حملتها نبؤات دالي . حتى أنهم بعد مرور مئات السنوات ,أصبح عددهم كبيرا ,فبذروا الشر في كل أنحاء البلاد الكبيرة .. قتلا وحرقا وإغتصابا وتمثيلا بالموتى ..
VI
منذ ميلاده .ولدى دخوله الخلوة ,أخذ الكلس يفكر في كون اللغة : لغة دبك الذي أورثه تاريخه الشخصي وكثير من الحكايا والمدونات ..
هذه اللغة المغايرة للغة الكتاب المقدس.. وبين هذين الكونين : لغة القبيلة الخاصة-وكون لغة الكتاب المقدس, والقومية التي يمثلها,كانت تتحرك كل العوالم الموروثة والمكتسبة ,فتتحرك تبعا لذلك مجسات تفكير الكلس ,في محاولاته الدؤوبة لإستكناه السر, الذي يبدأ من هنا وهناك ,في أعماق مملكة دالي العريقة ..
كان سؤالا جارحا يتغلغل داخله ,ويتفتق عن ضباب يفضي إلى ضباب آخر, في سيرة دار صباح,قبل إستيلاء الهلاليين عليها ..عندما كانت تموج بحركة الناس, بأعراقهم ومراتبهم الإجتماعية المختلفة ..
في ذلك الوقت البعيد, إصطفت كناتين وسقاقيف السلع المتنوعة :ريش النعام,سن الفيل,الحراب, السكاكين,السهام والأقواس والسيوف.. الذرة ,البرتقال,الدخن,الليمون والشطة.. المغزولات الكتانية والقطنية,ومنسوجات النول ...
وحيث توسط سوق الرقيق كل ذلك,كانت دار صباح ,حافلة بضجيج التجار المقيمين,والآخرين العابرين,وحيشان القش التي تزرب قطاطي ورواكيب المقامرة, والمتعة والبقو والعسلية وعرقي البلح ...
وفوق هذا وذاك المغنين الجوالة ,الذين يعزفون على الربابات وأم كيكي,معزوفات تتقطع لها نياط القلوب,وإلى جانب هؤلاء المغنين,تجمع الفارين من أوطان أخرى ,داخل البلاد الكبيرة وجوارها : لصوص ,قطاع طرق وهمباتة,وزراء سابقين لممالك صغيرة فاشلة,قادة مليشيات وعمد ومشايخ منهزمين,وجنود مكسورين الخاطر..قرامكة أتباع الفقير الراحل جانو ,و"حبرتجية" لم تعد حيلهم تمر في الناس,وناس عاديين متهمين في قضايا لم تخطر على بالهم أبدا!!..كان الجميع وقد "فنقس" بهم الزمن يبحثون عن أمل هنا ...
المكان الوحيد الذي كانت تسوده السكينة والهدوء,بعيدا عن كل هذا الضجيج هو "الفريق" القريب من قصر السلطان ,حيث تعيش"قند اليمن",وهو الحي الذي لا يمكن الوصول إليه ,دون الإحتكاك بالآخرين أووطء أقدامهم المتزاحمة ...
وفي غمرة هذا الزحام هلت "قند اليمن"..كانت ممتلئة ,مشربة السمرة,التي تميل إلى دكنة خفيفة,هي سحنة أهالي دار صباح الأصليين .. كانت عينا قند اليمن بالألق الذي يميزهما ,تشكلان مع غمازتيها المتراقصتين ,سحرا خاصا لايمكن الإنفكاك من تأمله.. وقند اليمن تميل إلى القصر,لكن جسدها ينبيء عن قوة وعنفوان غريبين ..
شعرها حالك السواد,الذي لم يكن طويلا أو قصيرا,لامست بعض خصلاته الفارة من المشاط ,جانبا من وجهها البيضاوي,بملامحه المميزة ..
كانت قند اليمن تحاول العبور في هذا الزحام,عندما أنتبهت إلى عيني"الدريب"اللتين كانتا تتحسان جسمها شبرا شبرا..إرتبكت فتقافز نهداها النافران ..وأسرعت الخطى ...
جمال قند اليمن نوع من الجمال الساحر,الذي يسلب اللب ,فيأسر العين,وكانت هي تعرف ذلك,وتسعد بهذه المعرفة,التي تؤكد لها أنها بمثابة الحلم العزيزعلى الشباب,الذين كانوا على أية حال يهربون من ملاحقة هذا الحلم, بإنفاق الوقت في لعب "الضالة والسيجة" ,أوتغشي الأندايات ...
زارها كثيرون في أحلامها فأقلقوا منامها ,وبقدر ما شعرت بذلك النوع المحبط من الإرتواء ,بقدر ما كان يجتاحها إثر كل صحوة,ظمأ حارق يبدد سلام جسدها المكتنز ,المتفجر بالعرم ...
لم تكن دار صباح مكانا ذا تاريخ متصل ,كأجزاء البلاد الكبيرة الأخرى,إذ كانت تجاربها على الدوام غير مكتملة ,تنقطع في مكان ما لتبدأ تجربة جديدة ,لا تلبث أن تنقطع هي الأخرى..هذا التاريخ وسم كل شيء:الناس والأمكنة والمناخ .. فقد كان بدار صبح سبعة أنهر ملونة ,لكن ولأسباب غير معروفة, أصبح عدد أنهارها خمسة,فأربعة ,فثلاثة ,فإثنين..وحتى هذان النهران,لا يستمران في الجريان, إذ يتوحدان ليشكلا نهرا واحدا ,يتهدده الزوال هو الآخر ..
كذلك مناخها شهد من التقلبات ما لم يجد له أحد تفسيرا,إذ تغير من ذلك المناخ المعتدل ,الذي يدخل على النفس بهجة وسرور,إلى مناخ معكر بالغبار الوسخ .و حارق بحره اللافح .. ولم تنج أرض دار صباح من التغييرات,بما شهدته من تقلبات ,إذ تحولت من غابة خضراء يانعة ,تتخللها الأنهرالعديدة والوديان,والجبال.إلى أرض قاحلة جدباء..وأصبح كل ذلك الجمال الذي عرفت به ,محض تاريخ مروي في الحكايا الشعبية,التي لا تزال تتواتر..وتحكي عن تلك الهالة, التي كانت تتجمع من أجزاء صغيرة,صقيلة في السماء ,يحيطها غلاف من الغيم الشفاف ,الذي عندما ينعكس عليه ضوء الشمس كالمرآة ,تنكسر عليه آلاف أقواس قزح ..هذه الهالة لم تعد تتكون في فضاء دار صباح منذ وقت بعيد ,فكل شيء حول الطبيعة, التي كانت ساحرة يوما تبدد ..
في البدء فرت الحيوانات,ثم أختفت الغابات ,فردم الرمل الوديان,فهجر "جداد الوادي" والوزين أرض دار صباح إلى غير عودة,حتى أن الطيور المهاجرة ,لم تعد تتوقف عند دار صباح لتستجم,أصبحت كلما مرت بسماء دار صباح, تزيد في سرعتها ,فتعبر دون توقف .. حتى الحمام والقمري ,غادر دار صباح ..
ما تبقى من العصافير الصغيرة,التي حار بها الدليل,والتي كانت ترك على الرواكيب والقطاطي ,لم تعد تزقزق, سوى بأنغام حزينة,تفيض بحيرتها الكونية,في عالم دار صباح المتداعي,تنعي زمنا مضى وأنقضى ..
تفككت الجبال الراسيات إلى قطع صغيرة,خلفت ذاكرتها في التلال الصخرية ,وعشش السمبر والغربان فيما تبقى من أشجار كالحة ,آخذة في الإنقراض هي الأخرى ..
لم يعد من جمال الطبيعة التي كانتها دار صباح يوما ,سوى ما خلفته تلك الطبيعة الساحرة من ذكريات ,على أرماث الوديان وقبور الأنهار وأكفان وهياكل الشجر ..
إختفى حتى ذلك المجتمع المتجانس, الذي كانته .. حل محله مجتمع غريب:خليط من الأرقاء والمنبتين والأدعياء, الذين ينسبون أنفسهم لأصول مقدسة ,وقد أعياهم البحث عن تقاليد وعادات وأعراف, لم تكن تنتمي لثقافتهم يوما.. يقاومون بها حدة شعورهم بالغربة ,وإفتقارهم للإنتماء الأصيل لدار صباح .. هذه الأرض التي لا تلبث على حال ,إذ كانوا ينهون سجالاتهم دائما بعبارة:"أنا من أصول ...".. إذن أصبحت دار صباح في منزلة قبيل القيامة بقليل ...
لا أحد يستطيع أن يجزم بالضبط :هل الجغرافيا هي التي فعلت ذلك بالناس,أم أن الناس هم من فعل ذلك بالجغرافيا ,فحملت سماتهم المشروخة,وهواجسهم وإحساسهم بالضياع ,والضعضعة والتبدد ..
عندما جاء أولئك الغزاة من مصب النهر ,لم يقاومهم الحكام الهلاليون ,المنتشرين على طول دار صباح وعرضها , بل فتحوا لهم أبواب البلاد ,وقاتلوا معهم جنبا إلى جنب ,في الصعيد والسافل, وأجزاء من دار الريح القريبة من دار صباح..لكن لم يتمكنوا من الوصول إلى قلب دار الريح, حيث الفواشر الملكية,التي تنهض ,في عزلة مارتجلو وغموضها ..
علية القوم في دار صباح ,التي شهدت التحولات المريعة, في سلطة الهلاليين على عهد الغزاة ,إنفتحت لهم مدارك لتجارة لم يكونوا يعرفونها:الجنس المنظم..فأنتصبت الرايات الحمر,في بيوت الجالوص ,وبدأ مجد الأندايات يتهدده الزوال ..
الجلابة الذين كانوا يسيرون حملات الإسترقاق ,يقودونها في الصعيد ,وأقاصي الوسط ودار الريح,كانوا يختارون الجميلات ,للعمل في بيوت تجارتهم الوليدة ..
لم يكن بدار صباح طوال تاريخها ,منذ أعتلى الهلاليون عروشها,قانون عام يطبق على الناس جميعا دون تفرقة ..كان الهلاليون يحكمون كما يعن لهم ,وشهدت الكثير من القضايا ,من البطء في البت فيها : "من حفيد إلى حفيد,إلى أن يقضى على آخر فرد في الأسرة التعيسة, صاحبة القضية..".. فبني هلال وخلفاءهم الذين ظلوا يعتقدون,أنهم ظل الله في الأرض ,لم تكن لديهم تشريعات, مستوحاة من حياة هذا الشعب المختلف ,عن شعبهم الذي خلفوه وراءهم ,خلف البحر الملون, حيث تشرق الشمس ..ولم تكن لديهم تشريعات تناسب الجغرافيا, والمناخ وتنوع سحنات وثقافة هؤلاء الناس ,المختلفين عنهم.. فكان أساس حكمهم الطغيان ,وقطع الأوصال. لزرع الخوف والرهبة في نفوس أهالي دارصباح المساكين..ولطالما أعتقدوا, أن أهالي دار صباح ليسوا أحرارا ,بل هم عبيدا أزلاء ,وهكذا أستمروا يلجمون العوام عن الكلام ..
وللمفارقة أن أولئك البيض, الذين جاءوا من البلاد الباردة,برطانتهم الغريبة ,ودمهم الأزرق..هؤلاء البيض الذين جاءوا من آخر الدنيا,لإستعمار البلاد الكبيرة,وضمها إلى تاجهم الذي لا تغيب الشمس عن مستعمراته .. للمفارقة أن حركات المقاومة, التي ستنشأ ضدهم بعد عشرات السنوات ,ستكون بيوت الرايات الحمر, أكثر أماكن إجتماعاتها أمنا من العيون. بل أن العاملات في هذه البيوت سيمتنعن في لحظة ما ,عن تقديم المتعة للمستعمرين,تضامنا مع هذه الحركات ..إذن ستشهد بيوت الرايات الحمر ,أهم الإجتماعات لخلق الثورة ضد المستعمر وتعكير مزاجه الرائق ..
ثمة نوع غريب من الحزن في دار صباح,لا تخطئه العين منذ الوهلة الأولى ,نوع من الحزن القديم ,الذي يمد جذوره عميقا في كل شيء.. حزن ليس له مثيل ..حزن بمثابة ذاكرة غير مرئية ,عن تاريخ مجيد عاشته دارصباح يوما في عهد سحيق ,لم يولد فيه أنبياء بعد ...
هوية دار صباح ,ظلت كالجغرافيا التي نهضت فيها ,نهبا للجفاف والتصحر وعوامل التعرية,وربما هذا ما عمق من تلك الشروخات ,التي تلحظها العين بسهولة ..غائرة في كل شيء, حتى في طريقة كلام الناس ,وشخصياتهم التي تبدو مهتزة,غير واثقة.. تحاول إخفاء ضعفها بالإنفعال السريع والغضب ...
هؤلاء الناس العاجزون عن السيطرة على أنفسهم ,لم يكن أسلافهم على هذا النحو,وهذا التحول المريع الذي طالهم, هو جزء من التحولات التي طالت سلطتهم ,على هذه الأرض ,إثر إنهيار آخر ممالكهم, تحت سنابك خيل الهلاليين ,في مطاردتهم ل"الدريب"إبن العم الهارب ,وهي اللحظة الأولى التي عرفت فيها دارصباح ,المعنى العميق للثأر ,ومن ثم بدأت في التدهور ,الذي أخذ يفقدها شخصيتها الحقيقية تدريجيا .. شخصيتها القديمة الهادئة ,التي لا تشوبها نوازع الشر .. فوقتها كانت دار صباح ككون ,واسع يشمله الدفء والحميمية ,و تتوحد فيه عناصر الطبيعة ,مع إنسان هذا الكون ,ليتشكل شجن عذب ,تراه كالنقش في الوجوه ,التي لوحتها الشمس ..
كل ذلك بدأ يتبدد مع غزو الهلاليين ,الذي أخذ يغير لا في هوية دار صباح وحدها ,بل في جغرافيتها ومناخها وعادات أهلها ,الذين أصبحوا كالمنبتين ,يبحثون لأنفسهم عن أصول يهدؤن بها روع أنسابهم المنتهكة ..
ومع ذلك ,هذا الخليط الذي أصبح يكون مجتمع دار صباح ,والذي لا يوحده شيء,كان متوحدا حول شيء واحد ,يعلن عن نفسه بوضوح : هذه المعاناة في عدم التوافق بينهم و أنفسهم,والتوافق بينهم والآخرين ...
وللمفارقة أن كل هؤلاء وأولئك ,من أهل دار صباح ,توحدوا حول نسج أسطورة عامة حول أصولهم ,تتفرع منها أساطير صغيرة,هذه الأسطورة بأساطيرها الصغيرة ,ربما ولدت بسبب إحساسهم الخفي,بحاجتهم الملحة لتأكيد ذاتهم,غير المؤكدة.. ووجودهم المنفي في الجغرافيا والتاريخ ...
VII
منذ وطأت قدما ود بندة ,قصر أبي هلال ,ورأى ما رأى فيه من أهوال ,تأكد له تماما :أنه لن يستطيع القيام بأي شيء ,في سبيل إستعادة حجب النور ..
لم تمض فترة قصير عليه في بحثه عنها, حتى وصل إلى قناعة, بأنها غير موجودة بهذا القصر أو أيا من قصور أبي هلال ,وبدأ يراوده الشك, أن يكون السبب وراء إختفاءها,أي شيء آخر سوى أختطاف أبي هلال لها ,وعندما أرتكن إلى هذه القناعة ,لم يعد يشغل تفكيره سوى الهرب ,ولذلك عندما سنحت له إحدى الفرص النادرة,بلقاء بت فدرالله في سوق النحاس ,سرب لها شكوكه ورغبته في الهرب,وكانت هي لحظتها قد عرفت أين أختفت إبنتها ,إذ تكللت حملات البحث الواسعة ,التي أجراها الفقرا ,عن معرفة مكان حجب النور وخبرها..وتمكنوا من تدبير لقاءها بأمها بت فدرالله ,في غفلة من الكرسني, فقد كان الكرسني نادر التغيب عن بيته,إذ كان لا يشبع منها إلا ليلتهمها من جديد ..هو الذي عاش كل حياته ينتظرها..حجب النور هذه الأنثى المشتعلة كالنار داخله,والتي إمتلأت بها أحلامه ,فظل ينتظر لقاءها إلى أن كان ذلك اليوم ..
بإحساس نقطة دم تحتضن الأرض في حميمية ومحبة ,وقفا قبالة بعضهما ,أمام كوخ الخميلة .. كانت مشاعره.. كل مشاعره ,قد إرتمت بادية للعيان على الأرض ,تقبل التراب الذي وقفت فيه حجب النور, تبوح بهمس المحبة والحنين .. كان يشعر بنفسه ولأول مرة ,كطفل وديع تدفعه هدهدة هامسة لوسن ملائكي ,تزرع فيه النعاس فيمسي غيابا /حضورا.. ويرحل في الوسن غريرا هانئا ..
في يوم لقاءه الأول بها ,لم ينتبه إلى وقفته, التي كانت قد طالت ,كالزمن بخطاه المتثاقلة على عتبات الإنتظار ,لوجه حميم ...
كانت شتاءات وجدانه تتداعى حثيثة ,تفسح لدفء الشفاه الرهيفة,التلاقي الحميم دون تمتمة أو لعثمة
,وظل كذلك مشدودا إليها كالوتر, إلى أن مات في ذلك اليوم المكفهر,وهو لا يزال يعتقد أن الصلة ,بين حجب النور وأمها, قد تقطعت إلى الأبد .الأمر الذي جعله يشعر غما شديدا,ظل يجاهد إخفاءه ..
من بين تأوهات عريها بين زراعيه, تمتمت غلوريا:"متى ستنام?"..أزاح الكلس الكراسة ,التي كان يراجع فيها ما دونه بالأمس من ملاحظات : "االآن" ...
قدر خفي ذلك الذي قاد دبك إلى المدرسة الأولية ,دونا عن كثيرين من أقرانه ,في تلك البلدة الصغيرة على أطراف حاضرة جلابي ود عربي,الرابضة على ضفة الوادي, حذاء دغل القمبيل ..
وبين مرحلة دراسية وأخرى, كانت هوية دبك تتمزق لتلتئم,وتلتئم لتتمزق ..هويته التي صاغتها مسيرة الحياة في بلدته, بطقوس أهلها وأسحارهم ,وما تبقى من آثار التعاليم القديمة لدالي ,وطبيعة الوادي الناهضة أسفل الجبل, الذي يحيط البلدة كالأسورة, والتاريخ السحيق لهذه البلدة ,المعذبة , بالقلق والحنين ..
كانت لغته الأم تبتعد ,لتحل محلها لغة الهلاليين ,التي ألتهمها بذاكرته اللغوية مستكشفا أسرارها ,أطماعها ورغبتها في الهيمنة على لغته الأم ...
تعرف الكلس على التاريخ الإنساني ,في المحاولة الدائمة للأقوياء ,لإخضاع الآخرين,فلم يستطع تفادي رؤية تاريخ بلدته,يتحول إلى أشلاء,بين معان تاريخ العالم ,وتاريخ دار الريح, التي تشقها الوديان ,وتاريخ ما تبق من بلاد كبيرة يشقها النيل ,إلى فلقتي نواة نصفها متغضن كالعرجون القديم ..
المعارف المتناقضة والمتصادمة,شكلت عقله الجدلي, وفتحت وعيه على أسئلة جارحة ,دفعت بكيانه كله إلي عزلة عميقة..غادر بعدها إلى بلاد اليانكي..كانت عزلته شبيهة بعزلة المقدس دالي ,قبيل تشييده لمملكة العزلة المحاصرة برائحة الشعراء ,أو إعتكاف "راجل الحرازة أم قد" في خلوته لأيام وليال دون أكل أو شرب , خرج دبك من عزلته المجيدة, حاملا السلاح ضد جلابي ,ليخضع الكلس الآن – بعد عشرات السنوات من وفاة دبك – كل الظروف التي أدت لثورة دبك, لأسئلة لا إجابة لها ,فيما ورثه من مدونات ,ورسائل تطل من بين سطورها حجب النور حينا,وحينا الكرسني, إلى أن يستوقفه جانو قرمط , وشهريار بني هلال الكبير,وبنت فدر الله , التي لم تخض مع ود بندة في أي تفاصيل ,عندما أعلن لها عن شكوكه ورغبته في الهرب ...
أحس ودبندة لحظتها ,كأن بت فدرالله كانت تنتظر منه هذا القرار..أخبرته أن رسول منها, سيتصل به في الوقت المناسب,ليخبره عن ميقات وكيفية الهرب ...
عندما عاد ود بندة في ذلك اليوم ,كانت قد سيطرت على خواطره, تلك النظرة المستسلمة,التي لا تخلو من إحساس بالراحة ,والتي قرأها في عيني بت فدر الله,فتفكر كثيرا, وراودته الشكوك ,حول لابد أنها تعلم عن إبنتها ,ما يطمئنها ويدفع بتلك النظرة اللامعة إلى عينيها الخابيتين,,لكنها لم تشأ إخباره ..
أو أنها غيرت تدابيرها وخططها ,ولم تعد تأبه لحياته ..تآكلته هذه الشكوك زمنا طويلا ,إلى أن تبدد معظمها عند لقاءه رسولها "أبوخيرة",الذي كان صادقا معه, فلم يخف عنه أمر حجب النور ,وإنجابها من الكرسني طفلهما أبي جريد الصغير,الذي نما قويا بسرعة ملحوظة ,لم تحك عنها نبؤات الفقرا,الذين كانوا يؤمنون, بوجود ذات عليا تدير الكون ,على أساس عقلي صرف ,دون أن يعتقدوا في التنزيل والوحي والرسل ..إذ يظنون في أنفسهم ,أنهم بلغوا من العرفة والمعرفة,ما يجعلهم مسئولون وحدهم ,عن صياغة الشرائع ,بإستيحاءها من حياة الناس وثقافتهم ,وعلى ذلك هم الرسل المعنيون بإنقاذ دار صباح,خاصة أن لديهم من المواهب والقدرات ,ما يفوق معجزات يسوع الناصري ..
ولطالما أعتقد الفقرا ,أن القوانين في أوسع معانيها ,هي علاقات ضرورية ,تشتق من طبيعة الأشياء ,وبهذا المعنى فإن لكل الموجودات قوانينها.. ولذلك كانت رؤيتهم للإنسان والحياة والكون ,تتمثل في أن كل ذلك ,محض علاقات,بين قوى متفاعلة تؤثر في بعضها البعض ليس إلا ..
ولم يكن الفقرا قدريون بأي حال من الأحوال,لكنهم في ذات الوقت ,يؤمنون بوجود عقل مبدئي, يتمثل في هذه العلاقات,التي تتفاعل فيما بينها ..
وكانوا يرون أن الحرية هي القدرة,على عمل ما يريد الإنسان عمله ,لكن دون إلزام هذا الإنسان ,بفعل ما لا يريد فعله,كما أنه لوفعل كل شخص ما يريد ,فإنه لن يكون حرا,لأن الجميع لديهم نفس الرغبة ...
ومع ذلك كان هؤلاء الفقرا,الذين يكثرون من التأمل ,حول الحرية ,ومعناها ومصدرها ,يمثلون أغلبية تجار الرقيق والجلابة..ففي ذلك الوقت الذي ألتقى فيه أبوخيرة, بود بندة,كان الفقرا قد نشطوا في تجارة المواد التموينية ,وتخزينها .قاموا بتخزين كل شيء : الذرة,السكر..ولم ينج حتى الملح .. نشطت قوافلهم في كل أنحاء البلاد الكبيرة,تتاجر في كل شيء ,تبيع وتشتري كل ما يقع تحت يدها. كان الفقرا إذن ,يحاولونبناء إمبراطورية تجارية خفية ,كما كانوا يتسللون إلى دواوين حكم أبي هلال ,خفية دون أن يحس بهم أحد,بسبب مواقفهم الهلالية أكثر من الهلاليين أنفسهم!.
.ساعدهم في هذا التسلل ,النظام السري العقائدي الشمولي المركزي,الذي حكم العلاقات الداخلية للفقرا,وجعل من العسير إختراقها ,أو التعرف على أعضائها ,الذين لم تكن لديهم علامات تميزهم عن الآخرين:لا يختلفون عن الجلابة كثيرا,كما لا يتمايزون في سحناتهم عن بني هلال, أو أهالي دار صباح .. تجدهم حتى في تجارة الأندايات ,والبيوت ذات الرايات الحمر,وكل شيء..فكل شيء كان ضمن أنشطة تجارتهم الرائجة ...
كان أبي هلال يحس بوجودهم حوله,ويشعر بهم كالسوس ينخر جسد دولته ,ولذلك عندما رشح خواصه, الذين كان بعضهم من الفقرا, السريين ود بندة كمستشار نابه ,لشئوون قوافل بني هلال ,لرجاحة عقله ومعرفته الواسعة بشئوون التجارة - على الرغم من أن ود بندة, كان آخر شخص من الممكن أن يفهم في أمر القوافل والتجارة - شك أبو هلال في الأمر ,وأراد الإستوثاق من شكوكه بتقريب ود بندة منه ..وكان تصرفه هذا متوقعا لدى الفقرا, الذين تميزوا بقدرة غريبة في تحليل الشخصيات, ووضع إحتمالات أفعالها وردود أفعالها ..ولذلك كان سهلا عليهم إستنتاج, الطريقة التي يفكر بها أبي هلال ,الذي حقق لهم مرادهم, دون أن يدري.. ومع ذلك ستثبت قوادم الأيام أن معرفة الفقرا, لحدود قدراتهم ليست دقيقة,وأن أقل ما يمكن أن يوصفوا به, هو أنهم قوم ذوي طموحات كبيرة,تفوق أضعافا مضاعفة, حجم قدراتهم الحقيقية ومواهبهم الطبيعية ...
وقتها كانت المجاعة قد دفعت سكان أجزاء واسعة ,من البلاد الكبيرة ,في الصعيد والسافل والوسط ,وأجزاء أخرى من دار الريح ,إلى النزوح من حاضرة دار صباح ,التي كان الفقرا, قد خزنوا فيها كميات لا حصر لها من الذرة ..
فبدت أطراف حاضرة دار صباح مكتظة بالناس ,الذين سكنوا العراء ,لا يقيهم من برد الشتاء أو حر الصيف ,سوى بعض أغصان الأشجار الشحيحة ,التي حاولوا نصبها ما أستطاعوا ,ووضع أي شيء مفرود بينها ,علهم يتقون شيئا من الحر اللافح ,أو الزمهرير ,دون جدوى ..
في تلك السنوات مات عدد لا يحصى ,من أهالي البلاد الكبيرة ,بسبب الجوع والعطش وإنتشار الأوبئة والأمراض والحروبات ,على الموارد الشحيحة.. وفي المقابل نشطت حملات الرق ,فراجت تجارة الرق والدعارة,فأغتني كثيرون ,تكونت منهم طبقة مباغتة ,توثقت عرى مصالحها مع الفقرا.. والهلاليين والجلابة ...
هذا الحلف المباغت ,لهذه المجموعات ,التي تتمتع بثمرة عمل الآخرين ,في الزراعة والرق وبيوت الرايات الحمر وتجارة القوافل ,كان هو- من جهة أخرى ضمان تنامي قوة ونفوذ الفقرا- ولذلك حرصوا على تقوية هذا الحلف,الذي بدى كطائفة واحدة,متجذرة في الحياة العامة ومنسجمة,مركزها الخفي الفقرا ..
ورغم كل ذلك ,كانت سنوات المجاعة قد ضعضعت كل ما كان أبي هلال يستشعره من قوة,الأمر الذي كان يدفعه للبحث عن أمل ,يمكنه من إستعادة سلامه النفسي ,في هذه المملكة التي يحلم بتوريثها لأبنائه من بعده,ولذلك عندما أنهى إليه الشيخ أبو خيرة ,خبر مملكة مارتجلو الغنية المترفة,إنشغل خاطره, وأنفق سنوات ليست قليلة ,لإعداد جيوشه ,تداعبه الأحلام العراض بغزو تلك المملكة ,التي هي جزء من الجنة ,كما تناهى إلى مسامعه ...
وظل هذا الحلم يجدد النبوءات الهلالية القديمة ,عن سلطان الهلاليين الذي لا محالة سيتمدد, ليطغى على كل البلاد الكبيرة ..
ظل هذا الحلم يطارد أبي هلال.يحرمه النوم,لوقت طويل,ولم يفارقه أبدا ,حتى بعد أن إنصرمت سنوات المجاعة ,وفاض النيل فيضانا ليس له مثيل في تاريخه المديد,إثر هطول المطر المدرار في ,كل أنحاء البلاد الكبيرة وما جاورها ,من هضاب الشرق الأقصى وبحيرات الصعيد الأقصى ..
وهكذا بدأت دار صباح مرة أخرى, تخضر وتعمر..
وفي ذلك اليوم الذي تلى ,نهاية أحد الخرائف الممطرة ,إتخذ أبي هلال قراره,وأمر بتجهيز الجيوش ,لغزو مارتجلو . وبنفسه قاد هذه الجيوش متوجها إلى دار الريح ,هازما جيوش الممالك العديدة التي وجدها في طريقه ,الأمر الذي ملأه بروح الإنتصار ...
منذ وطأت سنابك خيل أبي هلال, عتبات دار الريح ,حتى تناهى الخبر للسلطان "شطة",فبدأ يستعد ,مجيشا كل شعب مارتجلو لملاقاته ..
جعل شطة ظهر جيوشه متحصنة إلى جبل أب كردوس,في مواجهة جيوش أبي هلال, التي يحيطها العراء والأرض الخلاء ,في الفضاء المكشوف خارج مارتجلو ...
كانت جيوش أبي هلال قد أصابها التعب ,إثر معركة ضارية قتل فيها شطة ,وبرغم ما كانت تحسه جيوشه ,إلا أن أبي هلال الذي قوى فيه مقتل شطة روح المنتصر,أصر على مواصلة زحفه, غير آبها لتعب جنده ونصبهم ...
وقتها كان ود بندة قد إستلم قيادة الجيش ,إثر مقتل شطة ,وأبدى جسارة وحكمة أعادت لجند الملك القتيل, رباطة جأشهم وهدأت من روعهم ,وبعد نزال طال تمكن ود بندة ,من هزيمة أبي هلال,الذي تفرقت جيوشه أيدي سبأ, في وديان دار الريح ,تطارد فلولها الهاربة ,جيوش مارتجلو ..
النصر الذي حققته جيوش مارتجلو بقيادة ود بندة ,جعلها غير آبهة لمصير أبي هلال ,إن كان قد نجا أو قتل فيمن قتلوا من رجاله ...
كان ما يعنيهم أكثر من أي شيء آخر,هو إنتصارهم ,لهذه المملكة العريقة ,التي نشأت في العزلة ووحشة الوديان ...
عندما يتوقف الكلس في مراجعاته ,للحظة إنتصار ود بندة على أبي هلال,تطفو متداخلة في هذه اللحظة عوالم"جلابي"كشخصية مسكونة بالخوف ..هذا الخوف الذي صنع من ود بندة بطلا تاريخيا,هو ذاته الذي ظل يدفع جلابي, أن يشعر بأنه عظيم ونبيل ...
تساءلت غلوريا :
"أأنت تحكي حكايتنا,أم حكايتكم?!" ..
فرد بطريقة آلية كالمنوم مغنطيسيا:
"بل أحكي حكايتهم" ...
لا أحد يدري بالضبط كيف تكون في دخيلة جلابي, مثل هذا الشعور ,فعلاقة جلابي بكل من حوله ظلت عاصفة,لا تفتأ بين آن وأخر, تقتلع أمامها كل ما هو راسخ ..
أخضع جلابي كل من حوله ..الوحيد الذي لم يتمكن من إخضاعه ,هو دبك ,وكثيرا ماكان يشعر ,أن علاقته بدبك أشبه بإختبار القوة ..
كان الهتاف بإسم جلابي ,والتصفيق له من أحب أغنيات المداهنة والنفاق, التي يطيب له سماعها
لا يذكر جلابي في حياته العامرة بالمعارك ,أنه أحب فتاة قط .. كل النساء اللاتي ربطتهن به علاقة ,أسقطهن عن حياته ,بمجرد حصوله على مبتغاه ,جميعهن كن من أجمل نساء"ودبندة/جلابي".. يتباهى بخضوعهن في مجالسه العامرة بالمنافقين والغرباء وذوي الأغراض.. وومع ذلك لطالما حلم جلابي بنوع من الحب الأسطوري,كذاك الذي حملته غربة بني هلال ..
VIII
عندما حل "الدريب"(جد ود بندة),بدار صباح, وحسم أفكاره المتناهبة, بالتكتم على كل ما جرى من وقائع وأحداث,لإبنة سلطان ار صباح..هذه الوقائع التي أنتهت بموتها غرقا..كان قد قرر في نفسه ,الحياة بمنأى عن كل ما يجلب له الهم والغم ,لكن لم يلبث نمط حياته أن عمق داخله ,الشعور بالوحدة والشوق للأهل والأوطان..إلى أن كان ذلك اليوم الذي رأى فيه "قند اليمن" ,تتهادى كغزال نافر ..
كانت قند اليمن إبنة أحد الفقرا ,الذين إمتلكوا , ثروة طائلة من تجارة الرق ,حتى بات نفوذهم يهدد نفوذ سلطان دار صباح نفسه ..إضطر الدريب أن يكشف عن أصله وفصله ,وحسبه ونسبه ,حتى يزوجه الفقير إبنته ..
في ذلك الوقت كان "العاتي" - والذي هو جد ود بندة- إبن عم الدريب قد تمكن من إقناع والده ,سلطان الهلاليين الكبير ,بأن يضعه على رأس جيش كبير ,لمد نفوذ الهلاليين ,إلى ماوراء البحر الملون ,حتى حدود ذلك النهر الأسطوري العظيم حيث تغيب الشمس خلفه ...
فأستحسن سلطان الهلاليين الكبير مقالة إبنه ,وسره أن ولي عهده قد كف آخيرا, عن مطاردة الجواري,ومصاحبة السوقة,وأصبح يهتم لأمر الدولة ويفكر كالملوك .. كان قد ظن حقا أن فكر إبنه قد تحول, عن حياة اللهو والمجون ..
ولم يلبث على دخول الدريب بقند اليمن ,سوى أشهر قليلة, حتى دهمت جيوش إبن عمه العاتي, مملكة دار صباح,فقتلت سلطانها ,وبددت نفوذ حلفاءه الفقرا ,بعد أن قتلت قائدهم جانو قرمط ...
كان قد نما إلى علم العاتي, منذ وقت مبكر أن إبن عمه"الدريب"قد إحتمى بالفقرا, وتزوج منهم ,وهكذا ظل الهلاليون يستهدفون هذه الطائفة ,بالقمع والقتل والتشريد ,في كل عهودهم التي لم يكن أقساها ,على الفقرا عهد أبي هلال وحده ...
منذ أن حل الهلاليون بدار صباح , أصبح الفقرا ,لا يستطيعون الإعلان عن أنفسهم ,بل أن الهلاليون أجبروا الكثيرون ,على التبرؤ أمام الملأ ,عن كل علاقة لهم "بجانوقرمط"وطائفته,معلنين التوبة ,التي كان الهلاليون يحرصون على توثيقها ,بالتوقيع والختم عليها . إذ لم يكونوا يكتفون بمجرد التصريح,دون التوثيق كتابة على رقع الجلد ,التي كانت تحفظ, في خزانة بعينها في قصر الهلالي الحاكم ..
ومع أنكماش الفقرا وتشردهم في بقاع البلاد الكبيرة ,وتخلي كثيرون عما ظلوا يعتقدونه ,من أفكار لوقت طويل ,ظلت فئة منهم على ولائها لأفكار جانو قرمط .. لكنها أنكفأت ,حتى أصبحت أشبه بجماعة صوفية مغلقة.. نادرا ما يلتقي أفرادها ,وفي ظروف بالغة السرية والتعقيد,حيث كانوا يتداولون تلك النبؤة ,التي زعموا أنها وردت على لسان جانو ,الذي كان قد أسر بها لخواصه ,عن فتى من بني هلال يتزوج فقيرة بنت فقير,تنجب له طفلا يطلقان عليه إسم أبا جريد..عندما يكبر هذا الطفل يحقق للفقرا, مجدا لم يحلموا به أبدا ...
ربما أن شيوع هذه النبؤة منذ حياة جانو,هو ما دفع والد قند اليمن ,إلى تزويج إبنته للدريب جد ود بندة ,بعد أن علم أن أصله من الهلاليين ,خلف البحر الملون ...
لبني هلال أيضا نبؤة غامضة,توارثوها جيلا عن جيل,منذ كانت مملكتهم الواسعة مجرد مضارب لخيام,يمرحون بينها مع الخيول والجمال والغنم,حتى تنامت وأصبحت مملكة واسعة الأرجاء, يحكم الهلاليون كل جزء منها ...
تقول النبؤة أنه سيولد في أحد أجيال بني هلال,في وقت واحد ,ولحظة واحدة,إبنان لأخوين..يحبان بعضهما كثيرا,ثم يصبحان عدوين لدودين لبعضهما..يقطعان البحر, ويقيم نسلهما ممالك عديدة ,بعيدا عن الأوطان ..
هذه النبؤة الخلو من أي تفاصيل ,كانت تؤرق خواطر الهلاليين ,الظامئين للنفوذ والسلطة ,وكانت هذه النبؤة ,هي أحد أسباب قبول سلطان الهلاليين الأكبر ,تنفيذ رغبة إبنه العاتي ,في المضي قدما ,على رأس جيش قوي ,لمد نفوذ الهلاليين خلف البحر الملون ..
وعلى الرغم من أن هناك أسباب أخرى خلف هذا القبول ,إلا أن هذه النبؤة, وما ظلت تشعله من أحلام النفوذ, والسلطان . ظلت تشتغل في نفوس الهلاليين لوقت طويل ..
العلاقة بين جلابي وكبير الفقرا الشرعيين في دولته ,التي تعج بالغرباء والفقرا غير الشرعيين, أتباع جانو قرمط,,ظلت غامضة حتى لحظة دخول أولئك الناس البيض,ذوي الدم الأزرق ,في مؤخرة طلائع مليشيات دبك ..فكبير الفقرا شخص من ذلك النوع ,الذي تنسب حوله الحكايات ,التي يصعب تصديقها ,فإلى جانب أنه كائن يجد غاية متعته في الإستمناء (كما يطيب لود الخزين التعبير),كان يتميز أيضا بالإبتسمات الشبقة ,التي يمنحها لأتباعه ومريديه,بسخاء مريب
فكبير الفقرا, ظل طيلة عمره ,في حالة حب دائم كعاشق ولهان, مغرم بحبيب مجهول ,لا يعرفه أحد ,وإن كانت سيرته على كل لسان ..ولكبير العرافين عشق خاص لترانيم مجهولة المصدر,يزعم أنه يسمعها في الليال المقمرة ,فتملؤه حبورا ,وتجعله يسير آلاف الفراسخ ,في طريق لم يمض فيه أحد من قبل,أو من بعد ..
كان يتبع تلك الهواتف المتوهمة ,التي تقوده من ظلمات إلى إضاءات خافتة,فشعور بالخدر اللذيذ,حيث يشعر بالتحرر الكامل ...
كان كبير العرافين يدرك أنه حصل على الحرية ,بعد أن دفع ثمنها من الشائعات ,التي نالت من سمعته الجنسية,لعشرات السنوات,ولم تكف حتى مدونات دبك من تناولها ,حتى أضطر الكلس لتخليدها ...
الشعور الذي كان يحسه كبير الفقرا ,إزاء هذه الشائعات - مع ذلك- لهو شعور شبيه ,بالشعور الذي يمنحه حجر كوتو المقدس, والمرآة السحرية لمن يمتلكهما ,كما ظل الفقرا أتباع جانوا قرمط يعتقدون,إلى جانب إعتقادهم في ورماد جمجمة جانو , هذه الأشياء الثلاث, التي بمثابة أهم الرموز الروحية للجريديين أتباع جانو,و الديانات المحلية,السابقة لليهودية والمسيحية,في البلاد الكبيرة
عاش الجريديون أتباع جانو ,كل تاريخهم يحلمون ببناء عالم بديل,لعالم دار صباح ذات الوجه التاريخي الموغل في القدم ,لينتهي بهم المطاف في طائفى الفقرا ,الحلفاء الأصيلين لعمد ومشايخ وطوائف سلطة بني هلال ,راكلين كل ما حلموا به يوما ,وتعرضوا بسببه للبطش والقمع
فهم كطائفة, إنبثقت من رحم الديانات البائدة ,إنطوت على كل توجهات الطوائف الأخرى ,لتخفي أجندتها السرية بمكر ,وللسبب ذاته ,يصبحون هدفا تاريخيا دائما للآخرين ..
هؤلاء الآخرين الذين سيكونون باستمرار,محض ذكريات للمحن والمرارات ..الأمر الذي سيتوقف عنده دبك طويلا,خلال بحثه عن إجابات شافية لأسئلته الحارقة ,التي لا تبدأ بالتأمل, في إختيار الكرسني لحياة العزلة والوحشة في البرية ,إلا بعد توصله - بالتأمل في أزمة بني هلال في دار صباح- والتي تكمن - كما ظل يعتقد- في إمكانية إستمرار التواصل الحقيقي بينهم والآخرين ,وهكذا يختار بريته الموحشة,كعالم بديل, لعبثية حياة دار صباح ,كما كان يردد في دخيلة نفسه ,دون أن يجرؤ على التصريح ..
لا يزال الكلس كقاريء نهم ,وكاتب فاشل ,يعتقد ككثيرون, أبناء قومه الموهومين,أنهم يتحدرون من سلالة المقدس دالي ,ويتصورون أنفسهم كأرباع آلهة ,على عاتقها تقع مسئولية إنقاذ دار الريح ,وانتشالها من محن وأوهام وكوابيس الهلاليين ...
بصوت هامس تقول غلوريا :
- تنفسك يضايقني .
فيقبلها بعنف .
كانت سماء برينسس آن غبشاء في هذه الظهيرة الحارقة .. التي يكاد كل شيء بسببها يتميز من الغيظ ..الأمر الذي يدفع الأهالي إلى التماس الإسترخاء ,في العريشات خلف بيوتهم ,أو تحت جدر مساكنهم ,يرتشفون البيرة إرتشاف الشاي,ببطء وتلذذ ,ليغرقوا في عالم من الصمت المتقطع, الذي يحيط البلدة,التي تصبح كردهة كبيرة ,يتناثر داخلها الناس ,في تجمعات صغيرة ,يمارسون هواياتهم المحببة,في تبادل الحديث الفاضح دون تذويق ..
كانا في شقتهما ,هو وغلوريا .. جزء من هذا العالم ,المسكون بأوهام "السستم" وخزعبلات القانون ,هذه الأوهام .. التي لطالما أخذت الكثيرين في سبات عميق,لقرون طويلة ..
فتحت غلوريا عينيه على هذه الأوهام ,فاستفاق وهو يحملق في وجهها ,يحاول أن يرى الناس والحياة ,في هذا الجزء من العالم بعيونها ,التي تخترق سطح الحياة هنا, إلى جوهرها المرعب ..
حل المساء على شقتهما الدافئة بتماثيلها الأبنوسية اللامعة ,التي يبرز من بينها تمثال لشجرة عجوز ,غير محددة النوع ,لا تنتمي لأي نوع معروف من الأشجار ..تنتمي فقط إلى نفسها,بجذورها الكثيفة المتشابكة ,على قاعدة سميكة من خشب التيك ..
حاول أن يرد على غلوريا ,أثناء إرتداءها قميص نومها مرة أخرى..ثم أكتفى بالتساؤل :
- ما به تنفسي ؟
- رائحة البيرة ..
ترددت لبرهة وهي تقف في وسط الغرفة :
..- أصبح أنفي حساسا تجاه الروائح ,يبدو أنني حامل
تقدم منها وهو يتفحصها مليا ,ثم أحتضنها دون أي تعليق.. فضمته وهي تبتسم في قلق رصين..كان وجهها مرفوعا ,وخفقات صدرها الهادئة, تجعل نهديها يهتزان بخفة غير ملحوظة ..فقط يحس دفئها..ثم أنهارت بعد طول مقاومة,لمشاعر متناقضة ومختلطة,مبعثها المخاوف والظنون ,وأنفجرت ببكاء خافت ,عميق ومعبر ...
المرة الأولى التي التقى فيها غلوريا ,قبل أشهر ليست قصيرة ,مع بداية إعلان الديموقراطيين لأوباما كمرشح لهم,كانت متجهمة ,لكن أليفة الملامح ,لا تملك إزاء سلطة تواجدها معك, في نفس المكان,سوى أن تسعى جاهدا ,لكسر القناع المتحفظ,الذي تحيط به نفسها ..وهكذا سعى حثيثا للتواصل معها ...
كان ذلك عندما وجد نفسه يعمل معها في ذات الموقع ,في عطلة نهاية كل إسبوع ..
في الإسبوع الثالث كان التجهم قد فارقها ,وحل محله لطف حنون,هو جزء من طبيعة أصيلة ,تحاول إخفاءها لمواجهة قسوة الحياة هنا..ولم يمض شهر حتى كانت قد ألفته ,وأخذت تحكي له عن حياتها وجذورها ,كمزيج من الهنود الحمر والآفروأميركان ...
كانت غلوريا تنتمي لهذه البلاد بمحبة عميقة ..محبة لم يرى مثلها من قبل,وتعتقد أن هذا الإنتماء العميق,ثمرة تاريخ طويل من مقاومة السحل,ونضالات مريرة ضد التمييز..وفي ذات الوقت كانت تتصور بلادها ,على نحو ما تريد,وتحلم ..وليس كما هي في الواقع الذي تؤمن أنه لا محالة زائل..إذن كانت غلوريا تنتمي لبلاد في أحلامها ورغباتها .. بلاد تشبه الطريقة التي كتب بها دبك مدوناته ..
- أوباما خير دليل على ما أعتقد.
.- نعم خطوة في الإتجاه الصحيح
كانت غلوريا تؤمن بنظرية المؤامرة,وتتصور أن كل ما يجري من حوادث - كحادثة سطو الأفرو أميركان الثلاث على مكتب البريد- إنما هو جزء من مخطط أبيض ,للنيل من مشروع أوباما..
غلوريا لا تحب الكتب والثقافة والمثقفين,تحب الكلام المباشر الصادر ,من القلب .دون تذويق أو زخرفة,لكن عندما تسمعها تتحدث,تشعر بأنها تمتلك حس عميق بالمعرفة,هي نفسها لا تعرف مصدر هذا الحس ..
ربما أن مصدر هذا الحس , ذاكرة جدتها الهندية الحمراء, أو ربما هي ذاكرة جدها الأفريقي الأسود.. وربما هي تجربة كفاحها في العثور على موطأ قدم, في بلادها المتقلبة,التي يكون للإنسان فيها كل يوم شأن مختلف ..وربما وربما ...
رغم أنها لا تزال على أعتاب الثلاثين,إلا أن عقلها يبدو طاعنا في السن..عقل إختلطت فيه قيم الإنتماء بتاريخ تبديد الإنتماء,ليبرز في هذا الخليط أثر عنف التبديد ,كجرح معبأ بالملح ..جرح لا تناله البكتريا,لكنه يظل مالحا مؤلما ,معذبا محصنا ضد البرء ...
اللحظة التي تماهيا فيها ,لحظة غريبة محصنة ضد النسيان..لحظة حملت ملامح عذابهما المشترك,إذ كانت تحكي عن هذا الجزء من الساحل.عن إرتباطها به..عن حياة أسلافها الهنود,الذين تم تفريغهم منه,وعن جدتها السوداء القوية التي تشعر بالفخر وهي كفاحها..كانت غلوريا تحكي دون حقد أو غبينة,إذ تتصور أن الحديث عن وقائع ما جرى آلية مهمة لتفريغ الناس من عنف التمييز,كمرحلة للعبور لوطنها الحلم ..
وتخلد غلوريا إلى صمت عميق ,كلما عبر وجه جدتها بإحدى الحكايات ,ليضيف أو يحذف في صمت ,دون صوت أو همس شفاه ,وفجأة من بين هذه الحكايا والجدة تغادر ,فضاء المكان إلى قاع ذكريات غلوريا,ساد صمت معقد..صمت معبأ بنوع غريب من توتر دافيء, قلق,متحفز ...
لا يزال يذكر هذه اللحظة ,ماثلة في ذاكرته في كل ثانية ,لا تفارقه أبدا ..هكذا بدون مقدمات,تكسر غلوريا الصمت المتحفز ,لتدفنه في حضنها ,فيتوقف دمه عن الجريان ,وقلبه عن الخفقان ,كانا كروحين هائمتين تبحثان عن بعضهما,لتتوحدان لتتحقق لهما السكينة والخلود ...
شعر بين زراعيها كأن إكسير عجيب ,يحل محل دمه ,كأنها تنقل إليه لحظتها فيض من قوة حارة تغمره بثقة لا حدود لها ..
دون تردد أو وجل أحنت رأسه في هدوء ,ووصلت شفتيها بشفتيه ..أحس بكل المعان التي خطرت ,أو لم تخطر على بال أكثر الشعراء كذبا ,في عينيها الصريحتين الودودتين,الوادعتين والداعيتين في إستسلام تام ...
كان ذلك فوق كل إحتمال ,إذ كان كل شيء مباغتا ومفاجئا ..أغلق الكلس عينيه وغرق في حالة من النشوة ,أشبه بالإستلاب العميق .. ..
كان كيانيهما المتوحدان ,ينضغطان على إحساس ,أشد وطأة من التوق إلى الخطيئة ....
وهكذا انتقلت غلوريا لتعيش معه ,ومنذها وهما محاطان بضباب كثيف ..يعيشان حالة من الخدر العقلي .. ينتظران إنقشاع هذا الضباب ,الذي يعبر نوافذ شقتهما ,مفضيا إلى طريق مظلم ..لا شيء فيه سوى أشباح الماضي في قارات العالم المختلفة ..
غلوريا ككثيرات من بنات جنسها ,تتوهم أنه سيتخلى عنها ذات يوم, ويرحل عائدا إلى بلاده البعيدة ..كانت تنظر إلى كراساته ومدوناته ,بشعور هو مزيج من الغيرة والخوف ,من أن تأخذه هذه الكراسات والمدونات ,بعيدا عنها ليواجه قدره المحتوم ..
كانت طبيعية وصادقة تماما,وهي تسرب هذه المخاوف ,وربما لذلك حملت منه لتربطه إليها أكثر,فيبتسم هو في دخيلته : "هكذا هن !!".. دون أن يرفع رأسه عن أوراقه المبعثرة,التي يطل منها طيف دبك ,في محاولة مستميتة لإستعادته ,إلى تلك اللحظة التي اتخذ فيها قرار الثورة المسلحة ..
قبلها كانت حبيبته نينا الورتابة قد دهمت غربته ووحدته القاسية ,على شفة الوادي ...
جلست دون أن تستأذنه ..إلتفت إليها ,ووجهه يلتف بوجهها ...
كان صفير الريح يتخلل الوادي الوادع .غابت نينا في مسام الريح ..تبعها دبك ,وهو يجذبها إلى مركز الريح ,ليغرقها ويغرق معها في الأنين واللوعة ,وهما يحتكان بقش القطاطي ,وصريف الحيشان وسيقان الجبراكات المزروبة بعيدان الدخن والشوك ...
كان دبك يدرك أن نينا تعلقت به منذ الصغر, تعلقه بها.لكن تعلقها به كان لأنه المحسوس أمامها .. تنظر لقصتهما معا ,كقصة حب حالمة ,وهما يتسللان خلسة ,من خلوة الفكي إبراهيم قرض ,إلى الدغل على ضفة الوادي,أو الغابة الصغيرة ,حيث صندل الردوم ,والدروت أعلا قوزالسمسم ...
كان هدؤ نينا يضفي على جنوحه طابع المغامرة ,التي يحب.وبشعائرهما المقدسة,عند لقاءاتهما تنفتح بوابات السحر, ونوافذ الشجن الريفي ,كأنشودات أثرية لم تكتشف ..
غموض دبك هو ما يدفع بقلق نينا إلى أقصى الحدود ..عندما يغيب دون رسائل ..عندما يجيء دون توقع ..تتمنى دائما ألا يسافر مرة أخرى ,وهكذا تظل تتمنى في معاناتها الدائمة لتوجداتها ,منذ سنوات دراسته في دار صباح ,حتى لحظة دخوله في تلك العزلة البديعة ,التي خرج منها ثائرا ,يحمل السلاح ضد جلابي ود عربي ...
عندما فكر أبوجريد في صياغة بلدة الأرباب على ذلك النحو ,الذي آل بها إلى خاتمتها الرهيبة ,كان في الواقع يعيد إنتاج تجارب الممالك الفاشلة ,التي تعاقبت على البلاد الكبيرة ,عبر عشرات السنوات السابقة, لتخريب عجوبة لسوبا,مرورا بفاطمة السمحة ,التي طعنها قادة الجيوش المتحالفة ,طعنة رجل واحد ,لينقط دمها دافئا في أوراق الرسائل والمدونات ,كحبر سري كتبت به وثائق غير صالحة للنشر..وثائق تقترح ليس إعادة كتابة التاريخ ,بل تأليف تاريخ بديل,لخلق أسطورة أمة متوهمة من خليط غير متجانس..تاريخ بديل لا تفوح منه سوى رائحة العفونة والعطن ...
يرفع الكلس رأسه عن الأوراق الملخبطة أمامه ..يحاول ترتيبها عبثا,فيجيء صوت غلوريا من أعماق النعاس :
ألا تريد أن تنام؟ -
- لا تقلقي سأحق بك بعد قليل.
علاقته بغلوريا علاقة معقدة..نوع من الحب المتشابك,مع وقائع وأحداث التاريخ الشخصي لكليهما .. يخيل إليه أحيانا أنه نوع ينتمي لذات النوع, الذي ربط بين أبوجريد ومسك النبي ,أوفاطمة السمحة وود النمير ,أو.. مع غلوريا تعبأت ذاكرته الخلوة من حياة المرح, بمشاهدات جديدة وعوالم مختلفة ..فغلوريا أنثى مسكونة بالحياة ...
علاقته بغلوريا لا تقل تعقيدا عن علاقة دبك بنينا ,التي فجرت داخل دبك كوامن لشجن أزلي ,لروحه الملتفة في دمور أبيض ,موشح بالدم ,يحاصر أحلامه النادرة ..
جمال غلوريا / نينا ..جاذبيتها ..سحرها الذي يشبه الإحساسات المتسربة ,من بوح آلهة العصور الغابرة ..كل شيء يخصهما:نينا / غلوريا..يدفعه إليها دفعا ,فتتسع المسافة بينهما في الآن نفسه ..
القسم الثاني :
I
قليلة هي تلك البلدان التي تنشأ في العزلة,بل هي نادرة أو تكاد تكون غير موجودة,فالطبيعي أن تنشأ في الإتصال والتواصل,لكن ما هو مبهر حقا أن تنشأ بلدة ما في العزلة,كما حدث مع جلابي ود عربي...
كنبت منبت نشأت جلابي ودعربي في العزلة ,على أنقاض المدينة الخالدة"مارتجلو".. ككون صغير قائم بذاته ,يتعاطى مع الوحدة ,يتصل بالوحشة,ويتوحد مع هذا الوجود الغامض ,ليشكل وجوده المعزول عن كل ما حوله,في العالم الذي يبدو كمجهول بالنسبة إلى هذا الكون الصغير..
ليصبح إسم جلابي ود عربي ..هذا الإسم ,الذي لن يلبث أن يتبدد هو الآخر,عندما تتضاءل العزلة وتبدأ في التلاشي ببطء- مجرد إسم يكشف عن ملامح ذلك الكون البائد ,الذي كان إسمه ذات يوم "جلابي ود عربي".. ..
في هذا التبدد تحل أرض طينية قردود ,تفضي إليها سباسب ووهاد ورهود,تتخلل جروف الرمل والأودية وغابات القمبيل ,وصندل الردوم وشجيرات القضيم,وعشبات السناسنا...
أسلاف الأهالي الذين سكنوا جلابي ود عربي,لا أحد يعرف بالضبط ,من أين جاءوا إلى هذه العزلة,التي ليس ثمة طريق مألوف يفضي إليها ,فهي عزلة أشبه بالمسارات ,التي خامرت هواجس الرحالة والمكتشفين,أو تلك الحكايات الغامضة ,عن قارة أطلنطس الغارقة ,أو المدينة المفقودة أو الواق الواق...
كل شيء في جلابي ود عربي ذلك الزمان البعيد ,يشبه معالم كونها الصغير ,المحاصر بالصمت,لكن الدفء..السكون لكن الحميمية,حيث تتوحد عناصر طبيعة هذا الكون وإنسانه ,في كيان واحد ,حتى لا تكاد تفرق بين الإنسان والشجرة أو الحجر..وماء الشلال مجهول المنبع ,الذي يسقي كل جلابي ود عربي . التي قبل أن تحمل هذا الإسم ,كان إسمها مملكة الشلال ,التي تعاقب على حكمها أحفاد كثر لدالي ,كان آخرهم شطة ,الذي ورث عنه ود بندة السلطة ,بعد أن تزوج أخته الميرم...
فهذا الإسم هو أقدم أسماءها الثلاثة,التي عرفها بها الباحثون- خاصةدبك ومن بعده حفيده الكلس- في صراعات هذا الجزء المنسي من العالم..
قبل أن تحمل جلابي ود عربي هذا الإسم ,كان إسمها"وادي ود بندة",والذي عاش فيه نوع من الناس ,توحدت فيهم الغربة,فأورثتهم طابعا غريبا من الشجن,كالنقش على وجوههم المخددة بالمواجد.. "يرجح الكلس أن وادي ود بندة ,هو مرحلة سابقة للأرباب,لكنه ليس واثقا تماما ,إذ أن كثيرمن الحلقات مفقود ,ما يجعل التأريخ هنا متداخلا في أزمنته المبتورة,بحيث يصعب الجزم أيهما أقدم أو نتاجا للأخرى :جلابي,أم الأرباب.." .. ربما أن هذا الطابع الغريب من الشجن ,هو ما يقف خلف ذلك المزيج الغريب ,من المخاوف والحنين ,الذي يبدو واضحا في قسمات نسلهم الغامضة..
"جلابي ود عربي" أشبه بمركز لإقليم مترامي الأطراف ,تناثرت على إتساعه في تباعد يحمل سمة عزلتها ,بلدات عدة هنا وهناك..
أقرب البلدات إلى جلابي "مُتور",بسكانها الذين لا يزيد عددهم عن بضعة مئات ,وهم ذاتهم يبدون كنسخة مكررة لأهالي جلابي ودعربي..
وتنهض قريبا من متور البلدة الثالثة "مُرّدَفْ" التي يطلق عليها البعض أحيانا "سُرِّيْ"..إذ تشكل البلدات الثلاثة , ما يشبه المدينة الواحدة,إذ لا يفصل بين ثلاثتهن سوى وادي أزوم ,الذي تنهض جلابي عند نقطة تفرعه إلى فرعين : فرع "سِجِللّو"حيث تنهض مُتُور ,مقابلةمُرّدَفْ,في الفرع الآخر "اللّه مرقا",حتى لينطبق على هذا الجزء المعزول من الإقليم ,إسم مدينة جلابي المثلثة..
السكان هم ذاتهم ,في أي من بلدات جلابي الثلاثة,بملامحهم الغائرة في العزلة ,وقسماتهم المنحوتة في الغموض ,بلونهم الأسمر الفاتح ,وطقوس حياتهم اليومية المكررة,بحيث تشعر بتيار الزمن ,يكاد يكون متوقفا ,وأنت حيث أنت: لم تتحرك قيد أنملة.. حتى لو كنت تتجول بين البلدات الثلاثة طيلة الوقت ..
ولذلك الحياة الإجتماعية للناس ,هي نفسها تكاد تكون متطابقة,في كل بلدة من بلدات جلابي : حياة لا تخلو من من الحسد و التنافس على اللا شيء!!..ومع ذلك,هي حياة لا ينقصها التعاون ,لكن الثرثرة والنميمة,ولا تخلو من المحبة ,لكن الحذر والتحفز..كما لا ينقصها شيء من الإتكال والتواكل والتنصل من المسئوليات تجاه مجتمع جلابي,بل وغالبا ينشط بعض المخربون لإهدار مجهودات من يتصدى لتحمل مسئولية عامة في جلابي ...
إنها جلابي ودعربي,البلدة التي غذتها العزلة, بالمتناقضات ,فسكنها الفراغ ...
وتأثير الفراغ في حياة الناس تراه أوضح ما يكون في "الهدية"..هذه المرأة الأربعينية,التي لا تلحظ فيها للوهلة الأولى سوى نوع من وسامة ذكورية مزعجة,إلى جانب أن للهدية صوت منفر كالصهيل الصديء,والهدية عندما تتحرك أمامك,يمكنك أن تلاحظ تعجل مشيتها المعجونة في الوقاحة والتصنع ..
وبعامة,الهدية أحد أكثر شخصيات جلابي إستفزازا,حتى لو لم تفعل أو تقل أي شيء.. فمجرد التواجد معها في مكان واحد,يجعل الناس مشحونين بالتوتر والتحفز ..
طوال حياتها لم يصادقها أحد سوى "الدود" ..هذا الرجل المتعجن في مشيته ,كالنساء ذوات المؤخرات المثقلة..إذ تلاقت أهوائهما وتوحدت كيميائهما,فشكلا ثنائيا مرعبا ..
عاشا معا في مسقط رأسهما "متور", إلى أن إنتاب الهدية قلق خفي, دفعها للرحيل إلى جلابي,وخلف رحيلها فراغا مهولا في حياة الدود,الذي لم يلبث أن قرر اللحاق بها ..
الهدية والدود كانا مغرمان بالتجسس على أحوال الناس ,وتسقط أخبارهم,إذ كانا يتميزان بنوع غريب من الفضول الوقح ,الذي ليس له مثيل في تجربة النفس البشرية,في رحلتها الهائمة الطويلة,منذ لحظة الخلق الأولى,إلى التبدد النهائي ..
والهدية والدود لا يتورعان عن إختلاق الأكاذيب عن الناس ,ونشر الشائعات وممارسة النميمة طوال الوقت ,لإشباع رغبتهما الملتهبة ,التي لا يعرف أحد كيف يطفئها ,كما أن لا أحد يعرف دوافعها ..
إذن كانا دائما مهمومان بإعلان ما يسره الناس , وأكثر من ذلك ,لم يكن ثمة سر مهما تكتم عليه صاحبه ,ليخفى عنهما ..إذ لا يلبث السر أن ينتشر متخطيا حدود البلدات الثلاثة ,ولا يتوقف إستشراءه,إلا بعد أن يصطدم بجدار عزلة الإقليم ...
عندما غادرت الهدية متور إلى مركز جلابي ود عربي ,شعر أهالي متور بشيء من الفرح,الذي لم يكتمل إلا بعد أن لحق بها الدود ...
تنفس الأهالي الصعداء,وأقاموا الإحتفالات لأيام وليال ,معلنين أسباب مختلفة للإحتفال ,لكن الهدية والدود,كانا يعلمان حقيقة هذه الإحتفالات .. حتى أنهما "كيتاَ" في أهالي جلابي ,فكرا في العودة مرة أخرى,لولا أن شعورهما الخفي ,بأن مركز جلابي ,لم يعد هو مركز جلابي القديم ذاته ,إذ أصبح ينطوي على أشياء غامضة,تمور في صمت..تآكلهما الفضول لمعرفتها ونشرها ,وهكذا بدلا متعتهما في تعكير صفو أهالي متور ,بالمتعة المنتظرة,بإكتشاف الغامض تحت سطح جلابي ...
كان حسهما الخفي كالترمومتر, يستشعر إحساسات غامضة ,بوقائع ستنكشف ذات يوم..هذا الشعور الذي لم يلبث أن سرباه إلى تينا ومرين ,اللذان كانا لا يأبهان كثيرا لشيء مما حولهما ,سوى قبول الآخرين بمحبة ,وتحملهم دون من أو أذى ..
بهذا الشعور الغامض نفسه,الذي تناهش الهدية ومرين ,عاش جلابي ود عربي - هذا الرجل الضئيل الحجم ,وفقا للأبحاث التي أجريت على هيكله العظمي - الذي حملت ود بندة اسمه ,كل أيام حكمه متآكلا بالغربة والحنين ,إلى وطن غامض خلفه وراءه ,هناك ..خلف ساحل البحر الملون .. ذات الحنين الذي صاغ به جده ود بندة مملكته ..كشفت عن هذا النوع الغامض من الحنين ,رسومات اللغة البدائية ,التي وجدت على جدران كهوف جلابي ود عربي وخزفياتها ,ومدوناتها,المكتوبة على غير مألوف الورق ...
في مراجعاته لتاريخ جلابي ود عربي,إنتبه الكلس لشيء طالما أغفله الباحثون ,أثناء ركضهم خلف تحليل التاريخ السياسي..هذا الشيء الذي أخذ يؤكد عليه دائما,يتمثل في العزلة التي صاغت هذا التاريخ,فبتوجيه النظر إلى الجانب الآخر..يمكن الإنتباه إلى حياة إجتماعية زاخرة بالشاعرية والحيوية كما تفيد إحدى المدونات, التي تمضي فتصف حب أهالي جلابي للحياة,بطريقة مبهرة,في سرد هذه المدونة, لوقائع جلسات الأنس التي كانت تعقد في منتصف كل شهر قمري ..
II
بعد محاولات عديدة ووعد ومواعيد كثيرة,وفي إطار من السرية المتسربلة بسلسلة معقدة من الإتصالات,نجح دبك في الحصول على دعم الجوار,كان مفاوضوه يبتسمون في دهاء وهم يسمعون حديثه عن "الشلال",وأمجاد أسلافه وآلام التحولات وهيمنة جلابي ..
في تلك الظهيرة التي ألتقى فيها دبك مفاوضه الأنيق ذي الدم الأزرق,كان مشحونا بإنفعالات الأرض/نينا ومشاهد الرفاق الذين سقطوا في غارات جلابي ,وأحتلت صورة أمه العجوز"خاترة" فضاء ذاكرته وهي تحترق,داخل قطيتها المحاصرة,بجنود جلابي..ورأى نينا تبكي بحرقة,تتكاثف في عيونها مشاعر الأسى العميق..كانت قد رأت بأم عينها جيش جلابي يحرق "الفرقان"ويغتصب النساء ويقتل في وحشية ..
كان دبك يعلم أن مواجهته لجلابي, تعني مواجهة ذات الحلف القديم ,الذي دهم "بلدة الأرباب",ذات فجر غامض,لذا حرص على ترتيبات عديدة ,لتجنب مصير مرتقب..كان في صحوه ومنامه يحلم بإقتلاع عيني جلابي,وخوزقته. تماما كما فعلت الجيوش المتحالفة ب"الأرباب "العجوز الماكر ,في لحظة من لحظات التاريخ المنسي..
كان دبك يرى أن هذا النوع من العقاب ,لجلابي وسدنته ضرورة لازمة,لبناء دار الريح ,على نحو يجنبها الإندثار والتبدد, الذي لحق ب"الأرباب",التي كانت قد شيدت من الدم والدموع,كأحد أكثركوابيس الغربة جنونا.. ولذلك لم يكن دبك يريد لدار الريح أن تكون إعادة إنتاج ل"الأرباب", فغاية حلمه الثوري بناء التصور الذي فشل أبوجريد في إنجازه,بأن تصبح دار الريح ,فضاء مفتوحا لا تحاصره العزلة والغزوات.. فضاء يتجذر فيه الإنتماء,ويتقارب فيه الناس,بحيث يمكن للمرء أن يولد من جديد ...
وكان أشد ما يخشاه ,أن تظل هذه الأفكار ,مجرد أحلام في خاطره,لا تجد طريقها للتحقق في الواقع الفعلي ..
هذه الأفكار,هي الأفكار ذاتها , التي ظلت تطارد أبي جريد طيلة حياته,فأضاعت حبه ل'مسك النبي' ,وجعلته شريدا طريدا إلى أن قضى بسم "أبو الدرق",مخلفا وراءه مخطوطته اليتيمة التي أعتمد عليها الكلس إعتمادا كليا ,لدى قراءته لمدونات جده دبك ,عثر على هذه المخطوطة أحد صغار ضباط جيش المستعمرات الفرنسية ,كان وفصيله قد ضلوا طريقهم إلى "عرين الوحوش",الذي شهد ميلاد حب أبو جريد لمسك النبي,وأيضا احتضار هذا الحب ,تحت وطء الضربات القلقة لأحلامه الكبيرة..
وعرين الوحوش هو المكان ذاته ,الذي خبأت فيه"أمونة" إبنتها فاطمة السمحة ,لذلك في تقدير الكلس أن التاريخ..تاريخ البلاد الكبيرة,لايمكن قراءته قراءة منصفة,بمعزل عن مثل هذه المخطوطات والمدونات الشخصية ,التي تكشف شيئا من وقائع ما جرى في دار الريح, التي تمثل في الواقع الخبر لمبتدأ مجهول ...
فمن عرين الوحوش,وعلى أنقاض بلدة الأرباب ,ومن رماد هياكل الناس وجماجمهم نشأت جلابي ود عربي, بأزمنتها الثقافية المتداخلة في الأرباب,حتى أن الكلس يحار في أيهما سابقة للأخرى,وأيهما شيدت على أنقاض الأخرى..هذه المعضلة في ظن الكلس بسبب الحلقات الكثيرة المفقودة,فالتاريخ هنا غير متصل ومتواصل ,كما أن المعلومات التي وفرتها مخطوطة أبو جريد و المدونات,إرتبطت بتوازنات مختلفة,فأصبح التاريخ هنا أشبه بمقالات المحررين السياسيين الفاشلين - الذين تقربهم السلطة عادة,مستغلة ضعف قدراتهم وطموحاتهم الكبيرة التي لا تؤهلهم لها هذه القدرات المتواضعة - عندما يكتبون عن خصوم السلطة ...
إذن , على أنقاض بلدة الأرباب,تخرج للعلن"جلابي ودعربي" كإمتداد لمملكة الشلال وود بندة,مؤرخة لعهد من الحصار الهلالي ,الذي تراكمت عليه أغبرة التاريخ,المعبأة بأهواء الهلاليين ..
ويتأمل الكلس ملامح هؤلاء الناس ,الذين يراهم الآن ,في هذه اللحظة بالذات..هؤلاء الناس العدائيون في غالب أمرهم ,والذين يسكنون جلابي ..هؤلاء الناس ذوي السريرات الغامضة,والمغرمون بالمعارك الصغيرة,التي هي السبيل الوحيد للإفراج عن أحقادهم المستترة,وغبائنهم الساذجة,وشعورهم المزمن بالنقص ..
فيما كان الكلس يتأمل ,كان دبك في ذلك الزمن السحيق ,قد علم أن جلابي قد إختطف نينا "الورتابة" للضغط عليه ..التاع..هاجت دواخله..كانت ذكريات الذين لطالما أحبهم بعمق ,وترسخ وفاءه لهم ,تدهمه كألف عقرب تتصارع في زجاجة كبيرة مغلقة ...
صمت دبك منهيا حكاياته,التي حملها بوح مشاعره الخاصة جدا,رغم ضغطه عليها ..تغلب على ألمه وألتياعه,وأخذ يخطب في أتباعه خطبة مختصرة, أسالت دموع الدم من عيونهم ,تبلل أرض المعسكر المخفي بعناية, في قلب جبال دار الريح..ثم مضى ينظم صفوفه , معلنا حربه الضارية على جلابي ودعربي ..
ومع أشتداد المعارك ,والهزائم المتوالية لجيش جلابي ,إنتشر الفزع في أوساط العالمين ببواطن الأمور في دار صباح ,التي كان عامتها يمضون في إيقاع حياتهم ذاته ,لا يعرفون شيئا عما يفعله الهلاليون في دار الريح البعيدة ...
يتنهد الكلس زافرا كل مرارات التاريخ,ثم لا يلبث طيف إبتسامة مباغتة, يداهم شفتيه اليابستين ,اللتين أنهكتهما الخمر.عندما تقع عيناه على تصوير ,لإحدى الجلسات التي تعقد في منتصف كل شهر قمري,أو ما أسمته المدونة ب"ليلة الأنس الكبيرة",التي لم تشهد جلابي ود عربي طوال تاريخها مثيلا لها.. حيث يتجمع الناس في ساحة الديوان الكبير,الذي أقامه جلابي في قلب غابة السنط ,داخل حديقة بديعة زرع فيها كل أزهار البرية ..
وعلى هذه الحديقة البديعة, صفت مقاعد الأبنوس,وفرشت سجادات الحرير,التي تبعثرت فوقها المساند المحشوة بريش النعام,ووضعت بتناسق ,موائد التيك الواطئة بأرجلها القصيرة,والتي وضع عليها إناء فخاري واسع ,وضعت فيه أنواع مختلفة من الفواكه : قمبيل,برتقال,جوافة..توسط هذا الإناء قنان العسل ودلالينق المريسة,ومناصيص الشواء, التي من كل جنس : لحم غزلان , تيوس صغيرة,ضأن,دجاج وادي ..
وعلى أطراف هذه المائدة القصيرة,وضعت حلوى القرع,والبفرا المشوية,وأواني الحليب ..
كان الديوان الكبير كقاعة مزركشة ,ذات تراكيب معقدة..أسدلت في إرتخاء أنيق على مداخله ,ستائر الكتان والقطن المغزول..توسطت الديوان أسرة من الأبنوس,المرصع بالعاج,نصبت عليها ناموسيات أشبه بالستائر ...
كان الناس في ساحة الديوان الكبير قد تجمعوا في نظام معين : الرجال في الطرف الشمالي لساحة الديوان,فالشباب الذين أنتحوا في الطرف الجنوبي,بينما النساء في الطرف الغربي ..وظل الطرف الشرقي شاغرا, إلى أن جاءت الفتيات ذوات الجمال الطازج ..
شرب الجميع إلى أن إرتووا وأخذوا يترنحون,ثم أتوا على المشويات,ولم يبقوا على شيء من الحلويات والفواكه ,ثم بدأو يرقصون على إيقاعات النقارة, الكسوك وإبيرة ودرت ...
ثم لم يلبث أن بدأ البعض يتسحبون إثنين إثنين, إلى داخل الديوان..وفي أسرة الأبنوس ذات الستائر المسدلة,تشد الفتاة وسطها لتمد دلنق البقو الصغير إلى أنيسها,ثم تسحب من تحت السرير ربابة ,وتعزف لحنا شجيا تتبعه بالغناء البديع,فيدخلان في حالة من الجذب حتى يغشى عليهما,من أثر بوح الغناء ...
وتركز إحدى المدونات هنا على حكاية طريفة لود بندة شخصيا,في أيامه الأولى بالشلال..عندما حل على الشلال طريدا شريدا,بائسا وسخا,فعمل أجيرا في مسالخ الغنم ,يحمل الدم والوسخ إلى الكيمان..وبينما هو في مسير عمله تعترض طريقه إمرأة متقنعة,لا يظهر منها سوى عينيها , تلتفت يمينا وشمالا ثم تدعوه إلى أن يتبعها,فيتبعها كالمسحور..إلى أن يصلا إلى دغل على أطراف متور,في فضاء خفي داخله,فرشت حصيرة مكسوة بالقطن والريش والكتان ..عندها أمرته المرأة بالإستحمام في مشيش الوادي خلف الدغل, فغاب وعاد نظيفا..
سحبت المرأة من تحت الحصيرة,ثيابا قطنية نظيفة مدتها له ,وبعد أن لبسها أمرته بالجلوس إلى جوارها ,وهي تمد من طرف خفي قنينة فخار صغيرة, ملأى بنوع غريب من العطر الزيتي.. ومن ثم مضت إلى زاوية من الدغل ,جاءت تحمل منها شواء, وفواكه ودلنق بقو ..كانت تكتفي بأن تقول له أفعل كذا و افعل كذا,دون أن تزيد حرفا واحدا,أو تكشف عن هويتها,وهو كالمسحور ينفذ ما تأمره به دون تردد ..
بعد أن شربا البقو وأكلا ,أطلقت في المكان بخورا, لم يشم مثل رائحته من قبل ,ثم أخذت بيده وناما متصالبين ...
وهكذا,في ظهيرة كل يوم أخذا يلتقيان في ذلك المكان,إلى أن جاء في إحدى الظهيرات كعادته وأنتظرها دون جدوى,ومرت أيام دون أن يبين لها أثر,إلى أن رآها يوما تمشي في قلب حاضرة الشلال ,دعك عينيه وهو يحدق فيها من بعيد ,وعندما لمح طيف إبتسامة عجلى,أستوثق أنها هي ذاتها.. لكن هيبة الموكب دفعت بكل أفكاره لحظتها للتراجع ...
كانت المرأة هي الميرم حفيدة دالي,وكانت رؤيتها قد هيجت فيه الشجن,وجعلته كالغائب عن الوجود .ذكرته حبه القديم لأم حجل, التي أغتصبها منه صديقه الكرسني,فعاش حياة البرية لينتهي به الأمر, مطاردا إلى دار الريح,حيث لم تعد دار صباح في خاطره,سوى ذكرى شاحبة لتداعيات عالم منهار ...
هيجت الميرم,إذن في داخله كل كوامن الشجن الأزلي,فأشتعلت فيه النار,ولم يزل في وجد وقلق.. متكتما على أمره,يمضي في جوف الليل إلى حيث خلوتهما تلك,ولا يلبث فيها حتى يخرج هائما على غير هدى,لا يدري أين يسير,فيمضي الليل كله وهو لا يزال يسير.. يدخل اليوم التالي فتشتد حر الشمس, تلهب الوديان والقيزان حوله.. يشتد عطشه فيمضي,إلى "جمام" الوديان تحت جذوع القمبيل,فلا يحس للماء طعم أو نكهة القمبيل التي يحب ..
وقد تورم وجهه وقدميه . كان لونه أيضا قد تغير..إلى أصفر حائل كلون خرق الكتان القديمة.. ناله التعب ذات مرة أبلغ منال ,فجلس تحت شجرة قمبيل, وأسلم رأسه إلى جذعها,وجسمه كل جسمه يستسلم من فرط الإنهاك..وفيما يرى النائم,حطت وزينة مزعورة على المكان ,الذي شرب منه ,سألتها قمرية أعلا شجرة القمبيل التي توسد جذعها :
؟ - ما بك
تلفتت الوزينة حولها ,ونظرت إلى حيث يرقد ود بندة ,ثم قالت :
. - ما خوفي سوى من إبن آدم
- كيف يصلنا إبن آدم وهو لا يستطيع الطيران,ثم أن هذه المملكة العزلة يشملها السلام؟
. - لا يغرنك شيء,فهو مفطور على الإحتيال والخداع,لا يسلم من شره وحش أو انس
أفاق ودبندة من سنة النوم التي غشيته , وهو يتلفت مزعورا.. فرأى القمرية التي على شجرة القمبيل وقد طارت تتبعها الوزينة,فنهض عائدا إلى حاضرة الشلال ...
لم تمض سوى أيام قلائل حتى جاءه رسول الميرم ,فتبعه. وعندما وصلا القصر الملكي كانت الحشود محتشدة, تتهامس حول موت السلطان دالي الذي حمل إسم دالي الكبير,و الذي كان عادلا محبا لشعبه ,ومع ذلك كان شقيقه شطة يحسده,ويريد عرش الشلال لنفسه ..
أعد شطة وليمة كبيرة ,دعا إليها شقيقه دالي ,وكان قبلها قد أعد صندوقا فاخرا من الصندل,على مقاس شقيقه .. دعا شطة المدعوين الذين كانوا من خاصته في العائلة الملكية ,للإستلقاء في الصندوق ,ومن يجده على مقاسه فهو له ,وعندما أستلقى دالي في الصندوق,أغلقه شطة عليه,ثم أخذه وأعوانه, ودفنوه في دغل بعيد عن حاضرة الشلال,ثم أعلن شطة موت شقيقه السلطان ,ونصب نفسه ملكا على الشلال مدى الحياة,وأقسم أنه لن يسلم سلطته إلا لأرباب القيامة,وأن من أراد هذه السلطة عليه الإستعداد للحرب.. بدى خطاب التنصيب هذا ,غريبا للحشود المحتشدة,و التي كانت لا تزال تتهامس حول وفاة السلطان,إذ لم يسبق للأهالي أن إستمعوا لخطاب ملكي مشحون بهذا القدر من التوتر, والإنفعال والعداء ..
ظلت حكاية مقتل دالي,سرا لا يعلمه سوى المقربون,لكن كان شعب الشلال, قد شعر بإنقباض لم يجد له تفسيرا ,خاصة أنه في صبيحة تنصيب شطة ,أكفهرت السماء بصورة غير مسبوقة ,فتم التنصيب على عجل ..وقتها كانت اللقاءات المختلسة للميرم بود بندة, قد أثمرت حملها بجلابي ولهذا السبب أرسلت إليه رسولها ...
تزوجت الميرم ود بندة,الذي لم يتمكن شطة من الإعتراض عليه ,خشية أن تنشر الميرم حكاية قتله لشقيقه.وتأثير مثل هذا الأمر على في الشلال التي لم تألف هذا النوع من الحوادث,طوال تاريخها المجيد,أبدا ..
زواج ود بندة من الميرم,أدى فيما بعد , إلى أن يصبح الحاكم الفعلي للشلال,تحت حكم سلطانها الرسمي "شطة", آخر السلاطين من صلب المقدس دالي,إذ منذ وطأت قدما ود بندة تراب القصر الملكي, أخذ يعمل على كسب ود وثقة شطة,التي أتسعت لتشمل الشعب ...
ظلت سلطة ود بندة تتمدد ,حتى لحظة مقتل شطة كبطل قومي ,في المعركة الكبيرة,إثر هجوم تحالف دار صباح على دار الريح,وبروز ود بندة كبطل نادى به الأهالي سلطانا على الشلال التي سيصبح إسمها إبتداء من هذه اللحظة "مملكة ود بندة" ...
كانت جلابي قد أفاقت من بوح غفوتها الغامضة,على صدى الصرخة الحادة التي أنطلقت من أعماق كوابيس قصرجلابي..
كانت صرخة محملة بكل مخاوف الحاضر الغامض,رددت أصداءها دار صباح ,وأهتز لها قصر جلابي المتآكل,فيما كان دبك يشعر بغبطة غير مسبوقة, بإقلاقه لنوم جلابي,وإنتهاكه أحلامه الملوكية..
كانت صرخة محملة بكل مخاوف الحاضر الغامض,رددت أصداءها دار صباح ,وأهتز لها قصر جلابي المتآكل,فيما كان دبك يشعر بغبطة غير مسبوقة, بإقلاقه لنوم جلابي,وإنتهاكه أحلامه الملوكية..
أفاق جلابي من الكابوس الذي رأى فيه نفسه مشنوقا ,ينظر إلى رأسه المتدلي من السقف ,تحيط به أنشوطة طرفها الآخر معلق في الهواء,كأنها تتدلى من السماء, مخترقة السقف,فصرخ تلك الصرخة, التي رددت أصداءها دار صباح..
تلفت جلابي حوله في الغرفة,التي خرجت منها أخطر قرارات مملكته الآيلة للزوال,وهو يحاول تهدئة روع نفسه بلا جدوى..
في لحظة مماثلة كهذه,من الشعور المزمن بالضعف, حل ود بندة بالشلال ,إثر رحلة طويلة,تاه خلالها زمنا لا يعرف مداه..كان قد ضرب في الصحراء على غير هدى,حتى أصبح مثل هوامها ووحوشها,كانت ملامحه تصرخ بتعبير واحد : البؤس..
تنهد الكلس في عمق ,ونظراته تتسلل جسد غلوريا المتمددة على السرير أمامه, فيما يشبه النوم العميق..يخيل إليه أحيانا أن ما يربط بينهما ليس حبا,بل شيء كوهم لذيذ تنشئه الغربة..شيء مزيج من أحلام هاربة,وكوابيس شاحبة, أقرب للقلق منها للمخاوف..مزيج من رؤى عاطفية مجوسية,تهدف لتعويض نفسي,يخفف وطأة الحنين ,على الروح المعذبة.. لكن سرعان ما تتبدد تصوراته لما يجمعه بغلوريا,تحت وطأة حضورها الطاغ , رائحة الريحان البري فيها..سلطة جسدها المستبد,والنداوة..النداوة التي تنضح من رغباتها المتسلطة..يا لهذا التناقض,الذي يهدم كل تصوراته عن الحب ,ليشيد فقط ..حقيقة واحدة لحياته النائية, في هذا التوتر المزمن : الحب كقدر ساخر..كقلق موجع ..كأسى لا حدود له...
إذن كانت مشاعره تجاه غلوريا مرتبكة كنخلة في مهب الريح..تتلاعب بجريدها الأنواء,وتتقاذفها عواصف الماضي الموحش..الذي بصم على عيني غلوريا ومنحهما هذا النوع الغريب من الحزن أو الحب..أوليس الحب هو أكثر أنواع الحزن سطوة!..حزن منغلق على مشاعر,أكثرها يبدو مكبوتا..
حزن يتبدى ناعما في رقة شفتيها المزمومتين, على بوح شقي ,يحس عبثه ورعونته كل ليلة ,وهو يندس معها تحت الغطاء..لزجا رخوا ,دافئا وحنون..
كانت سماء برينسس آن تعلن عن مطر وشيك عندما ألتفت إليها :
- لنتمشى..
- لكن..
- أحب المشي تحت المطر..
صمتت لبرهة ثم تبعته..
كانت الشوارع .كل الشوارع خالية..وحدهما وقطرات المطر الذي داخلهما, يتبللان في محبة مجنونة..
ومطر السماء المحمل بأحزان لحظة الخلق الأولى, يمنحهما نوع من اللذة,تغسل كل أحزان لحظة الخلق ,وتستعيد أولى خطايا البشر,في هذا الحزن الأرضي,بمنشأه السماوي الغامض, وجبروته القادر على ضعضعتهما .الآن, في منتصف سمرست آفنيو,وفي هذه اللحظة بالذات, التي تهرب فيها كل كوارث التاريخ ,إلى لوحها المحفوظ ,فلا يتبقى من أثر حبرها ,سوى سيولة المطر..
قطرات المطر العجلى على وجه غلوريا,هيجت فيها مشاعر أسلافها الهنود الحمر ,فتداعت كأسطوانة تسجيل: "كانت لحظتها تتداعى بلسان السحابة الحمراء, زعيم الهنود الحمر وهو يحدق بحزن واسى والتياع ,محاصرا بذاكرة المكان وقلق الميتافيزيقيا وسؤال الوجود الرهيب, وبوح الاثر الدارس :( من الذى بدا الغناء هنا ؟ من الذى أطلق الأصوات الأولى, للغناء فوق هذه الأرض الواسعة ؟ .. انها أصوات غناء الشعب الأحمر , الذى كان يتنقل حاملا خيامه, ورماحه وسهامه .. ما الذى يقع فوق هذه الارض ؟ .. كل ما حدث لم أكن أريده ,ولم يسالنى أحد. أنهم ياتون ويعبرون فى أرضنا, وعندما يذهبون لا يتركون خلفهم سوى انهار الدماء ..).. وبكت غلوريا..إمتزجت دموعها بالمطر.." .. أمسك الكلس راحتها بلطف :
- لنعد..
عندما أحتوتهما شقتهما,كانا قد تناسيا كل شيء ,تدفعهما رغبة البدء من جديد..
باغتته غلوريا :
- سنواتي قبل أن ألتقيك لا معنى لها ..
- وسنواتي..كل سنواتي غبار يذيبه المطر الآن ..يجمعه في عجينة واحدة ,ليشكلني من جديد كشجرة قمبيل , تقاوم رياح هذا العالم..رياح هذا الركن المنفي من الوجود..
وهما معا - ودائما أوغالبا هما معا : في البيت أو العمل أو النزهات المسروقة ,من بين أنياب السستم - آلاف الأصوات الداخلية..عشرات الصور والأصداء,تنهض كلها في أحاسيس متداخلة بألوان قوس قزح..
غلوريا تعيش أزمته ذاتها,تشعر بنفسها مقيدة إليه,تحن لحياتها القديمة,حيث لا إلتزام يربطها إلى عاشق وحيد تخدد وجدانه الوحدة ..
- أفكر في هذا الحب كثيرا..أي نوع من الحزن هذا..
- إنه نوع شقيق للعنة ..
آلاف المرات فكر في الإنعتاق من ربق أسر حبهما..عندما يكرر محاولات الهرب,تدهمه لحظة مخاتلة ,ملأى بعذوبة لهفتها فيتراجع..
ربما أن دوافعه للتحرر من سطوتها عليه,هو إدراكه الخفي أن لا ذاكرة مشتركة بينهما..فقد بدأ حياته هنا وحيدا مشردا ,يعشق السفر والترحال , بينما لم تغادر غلوريا "أرض السحابة الحمراء"..ورث عن أسلافه التنقل بين المنافي ,ولم ترث هي سوى الحنين إلى غابة جدتها البعيدة,أقصى سواد أفريقيا المظلمة..
الحنين لأرض غامضة ليس لديها فيها سوى ذكرى يتيمة, بدأت وأنتهت بقصة مروعة لتاجر رقيق جشع..كل تاريخها يبدأ وينتهي في هذه القصة المروعة..والتي مع ذلك لم تعد تخيف أطفال هذا العالم العنيف...
وربما الأمر ليس كذلك ,بمعنى أن هذا الحب المجنون الذي يعربد في دميهما ,هو المشترك الأكبر,الذي تتضاءل معه كل الإحتمالات ..وهكذا الأمر ليس كما يتصوره أحيانا : خطين متوازيين ,ومع ذلك يعلم الكلس تمام العلم ,أن ثمة نوع مقيت من أدعياء المثقفين"الخطرين" سيؤكدون كعادتهم الزميمة ,أن الحب هو أهم لغة بين البشر..لكن..وهل هو وغلوريا بشر..أنهما في غالب أمرهما يبدوان كروحين ملائكيتين, شاكيتين هائمتين .تبحثان عن مستقر يمنحهما سلامهما الأبدي ..أو تبحثان عن نفاج مضيء في نهاية هذه المتاهة المضنية ,يختنقان على عتبته,ويتلاشيان..ليصبحان جزء من ذاكرته المحضة وبوحه الخالص ..هواءه الذي يتنفسه المعذبون هنا وهناك...
من بوح غلوريا ينفض الكلس أغبرة التاريخ, المتراكمة على مدوناته, فلا يقع بصره سوى على "البؤس" .. بؤس ودبندة وهو يطأ للمرة الأولى تراب "مارتجلو" التي تبدل إسمها إلى "الشلال"..فأحتضنته وأحتفت به ك"لاجيء" غريب.. حكى لهم عما خلف عزلتهم من عوالم,وعن رحلته الأسطورية في الصحراء ,التي أصبح يعرف لغة طيرها وهوامها ووحوشها ,وعما رآه في تلك العوالم التي زارها ,وسيدونه ذات يوم ,فيما سيصبح مخطوطات بعد عشرات السنين..
تلفت جلابي حوله في الغرفة,التي خرجت منها أخطر قرارات مملكته الآيلة للزوال,وهو يحاول تهدئة روع نفسه بلا جدوى..
في لحظة مماثلة كهذه,من الشعور المزمن بالضعف, حل ود بندة بالشلال ,إثر رحلة طويلة,تاه خلالها زمنا لا يعرف مداه..كان قد ضرب في الصحراء على غير هدى,حتى أصبح مثل هوامها ووحوشها,كانت ملامحه تصرخ بتعبير واحد : البؤس..
تنهد الكلس في عمق ,ونظراته تتسلل جسد غلوريا المتمددة على السرير أمامه, فيما يشبه النوم العميق..يخيل إليه أحيانا أن ما يربط بينهما ليس حبا,بل شيء كوهم لذيذ تنشئه الغربة..شيء مزيج من أحلام هاربة,وكوابيس شاحبة, أقرب للقلق منها للمخاوف..مزيج من رؤى عاطفية مجوسية,تهدف لتعويض نفسي,يخفف وطأة الحنين ,على الروح المعذبة.. لكن سرعان ما تتبدد تصوراته لما يجمعه بغلوريا,تحت وطأة حضورها الطاغ , رائحة الريحان البري فيها..سلطة جسدها المستبد,والنداوة..النداوة التي تنضح من رغباتها المتسلطة..يا لهذا التناقض,الذي يهدم كل تصوراته عن الحب ,ليشيد فقط ..حقيقة واحدة لحياته النائية, في هذا التوتر المزمن : الحب كقدر ساخر..كقلق موجع ..كأسى لا حدود له...
إذن كانت مشاعره تجاه غلوريا مرتبكة كنخلة في مهب الريح..تتلاعب بجريدها الأنواء,وتتقاذفها عواصف الماضي الموحش..الذي بصم على عيني غلوريا ومنحهما هذا النوع الغريب من الحزن أو الحب..أوليس الحب هو أكثر أنواع الحزن سطوة!..حزن منغلق على مشاعر,أكثرها يبدو مكبوتا..
حزن يتبدى ناعما في رقة شفتيها المزمومتين, على بوح شقي ,يحس عبثه ورعونته كل ليلة ,وهو يندس معها تحت الغطاء..لزجا رخوا ,دافئا وحنون..
كانت سماء برينسس آن تعلن عن مطر وشيك عندما ألتفت إليها :
- لنتمشى..
- لكن..
- أحب المشي تحت المطر..
صمتت لبرهة ثم تبعته..
كانت الشوارع .كل الشوارع خالية..وحدهما وقطرات المطر الذي داخلهما, يتبللان في محبة مجنونة..
ومطر السماء المحمل بأحزان لحظة الخلق الأولى, يمنحهما نوع من اللذة,تغسل كل أحزان لحظة الخلق ,وتستعيد أولى خطايا البشر,في هذا الحزن الأرضي,بمنشأه السماوي الغامض, وجبروته القادر على ضعضعتهما .الآن, في منتصف سمرست آفنيو,وفي هذه اللحظة بالذات, التي تهرب فيها كل كوارث التاريخ ,إلى لوحها المحفوظ ,فلا يتبقى من أثر حبرها ,سوى سيولة المطر..
قطرات المطر العجلى على وجه غلوريا,هيجت فيها مشاعر أسلافها الهنود الحمر ,فتداعت كأسطوانة تسجيل: "كانت لحظتها تتداعى بلسان السحابة الحمراء, زعيم الهنود الحمر وهو يحدق بحزن واسى والتياع ,محاصرا بذاكرة المكان وقلق الميتافيزيقيا وسؤال الوجود الرهيب, وبوح الاثر الدارس :( من الذى بدا الغناء هنا ؟ من الذى أطلق الأصوات الأولى, للغناء فوق هذه الأرض الواسعة ؟ .. انها أصوات غناء الشعب الأحمر , الذى كان يتنقل حاملا خيامه, ورماحه وسهامه .. ما الذى يقع فوق هذه الارض ؟ .. كل ما حدث لم أكن أريده ,ولم يسالنى أحد. أنهم ياتون ويعبرون فى أرضنا, وعندما يذهبون لا يتركون خلفهم سوى انهار الدماء ..).. وبكت غلوريا..إمتزجت دموعها بالمطر.." .. أمسك الكلس راحتها بلطف :
- لنعد..
عندما أحتوتهما شقتهما,كانا قد تناسيا كل شيء ,تدفعهما رغبة البدء من جديد..
باغتته غلوريا :
- سنواتي قبل أن ألتقيك لا معنى لها ..
- وسنواتي..كل سنواتي غبار يذيبه المطر الآن ..يجمعه في عجينة واحدة ,ليشكلني من جديد كشجرة قمبيل , تقاوم رياح هذا العالم..رياح هذا الركن المنفي من الوجود..
وهما معا - ودائما أوغالبا هما معا : في البيت أو العمل أو النزهات المسروقة ,من بين أنياب السستم - آلاف الأصوات الداخلية..عشرات الصور والأصداء,تنهض كلها في أحاسيس متداخلة بألوان قوس قزح..
غلوريا تعيش أزمته ذاتها,تشعر بنفسها مقيدة إليه,تحن لحياتها القديمة,حيث لا إلتزام يربطها إلى عاشق وحيد تخدد وجدانه الوحدة ..
- أفكر في هذا الحب كثيرا..أي نوع من الحزن هذا..
- إنه نوع شقيق للعنة ..
آلاف المرات فكر في الإنعتاق من ربق أسر حبهما..عندما يكرر محاولات الهرب,تدهمه لحظة مخاتلة ,ملأى بعذوبة لهفتها فيتراجع..
ربما أن دوافعه للتحرر من سطوتها عليه,هو إدراكه الخفي أن لا ذاكرة مشتركة بينهما..فقد بدأ حياته هنا وحيدا مشردا ,يعشق السفر والترحال , بينما لم تغادر غلوريا "أرض السحابة الحمراء"..ورث عن أسلافه التنقل بين المنافي ,ولم ترث هي سوى الحنين إلى غابة جدتها البعيدة,أقصى سواد أفريقيا المظلمة..
الحنين لأرض غامضة ليس لديها فيها سوى ذكرى يتيمة, بدأت وأنتهت بقصة مروعة لتاجر رقيق جشع..كل تاريخها يبدأ وينتهي في هذه القصة المروعة..والتي مع ذلك لم تعد تخيف أطفال هذا العالم العنيف...
وربما الأمر ليس كذلك ,بمعنى أن هذا الحب المجنون الذي يعربد في دميهما ,هو المشترك الأكبر,الذي تتضاءل معه كل الإحتمالات ..وهكذا الأمر ليس كما يتصوره أحيانا : خطين متوازيين ,ومع ذلك يعلم الكلس تمام العلم ,أن ثمة نوع مقيت من أدعياء المثقفين"الخطرين" سيؤكدون كعادتهم الزميمة ,أن الحب هو أهم لغة بين البشر..لكن..وهل هو وغلوريا بشر..أنهما في غالب أمرهما يبدوان كروحين ملائكيتين, شاكيتين هائمتين .تبحثان عن مستقر يمنحهما سلامهما الأبدي ..أو تبحثان عن نفاج مضيء في نهاية هذه المتاهة المضنية ,يختنقان على عتبته,ويتلاشيان..ليصبحان جزء من ذاكرته المحضة وبوحه الخالص ..هواءه الذي يتنفسه المعذبون هنا وهناك...
من بوح غلوريا ينفض الكلس أغبرة التاريخ, المتراكمة على مدوناته, فلا يقع بصره سوى على "البؤس" .. بؤس ودبندة وهو يطأ للمرة الأولى تراب "مارتجلو" التي تبدل إسمها إلى "الشلال"..فأحتضنته وأحتفت به ك"لاجيء" غريب.. حكى لهم عما خلف عزلتهم من عوالم,وعن رحلته الأسطورية في الصحراء ,التي أصبح يعرف لغة طيرها وهوامها ووحوشها ,وعما رآه في تلك العوالم التي زارها ,وسيدونه ذات يوم ,فيما سيصبح مخطوطات بعد عشرات السنين..
كان ود بندة كالذي يقرأ بالفعل من مخطوط قديم ,حكايات أقوام ومدن لطالما شعروا بها تحت أقدامهم ,في آثار مدينة دالي البائدة ,التي تشبه في لحظة السيل ,خرائب المدن التي مر بها ..
كان ودبندة ذا خيال كاذب خصب ,لم يشهد له التاريخ مثيل ,فلم تلبث بلدة الشلال أو ما كان إسمها مارتجلو ,أن حملت اسمه .. بل أفاق الناس ذات يوم ,من سكرة اليوم السابق, ليفاجأوا بأن إسم بلدتهم تغير إلى"ود بندة" ,وأن كل الدروب التي تفضي إلى مساكنهم ,والتي كانت تحمل أسماء مثل "القصر الكبير",عرديبة الدود","أبراج دالي","صخور البرج",إلخ..قد تغيرت إلى أسماء هلالية ,جلبها ود بندة من أعماق حكاياته الغريبة..
لم يقاوم أحد هذه التغييرات,فقد كانوا كالمسحورين..كل شيء تم بشكل غير ملحوظ ,كأنه كائن منذ زمان بعيد ..وبدأ إيقاع حياة الأهالي هو الأخر في التغير..كانوا يشعرون أن ثمة تحول غير مرئي,تتم عملياته في بطء,تغير غير مفهوم ,يزيح طابع الحياة التي ألفوها ليحل محلها,فينتابهم قلق خفي بأن يتحولوا إلى "موضوعات" لعمليات هذا التغير الغامض فيفقدون "ذواتهم" التي لطالما أعتزوا بالتراكم الدالوي عليها عبر تاريخ مملكتهم المجيدة..
فيما بعد , وبعد وقت طويل , ستبدأ مخاوفهم الغامضة ,حول طبيعة هذا التحول تتضح ,فعندما يكبر جلابي الحفيد,ويمسك بزمام الأمور,ويبدأ في الإفراج عن الحكايات السرية لود بندة الكبير,فتخرج للعلن قصص جديدة لرحلة التيه الطويلة,التي أفضت بود بندة إلى الشلال,تتأكد لديهم المخاوف,فيما بدى أسطوريا مضافا إلى القصة الحقيقية لرحلة تيه ود بندة..
إضافات جلابي الأسطورية,عن منشأ ود بندة وحسبه ونسبه,كان الغرض منها - في زعم الكلس- الإستباق, لإضفاء طابع نقي/مقدس على أصله وفصله,فجلابي كان لا يقل خصوبة خيال عن جده,وكثيرا ما يطيب له في الظهيرات الموحية ,التي لا تخلو من نسائم ربيعية نادرة,أن يجمع الناس في ديوانه الكبير..
يتحلقون حوله,فيحكي لهم كيف أن الناس في دار صباح ذلك الزمان البعيد,قد دعوا الإله أن يجد لهم مخرجا ,من ظلم وإستبداد أبي هلال ,فأحتالت حكيمتهم بت فدر الله في البحث سرا عن رجل يكافئه في القدرة على التأثير على الناس..فوجدت ضالتها في ود بندة ..ذلك الشاب ذو التاريخ الغامض ,الذي تدنف بعشق إبنتها أم حجل..
وأنكسر قلبه في الإصطدام بجدار رفض بت فدرالله له ,فهجر الحاضرة إلى البرية حيث عاش وحيدا معزولا عن الناس ..يغطي جسمه الشعر الكثيف .يقتات الأعشاب ويشرب مع الحيوانات ,التي ألفته فصادقها وصار يخلصها من مصائد الصيادين ..
بحثت عنه بت فدرالله طويلا,إلى أن عثرت عليه في حال لا فرق بينه ووحوش الفلاة ,فهدأت خاطره ووعدته بتزويجه إبنتها أم حجل,حبيبة قلبه,إن عثر عليها,بعد أن أخبرته أن أبي هلال إختطفها وهي تشك بوجودها في قصره,فقد كان من عادة أبي هلال إختطاف العذراوات ,وإحضارهن إلى فراشه ,وقتلهن صبيحة تلك الليلة حتى لا يفشين سره كعاجز جنسيا ..لذلك عندما أختفت حجب النور ظنت بنت فدرالله أن أبي هلال إختطفها ..
فمضت تعبيء ودبندة للموافقة على خطتها للقضاء على أبي هلال ,مؤكدة على أن إنقاذ حبيبة قلبه يمر عبر القضاء على أبي هلال..وعلى الرغم من إنشغال بال ود بندة بمصير حجب النور, بين أنياب أبي هلال ,إلا أن ثمة أحلام وخيالات داعبته بأن لابد أنه المنقذ المنتظر ,الذي يبدد نوره ظلمة دار صباح وحلكتها العتيمة,مخلصا شعبها وإلى الأبد من نير أبي هلال وسدنته ..لابد أنه هو ,هو ذاته المنقذ المنتظر الذي حكت عنه أساطير دار صباح ..
وهكذا بدأت بت فدر الله والفقرا أتباع جانو قرمط, في إستعادة ودبندة إلى حياة الحضر,واستلابه والإستحواذ عليه بأفكار الفقرا العجيبة..وفي ذات الوقت تدبر بت فدرالله التدابير العديدة كيما يتمكن من لفت نظر أبي هلال إليه فيقربه منه..
أبدى ود بندة مواهب فاقت كل توقعات بت فدرالله وفقراها ,الذين تجدد داخلهم قويا أمل الثأر ,لطائفتهم التي نكل بها الهلاليون,خاصة على عهد أبي هلال ,الذي حرص على ألا يبقي حتى على طافي النار فيهم..
نهل ود بندة إذن من علوم الفقرا,ينهض فيه ظمأ غريب للمعرفة,التي منحوه إياها بسخاء مذهل,مدفوعين بنبؤة قديمة لجانو,عن فتى من نسل الهلاليين,يعيش في البرية حياة الوحوش,تجيء به فقيرة عجوز ,فيخلص دار صباح وينقذها,ويملؤها عدلا بعد أن ملئت جورا..لكن لم تذكر النبؤة أن أبي هلال سيكشف أمره,إذ أن ود بندة لم يمض إلا قليلا في قصر أبي هلال,حتى نقلت إليه عيونه إشتباهها فيه,فقربه أبي هلال منه أكثر,ليقطع شك الإشتباه بيقين التورط..
لا أحد يعرف من أين جاء أسلاف ود بندة بالضبط,قبل أن يستقروا بدار صباح,التي أورثتهم تجربتهم المريرة فيها,نوعا غريبا من الخوف,بات يميز عيون سلالتهم بلمعان غريب!!..بهذا الشعور الغريب بالخوف عاش ود بندة,ومن بعده أحفاده وصولا لود بندة الحفيد وجلابي الحفيد ,مفتقرين للإنتماء إلى أي مكان يعيشون فيه..التيه فقط كان إنتماؤهم الحقيقي,هذا التيه الذي لم يدرك أحدهم كنهه حتى في لحظات الإحتضار الأخيرة...
لذلك لم يكن ود بندة سوى رجلا غامضا,مبهم الأسرار..تحيطه السرية المفرطة, التي تلحق حتى بالتفاصيل العامة لأسرته,التي يقال أنها تتحدر من الهلاليين الغرباء,الذين لا يعرف أحد من أين جاءوا ,ولماذا حلوا بهذا المكان,وكيف أنتهى بهم الحال..
وربما لهذه الأسباب بالذات, حرصوا على أن يشيدوا لأنفسهم نسبا لأحد الأنبياء ,الذين سيولدون بعد وقت طويل خلف البحر الملون..هذا الشعور بالغربة طبع- بعد وقت طويل- العلاقات الجنسية لود بندة,مثلما وسم حياة أسلافه, التي لم تخلو من حب اللهو والأنس,والليالي التي ما بعدها ليال ,كمقاومة للحصار المتجدد لحياتهم المسكونة بالخوف...
وإذا كان الجد المجهول المؤسس, لعائلة ودبندة هو اخر الهاربين ,من رعب تلك البلاد البعيدة ,عند مشرق الشمس, خلف البحر الملون ,فإن ود بندة جدد سيرة جده ,هاربا من مقاصل أبي هلال وسجونه الرهيبة ,في دار صباح ,إلى هذه الأرض المعزولة ..أرض المقدس دالي ..
تلك الروح الهائمة - دالي- التي قررت في تلك الليلة ,التي أطبق فيها الظلام ,على دار الريح والصعيد والسافل,صياغة حياة شعب مارتجلو في العزلة,حتى بدت بلدة الشلال لكأنها خارج جغرافيا الوادي المترامي الأطراف ,في هذا الإقليم الواسع من أرض البلاد الكبيرة ...
حينها كان فقط الظلام ولا شيء غيره ,يخيم على كل شيء.ويبتلع كل شيء: الأودية ,أشجار القمبيل,قوز كسوفرو,جبل أب كردوس وجبال مرة,التي أنتصبت في قلب هذا الصمت,بحيث لا يمكن إستنطاقها..فهدير شلالاتها : مارتجلو,ساورا,قلول و ..لايمكن سماعه.صمت تام ولا شيء سوى الوحشة والظنون..
هذه الطبيعة المعزولة في الصمت,سينطبع ما تثيره من مشاعر متداخلة ,على السيرة التي عكف دالي على كتابتها ,في أحد كهوف عين فرح ,محاولا صياغة حياة شعب مارتجلو ,التي هي حكاية دار الريح من المبتدأ إلى المنتهى...
الدارسون الأجانب ,الذين سيتوافدون بعد عشرات السنين ,سيتنازلون عن كبريائهم العلمي وغرورهم الأكاديمي,فيعلنون بحياء مبتسر,أن دالي كان نبيا غير معلنا , الأمر الذي سيثير حفيظة الكنيسة,التي هي مستاءة أصلا من وجود أنبياء غير يسوع الناصري,أعترفت بهم على مضض,وقد فارقتها الرغبة في إعتراف جديد,يعكر صفو البابا قبل أن يستشرى وسط رعاياها ,الذين يصعب عليهم تصور وجود شخص ليس من أتباع يسوع..
السبب وراء هذا الإعتراف الخطير للدارسين الأجانب ,يكمن في منطق سيرته ,التي عالج خلالها أحوال المكان,ومحطات الزمان ومسارات البشر,وتقلبات الدهر,فقررت لهم العزلة ملاذا ضد عوامل الإنحسار والتبدد ,فخلصت إلى مملكة مارتجلو,كمدنية مجهولة وغامضة وآمنة ..خالية من الأطماع ومسالمة ,لا تشوبها تأثيرات العالم المتصارع حولها...
ومنذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدمي ود بندة دار الريح ,وعثر مصادفة على الشلال في تيهه الطويل, حتى أدرك أن نهاية عذابات تشرده قد حانت,فأعتكف في كهف دالي العتيق ,تحاصره الرموز والرسوم ,التي خط بعضها دالي وخط بعضها أولئك الناجون من الطوفان..
وبدأ ود بندة هو الاخر يخط ,لكن ليس على الجدر العريقة لكهوف عين فرح ,بل على ذلك النوع الخاص من الورق المستعمل في الشلال ..دون حكاية هربه من قصر أبي هلال ..حكاية رحلة التيه ,وخططه لحكم الشلال ,وصياغة عالمه على النحو الذي يريد ,كأنه كان يترك "منفستو" لورثته ,الذين سأتون بعد وقت طويل ,يخططون لحكم العالم,فيفشلون حتى في حكم جلابي ودعربي..
إنسحب الكلس رويدا رويدا من هذه العوالم الفاشلة..كان قد شعر بالإحباط ,فقذف بالمدونات والمخطوطات إلى جدار الشقة ..كان يشعر أن هذه المدونات والمخطوطات - كلما توغل في مجاهيلها - لهي عدو أكثر منها صديق ,فكل تفصيل فيها يقوده إلى غموض لا نهاية له ..كانت غلوريا ترقد على بطنها ,تلهو بطلاء أظافرها ,بينما كيانه,كل كيانه يخرج من عوالم المخطوطات,ليزحف على ظهرها ,حتى أرتعشت فأنقلبت بسرعة وهي تقول :
- لا زلت مسكونا بأوهام ما تسميه إعادة إكتشاف الذات والإيمان..
الحزن..كل الحزن,ينضح من شفتيها الرقيقتين ,الرخوتين في إثارة موجعة ..غلوريا في كل تحولات مشاعرها , لا يمكن أن تكون سوي كيانا للذة محضة, بوجهها الغامض ونداءاتها الولهة السرية,التي يصعب تتبع مصدرها ..كأنه يكتشف في غلوريا عوالم جديدة ..عوالم خاصة , لم تخطر على باله من قبل..كأنه يكتشف للمرة الأولى إختلاف عالميهما ..عالمها دفء خفي ..ندي..لا يخلو من نداءات كأضواء فنارات السفن البعيدة..
على نحو مباغت سألها:
- وأنت..أنت مسكونة بماذا?
- لا شيء..
رغم كل شيء غلوريا مسكونة بجيسس .. يسوع الناصري ذاته شخصيا ,الذي يغفر لها خطاياها ,لمجرد إعترافها بهذه الخطايا أمام قداسة الأب ..لكن غلوريا لا تعترف إلا في كنائس السود الذين يعتقدون أن جيسس أفريقي أسود ..غلوريا لا تتغشى كنائس البيض الذين درجوا على تقديم جيسس كإله أبيض حمل خطايا البشر,وتعتقد أن هذه مؤامرة بيضاء ضد السود ..
لا تزال سماء برينسس آن ملبدة بسحبها المباغتة , التي يفسح مقدمها لعوالم جلابي, أن تفرض نفسها في هذا الحيز المداهم بالزخات المتقطعة .. يغزوه صوت وقعها على السقف ,فيتتبع هذه الزخات كما يتتبع سيرة ود بندة,فتدهمه في هذه اللحظة تفاصيل متشابكة,فيمضي ليجمع ما رمى من مدونات ومخطوطات..
كان الجد الأكبر لود بندة,ملكا لإحدى الممالك خلف البحر الملون,هي مملكة بني هلال,وكان له أخ ملك على حاضرة خرى من ممتلكات بني هلال خلف البحر الملون ,له إبن إسمه العاتي ,ولد في ذات اللحظة التي ولد فيها إبن عمه الدريب, في المملكة الأخرى..مضت سنون وشهور وأيام .. كبرا فزار الدريب العاتي ...
فأكرم العاتي إبن عمه ,وأخبره عن رغبته في إستيداعه سرا , لم يبح به لأحد من قبل ..ومضى فغاب قليلا,ثم عاد ممسكا بيد إمرأة يخالط جمالها الساحر,حزنا عميقا ترتج به كل خلايا جسمها..حزن كالعواء الملتاع..قال العاتي :
- خذ هذه المرأة وأسبقني إلى مقابر الأسرة خلف القصر..
مضى الدريب بالمرأة يتناهشه فضول شقي,لم يتمكن من مقاومته فسألها عن حكايتها.فأخبرته أن إسمها شهرزاد وهي إبنة ملك دار صباح ,إختطفها تجار الرقيق وعبروا بها البحر الملون ,حيث بيعت في مضارب بني هلال ..وأنها مجبرة على البقاء,بعد أن تقطعت بها السبل..لحظتها كان العاتي قد لحق بهما.
إقترب من إحدى الترب.أزاح عنها التراب كاشفا عن نافذة مرتجة بخشبة رفيعة ,أزاح عنها الرتاج ,فبدا خلفها سلما من الحبال,ثم ألتفت إلى المرأة, فنزلت بالسلم فتبعها,بعد أن طلب من الدريب إغلاق النافذة خلفه دون إرتاجها ...
عاد الدريب إلى القصر,ينتظر إبن عمه على أحر من الجمر,ليطفيء نيران فضوله المشتعلة عن آخرها..إذ ثمة حلقات بدت له غير مكتملة في قصة المرأة..
ظل الدريب مؤرقا طيلة الليل في إنتظار العاتي ,إلى أن غشيته سنة من النوم ,عند تسلل خيوط الفجر الأولى, ولم يلبث إلا قليلا حتى أيقظته خطوات إبن عمه وهما تطآن أرض الغرفة ,فنهض كأن النعاس لم يتغشاه أبدا ,وقبل أن يهم بالسؤال باغته العاتي :
- أعرف أن الفضول يقتلك..
وحكى له ذات الحكاية التي سمعها من الفتاة,مضيفا أنه منذ رآها للحظة الأولى, في سوق الرقيق .حتى أنخلع قلبه,الذي لم يعد مكانه إلا بعد أن إمتلكها..وأراد أن يتزوجها ,لكن والده الملك لا يريد لدمه الملوكي النبيل ,أن يتلوث بمخالطة الأرقاء ,الذين لا يعرف أحد أصولهم وفصولهم وأحسابهم وأنسابهم,فجعل العيون تترصدهما..ثم أضاف :
- لذلك نقضي نهارنا في القصر, تحت سمع وبصر العيون, وليلنا في المقبرة كما رأيت..
قلب الدريب الحكاية في خاطره قليلا,وقد إتسعت مساحة تعاطفه مع المرأة. لا بل ,كان كالمسلوب ,تتحرك خواطره وأفكاره وفقا لإرادة غير مرئية ,تدفعه دفعا إلى تخليص هذه المرأة..الهرب بها وإعادتها إلى ديارها خلف البحرالملون, حيث تلفظ الشمس أنفاسها الأخيرة وتغيب..
وما أن غاب العاتي لقضاء بعض حوائجه, حتى دخل الدريب على المرأة وأخبرها نواياه..فتهللت فرحا, وفارق عينيها ذلك الحزن الغريب..وهكذا انسلا خلسة باتجاه البحر..حيث أبحرا في إحدى المراكب الموشكة على الرحيل ,لكن لم تلبث هذه المركب ,وفي قلب البحر ,أن أصيبت بالتلف,بفعل ريح هوجاء ضربتها بإحدى الجزر الصخرية,فنجى من نجى وغرق من غرق,دون أن يعرف أحد من الناجين عن الآخر شيئا,إذ حملت الرياح والأموج المختلفة,كل في مسار مختلف ..
كان الدريب قد تعلق بأحد الألواح, حيث ألقته الريح والأمواج إلى جبال شاهقة ,تغرب خلفها الشمس.فأدرك أنه على مشارف دار صباح ,وأن البحر الملون يفصل الآن بينه وبين كل ممالك بني هلال..
شق طريقه بين الجبال إلى أن وصل إلى إحدى الحواضر,حيث بقى فيها إلى أن حان وقت رحيل إحدى القوافل إلى قلب دار صباح ,فرحل معها متنازعا بسره..هل يخبر سلطانها بمقتل إبنته في البحر أم أن الصمت آمن له ..وفي خاتمة المطاف لاذ بالصمت ..
لم يطلع على سره أحد سوى والد قند اليمن, ثمرة فؤاده ووردة جرحه..وهكذا مضى به الحال في دار صباح هادئا كأحد العامة ,إلى أن دهمت جيوش العاتي دار صباح وأطبقت عليها كما يطبق الليل البهيم ..
كان العثور على الدريب وقتله, على رأس أجندة جيوش العاتي, المتعطشة للسفك والسحل..فنشطت في البحث عنه ,إلى أن عثرت عليه مختبئا في إحدى الفلوات ,منهكا ناحلا متغضنا من الجوع والعطش. يغطي جسمه الشعر الكثيف ..كان بائسا إلى أقصى حد ..
لم يكتف العاتي بقطع رأس الدريب ,بل إستبق ذلك بتقطيع أطرافه قطعة قطعة..
وهكذا حكم العاتي دار صباح ,دون أن يعثر على قند اليمن زوجة إبن عمه الدريب ,التي كان الفقرا الجريديون أتباع جانو, في مكان لا يعرفه أحد سوى واحد أو إثنان من خواص الفقرا الثقاة كراجل الحرازة أم قد ..
عندما دهمت جيوش العاتي حاضرة دار صباح ,كانت قند اليمن حاملا..ومثلما ساورت العاتي الشكوك حول نسل الدريب..توارث أحفاده حكام بني هلال ,على دار صباح هذه الشكوك ,دون أن تتأكد لديهم هذه الشكوك أبدا,رغم أنها عادت تساور أبي هلال ,بقوة منذ وقعت عيناه على ود بندة,الذي خبأت عنه أمه لوقت طويل هذه الحكاية المروعة, التي ظلت كسرمغلق ,لم تبح به له إلا في أخريات أيامها ..وهكذا أيضا توارث أبناء وأحفاد ود بندة, ذلك الشعور المزمن بالخوف والإنقسام..ولطالما برعوا في إخفاء هذا الشعور, الذي ليس لديهم تفسير منظم عن طبيعته ومنشأه,رغم أنه كان يقف حافزا ,خلف مواهبهم المختلفة في المكر والخداع..
إذن- كما يطيب للكلس التأكيد- ستسهم هذه الحكاية المأساوية ,المتناقلة في أسرة الدريب جيلا بعد جيل ,في تشكيل الرؤية السياسية لود بندة,والتي سيصوغ بموجبها رؤيته لمملكة ود بندة,بعد نجاته من أسر أبي هلال...
III
ما الذي يميز دار الريح كجغرافيا ,عن الأجزاء الأخرى للبلاد الكبيرة ,هل هي منبع لكل تلك التصورات التي صاغت حواضر البلاد الكبيرة,ثم قررت لسبب ما أن تعتزل,فسوّرت نفسها بتلك العزلة البديعة ,التي صاغ دالي داخلها حياة الشلال..أم أنها كانت ولا تزال تصورا مكتفيا بذاته ,مستغنيا عن أجزاء البلاد الكبيرة,يقصر ظله على نفسه بحيث لا يلقى خارجه ...
في تأملاته المجيدة حول النظام الإقتصادي لدار صباح ,ترسخت لدى الكلس قناعة ,مفادها أن الشروط التي صاغت هذا النظام ,ليست موجودة كنظام متكامل ,بل كنتف مبعثرة هنا وهناك,ولأنها غير موجودة إلا على هذا الشكل ,فشلت دار صباح في ضمان إستخدام أمثل لمواردها .. وكان ود بندة - في ظن الكلس- يدرك هذه الحقيقة على نحوغامض, ولهذا الإدراك كانت غايات آل ود بندة الحقيقية ,محجوبة عن الآخرين ,فلا أحد غيرهم وقلة من خلصائهم في دار الريح, على معرفة بهذا الإدراك. وهو ما أوحى لود بندة, بغايات بدأت بحكم دار الريح, فدار صباح وربما التطلع لحكم العالم ..
وعلى نحو غامض أيضا - يسترسل الكلس في إستنتاجاته- كان ودبندة يعي أن المنازعات الناشئة بين دار صباح ونفسها من جهة ,وبينها وبين دار الريح والصعيد والسافل من جهة أخرى ,لديها منشأ مشترك من التصورات الخاطئة لأنفسهم ..التي قادت بدورها إلى التحولات الخاطئة ,نتج عنها كأثر جانبي ذلك النوع الغريب من التفكير,الذي حدد مسيرة حكم أبي هلال ..هذا التفكير الذي يقف خلف ما خاضه من حروب عشوائية, في الصعيد والسافل ودار الريح هددت كيان دولته المنخورة,بل وأقام بهذا التفكير المختل, المجازر والحرائق في دار صباح نفسها..هذا التفكير متصل بالصراعات المستمرة ,والتي ستستمر لعشرات السنين القادمة, في كل أجزاء البلاد الكبيرة,والتي لن يلوح في الأفق أنها ستنتهي يوما,فأبناء وأحفاد أبي هلال, سيمضون في الدرب ذاته, الذي أختطه العاتي من قبل ..
الفرق الأساسي الذي لاحظه الكلس في تأملاته للشلال ,الذي حفظت له العزلة نوعا من التاريخ المتصل,الذي لم تحدث فيه إنقطاعات عميقة, كتلك الإنهيارات المدوية, التي فككت الصعيد والسافل ,ومضت تحول دار صباح إلى بلدات صغيرة منقسمة ومتشظية ...
ربما - إلى جانب أمورأخرى - بسبب أن الحياة في دار الريح عموما ,والشلال خصوصا , تتسم بالرسوخ للإرتباط العميق بالتاريخ بعيد الجذور ..ذلك التاريخ الذي مثل المقدس دالي بدايته ,مدونا سفره النبؤة,الذي بمثابة هوية متكاملة الأبعاد,إنطبعت على كل شيء ,حتى الطيور والزواحف ,ونسائم الصباح والمساء ,التي لا تشوبها عكرة رطوبة,أو لفح ظهيرة أو تقلبات مناخ ..فشجيرات القضيم وأريج السناسنا والقمبيل,قد عادل كل شيء وجعله مستساغا..في هذه القيزان والأودية التي تتخلل كل شيء ,حتى تلك الرسوم التي تزين جدر كهوف عين فرح ,والتي تحكي عن مراحل الحياة وتاريخ الأرض والإنسان ...
الآن , وفي هذه اللحظة الحاسمة, من حياته التي على مفترق طرق ,أخذ ود بندة يستعيد وقائع رحلته الطويلة الشاقة ,وكيف أنتهى به المطاف إلى هنا ..مزعورا , هاربا بعد زمن ليس قصير من الأسر الرهيب ,في دار صباح, وتحت السلطة المباشرة لأبي هلال ...
أبوهلال هو آخر سلاطين دار صباح ,الذين يزعمون إتصال نسبهم بسلالات نبوية مقدسة خلف البحر الملون ,مع أن لا أحد يستطيع أن ينسب الهلاليين, إلى أي جذور نقية,بسبب ترحالهم المستمر,وما يفرضه هذا الترحال من إختلاط بالأقوام التي يمرون بها..ولذلك يكتفي الكلس بتوصيف الهلاليين على أنهم قبيلة غامضة ...
كان أبي هلال قوي البنية ,إلا أن الحروبات المتصلة التي خاضها في" قِبل" البلاد الكبيرة الأربعة أنهكت قواه ,فبدى كشيخ هرم,وأصبح سريع الإنفعال والغضب ...
منذ وقت مبكر ترسخت في دخيلة أبي هلال ,قناعة أن الصدق والأمانة ضرب من الخيال ,ولذلك ما كان يبرم العهود إلا ليتمادى في نقضها ,ولا يعد إلا ليحنث.. كما كان لا يتورع عن فعل أي شيء لقضاء حوائجه ,وجملةَ كان مكارا مخادعا..فلم يكن والحال كذلك حبه الكبير للملق والمداهنة,إذ لا يقرب إلا أولئك الذين يصفونه علانية ,بمكارم الأخلاق ,ولا يتورعون عن مدح أصله وفصله ,فذاك كان من الأمور القليلة, التي تدخل السرور إلى نفسه .....
كان أبي هلال يدفن خصومه أحياء ..يشنق كبار السن والأطفال على الشجر, ويضع الشباب والرجال في الخوازيق ..كما كان أبي هلال يأمر الصبيان والشبان بالعمل في بناء قلعته الحصينة ,التي في أطراف الحاضرة ,ليشاركوا مع من سبقهم من أسرى الخصوم ,في إكمال بناء أسوار هذه القلعة الرهيبة التي لطالما عذب فيها الفقرا أتباع جانو قرمط ,وقتلهم بعد أن إستنفد قواهم في بناءها..والتي أحرق داخلها الفقراء والعامة, فيما بعد ..
كان أبي هلال يدفن خصومه أحياء ..يشنق كبار السن والأطفال على الشجر, ويضع الشباب والرجال في الخوازيق ..كما كان أبي هلال يأمر الصبيان والشبان بالعمل في بناء قلعته الحصينة ,التي في أطراف الحاضرة ,ليشاركوا مع من سبقهم من أسرى الخصوم ,في إكمال بناء أسوار هذه القلعة الرهيبة التي لطالما عذب فيها الفقرا أتباع جانو قرمط ,وقتلهم بعد أن إستنفد قواهم في بناءها..والتي أحرق داخلها الفقراء والعامة, فيما بعد ..
كان لا يتورع عن سلخ جلود الناس وإلقائهم في الماء المغلي ,أو قطع أنوفهم وأعناقهم وقبل كل ذلك فقؤ أعينهم ثم حرقهم أو شواءهم أو دفن البعض أحياء ترفقا ...
وكان ينظر إلى الفقراء والمشردين ,على أنهم مجرد لصوص,حتى أنه دعا جميع الفقراء يوما إلى وليمة في قلعته الرهيبة ,وبعد أن أكلوا وشربوا كل ما يشتهونه وهم لا يصدقون أنفسهم ,سألهم :
- ألا أدلكم على طريقة تتخلصون بها من فقركم؟
فأجابوا في حماس :
- نعم يا مولاي.
فخرج وجنوده من القلعة .. وبعد أن أوصدوا الأبواب على الفقراء, أمرهم بإيقاد نار عظيمة وحرق كامل القلعة..فلم ينج أحد.
كانت حملاته العسكرية ضد الصعيد, والأجزاء القريبة من دار الريح لا تتوقف ,وعندما يقرر الإستجمام يزجي وقته في سلخ الحيوانات حية.
وكان يمارس الجنس مع كل عروسة جديدة ,من عامة الشعب قبل دخلتها على زوجها ,وأغرم بصورة خاصة باغتصاب نساء رجال دولته ,الذين يموتون دائما في حوادث غامضة من تدبيره,تبدو كحوادث عرضية ,أو مقدرة ومكتوبة ..
منذ طفولته الباكرة كان ود بندة طفلا هاديء الطباع,ميالا للعزلة بعيدا عن الآخرين,مسكونا بذلك السحر الذي توارثته عائلته, التي لم تعلن عن وجودها كعائلة تنتمي لما خلف البحر الملون أبدا. ظلت ممالك أسلافهم خلف ذلك البحر ,كحلم متلاشي تتجدد أصداؤه المتلاشية ,هي الأخرى من وقت لأخر..وفي هذا التلاشي ,كانت حياتهم تتأرق جيلا إثر جيل ..
في مستهل مراهقته ,وقعت عينا ود بندة على حجب النور ,الإبنة الوحيدة لبت فدرالله,التي لطالما أبدعت - بت فدرالله - في إخفاءها عن عيون أبي هلال,خوفا عليها أن تلاقي مصير الكثيرات في دار صباح ,التي حكمها أبي هلال في قسوة صارمة ,مبتدعا كل ما لم يخطر على بال أحد ...
حرصت أم ود بندة كعادة أسلافها,على إخفاء نسبه ,وأعتنت بتعليمه وتثقيفه ,حتى صار عقله طاعنا في السن ,رغم أنه لم يبلغ سنوات مراهقته الأولى بعد ...
كثيرا ما كان يمضي في عزلته وأعتزاله ,إلى أطراف حاضرة جلابي,بعيدا عن البشر والعمران ليتأمل,فتخطر على باله أفكار تبدو غريبة ,سرعان ما يجهضها عائدا إلى داره المغمورة ,التي عاش فيها مع أمه دون أن يلحظ وجودهما أحد ..
في هذه الأطراف إلتقى صديقه الوحيد الكرسني إبن أبي هلال ,الذي كان يماثله سنا كما ماثل الدريب العاتي..وكان الكرسني كجده العاتي متمردا على والده,الفرق بينه وبين العاتي ,عشقه لحياة العزلة والبرية,وكرهه المقيت لحياة القصر والسلطان ..
في العزلة التقيا ,وتصادقا دون أن يكشف أحدهما للآخر عن أسراره ..
مضى ود بندة يوما إلى البرية ,على أطراف حاضرة دار صباح ,وقعت عيناه على خميلة لم يلحظها من قبل ..إقترب منها ,فوجد في قلبها كوخ صغير ..إقترب من بابه وطرق عليه ,ففتحت الباب صبية لم يرى من هي في مثل جمالها من قبل.. فوقعت من قلبه موقع العشق ..سألته :
- ما الذي جاء بك إلى هذا المكان ,الذي لم أرى فيه رجلا من قبل؟
فرد مسحورا :
- الصدفة.
كان صوت حجب النور عذبا كموسيقى ساحرة لم تعزف بعد.. وبينما هي تحادثه إذا بأمها تجيء من أطراف الخميلة جزعة وهي تصيح :
- ما الذي رمى بك إلينا؟
- الأقدار يا خالتي.
إذهب لحالك,فنحن نساء ليس معنا رجل ,ولا تحدث أحدا بما رأيت ,وإلا أهلكت إبنتي على يد أبي هلال.
- أريد أن أكون حصنا لها.
. - أنت لست من نطلبه
تراجع ود بندة محسورا تتابعه عينا حجب النور,في شفقة ومحبة...
الوجد الذي أصاب ود بندة ,عله مكروبا . هائما ,يكره المخالطة ,حتى صديقه الوحيد الكرسني لم يعثر له على أثر .. بحث عنه في أماكنهما المعتادة دون جدوى,فوسع دائرة البحث حتى وجده في فلاة بعيدة..اقترب منه وألح عليه في السؤال, فأضطر إخباره أمره مع حجب النور...
عرف الكرسني مكان الكوخ ,الذي بقلب الخميلة,فمضى يحاول مداواة جرح صديقه الوحيد ,بإقناع بت فدرالله بقبول ودبندة بعلا لحجب النور.. لكنه ما أن رأى حجب النور,حتى وقع في غرامها,كان قد فقد السيطرة على نفسه ,ونسى ودبندة وأبي هلال وكل شيء . سوى هذا السحر الذي يجذبه إليها في هدؤ وتؤدة.. كان يراها كهالة من الضؤ والروائح,التي يتوجها الدعاش ..أغمض عينيه ,وتركزت حواسه.. كل حواسه في حاسة واحدة : الشم ..فمضت خياشيمه تغوص وتمضي بعيدا بعيدا, تفرز الكركار من الودك من الخُمرة ,من أريج الخميلة ,وهذا الدعاش المجنون..
حاصرته رائحتها المتماهية في مزيج روائح باردة,منعشة مع رائحة المكان ..عرقها..رائحة إبطيها شذى زهر ولا زهر..كركار شعرها ..الدلكة والخُمرة المنبعثة ,من رائحة غطاء الكنداكة ..وهذه الرائحة التي تتوج كل روائحها, رائحة نيل دار صباح ,عندما تحملها في الصبيحات الباكرة رياح الصعيد النديانة.. شمها بعمق ,وهو يتقدم ببطء .. يتبع هذه الروائح ,مقتربا أكثر فأكثر..توقف على مسافة خطوة واحدة ,يمتص بأنفه الدعاش المتصاعد من ثيابها, الخاضعة لتأثير غطاء الكنداكة .. كان قد شعر بمتعة كالهوة التي لا قرار لها . فيما سرت فيها رعدة قوية فأنتفضت .. كأن أطياف ذاكرة ثوب الكنداكة, تخرج جميعها في هذه اللحظة ,من أعماق مواجدها وتوجداتها لتهاجمها ,في هذه اللحظة بالذات.. كانا كالغائبين عن الوعي .. فجاء صوت بت فدرالله كصهيل حاد ,ينتزعهما من هذه الغيبوبة اللذيذة ..وقع إذن في غرام حجب النور ,فطلبها لنفسه..زجرته بت فدرالله ,فمضى وقد أضمر في نفسه أختطافها..وهكذا أخذ يترصد الكوخ مع بعض خاصته ,من الخدم المخلصين ,إلى أن تأكد من خلو المكان من بت فدرالله ,فهجم على الكوخ وأختطف حجب النور ,هاربا بها إلى إحدى البلدات البعيدة..
لاذ خاصته من الخدم بالصمت,متكتمين على سره, حتى عن والده الذي بحث عنه طويلا, إلى أن إستيأس,تمضي به الظنونالآن ,إلى أن لابد أعداءه الفقرا أتباع جانو قرمط, أختطفوه وقتلوه,خاصة أنهم كانوا قد بدأوا ينشطون سرا, دون أن تدركهم عيونه ...
عندما عادت بت فدرالله ووجدت الدار خلاء ,عليها أثر الدهم ,ظنت أن هذا فعل أبي هلال .. فبكت وغادرت المكان, إلى الحاضرة التي فارقت سكناها منذ وقت بعيد..
السيرة الجنسية لأبي هلال من الغرابة ,بحيث تكتمت المدونات على سرد وقائعها وأحداثها ,حفاظا على ما تبقى من غرور ذكوري مراق..فأبي هلال لم تسلم منه, حتى تلكن الأسيرات اللاتي كانت تجيء بهن جيوشه ,من غزواتها المختلفة في أنحاء البلاد الكبيرة..
سبب أبي هلال هلاكا مروعا لآلاف مؤلفة ,من أهل البلاد الكبيرة ,فإلى جانب كل أساليب التعذيب التي اتبعها,كان يدمن قطع أيدي وأرجل خصومه من خلاف ,واغتصاب نسائهم وبناتهم أمامهم ,ولذلك كان أصدقاؤه يخافونه على حياتهم أكثر من أعداءه ,إذ كانوا يخشون أن تدور بهم الدوائر على يديه فيقتلهم ويدفنهم عكس إتجاه "القِبلة",رغبة منه حرمان نفوسهم الراحة والسلام بعد الموت أيضا ..
فرسان دار صباح الثماني عشر, الذين حاولوا الإنقلاب عليه والذين يشتبه أنهم من الفقرا أتباع جانو قرمط ,قتلهم ودفنهم ووجوههم عكس إتجاه البحر الملون ,حيث تشرق الشمس,كان يتمنى لهم ظلاما دامسا في الآخرة أيضا..
كان كل من يدخل إلى حضرته ,يقف مكتوف اليدين ,مسبلا عينيه إلى الأرض,ينتظر أمر جلالته بالجلوس ,وكان هو يجلس دائما على عنقريب من "القِد" مفروش بحصير عليه فرو فوقه دمقس وحرير,فإذا أمر أحد بالجلوس ,فإنما يكون جلوسه على الأرض مقعيا كالكلب ,ولا يتحرك حتى ,يطلب منه المغادرة..وكان لا يسمح لأي مخلوق بأن يمعن فيه النظر,ففي حضرة أبي هلال يجب أن تكون هضيما كسيرا ,خافضا جناح الذل ..
في حبل أبي هلال أربعة نساء ورثهن عن رجال دولته, الذين قتلوا أو ماتوا في حوادث غامضة..وأربعمائة آخريات هن سراريه وجواريه,من بنات الصعيد ودار الريح اللاتي تم أسرهن في حروباته التي لا حصر لها ..وقد قسم أبي هلال نساءه وفقا لألوانهن ,فالبيضاوات وحدهن والسمراوات وحدهن والسوداوات وحدهن ,إلخ...وكانت المحظيات هن من يشرفن على توزيع هباته عليهن حسب درجة جمالهن وقربهن من نفسه ,فلتلك نسيج قطني ملون الحواشي ,ولهذه ثوب من الحرير جاء به تجار المراكب من الأسواق خلف البحر الملون ,ولهذه شيلان من الصف الجيد,إلخ ...
ولما كان أبي هلال قد ورث من أسلافه التركة المعنوية لثقافة الجبر والقهر,فقد منع نساءه من التزين بالذهب والفضة إلا في حضرته ,فكن يتزين عادة بالخرز والصدف..
عندما تستعيد روح ود بندة الآن ذكريات حياتها, التي أنهكها حصار أبي هلال,تتلفت بين مصدقة ومكذبة أنها نجت من سلطان هذا الرجل الرهيب.. في الأسر الرهيب كان ود بندة يستعيد كل تلك الحكايات,التي تقع على سمعه, داخل قصر أبي هلال .. حكايات التجار القادمين عبر البحر الملون الكبير,الذي تمخر عبابه مراكب كبيرة,لأيام طويلة دون أن تلوح لها اليابسة,فتشتد رغبته في الهرب متحينا الفرص..كثيرا ما كان يتخيل نفسه على ظهر إحدى هذه المراكب,وعندما تمكن من الهرب تلاشى كل أمل لديه في إمتطاء صهوة البحر..لم يكن أمامه سوى خيار وحيد.. قالت بت فدر الله
. - وجهتك عكس إتجاه البحر..ستهرب إلى الشلال..شلال مارتجلو
أغلق ود بندة عينيه تاركا العنان على عواهنه,لذكريات متداخلة,تستيقظ في نفسه فتمر كل الصور والوجوه التي رآها في حياته .. تمر وقائع ما وقع تحت سمعه وبصره ,وأصبح اسمه ذكريات..رأى نفسه يتبخترفي خميلة حجب النور..رأى نفسه ينسحب رويدا رويدا خلف أسوار عزلته ,يتحصن بالفلوات البعيدة ,كان كأنه يرغب في الإنعتاق من حب حجب النور, بابتعاده عن كل ما يثير حضورها الطاغ داخله ..
يتنهد ود بندة وهويستعيد تلك اللحظات, المشحونة بالتوتر.التي بدأت تتراءى له فيها وسائل نجاته الوشيكة ,بمساعدة بت فدرالله نهبا للهواجس والظنون...
وقتها كانت خواطر بت فدرالله, قد هدأت ,بعد أن أكد لها بحث الفقرا ,أن إبنتها ليست في قصر أبي هلال,فمن إختطفها وبنى بها هو إبنه الكرسني ,الذي لا يعرف حتى والده نفسه ,عن فعلته شيئا ,وأن ودبندة المحاصر بالعيون ,لن يستطيع إزاء ما حوله من شكوك, فعل أي شيء,وأنهم يرون أن من الخير إخراجه من هذه الورطة التي أوقعوه فيها...
أرشد الفقرا بت فدر الله, إلى المكان الذي خبأ فيه الكرسني حجب النور,التي كانت وقتها قد أنجبت له طفلا وسيما ,سيحقق النبؤة,التي لطالما داعبت أحلام الزبالعة..أصبح هاجس الزبالعة وبت فدرالله إنقاذ ود بندة,خاصة و قد تأكد لهم, أنه ليس من حكت عنه النبؤة...
وهكذا باتت تتراءى لود بندة..وسائل نجاته ,كما تتراءى خيوط السراب للتائه الظميء..فأخذ التخطيط للهرب ,يحتل كل اهتمامه,ويستحوز على كيانه إستحوازا تاما..خاصة أن بت فدرالله في لقاءاتهما السرية الحذرة, قد ألمحت له أكثر من مرة, أن ميقات إنعتاقه قد حان...
راود خيال ود بندة الأمل بالنجاة,فبدأ يحلم ببناء دولته الخاصة, التي لا ينازعه عليها أحد ,بعد أن تأكد له أن وجهته ستكون دار الريح ...
وفي سبيل ذلك كان يدرك, أن عليه صنع تركيبة من القرارات المتداخلة ,تمكنه من تحقيق غاياته,دون أن يلحظه أحد.خاصة أنه عندما كان ينظر للصراع الحاد"في تقدير الكلس",بين من يطلقون على أنفسهم أشراف دار صباح والصعيد,يصل إلى قناعة كاملة ,بأن النزاع المعلن بينهما - إلى جانب النزاع البيني لهؤلاء الأشراف المزعومين ,وبينهم وبين عموم أهالي دار صباح - في جوهره ليس حول من يجب أن يخطط للآخرين حياتهم,بقدر ما هو حول مركزية هذا التخطيط ممثلا في أبي هلال وأشرافه الهلاليين..دون تقسيم لهذا التخطيط ...
كان ود بندة يدرك مدى رعونة أبي هلال,فعمل على إتقاء شره بالإطناب في مداهنته ومدحه..ولذلك تمكن من تفادي الزج به إلى إحدى سجون أبي هلال الرهيبة ..وربما أن أبي هلال أبقى على ود بندة حيا ,لأنه يذكره بإبنه المفقود,إذ كان كثير الشبه به,كأنه تؤامه..وربما هو ذلك النوع الغامض من الشعور بالإنتماء إليه,فللدم حنين لا يخطئه القلب..
تمخض عن مداهنات ود بندة تقربه أكثر من أبي هلال,الأمر الذي مكنه من التعرف على طباعه جيدا ,كما أشبع ذلك أيضا رغبته في إمتلاك معلومات حقيقية, تساعده في خطط هربه ...
أبي هلال نفسه بتقريبه لود بندة ,كان مدفوعا بأن هذا الغريب ,الملم بشؤون الحكم والسياسة ,سيفيده كثيرا في خططه, التي لم يفكر فيها بعد ,خاصة أنه كان على جهل فاضح بشؤون السياسة ,وقد ذهب به فكره, إلى أن خروج ود بندة من دارصباح سيشكل خطرا داهما عليه ,إذ قد يغري السلاطين الآخرين بالتوحد ضده ...
كما أن أبي هلال رمى من تقريبه لود بندة, إشباع غروره بإستغلال ذكاءه الوقاد,ولهذا لم يتعجل سجنه أو قتله ..
ومع ذلك كان أبي هلال شديد الحذر ,فثمة إحساس خفي لا يفتأ يخزه ,مشعلا هواجسه وظنونه الملوكية تجاه ود بندة.. فأعتنى به عناية خاصة, أكثر- حتى - من تلك العناية التي أسبغها على بعض الأسرى ,المشكوك في إنتماؤهم للفقرا أتباع جانو قرمط, بصورة غير مؤكدة..والذين عاشوا حياة بسيطة, قوامها تقديم خدماتهم لقاء الطعام والشراب والملبس..كانوا يتجمعون في ميدان سوق الرقيق, بإنتظار من يطلب خدماتهم فيصيب حظهم أحيانا ,وفي أغلب الأحيان يخيب,فالأهالي لم يكونوا بأحسن حال منهم ..
كان الحصار المضروب حول ود بندة على أشده ,إذ لم يكن مسموحا له بالحديث ,إلا مع قلائل هم الحرس الخاص, الذين كانوا هم أيضا تحت رقابة العيون الخفية لأبي هلال ,لذا لم يكن مسموحا لود بندة زيارة بيوت الآخرين ,أو زيارة هؤلاء الآخرين لمسكنه الرث البائس ,الذي كانت حياته في البرية, فيها من الرفاهية ما يفتقد هنا.. لكن لم يكن هذا الحصار ليقف مانعا, لرغبته القوية في الهرب,مدفوعا بروحه التواقة للتحرر...
بينما تبدأ في الفضاء الحلمي لشقة الكلس, عوالم بني هلال تذوي لتنهض جلابي كخط دفاع آخير,تتداعى عوالم أخرى غامضة معطونة ,في الهوية المجهولة لبني هلال ..هذه القبيلة الغامضة.. فإذا برياح محنة جلابي نفسها ,تهب ببدء جيوش الإنجليز في التدفق..
معلنة نهاية المرحلة الهلالية في دار صباح, ومؤرخة لبداية عهد جديد من التمزقات الكبيرة, وكل أنوع سقط التاريخ والأفكار..
كان جلابي قد أسقط في يده ,إذ تلفت حوله دون أن يجد أحدا,فرجاله وحاشيته من الهلاليين,بل وكامل قبيلة بني هلال, كانت قد تسللت للإنضمام إلى جيوش الإنجليز التي في طليعتها دبك..فلم يعد يرى نفسه سوى مشنوقا يتدلى من السقف ..
فيما تبدا في هذا الفضاء الحلمي, الحياة المتجذرة لبت فدرالله ,حجب النور,الدريب..الكرسني,العاتي وجانو .. تنسحب خلف آخر أطياف مملكة مارتجلو البائدة ..في هذا الفضاء الضيق المخنوق تنهض على أنقاض الذكريات, ذكريات أخرى ,فتبرز الأرباب...
كان كل شيء في فضاء الغرفة, لايكف عن بعث الماضي, الذي يحتل هواجس الكلس ,فيجعل حركة أصابعه على شعر غلوريا ,متوترة لا تخلو من الإنقباضات اللا شعورية ..تخرج من أعماق التاريخ, وذاكرة الحجر والتراب و الحكايا المختزنة ,التي لا يكترث أحد لسماعها ,إلا ويراوده القلق والتوتر الممضين ...
تلك الحكايا المعزولة ,المقيدة,التي تواطأ الصمت للقضاء عليها, قبل أن يولد الكلس في مكان ما, بعد عشرات السنين, ليحررها . فانفتحت تتموج في فضاء الضوء الخافت ,لشقته المحاصرة بكتب التاريخ والمخطوطات والمدونات , وشتاء برينسس آن الرابضة ببؤس شديد ,في قلب الساحل الشرقي للأطسي الرهيب ,كفنار كئيب لم يضيء للسفن سوى مرة واحدة. أنطفأ بعدها إلى الأبد ..
هناك في منتهى دريب الريح ..عند مفرق الأودية الثلاثة ,أقام دالي قصره المهيب وزرع العرديبة -التي ستعرف بعد عشرات السنوات الضائعة ,وعندما يتغير إسم مملكته للمرة العشرين فيصبح إسمها الأرباب ,تعرف ب"عرديبة الدود"- في هذه البلدة "الأرباب" سيولد من رحم سلالة جانو قرمط أبو جريد صغير آخر,هو والد الأشرمين اللذان سيعبران إلى الجانب الآخر من الهاوية ,بعد أن تدك الجيوش المتحالفة بلدة الأرباب ..
وهناك بعد عشرات السنين الأخرى سيولد دبك آخر ,والذي سيحمل لواء الثورة, في محاولة يائسة لاسترداد أمجاد مملكة مارتجلو البائدة.. وعندما تنتقل مسك النبي إلى الجانب الآخر من الهاوية ,سيجدد ولديها الأشرمين ضريحها ,قبيل مغادرتهما العجلى إلى دار صباح ..
كانا يودعانها إلى الأبد..لكن دون حزن يفطر القلب ,سوى الذكريات التي سيحرصان أن تحيا في سلالتهما, التي ستتنازعها كل الحكايات العتيقة المتجددة, في محن الفقرا أتباع جانو قرمط وإبتلاءاتهم ,منبثقة من قاع عواصف التاريخ وأغبرته ,التي تراكمت على ذاكرة الجدة بت فدر الله,التي تمنح حجب النور خلاصة الحكمة, التي تقي من كل موت وشيك ,هذه الحكمة المتوارثة والتي تنتهي عند الأشرمين, كمعارف أنهكها الترحال في الزمان والمكان ,دون أن تخبو جذوتها لامعة كسطح حجر كوتو المقدس ,والمرآة السحرية الملساء .. عتيقة كغطاء صوف الكنداكة ورماد جمجمة جانو ..هذه التركة التاريخية التي سترثها سلالة حجب النور ,ستضيع في اللحظة ذاتها التي يدخل فيها الإنجليز في مؤخرة طلائع جيش دبك ...
في هذا الفضاء الحلمي لشقة الكلس, تنهض غلوريا كعالم قائم بذاته,عالم منغلق على كتلة من التوحد الكلي,تشغله فكرة "التخلي"..أخذت غلوريا تردد هذه الفكرة داخلها كالمنومة مغنطيسيا..
بدت لغلوريا فكرة التخلي عن الكلس ,فكرة جد مريعة,لكنها تستولى على كل حواسها الآن ..كانت لا ترغب في التراجع عنها ..ستمضي لتضع حملها بعيدا.. بعيدا عن متحف التاريخ والقنابل الموقوتة, التي يطلق عليها الكلس مختلف التسميات,فهي حينا كوارث الماضي,وحينا آخر هي إعادة إكتشاف الذات والإيمان ..هذه القنابل المختزنة ,في مخطوطاته العتيقة ومدوناته القديمة ,التي لامحالة ستنفجر بوجه مولودها ذات يوم ,فيجد نفسه جزء من هذه الحلقات الدائرية .. فيتحول إلى شظايا شبيهة بأبيه ..
كانت ثمة دوافع مختلفة تتحكم فيها ,فتحيك سيناريوهات مختلفة لإختفاءها, عن عالم الكلس ,بحيث لا يتمكن من إقتفاء أثرها أبدا ..كانت ترسم السيناريو تلو الآخر, وتضيف هنا وتحذف هناك ,وتبني هذه الحبكة لتعدل في تلك ..
كانت غلوريا تعلم أنها ضعيفة في حضوره ..وربما هذا السبب بالذات أكثر من غيره ,يغذي رغبتها في الهرب من عالمه الكارثي...
كثيرا ما تشعر بنفسها كسجينة لشبكة عنكبوت عملاق ..شبكة مهولة النسج,لا فكاك منها..وظلت تحاول مقاومة هذا الإحساس المعقد الغامض ,وتغذي هذه المقاومة لتتراكم كمخزون, يقويها على تنفيذ قرارها في اللحظة الحاسمة ..
وفيما كانت تخامرها هذه الخواطر والأفكار ,كان الكلس يشعر بنفسه وحيدا ,في هذا العالم المتمزق المعطون في الكوارث ..هكذا شعور بالوحدة الشاملة يداهمه ..شعور حاد كالنصل ,يخترق قلبه ..يحاول تفسيره بأنه ربما بسبب, تأثير عوالم الماضي المرعبة ...
القسم الثالث :
I
إستغل ود بندة توليه مهمة الإشراف, على سقاية أحد زراعات أبي هلال, على أطراف الحاضرة ,في التخوم القردود للنيل ,فأخذ يستغل السوانح للقاء بت فدر الله ,أو بقايا الفقرا أتباع جانو قرمط, الذين كانوا يوما طائفة قوية, تهدد حياة أبي هلال ,كما هددت حياة الحكام الهلاليين ,على تعاقبهم في عهود خلت وأنقضت,إلى أن دالت الدولة إلى أبي هلال ..
فقائد الفقرا الراحل"جانو" ,كان قد أدرك منذ الوهلة الأولى ,في سيرته الملأى بالوقائع والأحداث ,بأن هناك دونما شك ,كيانا ذو معرفة هامة جدا ,لكنها غير منتظمة ,وليس من الممكن أن تطبق عمليا ,في تلك اللحظة التاريخية, التي عاشها بكل حذافيرها, والتي كانت تمر بها دار صباح ,وربما أن هذا النوع من التفكير بالذات ,هو ما أودى بجانو إلى التهلكة ..
فالهلاليين كانت إحدى هواياتهم المحببة, قمع الطوائف المختلفة,معتبرين أنهم البحر الذي لا لزوم لموارد الماء الصغيرة إلى جانبه..فضحوا بالمعارف المتناثرة لهذه الطوائف ,وبالتالي لم يتمكنوا من رصفها إلى جانب معارفهم ,التي جاءوا بها من خلف البحر الملون ,ليتمكنوا من بناء مملكة واحدة منسجمة, تتخطى حدود دار صباح, لتلقي بظلالها على كامل تراب البلاد الكبيرة...
كان ود بندة يقضي معظم وقته في الفسحة الكبيرة ,المواجهة لقصر أبي هلال ,والتي لم يكن مسموحا فيها على الإطلاق بكتابة أي شيء ,لأن أبي هلال كان يرى أنه من العار أن يفعل الآخرين, أشياء لا يعرف هو شخصيا كيفية فعلها ,ورغم ما أبداه من ريبة وحذر تجاه ود بندة ,إلا أنه كان يضطر إلى دعوته, لإصطحابه إلى حيث يريد ,وغالبا ما يريد هو بعض الرحلات الداخلية,وفي كثير من الأحيان كان يستشيره في أمور الحكم..
في الأيام الآخيرة ,بعد ثلاث سنوات من المجاعة الكبيرة ,التي ضربت دار صباح دون شفقة.. وصل إلى دار صباح من طريق الملح"مالحة" ,الشيخ أبو خيرة, الذي هو في الحقيقة رئيس فرقة جمال درب الأربعين ,ولم تكد قدماه تطآن أرض دار صباح ,حتى مثل بين يدي أبي هلال ,حيث أخبره بأنه سمع بأن هناك مملكة كبيرة غنية, في دار الريح إسمها شلال مارتجلو..وأنه رأى أن من الخير لدار صباح ,غزو هذه المملكة واحتلالها ,فهذا وحده ما سيخرج دار صباح,من أزماتها الطاحنة ...
فسأله أبي هلال, إن كان يعرف مكان هذه المملكة بالضبط, فدار الريح كبيرة,بل هي أكبر أجزاء البلاد الكبيرة,فأجاب أبوخيرة أنه لا يعرف ,فهي مملكة تسورها العزلة من كل إتجاه ,تحميها من فضول الجوار وأطماعه..كما أنها بعيدة عن طريق الملح,وخارج ملتقى درب الأربعين مع الدروب الأخرى,ولكن..مع ذلك ليس من الصعب العثور عليها...
لم يكن أبوخيرة سوى أحد القادة السريين للفقرا أتباع جانو,الذين ظل أبوهلال يستهدفهم ,وإنما قال ما قال - في الظاهر - إعرابا عن حرصه على ملك أبي هلال ,وحتى يبعد عن نفسه الشكوك, فتسهل مهمته في تهريب ود بندة, كما خطط مع بت فدرالله ..كما أنه كان على إدراك تام, أن مثل دار صباح المضعضعة ,لن تستطيع غزو مملكة ,مثل الشلال تحتمي خلف أسوار العزلة ..
ولم يكد أبو خيرة يمر في الساحة الكبيرة, أمام القصر ويرى ود بندة ,حتى همس في أذنه :
- لقد أتيت لمساعدتك, فاجتهد في مقابلتي.
فتردد ود بندة,فأكد الرجل :
.- بت فدرالله أرسلتني
وبعد أن إتفقا مضى أبوخيرة تتابعه نظرات ود بندة ,في حذر شديد إلى أن اختفى ...
لم تعد شقة الكلس هي تلك الشقة ذاتها ,بفضائها الحلمي المزكوم برائحة التاريخ .. بأصص الزهور في شرفتها, وتماثيل الأبنوس الموزعة في نظام دقيق..كان كل شيء يبدو خواء إلا من أشباح تشاركه الصمت..فغلوريا التي أعطت من روحها كل شيء هنا, لم تعد جزء من ذاكرة الشقة..كأنها لم تكن يوما..كأنها محض حلم مبتور..كأنها...
فكرة تخلي غلوريا عنه ,هكذا دون مقدمات ,وعلى هذا النحو المباغت ترعبه ..أي حزن هذا الذي كتب عليه ,أي جنون هذا الذي أقدمت عليه, وأي غضب يمور بداخله كالمرجل...
غلوريا بلونها القمحي المشرب بالأصيل ,مرفأه في رحلات البحر الملون ..مرفأه هو الحزين الوحيد ,الملقى بعيدا في أكثر أركان العالم رعبا ..لكم يحتاجها الآن, لتمسح على رأسه كطفل غرير ,تطارده المخاوف من البعاتي وأب لمبة.. تهدهده..تسند رأسه إلى صدرها, وتحكي له عن الأميرة والأمير, اللذان عاشا في تبات ونبات ,ورزقا البنين والبنات, فينام إلى آخر الحكايات من جنس المخدر الموضعي ..وتختفي الأشباح, التي تمور في أتون أعماقه المجروحة ...
في عيون غلوريا تختبيء كل عوالم مدوناته ..مخطوطاته..كتبه..تاريخه الشخصي كحفيد لدبك شخصيا ..كل شيء..كل شيء يختفي.. فلا يبقى من رعب التاريخ سوى لذاته وملذاته ...
كان قلب الكلس يتموج ,كزورق في مهب الأنواء .. في قلب البحر الملون ..يصطدم بمركب الدريب ,يتحطم معها على الجزيرة الصخرية ..وغلوريا إبنة ملك دار صباح تغرق.. تغرق.. تغرق..ليلفظها الموج على الجانب الآخر من العالم..بالتحديد هنا في هذا الجزء المنسي من الأطلسي الرهيب ..بالتحديد هنا حيث ترسو السفن ,قبل أن تحط رحالها في بلتيمور. .بالتحديد هنا حيث ينفلق قلبه, كنافذتين واحدة للشمس وواحدة للغبار...
بكى الكلس كما لم يبك من قبل..لم يكن يحس سوى شهيق بعيد ,كصدى مكتوم...
II
في المساء .داخل الديوان الكبير. باغته أبوخيرة بإنعطافه الحاد أمامه ,فتبعه إلى أن تخطيا الرواق الملحق بالديوان ..وعندما أستوثقا غياب عيون الناس ,وبُعد الآذان عنهما ,مد له أبو خيرة صندوقا خشبيا صغيرا,تفوح منه رائحة ,هي مزيج من رائحة البن والقرض :
- إفتحه في مكان آمن ,وأقرأ ما في قاعه من أوراق بإنتباه .. بعدها قابلني غدا في هذا المكان..
أخفى ودبندة الصندوق الصغير داخل ثيابه ومضى ..كان أبي هلال قد دعاه في تلك الليلة, لتناول العشاء على مائدته ,فقرر دفن الصندوق على أن يستعيده بعد العشاء...
وكالعادة تركزت أحاديث أبي هلال أثناء العشاء ,حول الأزمة الطاحنة في دار صباح بسبب المجاعة ,والجفاف والتصحر,هذه الأحاديث الملوكية, حول هموم دار صباح,لم تكن مؤشرا على ثقة أبي هلال, في ود بندة لدرجة الإستئناس به ,فيما يشغل فكره.. فأبي هلال المجبول على الشك والريبة, لن يتردد لحظة واحدة ,في إنزال العقاب الصارم ,على ود بندة حال تأكد ظنونه..
لذلك لم يكن ود بندة يتردد, في كل مرة يقابله فيها ,من إظهار ولائه وإخلاصه..وبدا لود بندة واضحا أن بال أبي هلال, منشغل أكثر مما هو مألوف..ربما كان ذلك بتأثير الأحلام التي أشعلها في نفسه ,أبو خيرة بحديثه عن مملكة الشلال..
بدا للكلس أن أبي هلال هنا, أشبه بجلابي من غيره من الهلاليين, إذ لديه نزوع قوي للإنقياد,مغرم بحفظ تعليمات العرافين,وتنفيذها..الفرق بينهما,أن أبي هلال كان ينتج أفكاره, بطريقة عجيبة,إذ ينفث ذلك النوع من الدخان ,الذي يتموج في دوائر حلزونية في قاع دماغه ,ومن قلب هذه التموجات, تتشكل أفكاره اللعينة,التي سرعان ما يتلقفها رجاله, وحاشيته ويشرعون في تنفيذها..
في التقديرات المبدئية حول أزمة دار صباح - التي أستنتجها الكلس قبيل مباغتة غلوريا له بإختفائها عن عالمه - أن مشكلة دار صباح الإقتصادية ,هي في أحد جوانبها ,هي نوع من التكيف السريع مع المتغيرات ,ذات الصلة بالموارد المتاحة للأفراد ,الذين في الواقع هم لا يدركون سبب هذه التغييرات, التي صنعتها المجاعة ,وذلك بسبب تداخل مجالات رؤيتهم الفردية المحدودة,ورؤية أبي هلال الأكثر محدودية...
الأزمة الخانقة لدار صباح كانت قد شملت كل جوانب الحياة ,فالتغيير الذي أحدثته حروب أبي هلال مع الجوار, في الصعيد والسافل وما تاخمه من دار الريح, إلى جانب المجاعة والصراعات الداخلية ,كل ذلك أوجد نوعا من التغييرات الخانقة ,التي أصبحت ليست بذات أهمية للناس بمرور الوقت ,فلشدة ما تحكمت في الحياة العامة ,دخلت طور المألوف والعادي...
بعد أن إستعاد ودبندة صندوقه الصغير,أسرع إلى كوخه البائس ,وهناك أشعل المصباح الزيتي العتيق ,وفتح الصندوق بمدية صغيرة أشتهر بصناعتها حدادي كركوج..ووجد ورقة صغيرة مكتوب عليها بالعمار ملخص لخطة هربه..
لم تمض سوى أشهر قليلة ,حتى أفاده أبوخيرة أن الجمال المعدة لتهريبه ,ستصل في اليوم التالي للأحد الثالث من ذلك الشهر ..كان ذلك بعد عامين من الفيضان, الذي تلى المجاعة بعام ..
ظل ود بندة ينتظر بخوف ,تدفعه إلى الأمل وقائع العذاب اليومي ,الذي عاشه منذ وطأت قدمه قصر أبي هلال .. كان خوفه نابعا من أن تعترض سبيله عوائق ,غير متوقعة قد تفضي إلى قتله..
وعلى أي حال كان شديد الشوق إلى ليلة الهرب, إلى أن جاءت بخطاها المتثاقلة ,فألتقى أبوخيرة عند مدخل الديوان الكبير ,الذي همس في أذنه بسرعة ,يدعوه إلى الإستعداد للهرب ..
كلهم يخططون للهرب ..ودبندة..غلوريا..هو الكلس شخصيا ..لكن كيف لم يلحظ رغبتها في الهرب..كيف لم ينتبه في ذلك المساء..عندما بدت متعبة قلقة, تحمل من حزن العالم ما يكفي كل المجرات ..حزن شفيف نقي كقطرات الندى والدمع ..
على غير ما ألف ,بدى له جسمها في ذلك المساء ,رقيقا وناعما في إكتنازه, بتأثير الحمل ,الذي دفع بكل أنوثتها إلى الخارج,فغاصت في الفضاء الحلمي للشقة ..
عبر وسنها الضبابي تكلمت عيناها في همس وديع ,لكنه غامض- كيف لم يلحظ ذلك - لحظتها كانت قطرات المطر العجولة, تتساقط على أرض البلدة المتعبة, من كر وفر ملذاتها ..فتتدارى كل تلك الروح المشاكسة ,تمسي البلدة وديعة .هادئة. مستسلمة فيزحف كآخر الغزاة..
قبيل غروب شمس ذلك اليوم ,كان ود بندة قد أكمل كل ترتيبات هربه ,مبتدعا من أساليب التضليل ,ما لن يخطر على بال أبي هلال ..
فبمعرفته لأبي هلال ,كان يتوقع أن يأمر أولا بالبحث عنه داخل الحاضرة ,وسيستغرق هذا البحث وقتا كافيا لمغادرته الحاضرة ,وبعد ذلك فحسب ستنقب عنه عيون أبي هلال وجنوده, خارج حاضرة دار صباح,بعد أن يكون في الواقع قد كسب وقتا كافيا للفرار..
كثيرا ما يتساءل الكلس حول تجربتي ودبندة وأبي هلال : هل كانا يدركان أن الحضارات تتقدم خلال إطالة أمد عدد كبير من العمليات الهامة, التي يمكن للناس القيام بها دون التفكير فيها ,كما كان جانو يتصور على نحو غامض ..وهل هذا الإدراك الغامض هو ما حفز ودبندة فيما بعد, بالحلم بتطوير نظام بديل للنظم في دار صباح والصعيد والسافل, بإبتداع نظام يحافظ على الخصائص المميزة لأهل البلاد الكبيرة, ويمكن الأهالي من إختبار مساعيهم,وإستخدامهم الحر لمعارفهم ومهاراتهم ..
هذه الطريقة في التفكير تختلف تماما, عن كل ما حلم به أبي هلال ..فمن الأمور الغريبة ,أن أبي هلال وحاشيته ورجاله, الذين يقومون بتوجيه الناس ,كانوا لا يدركون أن هؤلاء الناس لا يعرفون لماذا يتوجب عليهم أن يعملوا ما يقومون بعمله..ولذلك كان بال أبي هلال دائم الإنشغال ,بما كان ود بندة يقوله حول هذا الأمر ..كي يعمل الأفراد الأشياء المرغوب فيها ,دون أن يكون هناك أحد يخبرهم بما يتوجب عليهم فعله..
عندما شارف الليل على الإنتصاف ,وبعد أن آوى الجميع في دار صباح إلى مخادعهم ,يسبقهم أبي هلال ,حمل ود بندة الفروة التي أعتاد الرقاد عليها ,وتدثر بها فوق ثيابه الصوف, ثم خرج في هزيع البرد ليلتقي أبي خيرة ,الذي كان ينتظره بحمار معد لركوبه ..أسرع ودبندة في المسير خلف أبوخيرة ..
في تلك الليلة الباردة,كانت رياح السافل, قد أخذت تشتد شيئا فشيئا,وبينما كانت تدفع أهالي دار صباح, للإنزواء على أنفسهم في عناقريبهم القِد ,كانت تدفع أبوخيرة وود بندة, للإسراع في المسير أكثر فأكثر..
سارا في طريقهما دون أن يصادفا أحدا من الناس,حتى وصلا إلى الطرف الآخر من دارصباح ,حيث توقفا أمام قطية متهالكة ,من خلف تلك القطية ,خرج رجل يسحب وراءه جمل معد للسفر..افترق عنهما أبوخيرة, فبدأت رحلة ود بندة مع دقاش..
كانت الخطة أن يمضي معه دقاش, العارف بسباسب الصحراء ووهادها ,إلى حيث تنتظرهما, على بعد مسيرة يوم من هذا المكان,الجمال المعدة للإجتياز بهما إلى دار الريح..
هذا الشارع الذي يمر فوقه الآن..هذا الشارع الذي لا يشبه درب الأربعين أوطريق الملح..هذا الشارع الذي لا يفضي لمالحة أو الشلال ,هذا الشارع الذي يمر فوقه الآن : سمرست آفنيو ,قطعاه معا مشيا على الأقدام عشرات المرات.. مرت فوقه غلوريا لوحدها آلاف المرات ..هذا المطعم ,هذه الساحة,تلك الشجرة التاريخية, التي كان يشنق فوقها العبيد..وكل شيء في برينسس آن تنطبع فيه ,في هذه اللحظة, رائحة أنفاس غلوريا ,المزيج من الماضي والذكريات الحزينة ...
عندما وصلا إلى البقعة, التي كان دقاش قد خبأ فيها الجمال ,همس دقاش في أذن الجمل فبرك,ونزل ودبندة الراكب على الجزء الخلفي من السرج وراء دقاش مباشرة ..
ركب كل منهما جملا وتابعا رحلتهما ,لا يحول بينهما والمسير حلكة الليل وبرودته ,وأنتشار الأشجار الشوكية ,إلى أن أطلت أولى خيوط الفجر ,فوجدا نفسيهما عند وادي المرفعين...
فيما كان الكلس يحاول إستجماع ذاته المتهاوية,بسبب ما خلفه هروب غلوريا من أثر عميق..كانت غلوريا لحظتها, على الضفة الأخرى لنهرال(بكموك),تحاول إستعادة حياتها, التي شعرت بها توشك على الإنتهاء والتبدد في عالم الكلس ..كانت تخشى أن تكون بالفعل جزء من نسيج هذا العالم المتفاقم..لم يعد لها الآن - مع ذلك - سوى الحنين ..لكن الحنين إلى ماذا ..فالكلس وعالمه لا ينفصلان,فهما متماهيان,والحنين إلى أحدهما يعني الحنين إلى الآخر..وكليهما ينطوي على قوة تدميرية مهولة,لا يتشكل من أنقاضها سوى حلم يتيم,هارب يصعب الإمساك بتلافيفه...
ترى غلوريا نفسها الآن كمن إستفاق من حلم عميق..حلم سارت فيه عمياء بخطى واثقة,لتحبه دون تفكير..نعم أحبته بعقل غارق في الوسن الضبابي ,الذي يحيل كل شيء إلى أشباح شاحبة ,لا يمكن تبين ملامحها..أحبته بقلب مشرع لكل إحتمالات الجنون, دون رغبة في مقاومة هذا الجنون اللذيذ...
حب مراهقة مسكونة بحكايات الحبيب, الفارس المجهول,الذي ينهب بحصانه الأبيض مسافات التاريخ,ليختطف محبوبته من براثن أزمنة غابرة..لكن ليمضي بها إلى أزمنة أشد عكرة من غبرة دار صباح .. أزمنة - وإن كانت مسكونة بهواجس الماضي وكوابيسه إلا أنها - تتبدى عن حبيب ينتظرعلى الضفة الأخرى, منساقا بالحنين والحنين, إليها وحدها ,أنثاه..قدره المكتوب...
ربما حبها له - من الجانب الأخر - هو ذاته نوع من الحنين, لحبيب يمتليء بحياة تفتقدها ..حياة تنتمي إليها لكن تفتقدها .ربما كان تعلقها به, شيءكتعويض ذات أنثى غامضة. هائمة في فضاءات التاريخ,تطل من حين لآخر,تطل بالتحديد في حضوره القوي, من أغوار عالميهما المتشابكين لتطارد أحلامها , تعويض تجد فيه نفسها ..تجد فيه ذات الأنثى الضائعة ...
لطالما أحست بهذا التعويض, في لحظات توهجهما الكبرى..توحدهما كما يتوحد الوجود, مفضيا إلى العدم..فناء ذاتيهما في ذاتيهما, بكل ما يشكلهما من روح وجسد ..كان هذا الإحساس بالفناء الوشيك..اللحظة المنتظرة..لحظة التتويج ,يبدأ بتلك القشعريرة ,التي تدب في حلمتيها تحت لسانه ,وتزحف في سلسلتها الفقرية,تتخللها فقرة فقرة..تسري مسرى الدم ,وعندما يمتزج كل شيء بكل شيء, وينامان منهكين تسافر روحهما المتوحدة, كسحابة تروي أرض دار صباح العطشى, التي أنهكتها المجاعات..
ربما أختارت عماها منذ البداية, ففي ذروة العمى ,يمكن إستبصار كل شيء,فترى ما بداخل هذه الحفرة, التي لا قرار لها ,حيث تقبع فقط عيون البحر الملون ,فلا ترى نفسها فيه, إلا كموجة عاتية, تحطم مركب الدريب ,فلا يبقى سوى الدريب, شاهدا على مبتدأ ومنتهى خبر إبنة ملك دار صباح شهرزاد...
نعم إنه نوع من الحب المدمر - لكليهما ربما - هذا الحب الذي هربت منه,والذي سيظل يطاردها كل لحظة .. وستراه في ثمرته, وهي تنمو وتكبر شيئا فشيئا, في رحمها كل يوم...
فهي ثمرة أشبه بالمعجزة,حتى أنها لاتصدق,هي التي لطالما أكد لها الأطباء, إستحالة أن تحمل ,حملت فتنازعتها المشاعر المتناقضة, فهربت..أكل المعجزات شقيقات للمخاوف والهواجس والظنون ...
III
كان دقاش شاب صغير السن ,مسترسل اللحية.. سأله ود بندة :
- إلى أي القبائل تنتمي؟
فأجاب :
- نحن من جبال كتري.
دون أن يزيد حرفا واحدا ,فأكتفى ودبندة بهذه الإجابة الغامضة ,وغير الموضوع :
. - إلى أي مدى بعدنا من عيون أبي هلال
فأبتسم دقاش ورد في هدوء:
. - ليس أمامنا سوى الدعاء, بأن تقوى جمالنا في مسيرها
ثم أستطرد :
- لا تخف ,فأنت مع دقاش..
وحكى دقاش لود بندة :
"أيام حروب الجهنية والجهادية بهذه الجبال,آوى أبي أحد الهاربين المطاردين من جند الترك ,الذين كانوا قد إتهموه باللصوصية,والإعتداء على أحد الجهنيين الجلابة ..أسر الترك زوجاته ,أما هو فقد وجد عضدا قويا, في الإحتماء بأبي ,الذي كان قد دفع مالا كثيرا, ضمانا للرجل ,وعمل على إستصدار العفو عنه ,ولم يكتف بذلك,بل قدم نفسه كفالة عن زوجات الرجل الأسيرات ..هكذا نحن آل دقاش الكبير..لا تخف .."...
تابعا فرارهما بأسرع ما يستطيعان ,وجمالهما في عدوها ,لتكاد تطوي الأرض طيا ..إلى أن غربت الشمس فوجدا نفسيهما, قد أقتربا من مشارف سودري ,فنزلا عن جمليهما ليواصلا سيرهما ريثما يعلفان الجملين ويستريحان...
بقيا في الخلاء الذي يحيط بسودري, زهاء الساعة ,أكلا فيها من البلح والكسرة الناشفة ما يقيم الأود..وتجرعا من ماء القربة ,ما يكفي لدرء ظمأهما ,ويعينهما على مواصلة المسير...
في تأملها لمويجات نهر البكموك المتقاطعة ,كانت أفكارها هي الأخرى ,تتقاطع في لحظة محددة ..اللحظة التي وجدته فيها بعد بحث طويل ..كانت حريصة على التعرف على عالمه, وعندما تعرفت على هذا العالم ,لاذت بالفرار. لم تعد راغبة في هذا النوع من المعرفة,الآن تحدثها نفسها ,ربما هي تريده وحده بمعزل عن عالمه ..هويته الرهيبة,ولكن هل يمكن الفصل بين الذات وموضوعها ...
من أعماق عقلها المضطرب تشتاقه..تحن إلى أحاديثهما عن السحابة الحمراء, زعيم الهنود الحمر ,وهل كان صنوا لدالي..تحن لسرده المتوتر في سيرة الممالك الغابرة ,هنا على هذه الضفة ,وهناك على الضفة الأخرى من العالم ..تحن إلى قصتهما,قصة حبهما الذي لن يكتمل ..تحن إلى نزهاتهما معا على سمرست آفنيو, في العشيات عندما تبدأ قطرات المطر ,تزخ أشواق السماء...
توهمت أنها تعلمه كيف يستمتع بالحياة, ففوجئت به يأخذها خلف أفق سحيق ..كانا كشمس غاربة كل ما حولهما محض غسق :"هذا أحد المعان العديدة لسؤال الإستمتاع بالحياة".. خافت أن تضيع في هذا الغسق الرحيب..كان غسق خلق خصيصا للضياع فيه..غسق من وحي عوالمه الغابرة : " الضياع نفسه من معان الحياة"..فهربت ..
عند شروق شمس اليوم التالي, كانت الجمال قد قطعت في مسيرها ,مسافة طويلة ,فأراحا جمليهما . يستظلان بشجرة تبلدي ضخمة,طاعنة في السن ,يغطي جزء من جذعها فوهة كهف منحدر من الرمل إلى الصخر..إتكأا على جذع التبلدية يغالبان التعب والنعاس...
عند الغروب سمعا صوتا كالخطى البعيدة,فأخذا يتلفتان حول التبلدية, لتحديد مصدره دون أن يريا شيئا ,فمضيا يسرعان في إسراج الجملين, لينطلقان مرة أخرى...
تابعا طريقهما, في طريق تميل إلى الصعيد المتحدر, إلى دار الريح قليلا,قليلا. كانا يخترقان التلال والقيزان,ولم يكد الليل يرخي سدوله ,حتى تخطيا مسافة بعيدة,وعندما لاح ضوء الفجر ,إبتسم دقاش في وجه ود بندة وهو يقول :
- لقد قطعنا نصف المسافة تقريبا.
- إلى الشلال.
. - إلى الأمان..من هناك يمكنك أن تبحث عن الشلال دون خوف إلى أن تجدها
خلال كل هذه الرحلة الطويلة الشاقة, لم يتغير منظرهذا الجزء من البلاد الكبيرة, إلا في القليل النادر..فهي بلاد صحراوية, وخلاء قردود في غالبها,تتخللها شجيرات القضيم والسناسنا , وتلال الصخر والجبال الصغيرة ,بصورة متفرقة في بعض نواحيها...
علاقتهما..علاقتهما هذه العلاقة الغريبة,لهي أشبه بالتمزق التام..نوع من الضياع في متاهة معقدة النسج ,يبحث فيها كل منهما عن الأخر ,وعندما يعثر عليه, في اللحظة ذاتها التي يعثر فيها على منفذ الخروج من هذه المتاهة ,يفقدان رغبة النفاذ خارج المتاهة..يفقدان رغبة العثور على بعضيهما..
بطريقة ما كانا: الكلس وغلوريا يبحثان عن ماض ما, يدركان بصورة خفية مدى إخافته ورعبه..يبحثان فيه عن إجابات لأسئلتهما الوجودية الحارقة,إجابات تهديء روع خواطرهما المضطربة ..بطريقة ما كانا يريدان تأكيد ذاتيهما ,فيما يدفع الناس للهروب,وهكذا لم تكن علاقتهما سوى مسيرة مزعجة, لذات تبحث عن آخرها..أو آخر يبحث عن نفسه في ذات مضعضعة...
IIII
سارا دون توقف..كان طعامهما قد نفد ,ولم يكن لديهما سوى القليل من التمر,الذي راحا يتزودان به ,على ظهر جمليهما من حين لآخر..عندما بدأت الشمس في الإنحدار ,شاهدا قطيعا من الغنم, يقوده بعض الرعاة ,فأضطرا إلى تحويل خط سيرهما ,حتى لا يراهما أحد ..وعندما شعرا أن الرعاة شاهداهما ,أسرع دقاش إليهم بجمله ,ليلتقط الأنباء ,ثم عاد ليطمئن ود بندة, بأنهم لا يعرفون شيئا ,وتابعا السير..متجنبين الدروب المطروقة, التي عليها آثار خطوات الحمير والجمال والماشية ,أوتلك التي لا تخلو من علامات كالصوي..لم يبد لهما طوال رحلتهما أن ثمة ما يتعقبهما..وكان ود بندة يصر:"الحذر واجب.."...واصلا إلى أن وصلا خلاء فسيح أجرد من كل شيء..فقال دقاش :
- تلك البقعة التي بلون الرماد,هي طريق القوافل ,التي تربط طريق الملح ومالحة بدرب الأربعين..إذا تمكنا من إجتيازها دون أن تلمحنا العيون, لن يكون هناك ما يخيفنا بعد ذلك..فكل ما بعد هذه البقعة أرض صَّيْ, لا يطأها أحد,فلا شيء من النبات والأعشاب فيها.
بعد صمت قصير أضاف دقاش :
. - سنجد مكانا آمنا عند تلك الرابية الصخرية
منذ توغلا هذه الفيافي, لم تغشى إبتسامة واحدة وجهيهما ,إلى أن إبتسم دقاش في هذه اللحظة بالذات, فأدرك ودبندة أنهما نجيا من الخطر ,فواصلا مسيرهما وكل منهما يضرب جمله شديد التعب دون رحمة ..تخطيا التلال..المنحدرات الرملية المغطاة بالحجارة السوداء, التي تختلف في حجومها..و التي تنهض في صفوف منتظمة,حتى ليخيل لمن يشاهدها, أن هناك من قام برصفها على ذلك النسق البديع ..وإلى جانب هذه الحجارة كانت ثمة صخور متناثرة ,يبعد كل منها عن الآخر ,مسافة تكاد تكون متساوية ,لا شك أن جمليهما كانا يجدان صعوبة في السير ,في مثل هذا الخط الحجري الصخري..
لحظتها أخذ ود بندة يفكر في أبي هلال, والحصار الذي ضربه حوله, وتلك الأحاديث بينهما : في شئوون الحكم والسياسة ,وأفتراضاته المضحكة ,بأنه وحده يمتلك كل الحقائق.. هذه الإفتراضات التي لم يتمكن معها ,من تحديد مشكلات دولته .. ببساطة لأنه لايريد أن يرى, أن الحلول تكمن هنا..في تفاعلات شعبه مع الحياة, والكون وكل ما يحيط بهما ..تفاعلات هذا الشعب مع المشكلات.. هذه المشكلات ,التي أبدع أبي هلال في خلقها وتصميمها..
لم يكن أبي هلال مقتنعا بأن كل فرد في شعبه, يمتلك جزء من المعرفة ,وجزء من رؤية الحل ,كان يتصرف كإله بشري صغير, لكن صغير جدا بين من يتوهمون في أنفسهم القداسة..المعرفة الجزئية للناس ,لو عمل أبي هلال على تجميعها, لرأى الطريق أمامه واضحا..فهؤلاء الناس لا يريدون محاربة أحد ..أنهم محض جياع عراة, إلا من أحلامهم في الإستقرار..أحلامهم بأن يكونوا وسط أسرهم ,ملتفين حول شاي الصباح والمغربية وقدح الغداء..يتبادلون السمر العائلي, في تلك الحكايا التي تهيمن عليها ذاكرة جداتهم,ولا يتجسس عليها العسس..لكنه لا يريد لهم إلا أن يعانوا في دار صباح ما يعانونه الآن,إزاء سنابك خيل الصعيد والسافل التي تقترب من بواباتها...
نهض الكلس يفتح درفة نافذة شقته المطلة على (سمرست آفنيو ),وغاص حتى ركبتيه في نور المساء ..كان جسده ملتهبا كجذوة مشتعلة أطفئت لتوها ..كانت الشمس لحظتها تتحدر على الضفة الأخرى لنهر( البكموك) ,وتمضي حثيثا حثيثا ,كالمحمولة على سواعد سحابة مهاجرة ,إلى أرض البلاد الكبيرة,ترحل في المدى اللانهائي ,لتاريخ المجاعات ,فيهب أهالي دار صباح إبنة ملكهم للنيل,فتحط السحابة رحالها,تمطر..يفيض النيل,"فيغتصب" أبي هلال كل الإناث : من حاضت ومن لم تحض بعد .. يقتلهن فلا يدري بسر عجزه أحد ...
الذكريات وحدها.. نعم لم يعد يملك سوى الذكريات وحدها,منذ غادرت غلوريا عالمه ..كانت تردد بهمس في أولى أيام علاقتهما:
. - ستكون ملاذي دائما
. - وأين أجد أنا الملاذ
- في أحضاني.
فيزحف , وتتوتر أصابعه على عوالمها الداخلية السرية ..عوالمها الدفء ..يتسلل إلى مواطن القلق واللهفة الأزلية ,ويمضي ليحفر عميقا عميقا..أعمق من خيال دبك ونينا...
قبل أن تغرب الشمس, لاح لهما من بعيد ,جبل ممتد أفقيا لمسافة طويلة ,فتدرجا من سفح أحد النجود ,مضيا في طرق ملتوية, حتى وصلا إلى واد قائم بين التلال الصخرية ,حيث أراحا جمليهما ,وكانا راغبين في المسير على الأقدام .جلسا على الأرض, بعد أن أنزلا السرجين عن الجملين ,وأكلا قليلا من البلح ,الذي تجرعا بعده من ماء القربة, ما يكفي لدرء الإحساس بالعطش..
- إقتربنا من غايتنا فأنتظرني هنا.
قال دقاش ذلك وهو ينهض متوجها إلى بقعة مجاورة ,كان من المفترض أن يلتقي فيها أحد أتباع الشيخ أبوخيرة..
لاحقه صوت ود بندة:
- وما حاجتنا إليه
هتف دقاش دون أن يلتفت:
. - أنت تعلم أنني ينبغي أن أسلمك إليه ليواصل معك الرحلة
كان ود بندة قد ألف دقاش,ونشأت بينهما علاقة غامضة,فأحس أن لا أمان له إلا معه..ولذلك لم يكن راغبا في تنفيذ هذا الجزء من الخطة..
بقى ود بندة وحده بعد أن تركه دقاش, ومضى ليبحث عن تابع أبي خيرة ,فأخذ يتأمل سيرة حياته كلها ,منذ الطفولة الباكرة وحتى هذه اللحظة ,التي يمضي فيها كنبي طريد شريد ..كان يتأمل المستقبل ,وعلى مخيلته تتواتر الصور والأحداث كوقائع مجسمة .. كل شيء ينهض الآن في داخله بوضوح...
طرح ود بندة جسمه المنهك ,على الأرض ونام ..لم يستيقظ إلا قبيل منتصف الليل بقليل ,فتذكر دقاش الذي مضى يتفقد مكان لقاءه بتابع أبي خيرة ,فداخلته الوساوس والشكوك..وحدثته نفسه أن عدم حضوره حتى هذه اللحظة ,سيحول دون عبوره إلى دار الريح ليلا..وظل هكذا منهوبا ,منتهب الأفكار ,إلى أن سمع قبل الفجر بساعة, وقع أقدام تبين فيها خطى دقاش...
"أعلم أنك تحبين برنسيس آن ولن تغادريها إلى أي مكان.لذا سأظل أبحث عنك هنا في هذه البلدة .هنا في مقام حنينك..لا أدري كيف تجردت عن ذاتك, وهربت بقلب تمزقه الوحشة"..
كان يناجيها من الضفة الأخرى للبكموك ,وكانت بدورها على الضفة الأخرى تناجيه ..فلا يريان سوى الأخيلة ,وظليهما اللذان يلقيان بنفسيهما ,على المدى الرحيب الذي يفصل برينسس آن عن بكموك ...
لم يتمكن دقاش من العثور على تابع الشيخ أبو خيرة ,في المكان المحدد ..كانا قريبين جدا من بلدة عامرة بالناس,فأختبأا بين الصخور, إلى أن حل الظلام ,فسارا مسافة طويلة تبعدهما عن البلدة ,ثم توقفا بعد أن نال منهما التعب والبرد,ليختارا فراغا بين تلين صخريين متجاورين ,أضافا إليه أحجارا ,بحيث أصبح كالغرفة المغلقة من كل الإتجاهات ..دخل فيه ود بندة حاشرا جسمه حشرا ,بينما مضى دقاش يبحث مرة أخرى عن تابع أبي خيرة...
حفر ود بندة حفرة عميقة في مغارته ,تمكنه من مد ظهره,وما أن أراح جسمه ,حتى تدفقت الذكريات مرة أخرى ,كأنها تطارده بمراراتها وخذلاناتها ..كان قد عقد العزم في كل الأحوال ,على العبور إلى دار الريح هذه الليلة ,سواء وجد دقاش تابع أبو خيرة أو لم يجده ,فرغم كل شيء كان ثمة ثقة وأمل بلا حدود, يملآنه ويحشدان داخله كل الطاقات ,التي نمتها تجاربه الثرة لعشرات السنوات...
ربما يراها هنا في هذا الزحام ..تخللت نظراته أكداس البشر..ربما يراها هنا في هذا الزحام, بين المصطافات على شاطيء(أوشن سيتي) ..ربما هي تلك التي في ثياب البحر الزرقاء ..لا , ربما هي هذه التي ترتدي المايوه البرتقالي ..كان يبحث في الأماكن ,التي لا يتوقعها فيها بالذات..بنظراته العجولة ,التي تحمل آلاف التساؤلات..نفض عن ثيابه حبات الرمل ,ومضي يزرع شاطيء الأطلسي الرهيب جيئة و ذهابا...
ثمة وجه بين الزحام ..وجه كوجهها ,نظر إليه بسرعة وأشاح ..سار يتبع الوجه ببطء ,غارقا في ملامح وجه غلوريا المتنائية ..حالما شعر بنفسه يقترب من الوجه ,كان الوجه قد إختفى في قلب الزحام ..
ربما غطست في الماء ..ربما.. كان قلبه ينتفض بشدة خلف حجب "التخلي" ,والإختفاء المباغت ,يطل وجهها كنداء غامض لغريق في بحر متلاطم...لا يدري لماذا لا يشعر تجاهها سوى بالحب وحسرة الفقدان ..دون أدنى إحساس بالحقد..يفترقان دون ضغينة أو غبن ..مضت إلى حال سبيلها ,تحمل جزء من كيانه معها ,لم تترك خلفها سوى ذكريات حبيبة إلى النفس ..
مع غلوريا, ورغم كل شيء, كان كمن يولد كل يوم من جديد ..كان يولد في كل شيء : في زخات المطر ,التي تسيل على زجاج النافذة ..في أصص زهور الشرفة التي أعتادت سقياها ..في تماثيل الشقة التي أعادت توزيعها كما تهوى ..في الضوء الحلمي الذي يبقيانه وحده,بعد أن يطفئآ جميع الأنوار..كان يتوحد مع روح غلوريا, المتوحدة في كل شيء ,فيشعر بنفسه كعصفور يحلق في المدى اللانهائي لحياتهما .. غلوريا هي هذا المدى الذي يحلق فيه ...
إنتظر عودة دقاش عبثا ..كانت الشمس قد غربت, وبدأ الليل في الدخول متمهلا ,فبدأت تساوره الشكوك : لابد أن خبر هروبه قد ملأ دار صباح ,وما تاخمها من دارالريح, وليس كما تصورا..لابد أن عيون أبي هلال قد أمسكت بدقاش...
وهكذا قرر ود بندة مواصلة الهرب وحده ,فسار في إتجاه الصعيد المتحدر إلى دار الريح ,في ظلام دامس, تزيد حلكته ما في مخيلته من وساوس وظنون ..ولم يتوقف عن السير إلى أن لاح نور الفجر..كان وحده وأفكاره المشتعلة ونور الشمس...
غلوريا..هذا الجرح الغائر داخله..ضمدته ..سيجته بإكسير حبها ..أحتملت مزاجه العصبي كثيرا "أولم يحتملها هو الآخر..أولم يحتمل رعونتها وجنونها..لماذا تركته ومضت.."...
إحتملا بعضهما كزوجين ,نبتت بينهما المغفرة..نبتة خضراء مزهرة ,لم يكفا عن رعايتها ..لم يتركاها تذبل ..لكنها مضت ..مضت دون أن تقول لماذا ..هكذا فجأة تحمل أفكارها وتمضي ..تحمل مشاعرها وتمضي..تحمل دالي الصغير وتمضي..ربما ليس دالي ,أهو سحابة حمراء أخرى أم جلابي صغير..لا يدري..الكلس لم يعد يدري..كل ما يعرفه أنها مضت تحمل شيئا من ذاته المنهوبة...
بغروب الشمس ,كان قد توغل في حدود دار الريح ,فتأكدت له النجاة ,ولم يعد يخشى شيئا..
إنحرف بجمله إلى اتجاه الشمس ,وغذ في المسير على القيزان, وبين الوديان الرملية والتلال الصخرية ..سار على تلك الحال يخب بجمله الأرض, زمنا لا يعرف مداه ..تشرق الشمس وتغيب ,فيستريح في مكان هو أرض قردود أحيانا,وحينا رمل ,وأغلب الأحيان غابة مبعثرة الأشجار,يبقى هنا وهناك زمنا قد يطول أو يقصر ..كان قد استعاد حيوية البرية التي فقدها منذ دخلت حجب النور عالمه, فقذفت به إلى عالم أبي هلال ..هذه الحيوية المستردة ,ساعدته على البقاء حيا في هذه الأماكن الموحشة ,بل يشعر الآن بالأُلفة مع كل ما حوله ,لا يؤرقه شيء سوى أن يجد مارتجلو..الشلال..مملكة العزلة ...
إنها الغربة ..هذا السوس ..هذه الأرضة بخطاها التي تزحف وئيدا وئيدا ,تتسلل دمه ,تنخر نخاعه فيستحيل ..هو الكلس.. إلى شيء عتيق ,كمخطوطاته ..شيء رث كهذه المدونات, التي تنضح بعوالم بائسة..عطنة كرائحة الشعراء,كرائحة التاريخ ,كرائحةهذه الكتب التي تضج بأحوال الناس والمكان, دون وقار ,دون خصوصية,دون حماية للأسرار ,التي شكلت الإنهيارات المتتالية و المدوية,للناس والأماكن, وتحولات الحجر والشجر ..يتجلى الضمير الإنساني كسيل عات, يجرف كل شيء بعيدا بعيدا,فيلوح في أفق هذا الهلاك المريع ,أن كل شيء يوشك على التلاشي, في ذمة التاريخ...
عند غروب الشمس وقف عند مدخل الدغل ..كان لفح الريح القاسي يتبدد أمام إحساسه بالإنعتاق, عن عوالم أبي هلال الملأى بالخيالات المرعبة والكوابيس..الآن يغادر عالم أبي هلال الضبابي,إلى غير رجعة ..
غادر مدخل الدغل وهو يستنشق هواء الوادي بعمق,وسار منحدرا مع وادي دوماية ,دون توقف ,متخللا المنحدرات التي تنهض على جانبيها أشجار القمبيل ,والقنا وصندل الردوم...
تفقد ود بندة الوادي ,فرآه خلوا من الناس ,فأسرع ليروي ظمأه من المشيش ..أنزل السرج عن الجمل وتركه يرعى في الوادي ..مد جسمه تحت شجرة قمبيل طاعنة في السن ..كان يتبع حدسه,يخالجه شعور خفي بالوصول, إلى محطته الأخيرة..والشعور بإسترداده حريته يتنامى ..نام ..عند غروب الشمس أفاق على حركة حوله ..كان شخصا بوجه أليف, يقف فوقه يتفرس فيه أثناء نومه..نهض ..تبادلا التحية.قال الرجل :
- ليس من عادتنا في الشلال سؤال الغريب ..تبدو كالخارج للتو من متاهة عظيمة؟
فحكي له ودبندة عن متاهة دارصباح ,فلم يبد عليه أنه سمع بأبي هلال ودولته من قبل ,إذ إكتفى بالقول:
- أنت في أمان الآن ,كل من يدخل الشلال فهو آمن..أنا أبوشوك وهذا مرين حفيدي ..وأنت الآن ضيفا علينا.
وللمرة الأولى يلحظ ود بندة الصّبي الصّغير الذي بصحبة الرجل ,والذي كان قد إختبأ خلف فروع القمبيلة ,فلم يبن سوى وجهه..
مضى ثلاثتهم في طريق جبلية خلف أدغال القمبيل ,أفضت بهم إلى درب بدى أنه نادرا ما يتعرض لخطى السابلة..إنتهى بهم الدرب إلى حيث يخيم أبو شوك وحفيده..
.. - هذا المكان إسمه "شوف العين" ,وهو متاخم للشلال ..أحب الصيد فيه
قال أبو شوك,وهو يجمع لدايات الحجارة ,ويضع عليها الأعواد الجافة,ثم أخذ يحك أحد أعواد الأندراب بحجر صوان,مشعلا النار ..ثم أسرع بعد ذلك بإحضار أرنبين ودجاجة وادي ,يبدو أنه كان قد اصطادهم وجهزهم قبل أن يعثر على ود بندة..
قضيا سحابة ذلك اليوم يتسامران حول دار صباح, ودار الريح ووقائع أحداث ما جرى لود بندة ,وأحوال الناس والمكان في دار الريح ,وهذا المكان "شوف العين" ...
برينسس آن- ميريلاند
2008 - 2009
تعليق