
غريب عسقلاني
تداعيات عند عتبة الكلام..
"قراءة موازية لرواية ممرات الانتظار.. شوق حارق, للكاتبة ازدهار الأنصاري"
في روايتها ممرات الانتظار.. شوق حارق.. تقف ازدهار الأنصاري طويلا أمام مراياها الداخلية, تناجي المرأة الأخرى الساكنة فيها, وتمارس البوح في ذروة النزف, لا تملك غير الصدق الصافي دونما رتوش أو أصباغ.. عارية أمام ذاتها مع بطلة روايتها أحلام/ الراوي العليم تارة, والمحايد الراصد تارة أخرى.. تتداعى بعفوية محسوبة, وتقف عند بوابات البوح, حذرة مثل قطة تكتشف الظلام من حولها مرة, متدفقة مرات مثل شل الهادر, متماهية مع واقعها في مدينتها بغداد المدمرة.. تعيش الموت تلو الموت, تحترق وتنهض من رمادها كما العنقاء وتطير نحو الشمس.. تقتفي اثر حبيب لاح في حياتها عند هجعة موت وأخذها إلى الحياة من جديد, فتحيا به, ولأجله وتعيد اكتشاف ذاتها على مرايا من فضة خالصة!!
ازدهار الأنصاري المرأة/الشاعرة, تلوذ بلغة هامسة, وتعترف بجرأة حارقة مثل دموعها التي تفيض على جوانب التجربة مثل نهر متدفق, فتنطلي الحالة على القارئ بين ثلاثة نساء يمارسن الشهيق والزفير في آن واحد, وتضفر من التجربة الشخصية والألم الجمعي وتوترات السياسي الضاغط جديلة تحيل الواقع المعاش إلى واقع فني, وذلك من خلال تداعيات هي الأقرب إلى إنثيالات وتدفقات الخواطر, تعبر بها إلى الحلم بغد آتٍ مع حبيب ظهر فجأة قبل رجفة موت, وهي التي عاشت رحلة طويلة مع مرض عضال ضاعف عمرها ألما وعذابا.. فنراها تهرب من حالها إلى حال مدينتها التي طالها الخراب والموت والاقتتال واضطراب المعايير وتدمي القيم الراسخة التي أسستها حضارات ما بين النهرين..
الحكاية في الرواية ربما تحدث كل يوم وفي أكثر من مكان, ولكن الفن يجعل من العادي اليومي نافذة للوصول إلى أعماق البطلة, فيبدو صدفة صادمة..فالبطلة أحلام وبأعراف المجتمع تتزوج وهي طفلة, قبل أن تعتريها دهشة نضج الأنثى, وقبل أن يمور فيها صهيل الشهوات وضجيج الرغبات.. وعندما تصل إلى ذروة ريعان اليقظة تصبح جدة ولها أحفاد, فتقف أمام ذهول الخسارة والفقد مع جسد عليل أكله المرض وسحب منه بعض أعضاءه, وقذف بها لفترات طويلة على أسرة المشافي, وانتظار نتائج التشخيص والتحليل ووصايا الأطباء, وقرارات العلم الصارمة التي لا تعطي أملا حتى في التداخل الجراحي, في حال حدوثه خارج البلاد وتوفر جمعية إنسانية تتحمل تكاليفه الباهظة!!
هل يتوقف الأمر عند ذلك والأبواب موصدة, والموت يقف على مرمى شهقة غيبوبة طارئة؟؟
لكن أمرا ما يحدث!
كالصدفة يأتي أو الشهاب في ليل مغمس بالعتمة والدموع.. حبيب يتواصل معها من خلال ما تكتب, يلتقط نبضها وينتمي إلى وجعها.. يختزل الجغرافيا ويقبض على الزمن على شاشة الحاسوب أو على أثير الهاتف النقال, ويشحن نبضها بطاقة جديدة, يعطي لحياتها مذاقا آخر..
ذلك الأحمد الذي يقرأها فيقرأ ذاته المنفية داخل وطنه, على بعد آلاف الأميال يعثر على قرينة روحه, بعقله المتوقد, والمحقون في ذات الوقت بأمراض غيرة الرجل الشرقي وشهوة الاستحواذ غير المبرر..
تتداعى بطلة الرواية أحلام مع حالاتها اليومية عاشقة مذعورة من نهاية مؤكدة, ولكنها تؤجل الغياب من اجل حبيبها الذي يحلم بلقاء على ارض الواقع, وهنا يلح السؤال حول الوقت العربي الراهن:
هل للحلم مكان على أرض العرب؟ وكيف يحصل العشاق على فسحة من فرح, في واقع خُربَ بفعل أكثر من فاعل مما كرس القتل من أجل القتل كظاهرة يومية, وكرس الفقد قدرا يتربص..
فهل الغياب بشهوة القتل يوازي الغياب بفعل التداخل الجراحي,, وهل تعكس حالة البطلة أحلام حال المدينة بغداد التي فقدت معالم جمالها..
هل هذا سؤال المؤلفة بعد وشائج ربطت بين حبيبين على بعد, كما يبدو في روايتها الهامسة المراوغة بين السكون والصراخ, أم هو العري أمام مرايا حزينة ترصد جفاف الدموع في المآقي, كما ترصد الذهول لدرجة الغياب عن الوعي!!
في اعتقادي أن ازدهار الأنصاري, تهرب بكامل الوعي لاكتشاف طاقة مخبوءة في القلوب, ترضع من وهج الحب الإنساني السامي, أملا في صياغة الحياة من جديد, وجسر هوة الفراق, وجعل المستحيل ممكن التحقيق...
وهذا ما جعل البطلة أحلام تستجيب لنداء القلب, وترفض مغامرة التداخل الجراحي المحكومة بالفشل, لتعيش حلمها بطاقة جديدة..
فهل في ذلك بعض أمل؟
ربما المخبوء بين ثنايا الرواية التي تبدأ بالنزف وتنتهي بالنزف, ما يفتح بوابات أسئلة أخرى!!
غريب عسقلاني
غزة- فلسطين
1/2/2010
تعليق