محلاج واحد لا يكفي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د/ أحمد الليثي
    مستشار أدبي
    • 23-05-2007
    • 3878

    محلاج واحد لا يكفي

    كَلْـبٌ وَمِحْـلاجٌ


    كَانَ فِي إِحْدَى الْغَابَاتِ كلبٌ هجينٌ، حِينَ يَعْلُو نباحُه يصبحُ أشبهَ بعواءِ الذِّئابِ، وحينَ يبتسمُ يبرزُ نابانِ كأنيابِ الثعالبِ. لا يعرفُ أحدٌ على وجهِ التحديدِ كيفَ تجمعَ فيهِ مِنْ كلِّ خصلةٍ دنيئةٍ طرفٌ، حَتَّى أنَّ حيواناتِ الغابةِ أخذتْ تتناقلُ عنهُ حكاياتٍ نسجتْها خيالاتُ القصَّاصين، أو دسَّتها عليْهِ ضغائنُ الكارهينَ. ومنها ما تصادفَ أنَّهُ حقٌّ صُراحٌ، ولكنَّ تَعَدُّدَ الرواياتِ، وتعارضَ الكثيرِ منها أَضْفَى عليها مِسْحَةً أسطوريةً. وَمِنْ ذَلِكَ أنَّهُ حين وُلد كانتْ إحْدَى عينيهِ مفتوحةً والأُخْرَى مغلقةً، وقبلَ أَن يَّتَمَكَّنَ من الْتِقَامِ ثَدْيِ أمِّه عضَّته حِرْبَاءُ رَقْطَاءُ غرستْ نابَها في قلبِه فحملَ دمُه ريقَها إلى جميعِ جسدِه، وعافتْه أمُّه بعدَ يومٍ وليلةٍ، فامتنعتْ عن إرضاعِه؛ فتحوَّلَ عنها إلى أمِّ خنوصٍ لم يمر على ولادتِها الثانيةِ تسعةُ أيامٍ، ثم إلى أمِّ خنور وُلِدَت في محاقٍ، وحَمَلَتْ في بَدْرٍ، ووَلَدَتْ في خُسُوفٍ. ولكلِّ قصةٍ من تلك القصصِ دِلالَةٌ في عالمِ الحيوانِ. ونشأ الكلبُ قاسيَ القلبِ، داميَ النَّابِ، خبيثَ الطويَّةِ، مُتقلِّبَ المِزاجِ، متلونَ الأخلاقِ، تملؤهُ الشكوكُ والظنونُ، لا يستقرُّ له قرارٌ، في ليلٍ أو نهارٍ. إنْ رضيَ فَعَدُوُّهُ صديقٌ، وإنْ غَضِبَ عَمِيَتْ عيناهُ عن الحقِّ. لا يعرفُ الوفاءَ على غيرِ عادةِ الكلابِ، وينبشُ القبورَ على عادةِ الثعالبِ والذئابِ، ويأكلُ الجيفةَ على عادةِ الضِّبَاعِ، ويصادقُ الأراذلَ على عادةِ أهِلِ الدناءةِ، ويتبعُه الناعقونَ على عادةِ المتسلقِين ومحترفِي النفاقِ، وما أكثرَهم في عالمِ الحيوانِ!

    وجاءتِ الحكاياتُ في فَمِ الغربانِ عما يفعلُه الكلبُ: فمرةً عضَّ رشأً، وأُخْرى نَهَشَ ريمًا، وثالثةً خَمَشَ أرنبةً، ورابعةً نَهَرَ تيسًا، وخامسةً زَجَرَ حَمَلاً، وسادسةً وَلَغَ في سُؤْدُدِ وَرْدٍ، وسابعةً شَتَمَ فَهْدًا، وثامنةً دَاسَ شبوةً، وتاسعةً قَنَصَ عدملةً، وعاشرةً بَالَ على شرغٍ، وفي إحِدَى الليالي نهشَ عسقلةً كانت من قبلُ أثيرةً عندَهُ بَعْدَ أنْ صدَّتْهُ عَنْهَا بَعْدَ تقرُّبٍ مِنْهَا وغوايةٍ. وهكذَا دَوَالَيْك. وكانتْ كلُّ دابةٍ تَتَأَذَّى تجلسُ تندبُ حظَّها في خُفُوتٍ تارةً، وفي عواءٍ ونشيجٍ تارةً أخرى.
    وذاتَ يومٍ سَمِعَ محلاجٌ قصيرُ الذيلِ -نهيقُه أشدُّ من رَفْسِهِ- شكاةَ الدوابِّ؛ فأثارَ ما أَلَمَّ بهاَ في نفسِه نَزْعَةَ عِرْقٍ من سفواءَ في أسلافِه اختلفتِ الأقوالُ في نسبِها وعَقِبِها. فذهبَ إلى الكلبِ في عُقْرِ دارِهِ، وأخذَ ينهقُ كالمطعونِ في شرفِه، فخرجَ له الكلبُ وَزَجَرَهُ بزمجرةٍ واحدةٍ فرَّ منها المحلاجُ لا يَلْوِي على شيءٍ وقد بلَّلَ سَاقَيْهُ، وَخَلَّفَ وراءَهُ أثرًا نَقَلَتْ خبرَهُ رِيحُ العَارِ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ عادَ في مُسوحِ الرُّهْبَانِ وعليه عَباءَةٌ من جِلْدِ حَمَلٍ، ورفعَ على طرفِ عَصَا -كَانَتْ مِنْ قَبْلُ سَاقَ رَأْلٍ- عَلَمًا أبيضَ من ريشِ قُبَّرة وحمامةٍ تركَهُما المحلاجُ تصارعانِ البردَ بعد أن نُّتِفَ ريشُهُمَا، وأخذَ يصيحُ في حيواناتِ الغابةِ في قوةٍ وصلابةٍ إنَّه دَاعِي السَّلامِ، وناشرَ الحبِّ والوئامِ، وإن العفوَ عن الكلابِ والذئابِ، له جزيلُ الثوابِ. وقد حانَ الوقتُ كي تتصافى القلوبُ، وتتلاقى المشاربُ والدروبُ؛ فيمسحُ الأرنبُ على جراحِ الثعلبِ، ويعانقُ الفأرُ العقربَ، ويُطَبِّبُ القِطُّ ما نَكَأَهُ في قلبِ الْكَلْبِ، ويهدلُ الحمامُ، ويرفرفُ اليمامُ حاملاً أغصانَ الزيتونِ وأكاليلَ الغارِ، وتنعقدُ حفلاتُ الانتصارِ على النفوسِ الأمَّارةِ بالسوءِ؛ فالمحبةُ والسلامُ هما الطريقُ إلى الأمامِ، وَلْيَنْسَ الجميعُ الأحقادَ، وَيَدْفِنُوا مخاوفَهم في حَشَا الأكبادِ، وينهضُوا بعد طولِ رُقادٍ وقد غَسَلَ الحبُّ سخيمتَهم، وطهَّر الودُّ أرواحَهم.

    وبيَّنَا بعضُ الحيواناتِ في صدمةٍ وذهولٍ، إذْ رَأَوُا الكلبَ يأتي لاهثًا وقد رَفَعَ رايةً كرايةِ المحلاجِ، ووقفَ في أولِ الصَّفِ ينتظرُ طابورَ المعتذرينَ، ويهزُّ ذيلَه في زَهْوِ الفاتحينَ.
    فخرجتْ جوزلٌ بعدَ أنْ رأتْ غيابَ المستجيبينَ، وقالتْ للمحلاجِ: "لَوْلا أَنَّكَ حِمَاٌر، لقلتُ إنَّكَ تيْسٌ!"
    وَتَقَدَّمَ في أَثَرِهَا هبعٌ فقالَ للكلبِ والمحلاجِ: "لَيْسَ لَكُمَا عِنْدِي غيرُ الْبَعْرِ."
    فَنَهَرَهُمَا المحلاجُ في خُنُوعٍ وَتَصَنُّعٍ. وكَشَّرَ الكلبُ للجوزلِ عن أنيابِه، ثم استدارَ للمحلاجِ، وقالَ لَهُ في خَيْبَةِ أملٍ وغيظِ قلُبٍ: "لَمْ يكنْ هذا ما اتَّفَقْنَا عليهِ!"
    فوضعَ المحلاجُ ذيلَه بين رِجْلَيْه، وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ، وَلِسَانُ حَالِهِ يَقُولُ: "يا لكَ من أبْلَهٍ! هلْ كنتَ تتوقعُ المعجزاتِ من محلاجٍ؟!"
    ثم بَرَزَ لِلْكَلْبِ كُمَيْتٌ، وقالَ لَهُ: "ما أنتَ إلا كلبٌ غَرَّهُ حمارٌ." ثمَّ تمثَّلَ: "ضَلَّ مَنْ كَانتِ الْعِمْيَانُ تَهْدِيهِ."
    فزمجرَ الكلبُ ثانيةً، وَمَضَى وَهُوَ يَلْهَثُ ويُزْبِدُ بعدَ أنْ مَرَشَ المحلاجَ في دُبُرِهِ، وهُوَ يقولُ: "سَتَرَوْنَ بَأْسِي، وَسَتَسْمَعُونَ عُوَائِي، مَا بَقِيَ فِيَّ عِرْقٌ يَنْبُضُ."
    فَقَالَ المحلاجُ: "خَلَقَنِي رَبِّي حِمَارًا، وَالآنَ عَرَفْتُ السَّبَبَ."

    وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَدْرَكَ الْكَلْبُ -وَكُلُّ كَلْبٍ بَعْدَهُ- أَنَّ مِحْلاَجًا واحِدًا لاَ يَكْفِي -حَتَّى فِي عَالَمِ الدَّوابِ- لِتَحْقِيقِ السِّيَادَةِ الِّتِي تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مِحْلاَجٍ، يُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ دَوْرًا إِلَى حِينٍ، يُمَهِّدُ بِهِ لِلْكَلْبِ طَرِيقَهُ، وَحِينَ يَبْلُغُ كلُّ مِحْلاَجٍ قَنْطَرَتَهُ يَتَنَحَّى لِيَحِلَّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ. وَلِذَا لاَ تَعْجَبْ حِينَ تَرَى الْكِلاَبَ الْهُجْنَ فِي صُحْبَةِ الْمَحَالِيجِ.
    د. أحمد الليثي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    ATI
    www.atinternational.org

    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.
    *****
    فعِش للخيرِ ، إنَّ الخيرَ أبقى ... و ذكرُ اللهِ أَدْعَى بانشغالِـي.
  • أحمد أبوزيد
    أديب وكاتب
    • 23-02-2010
    • 1617

    #2
    استاذنا الدكتور / أحمد الليثى

    فى البداية كنت أحسبها جزء من كتاب الحيوان لأبن المقفع

    عندما إستخدم عالم الحيوان لكى يتكلم فى السياسة هروباً من الحكم الظالم

    و بعد دخولى أكثر فى القرأة و بأمانة شديدة أعجبتى الفكرة و الأسلوب

    و ما بين السطور ثمار فكر إنسان مبدع

    تحياتى و شكرا
    أحمد أبوزيد

    تعليق

    • د/ أحمد الليثي
      مستشار أدبي
      • 23-05-2007
      • 3878

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة أحمد أبوزيد مشاهدة المشاركة
      استاذنا الدكتور / أحمد الليثى

      فى البداية كنت أحسبها جزء من كتاب الحيوان لأبن المقفع

      عندما إستخدم عالم الحيوان لكى يتكلم فى السياسة هروباً من الحكم الظالم

      و بعد دخولى أكثر فى القرأة و بأمانة شديدة أعجبتى الفكرة و الأسلوب

      و ما بين السطور ثمار فكر إنسان مبدع

      تحياتى و شكرا
      أحمد أبوزيد
      أخي الفاضل الأستاذ أحمد أبو زيد
      شكر الله مرورك وتعليقك. وأضحك سنك؛ فكتاب الحيوان للجاحظ، وكتاب ابن المقفع الذي ترجمه للعربية عن قصص الحيوان هو كليلة ودمنة.

      ولا شك أن استخدام الحيوان وإسقاطه على أنماط معينة من البشر له تاريخ طويل في الأدب في جميع اللغات، وهو بالفعل ضارب في القدم. ومن أشهر الأمثلة حكايات إيسوب اليونانية، وكليلة ودمنة الهندية (؟؟) والعربية، ومزرعة الحيوانات الإنجليزية لجورج أورويل، ومجمع الأحياء للعقاد، وهو من أمتع الكتب التي قرأتها في حياتي حين كنت أحبو في عالم القراءة في المرحلة الإعدادية ... ههههه منذ زمن بعيــــــــــــــــــــــــــــــــــد جدًا لا تكاد نظارتي تبلغه الآن ههههههه.
      دمت في طاعة الله.
      د. أحمد الليثي
      رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
      ATI
      www.atinternational.org

      تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.
      *****
      فعِش للخيرِ ، إنَّ الخيرَ أبقى ... و ذكرُ اللهِ أَدْعَى بانشغالِـي.

      تعليق

      • أحمد أبوزيد
        أديب وكاتب
        • 23-02-2010
        • 1617

        #4

        ما فيش حد قالى إنهم غيروا

        و الله عسل يا دكتور لسه فاكر

        الكلام دة كان فى ثانوى

        تحياتى و تقديرى
        التعديل الأخير تم بواسطة أحمد أبوزيد; الساعة 15-05-2010, 19:34.

        تعليق

        • د/ أحمد الليثي
          مستشار أدبي
          • 23-05-2007
          • 3878

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة أحمد أبوزيد مشاهدة المشاركة

          ما فيش حد قالى إنهم غيروا

          و الله عسل يا دكتور لسه فاكر

          الكلام دة كان فى ثانوى

          تحياتى و تقديرى
          حياك الله أخي الفاضل الأستاذ أحمد.
          د. أحمد الليثي
          رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
          ATI
          www.atinternational.org

          تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.
          *****
          فعِش للخيرِ ، إنَّ الخيرَ أبقى ... و ذكرُ اللهِ أَدْعَى بانشغالِـي.

          تعليق

          • د/ أحمد الليثي
            مستشار أدبي
            • 23-05-2007
            • 3878

            #6
            محلاج: حمار
            رشأ: الظبية الصغيرة أو الغزال الصغير
            ريم: الظبية البيضاء

            وَرْد: الأسد
            شبوة: العقرب
            خنوص: صغير الخنزير
            أم خنور: أنثى الضبع
            عدملة: أنثى الضب
            شرغ: صغير الضفدع
            عسقلة: أنثى الذئب
            محلاج: الحمار
            سفواء : أنثى البغل
            رأل: صغير النعامة
            قُبَّرة : البلبل
            جوزل : صغير الحمام
            هبع : صغير الجمل
            كُمَيْت: الأسد
            شكاةَ : شكوى
            د. أحمد الليثي
            رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
            ATI
            www.atinternational.org

            تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.
            *****
            فعِش للخيرِ ، إنَّ الخيرَ أبقى ... و ذكرُ اللهِ أَدْعَى بانشغالِـي.

            تعليق

            يعمل...
            X