بحر المنسرح :قلته في الشعر، ومناقشة رأي الدكتور الطيب حوله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مهند حسن الشاوي
    عضو أساسي
    • 23-10-2009
    • 841

    بحر المنسرح :قلته في الشعر، ومناقشة رأي الدكتور الطيب حوله

    بحر المنسرح :قلته في الشعر، ومناقشة رأي الدكتور الطيب حوله
    بقلم: مهند حسن الشاوي

    [align=right]
    مدخل:
    بحر المنسرح من البحور السباعية التي تنتمي الى دائرة المجتلب التي هي أكثر الدوائر بحوراً، إذ ينفك منها ستة أبحر، منها هذا البحر الجميل.
    وقد سمي المنسرح منسرحاً لسهولته، وقيل: لانسراحه مما يلزم أضرابه وأجناسه؛ وذلك أن مستفعلن متى وقعت ضرباً فلا مانع يمنع من مجيئها على أصلها، ومتى وقعت مستفعلن في ضربه لم تجئ على أصلها لكنها جاءت مطوية. فلانسراحه مما يكون في أشكاله سمي منسرحاً.
    وهو على ستة أجزاء: (مستفعلن مفعولات مستفعلن) مرتين،
    وله ثلاث أعاريض وثلاثة أضرب على ما قاله الخليل.

    الضرب الوحيد المشهور فيه:
    والمشهور منه ما كانت عروضه الأولى مستفعلن سالمة، وضربها مفتعلن مطوي أبداً، ومثاله:

    مستفعلن مفعولات مستفعلن = مستفعلن مفعولات مفتعلن
    مستدركٌ ما قد فات مما مضى = مستغفرٌ عما كان من زللهْ
    كما في قول الشاعر:
    إن ابن زيداً لا زال مستعملاً = للخير يفشي في مصره العرُفا

    أعاريض وأضرب أخرى مختلف فيها:
    وقيل أن له أعاريض وأضرباً أخرى منهوكة هي:
    - العروض الثانية منهوكة موقوفة، والعروض هي الضرب، ومثاله:

    مستفعلن مفعولاتْ
    مستدركٌ ما قد فاتْ
    كما في قول الشاعر:
    صبراً بني عبد الدارْ

    - والعروض الثالثة مكشوفة منهوكة، والعروض هي الضرب، ومثاله:

    مستفعلن مفعولن
    مستدركٌ ما فوّتْ
    كما في قول الشاعر:
    ويلُ امَّ سعدٍ سعدا

    - وقد استعملوا له ضرباً آخر لم يذكره الخليل، ووزنه مفعولن

    مستفعلن مفعولات مستفعلن = مستفعلن مفعولات مفعولن
    مستدركٌ ما قد فات مما مضى = مستغفرٌ عما كان من ذَنْبِهْ
    كما في قول الشاعر:
    ما هيّج الشوق من مطوّقةٍ = قامت على بانةٍ تغنّينا

    - وابتدع الرصافي الشاعر العراقي عروضاً جديدة من المنسرح هي فعْلن على ما قيل واختلف فيها، ومثاله:

    مستفعلن مفعولاتُ فَعْلن = مستفعلن مفعولاتُ فعلن
    مستدركٌ ما قد فات سهواً = مستغفرٌ عما كان أذنبْ
    وذلك في قصيدته:
    سمعت شعراً للعندليبِ = تلاه فوق الغصن الرطيبِ

    زحافاته :
    - يجوز في مستفعلن: الخبن، وهو حذف سينه فيبقى متفعلن فينقل الى (مفاعلن).
    ويجوز فيه الطي وهو حذف فائه فيبقى مستعلن، فينقل الى (مفتعلن)
    ويجوز فيه الخبل، وهو حذف سينه وفائه جميعاً، فيبقى (متعلن) فينقل الى (فعلتن).
    - يجوز في مفعولات: الخبن ، وهو حذف الفاء فيبقى (معولات) فينقل الى (مفاعيل).
    ويجوز فيه: الطي، وهو حذف واوه فيبقى (مفعلات) فينقل الى (فاعلات).
    ويجوز فيه: الخبل، وهو حذف الفاء والواو جميعاً فيبقى (معلات) فينقل الى (فعلات).
    - ويجوز في مفعولات ومفعولن في المنهوك الخبن فيصيران (فعولان) و (فعولن)
    - ادعى بعضهم ان خبن مفعولات قبيح، وكذا خبن مستفعلن في غير العروض والضرب.

    وما يهمنا هنا هو النوع الأول منها؛ فقد اتفقوا فيه واختلفوا في غيره، وجُلَّ ما ورد من الشعر على المنسرح فهو عليه، إن استثنينا قطعة في هذا الضرب وأخرى في غيره من سواه.

    قلة استخدام هذا البحر عند شعراء الجاهلية:
    ولو حاولنا تتبع هذا البحر عند الشعراء الجاهليين لا سيما شعراء المعلقات، لوجدنا أنه بحر مهجور تقريباً كحال غيره من البحور الأخرى فقد أكثر شعراء الجاهلية على بحور لا تتعدى أصابع اليد الواحدة وأهملوا الكتابة في غيرها تقريباً، وأهم تلك البحور التي حازت القدح المعلى عندهم هي البحور الثلاثة: الطويل والوافر والكامل، وأكثر بعضهم مع ذلك على البسيط أو المتقارب، فنجد أن:

    1. امرؤ القيس لم يرو له إلا مقطوعة من 5 أبيات على المنسرح يقول في مطلعها:
    إِنَّ بَني عَوفَ إبتَنوا حَسَباً = ضَيَّعَهُ الدُخلُلونَ إِذ غَدَروا
    في حين أكثر من الشعر على الطويل فقد روي له 19 نصاً، ومن الوافر روي له 6 نصوص.
    2. عنترة العبسي لم يرو له إلا قصيدة واحدة من المنسرح من 15 بيتاً يقول في مطلعها:
    بَردُ نَسيمِ الحِجازِ في السَحَرِ = إِذا أَتاني بِريحِهِ العَطِرِ
    في حين أكثر من الشعر على الوافر فقد روي له 43 نصاً ومن الطويل روي له 39 نصاً، ومن الكامل روي له 32 نصاً.
    3. عمرو بن كلثوم لم يرو له إلا بيتين على المنسرح هما:
    إِن تَسأَلي تَغلِباً وَإِخوَتَهُم = يُنبوكِ أَنّي مِن خَيرِهِم نَسَبا
    أُنمى إِلى الصَيدِ مِن رَبيعَةَ وَالـ = ـأَخيارِ مِنهُم إِن حُصِّلوا نَسَبا
    في حين أكثر من الشعر على الوافر فقد روي له 16 نصاً، ومن الطويل 11 نصاً، ومن الكامل 5 نصوص.
    4. طرفة بن العبد لم يرو له نص واحد على المنسرح، في حين أكثر من الشعر على الطويل فقد روي له 13 نصاً، ومن الكامل 7 نصوص، ومن الرمل 4 نصوص.
    5. زهير بن سلمى لم يرو له إلا قصيدتين على المنسرح الأولى من 12 بيتاً يقول في مطلعها:
    فيمَ لَحَت إِنَّ لَومَها ذُعُرُ = أَحمَيتِ لَوماً كَأَنَّهُ الإِبَرُ
    والثانية من 11 بيتاً يقول في مطلعها:
    وَبَلدَةٍ لا تُرامُ خائِفَةٍ = زَوراءَ مُغبَرَّةٍ جَوانِبُها
    في حين أكثر من الشعر على الطويل فقد روي له 16 نصاً، ومن الوافر 13 نصاً، ومن البسيط والكامل كل منهما 10 نصوص.
    6. لبيد بن ربيعة لم يرو له إلا قصيدتان على المنسرح الأولى من 29 بيتاً يقول في أولها:
    طافَت أُسَيماءُ بِالرِحالِ فَقَد = هَيَّجَ مِنّي خَيالُها طَرَبا
    والأخرى من 14 بيتاً يقول في مطلعها:
    ما إِن تُعَرّي المَنونُ مِن أَحَدِ = لا والِدٍ مُشفِقٍ وَلا وَلَدِ
    في حين أكثر من الشعر على الطويل فقد روي له 36 نصاً، ومن الكامل 22 نصاً، ومن الوافر 21 نصاً، ومن الرجز 19 نصاً.
    7. الحارث بن حلزة اليشكري لم يرو له نص على المنسرح، في حين أكثر من الشعر على الكامل، فقد روي له 6 نصوص، ومن البسيط والخفيف كل منهما 3 نصوص.
    8. النابغة الذبياني لم يرو له نص على المنسرح، في حين أكثر من الشعر على الطويل فقد روي له 28 نصاً، ومن البسيط 18 نصاً، ومن الوافر 16 نصاً، ومن الكامل 10 نصوص.
    9. الأعشى لم يرو له إلا قصيدة واحدة على المنسرح من 24 بيتاً، يقول في مطلعها:
    إِنَّ مَحَلاً وَإِنَّ مُرتَحِلا = وَإِنَّ في السَفرِ ما مَضى مَهَلا
    في حين أكثر من الشعر على الطويل فقد روي له 26 نصاً، ومن الكامل 12 نصاً، ومن المتقارب 10 نصوص.
    10. عبيد بن الأبرص روي له نصان على المنسرح، الأول قصيدة من 12 بيت يقول في مطلعها:
    أَقفَرَ مِن مَيَّةَ الدَوافِعَ مِن = خَبتٍ فَلُبنى فَيحانَ فَالرِجَلُ
    والثاني مقطوعة من 4 أبيات يقول في أولها:
    ما رَعَدَت رَعدَةً وَلا بَرَقَت = لَكِنَّها أُنشِأَت لَنا خَلِقَه
    وأكثر في شعره على الطويل والبسيط والكامل.

    ***

    ولم يرو للشعراء المكثرين في الجاهلية على بحر المنسرح نصٌّ واحد فمن أولئك:
    حاتم الطائي لم يرو له نص على المنسرح، في حين روي له 33 نصاً على الطويل، و6 على البسيط.
    أعشى باهلة كل ما روي له على الطويل وروي له نص واحد على البسيط.
    السليك بن سلكة كل ما روي له على الطويل والوافر.
    الشنفري صاحب لامية العرب لم يرو له على المنسرح في حين روي له على الطويل 21 نصاً.
    المتلمس الضبعي لم يرو له على المنسرح في حين روي له 25 نصاً على الطويل و10 نصوص على الكامل.
    المثقب العبدي لم يرو له على المنسرح في حين روي له على الطويل 9 نصوص، وعلى الوافر 6 نصوص.
    المرقش الأكبر والمرقش الأصغر والمسيب بن علس والخنساء الشاعرة لم يرو لهم على المنسرح.


    أما المهلهل بن ربيعة والذي ينسب إليه تقصيد القصائد فقد اكثر من الكامل فالطويل، ورويت له مقطوعة من 5 أبيات على المنسرح فحسب.

    سبب قلة المنسرح في الشعر الجاهلي:
    أما سبب هوان هذا البحر على الشعراء، فقد يكون لاعتباره من الرجز، كما نقل ابن رشيق ذلك عن الجوهري،(فإن كل بيت مركب من مستفعلن فهو عنده من الرجز طال أو قصر، وكل بيت ركب من مستفعلن فاعلن هو من البسيط طال أو قصر، وعلى هذا القياس سائر المفردات والمركبات عنده)، والجوهري هو الذي بين العروض وأوضحه كما يقول ابن رشيق.
    فإن صح ذلك، وكون الرجز أقل شأناً من القصيد عند القوم؛ فلم يكونوا يطيلون فيه الكلام ولا ينوعون فيه الأغراض، قال أبو عبيدة: إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها، ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء). وقال الجوهري في الصحاح: (والرَجَزُ بالتحريك:ضربٌ من الشعر. وقد رَجَزَ الراجز وارْتَجَزَ. والرَجَزُ أيضاً: داءٌ يصيب الإبلَ في أعجازها فإذا ثارت الناقة ارتعشت فخذاها ساعةً ثم تَنْبَسِطانِ. يقال: بعيرٌ أَرْجَزُ، وقد رَجِزَ،وناقةٌ رَجْزاءُ. قال الشاعر:
    هَمَمْتَ بخيرٍ ثم قَصَّرْتَ دونه = كما ناءت الرَجْزاءُ شُدَّ عقالُها
    ومنه سمِّي الرَجَزُ من الشعر، لتقارب أجزائه وقلَّة حروفه).
    ومما يدل على رفعة القصيد على الرجز، ما رواه الأصفهاني في الأغاني قال: (... فقال جرير لهشام، وكان يتهم ذا الرمة بهجائه التيم وهم إخوة عدي: عليك العبد يعني ذا الرمة. قال: فما أصنع يا أبا حزرة وهو يقول القصيد وأنا أقول الرجز، والرجز لا يقوم للقصيد؟ فلو رفدتني! قال: قل له:
    عجبت لرجلٍ من عديٍّ مشمسٍ = وفي أي يومٍ لم تشمس رحالها
    ... الأبيات.
    قال: فلجَّ الهجاء بين ذي الرمة وهشام. فلما أنشد المرئي هذه الأبيات وسمعها ذو الرمة قال: كذب العبد السوء! ليس هذا الكلام له، هذا كلامٌ نجديٌّ حنظلي، هذا كلام ابن الأتان. قال: ولم يزل ذو الرمة مستعلياً على هشام حتى لقيه جرير فرفده هذه الأبيات).
    وقال أبو العلاء المعري في رسالة الصاهل والشاحج: (ولا ريب أن الرجز أضعف من القصيد، فرؤبة والعجاج أضعف في النظام من جرير، والفرزدق. ومن أقوى ما روى في تضعيف الرجز أن الفرزدق قال: إني لأرى طرقة الرجز فأدعه رغبة عنه. وقال الرجز ثلاثة: فرجل لم يرو عنه غيره، كرؤبة، وهميان بن قحافة وغيرهما. ورجل غلب عليه الرجز وربما جاء بالقصيد، كأبي النجم، والأغلب العجليين. ورجل كان القصيد أغلب عليه وربما جاء بالرجز، كجرير، وذي الرمة. وربما لم يرو عن الشاعر رجز ألبتة مثل زهير، وطفيل الغنوي، وقيس بن الخطيم).

    أقول: فإن صح ذلك عرفنا سبب عدم إيلاء بحر المنسرح تلك الأهمية في إنشادهم الشعر.

    وقد يكون السبب لا في نفس البحر، بل في كون الشعراء أنفسهم لم يكونوا ينشدون إلا على أبحر معينة في ذلك الحين؛ وهي الطويل والوافر والكامل كما قدمنا، مشوباً ذلك ببعض البحور الأخرى كالبسيط والمتقارب والرمل على قلة، وسواها في القليل النادر، ويرجع ذلك إما الى عدم نضج تلك الأوزان في قرائحهم حتى ذلك الحين، مقارنة بالطويل والوافر والكامل، أو لجانب نفسي وهو الذوق العام الذي يتغير بتغير الزمان والمكان والظروف المحيطة من حيث البداوة والتحضر، والغلظة والرقة، والصحارى والمدن، والحاجات الأخرى كالغناء وموسيقية الأذن المتلقية تبعاً لثقافة السامع.
    ومما يؤكد ذلك ما ذكره عبد الجبار البصري في تقسيمه لإيقاع الشعر الحر (التفعيلة) بحسب الزمن حيث بيّن أن كل عشر سنين مما مضى قد ساد بحر على واقع إيقاع هذا النوع من الشعر، فكانت السيادة للعشر الأولى (من 1948- 1958) لبحر الكامل، في حين كانت السيادة للعشر الثانية (1958- 1968) لبحر الرجز، في حين ساد في العشر الثالثة (1968- 1978) بحر المتدارك، وأخيراً كانت السيادة للعشر الرابعة (1978- 1988) للبحور المركبة، مع بيان ظروف كل فترة من هذه الفترات والصراعات الفكرية والتأصيلية التي سادتها.
    ولعل ذلك يلقي الضوء ولو من بعد على واقع الشعر العمودي الذي لا نعرف بداية نشوئه والظروف الذي أحاطته إذا ما قارناه بترادف سيادة هذه البحور في الشعر الحر (التفعيلة)، فالكامل وهو البحر السهل كان من أهم البحور التي شاعت في الشعر الجاهلي مع الطويل والوافر، في حين كان الرجز لا يعتبر وقتئذٍ بنفس تلك الأهمية، بل كان يعتبر في مقام أدنى وكأنه في بداية نشوئه لكونه لم يكن إلا قطعاً، لكن مع مرور الزمن وتغير الظروف والأذواق تطور الرجز على يد العجاج كما قال أبو عبيدة: (إنما كان الشاعر يقول من الرجز البيتين والثلاثة ونحو ذلك، إذا حارب أو شاتم أو فاخر، حتى كان العجاج أول من أطاله وقصده، ونسب فيه، وذكر الديار، واستوقف الركاب عليها، ووصف ما فيها، وبكى على الشباب، ووصف الراحلة، كما فعلت الشعراء بالقصيد فكان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء). وكذا فعل رؤبة ومن جاء بعدهما ليغدو شعراً لائقاً ويوضع في مصاف القصيد وتطورت معه البحور القصيرة - وكذا بحر المنسرح - لتكون المظهر الأوضح في العصر العباسي للشعر لما كان مفضلاً عند المغنين الذين احتلوا مكانة مهمة في البلاط يومها، في حين لم يكن المتدارك شعراً بنظر الخليل، الذي لم يذكره ضمن بحور الشعر، وقد تداركه تلميذه الأخفش، وسار على إهماله الملتزمين بنهج الخليل من أمثال ابن جني وسواه. لكنه غدا في العصور المتأخرة من البحور التي أكثر الشعراء النظم عليها، أما البحور المركبة فهي أشبه الى الموشحات التي ظهرت في العصور المتأخرة والتي يستعمل الشاعر فيها أكثر من بحر كموشحات شعراء المهجر. وهذا مما يعطي المتأمل فكرة واضحة عن تطور الاهتمام بالبحور، وتغير ذلك بحسب الظرف ونضوج الشعر ورسوخه، ويمكن من خلال هذه الدراسة المقارنة الخروج بمعطيات أكثر لو كانت أوسع حول تطور الشعر العمودي مقارنة بالشعر الحر (التفعيلة).

    دعوى ومناقشة:
    ادعى الدكتور عبد الله الطيب في كتابه (المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها) في كلامه حول بحر المنسرح؛ ادعى بأنه بحر يحوي ليناً وتأنثاً وتخنثاً ولوناً جنسياً، قال في ج1 ص175 ط1 دار الفكر بيروت 1970:
    ومع التكسر والرقص والتثني تجد في بحر المنسرح لوناً جنسياً يشبه لون المتقارب المجزوء ...


    ودليله في ذلك المواضيع التي وردت ضمن إطاره في العصر الجاهلي، قال:

    وإذا بحثت في الشعر الجاهلي لم تجد المنسرحيات فيه تخرج عن أحد غرضيين: الرثاء المراد به النوح، والنقائض. ولا يخفى على القارئ أن الرثاء إذا أريد به النوح حوى عنصراً قوياً من التأنث واللين، كيف لا والنوح إنما تقوم به النساء، ولا شك أنهن كن يتخذن منه معرضاً للفتنة والتبرج، أليس الربيع بن يزيد العيسي من الأوائل يقول:
    مَن كان مَسْرُوراً بمَقْتَلِ مالِكٍ = فَلْيَأتِ نِسْوَتَنا بوَجْهِ نَهارِ
    يَجِدِ النِّساءَ حَواسِراً يَنْدُبْنَهُ = بالصُّبْحِ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأَسْحارِ
    قد كُنَّ يَخْبَأْنَ الوُجُوهَ تَسَتُّراً = فاليومَ حينَ بَدَوْنَ للنُّظَّارِ
    ... وقد ألمعنا عما بين المناقضات والزفن الجنسي من قرابة، في كلامنا عن المنسرح القصير ... ونضيف هنا أنه لا يستبعد أن كثيراً من المناقضات كانت تدفع الجواري لينشدنها ويرقصن عليها... هذا والكلمات المنسرحيات التي تخرج عن الرثاء كما وصفناه، وعن المناقضات قلة نادرة، وليست ببعيدة الصلة - إن تأملناها - عن أحد هذين الغرضين.
    والذي يقرأ هذا الكلام يجده غريباً جداً، فما علاقة بحر من البحور بمثل هذه الأمور من التخنث وألوان الجنس، وإنما البحور أطر تستفرغ فيها المعاني ضمن التراكيب اللفظية وما تعبر عنه، وتبقى تلك المعاني تابعة لشخصية الشاعر وغرضه إن كان خليعاً أو رجلاً فاضلاً.
    ونحن يمكن أن نناقش كلام الدكتور الطيب الذي نجده يطلق كثيراً من الأحكام في كتابه هذا دون دقة في البحث والتحليل، من عدة جهات:

    الجهة الأولى: إنكار وجود علاقة بين الرثاء المراد به النوح كما عبر، والتعرض للفتنة والتبرج:
    فالمرأة التي تفقد عزيزاً هي أبعد ما تكون والحال هذه عن الاهتمام بمظهرها أو إرادة التفات المعجبين إليها، حيث تكون والهة القلب، منكسرة النفس، فاقدة للشعور، وقد يؤدي بها المصاب الى الجنون في بعض الحالات: كما روي عن زوجة عبيد الله بن عباس حين قتل بسر بن أرطاة ولديها الصغيرين، يقول في الأغاني: (فأصاب أم حكيم بنت قارظ ولهٌ على ابنيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في المواسم، تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:
    يا من أحس بنيي اللذين همـــا = كالدرتين تشظى عنهما الصدف
    يا من أحس بنيي اللذين همـــا = سمعي وقلبي، فقلبي اليوم مختطف
    يا من أحس بنيي اللذين همـــا = مخ العظام فمخى اليوم مزدهف
    نبئت بسراً وما صدقت ما زعموا = من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
    أنحى على ودجي إبنيّ مرهــفةً = مشحوذة وكذاك الإثم يقترف
    حتى لقيت رجالاً من أرومتــه = شم الأنوف لهم في قومهم شرف
    فالآن لاعن بسراً حق لعنتــه = هذا لعمر أبي بسرٍ هو السرف
    من دل والهـــةً حرى مدلهة = على صبيين ضلا إذ هوى السلف)
    ثم إن النساء عند النوح يخمشن وجوههن مما يؤدي الى تشوهها، فكيف والحال هذه توصف المرأة بالتبرج والافتتان. ومما يدل على ذلك الأبيات التي استشهد بها الدكتور الطيب، وما أغفله منها؛ لا سيما البيت بعد هذه القطعة والتي يقول فيها الربيع:
    يخمشن حرات الوجوه على امرئٍ = سهلِ الخليقة طيب الأخبارِ

    وقد ذكر هذه الأبيات المفضل الضبي في الأمثال معلقاً عليها مبيناً أن في قوله هذا كناية عن التهديد وإرادة طلب الثأر، قال:
    نامَ الخليُّ ، وما أغمِّــضُ حـارِ = من سيِّءِ النبأ الجليل الساري
    من مثله تمسي النساء حواســراً = وتقوم معولة مع الأسحار
    من كان مسروراً بمقتل مــالك = فليأت نسوتنا بوجه نهار
    معناه أنه إذا نظر إلى النساء وما يصنعن لمقتل مالك علم أن رهطه لا يقرون لذلك حتى يدركوا لثأرهم
    يجد النساء حواسـراً يندبــنه = يضربن أوجههن بالأسحار
    قد كن يخبأن الوجوه تستــراً = فالآن حين بدون للنظار
    يخمشن حرات الوجوه على امرىء = سهل الخليقة طيب الأخبار

    وقال المرزوقي في شرح هذه الأبيات مبيناً دلالتها على شرف هؤلاء النسوة وأنهن ربات خدور، وأن إظهار جزعهن على هذه الحال لا يدفع الناظر لهن الى النظر بريبة، قال في شرح ديوان الحماسة:
    (يصفهن بأنهن ابتذلن أنفسهن للمصيبة وقد كان من قبل ستر الصيانة مسبلاً عليهن، لا يظهرن المعاري من الوجوه وسائر الأعضاء لأحد من الناس، لتسترهن وارتفاع محالهن ومناصبهن عن التبرز والتبرج، إذ كن بيضات خدور وربات حجال وستور. وقوله فاليوم قد أبرزن للنظار يريد الوجوه. وهن وإن رمين قناعهن، وأظهرن محياهن فإن أحداً لا يطمع في الدنو منهن، والنظر إليهن، فيخرج إلى حد المنكر. وقوله يضربن حر وجوههن على فتى يريد ما ينلن من أنفسهن بالضرب والإهانة، إجلالاً للرزيئة، وافتداء للمرثى).

    أقول: ومن يضربن حر وجوههن وينلن من أنفسهن بالضرب والإهانة، كيف يتصور منهن التبرج. فهذا أبعد ما يكون لما أومأ إليه الدكتور الطيب وما فهمه.

    وقد ظلم الدكتور الطيبُ الربيعَ هذا في شعره وأظهره وكأنه ديوث يصف للناس تبرج نسائه، دون أن يتبيّن واقع حاله، في حين أن الربيع كان رجلاً غيوراً على سمعته ويدعى الكامل لرجاحة عقله، قال أبو الفرج الإصفهاني في الأغاني: (هو الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان ... وأمه فاطمة بنت الخرشب،... وهي إحدى المنجبات، كان يقال لبنيها الكملة، وهم:الربيع، وعمارة، وأنس. وروى أنه قد ضاف فاطمة أمه ضيف، فطرحت عليه شملة من خز وهي مسك كما هي، فلما وجد رائحتها واعتم دنا منها، فصاحت به، فكف عنها، ثم إنه تحرك أيضاً فأرادها عن نفسها، فصاحت، فكف، ثم إنه لم يصبر فواثبها فبطشت به، فإذا هي من أشد الناس، فقبضت عليه ثم صاحت: يا قيس، فأتاها، فقالت: إن هذا أرادني عن نفسي، فما ترى فيه؟ فقال: أخي أكبر مني، فعليك به، فنادت: يا أنس، فأتاها، فقالت: إن هذا أرادني عن نفسي فما ترى فيه؟ فقال لها: أخي أكبر مني فسليه، فنادت: يا عمارة، فأتاها فذكرت ذلك له، فقال لها: السيف، وأراد قتله، فقالت له: يا بني، لو دعونا أخاك فهو أكبر منك، فدعت الربيع، فذكرت ذلك له، فقال: أفتطيعونني يا بني زياد؟ قالوا: نعم، قال: فلا تزنّوا أمكم، ولا تقتلوا ضيفكم، وخلوه يذهب، فذهب).
    وقد مدحه حاتم الطائي قائلاً:
    بنو جنيّةٍ ولدت سيــوفاً = قواطع كلهم ذكر صنيع
    وجارتهم حصان لم تزنّى = وطاغمة الشتاء فما تجوع
    شرى ودي ومكرمتي جميعاً = طوال زمانه مني الربيع
    وقال سلمة ابن الخرشب خالهم فيهم يخاطب قوماً منهم أرادوا حربه:
    أتيتم إلينا ترجفون جماعة = فأين أبو قيس وأين ربيع!
    وذاك ابن أخت زانه ثوب خاله = وأعمامه الأعمام وهو نزيع
    رفيق بداء الحرب طب بصعبها = إذا شئت رأي القوم فهو جميع
    عطوف على المولى ثقيل على العدا = أصم عن العوراء وهو سميع
    وقد روي أن أمه فاطمة هذه قد قتلت نفسها خوفاً من أن يقولوا فيها ما يجلب العار على بنيها في حادثة معروفة. فكيف يمكن أن يتصور في حقه أن يقول ذلك، أو أن نسوته يتبرجن ويتخلعن في مقتل أحد ذويهن.

    الجهة الثانية: في بيان عدم ارتباط الرثاء والنقائض ببحر المنسرح:
    ويمكن إثبات ذلك بطريقين:

    الأول: النظر الى كثرة هذين الغرضين عند الشعراء وعلى أي البحور أكثروا منهما:
    فإننا لو رجعنا الى أشهر الشعراء المكثرين ممن عرف بالرثاء الذي يصاحب الندب لوقعنا على الخنساء الشاعرة.
    روى أبو الفرج الإصفهاني في الأغاني قال: (قال حسّان بن ثابت: جئت نابغة بني ذبيان، فوجدت الخنساء بنت عمرو حين قامت من عنده، فأنشدته؛ فقال: إنّك لشاعرٌ، وإنّ أخت بني سليم لبكّاءة).
    وقال الحصري القيرواني في زهر الآداب: (قال أبو زيد: ... والخنساء أذهب في عمود الرثاء. قال المبرد: كانت الخنساءُ وليلى الأخيلية في أشعارهما متقدمتين لأكثر الفحول، وقلّما رأيت امرأةً تتقدّم في صناعة، وإن قلّ ذلك، فالجملة ما قال الله تعالى: (أَوَ مَنْ يُنَشَأُ في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ). ومن أحسن المراثي ما خلط فيه مدحٌ بتفجّعٍ على المرثي، فإذا وقع ذلك بكلام صحيح، ولَهْجَة معربة، ونظام غير متفاوت، فهو الغاية من كلام المخلوقين. واعلمْ أنّ من أجَلّ الكلام قولُ الخنساء:
    يا صَخْرُ ورّاد ماءٍ قد تناذَرَه = أهْلُ المياهِ فما في ورْدِه عَارُ
    مَشْيَ السَّبَنْتَى إلى هَيْجَاء مُعْضلةٍ = لها سِلاَحَان: أنيابٌ وأظفارُ
    وما عجولٌ على بَوٍّ تُطِيفُ بهِ = لها حنينان: إعلانٌ وإسرارُ
    ترتع في غفلة حتى إذا ادَّكرَتْ = فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
    يوماً بأَوْجَع مني حين فارقني = صَخْرٌ، وللعيش إحْلاءٌ، وإمْرَارُ
    لم تَرَهُ جارةٌ يمْشِي بساحتها = لريبةٍ حين يُخْلِي بيتَه الجارُ
    قال: ومن كامل قولها:
    فلولا كثرةُ الباكِين حولي = على إخوانهم لقتَلْتُ نَفْسِي
    وما يبكون مثلَ أَخي، ولَكِنْ = أُسَلِّي النفسَ عنه بالتأَسِّي
    يذكّرُنىِ طلوعُ الشمسِ صَخْراً = وأَذْكُره لكلِّ غروبِ شمس
    يعني أنَّها تذكره أول النهار للغارة، ووقت المغيب للأضياف.
    .... وقالت الخنساء:
    وقائلةٍ والنعش قد فات خطوها = لتدركه: يا لَهفَ نفسي على صَخْرِ
    ألا ثكلتْ أُمُّ الذين غَدَوْا بهِ = إلى القبر! ماذا يَحْمِلُونَ إلى القبر؟!
    وماذا يُوَارِي القبرُ تحت ترابهِ = من الجود يا بُؤْسَ الحوادثِ والدهر
    فشأْنُ المنايا إذا أصابكَ رَيْبُها = لتغدو على الفِتْيَانِ بعدك أو تَسْرِي
    وهذا المعنى كثير قد مرّت منه قطعة جيدة، ولم تزل الخنساء تبكي على أخويها صخرٍ ومعاوية، حتى أدركت الإسلام؛ فأقبل بها بنو عمّها وهي عجوز كبيرة إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذه الخنساء، وقد قرّحت آماقَها من البكاء في الجاهلية والإِسلام، فلو نَهَيْتَهَا لرجونا أن تنتهي، فقال لها عمر رضي الله تعالى عنه: اتّقي الله وأيقني بالموت، قالت: أبكي أبي وخَيْرَ بني مضر صخراً ومعاوية، وإنّي لموقِنَة بالموت، قال: أتبكِين عليهم وقد صاروا جَمْرَة فىِ النار؟ قالت: ذلك أشدّ لبكائي عليهم! فرقَّ لها عمر وقال: خلّوا عن عجوزكم لا أبا لكم! فكل امرئ يبكي شَجْوَهُ، ونام الْخَليُّ عن بكاء الشجي).

    أقول: إنك إن نظرت الى ما استشهد به من شعرها هنا في أروع ما قيل في المراثي ، لوجدت الأول منه على البسيط، والثاني على الوافر، والثالث على الطويل، فإن وافقنا الدكتور الطيب على أن الرثاء الذي فيه نوح يدل على التأنث والجنس، كانت هذه الأبحر أولى من غيرها في هذا، مع أن الدكتور الطيب اعتبر الطويل والبسيط
    أطولا بحور الشعر العربي وأعظمها أبهة وجلالة، وإليهما يعمد أصحاب الرصانة

    وهو على هذا يخالف التخنث واللين اللذين اعتبرهما من صفات الرثاء.

    ثم أن الخنساء لم يرو لها على كثرة شعرها في الرثاء نص واحد على المنسرح، في حين أكثرت من الطويل فالبسيط فالوافر فالكامل في رثائها لأخوتها. ولو صح كلامه لأنشدت عليه ولو أبياتٍ قليلة فضلاً عن الإكثار منه.

    وكذا لو بحثنا في النقائض فمن أشهر الشعراء المكثرين ممن عرف بشعر النقائض هم جرير والفرزدق والأخطل، وجرير أقدرهم ومع ذلك لم يرو له على المنسرح نص واحد في هذا الفن، بل لم يرو له على المنسرح إلا ثلاثة أبيات في الوقوف على الطلل، أولها:
    يا دارُ أَقوَت بِجانِبِ اللَبَبِ = بَينَ تِلاعِ العَقيقِ فَالكُثُبِ
    بل أشهر شعره في ذلك على الوافر، وهي قصيدته التي يقول في مطلعها:
    أَقِلّي اللَومَ عاذِلَ وَالعِتابا = وَقولي إِن أَصَبتُ لَقَد أَصابا
    قال أبو هلال العسكري في ديوان المعاني: (قالوا: أهجى بيت قالته العرب قول جرير:
    فغضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ = فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا).
    وذكره النويري في نهاية الأرب.
    أما الفرزدق والأخطل فلم يرو لهما نص واحد على المنسرح،
    قال ابن رشيق في العمدة: (ويقال: إن أهجى بيت قاله شاعر قول الأخطل في بني يربوع رهط جرير:
    قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم = قالوا لأمهم: بولي على النار
    لأنه قد جمع فيه ضروباً من الهجاء: فنسبهم إلى البخل بوقود النار لئلا يهتدي بها الضيفان، ثم البخل بإيقادها إلى السائرين والسابلة، ورماهم بالبخل بالحطب، وأخبر عن قلتها وأن بولة تطفئها، وجعلها بولة عجوز، وهي أقل من بولة الشابة، ووصفهم بامتهان أمهم وابتذالها في مثل هذه الحال، يدل بذلك على العقوق والاستخفاف، وعلى أن لا خادم لهم، وأخبر في أضعاف ذلك ببخلهم بالماء).

    أقول: وقد أكثر هؤلاء الثلاثة على الطويل فالوافر فالبسيط في شعرهم ونقائضهم. والبيت كما هو ظاهر على البسيط. ولو كان ما ادعاه الدكتور الطيب صحيحاً، لأتى واحدهم بقصيدة واحدة على الأقل على المنسرح فضلاً عن أن يكثروا من قرض الشعر على المنسرح نظراً لمناسبته لهذه الأغراض على ما ادعى.

    الثاني: النظر الى الأغراض التي قيل الشعر فيها على المنسرح:
    ولو تتبعنا الشعر الذي قيل على المنسرح في العصر الجاهلي على قلته لوجدناه كغيره من البحور صيغ لمختلف الأغراض من غزل وفخر ومدح وهجاء ورثاء وحكمة واعتذار، دون أن يختص بغرض من الأغراض على ما ادعى الدكتور الطيب، فأما الرثاء والهجاء فقد كفانا الطيب عن ذكر شواهدهما بما أورد من نصوص في كتابه.

    وأما الغزل فمن أعذب ذلك قول عنترة العبسي:
    بَردُ نَسيمِ الحِجازِ في السَحَرِ = إِذا أَتاني بِريحِهِ العَطِرِ
    أَلَذُّ عِندي مِمّا حَوَتهُ يَدي = مِنَ اللَآلي وَالمالِ وَالبِدَرِ
    وَمُلكُ كِسرى لا أَشتَهيهِ إِذا = ما غابَ وَجهُ الحَبيبِ عَن نَظَري
    والتي يقول فيها من الحماسة:
    يا عَبلَ كَم فِتنَةٍ بُليتُ بِها = وَخُضتُها بِالمُهَنَّدِ الذَكَرِ
    وَالخَيلُ سودُ الوُجوهِ كالِحَةٌ = تَخوضُ بَحرَ الهَلاكِ وَالخَطَرِ

    ومما قيل في الفخر قول عمرو بن كلثوم:
    إِن تَسـأَلي تَغلِبـاً وَإِخوَتَـهُم = يُنبوكِ أَنّي مِن خَيرِهِم نَسَبا
    أُنمى إِلى الصَيدِ مِن رَبيعَةَ وَالـ = ـأَخيارِ مِنهُم إِن حُصِّلوا نَسَبا
    وقول أحيحة بن الجلاح:
    نَحنُ المَراجيعُ في مَجالِسِنا = قِدماً وَنَحنُ المَصالِتُ الصُبرُ
    الضارِبو الكَبشَ في قَوانِسِهِ = وَحَولَهُ في الكَتيبَةِ الوَزَرُ
    وَالمُطعِمو الشَحمَ في الجِفانِ إِذا = هَبَّت رِياحُ الشِتاءِ وَالفَزَرُ
    إِنّيَ وَالمِشعَرُ الحَرامُ وَما = حَجَّت قُرَيشُ لَهُ وَما نَحَروا
    لا آخُذُ الخُطَّةَ الدَنيَةَ ما = دامَ يُرى مِن تَضارُعٍ حِجرُ

    ومما قيل في الاعتذار اعتذارية عدي بن زيد للنعمان ذكر بعض منها في الأغاني واعتبرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء من غرره:
    لم أر مثل الفتيان في غبن الـ = ـأيام ينسون ما عواقبها
    ينسون إخوانهم ومصرعهم = وكيف تعتاقهم مخالبها
    ماذا ترجى النفوس من طلب = الخير وحب الحياة كاربها
    تظن أن لن يصيبها عنت الـ = ـدهر وريب المنون صائبها

    ومن أروع ما قيل في الحكمة قول الأضبط بن قريع واعتبرها الثعالبي من أمير شعره:
    لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمومِ سَعَه = وَالمُسيُ وَالصُبحُ لا فَلاحَ مَعَه
    ما بالُ مَن سَرَّهُ مُصابُكَ لا = يَملِكُ شَيئاً مِن أَمرِهِ وَزَعَه
    أَذودُ عَن حَوضِهِ وَيَدفَعُني = يا قَومِ مَن عاذِري مِنَ الخُدَعَه
    حَتّى إِذا ما اِنجَلَت عَمايَتُهُ = أَقبَلَ يَلحى وَغَيُّهُ فَجَعَه
    قَد يَجمَعُ المالَ غَيرُ آكِلِهِ = وَيَأكُلُ المالَ غَيرُ مَن جَمَعَه
    وَيَقطَعُ الثَوبَ غَيرُ لا بِسِهِ = وَيَلبِسُ الثَوبَ غَيرُ مَن قَطَعَه
    فَاِقبَل مِنَ الدَهرِ ما أَتاكَ بِهِ = مَن قَرَّ عَيناً بَعَيشِهِ نَفَعَه
    وَصِل حِبالَ البَعيدِ إِن وَصَلَ الـ = ـحَبلَ وَاِقصِ القَريبَ إِن قَطَعَه
    وَلا تُهينَ الفَقيرَ عَلَّكَ أَن = تَركَعَ يَوماً وَالدَهرُ قَد رَفَعَه

    وقد مدح أبو طالب ولديه علياً وجعفراً حين عضدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحمايته وهو يصلي، بأبيات على المنسرح ذكرها أبو هلال في الأوائل، قال:
    إِنَّ عَلِيّاً وَجَعفَراً ثِقَتي = عِندَ اِحتِدامِ الأُمورِ وَالكُرَبِ
    أَراهُما عُرضَةَ اللِقاءِ إِذا = سامَيتُ أَو أَنتَمي إِلى حَسَبِ
    لا تَخذُلا وَاِنصُرا اِبنَ عَمِّكُما = أَخي لِأُمّي مِن بَينِهِم وَأَبي
    وَاللَهِ لا أَخذُلُ النَبِيَّ وَلا = يَخذُلهُ مِن بَنِيَّ ذو حَسَبِ

    هذا ومما يناسب ذكره هنا - وإن لم يكن في الجاهلية لكنه قريب عهد بها - أنه قد نسب الى الإمام علي كرم الله وجهه كثير من شعر الحكمة على بحر المنسرح، من ذلك قوله:
    أَدَّبتُ نَفسي فَما وَجَدتُ لَها = بِغَيرِ تَقوى الإِلهِ مِن أَدَبِ
    في كُلِّ حالاتِها وَإِن قَصُرَت = أَفضَلُ مِن صَمتِها عَلى الكَربِ
    وَغَيبَةُ الناسِ إِنَّ غَيبَتَهُم = حَرَّمَها ذو الَجَلال في الكُتُبِ
    إِن كانَ مِن فِضَّةٍ كَلامُكِ يا = نَفسُ فَإِنَّ السُكوتَ مِن ذَهَبِ
    ومنه:
    إِن عَضَّكَ الدَهرُ فَاِنتَظِر فَرَجاً = فَإِنَّهُ نازِلٌ بِمُنتَظِرِه
    أَو مَسَّكَ الضُرُّ أَو بُليتَ بِهِ = فَاِصبِر فَإِنَّ الرَخاءَ في أَثَرِه
    كَم مِن مُعانٍ عَلى تَهَوُّرِهِ = وَمُبتَلٍ ما يَنامُ مِن حَذَرِه
    وَآمِنٍ في عَشاءِ لَيلَتِهِ = دَبَّ إِلَيهِ البَلاءُ في سَحَرِه
    مَن مارَسَ الدَهرَ ذَمَّ صُحبَتَهُ = وَنالَ مِن صَفوِهِ وَمِن كَدَرِه
    ومنه:
    كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَباً = يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النَسَبِ
    فَلَيسَ يُغني الحَسيبُ نِسبَتَهُ = بِلا لِسانٍ لَهُ وَلا أَدَبِ
    إِنَّ الفَتى مَن يُقولُ ها أَنا ذا = لَيسَ الفَتى مَن يُقولُ كانَ أَبي
    وغيرها مما نسب إليه، وهو بنفسه كاشف عن خطل القول بنسبة التخنث واللون الجنسي لهذا البحر، وكاشف عن أن البحر لا يعدو أن يكون إطاراً تفرغ فيه المعاني بحسب الألفاظ وشخصية الشاعر وليس له خصوصية بنفسه في ذلك. والله العالم.


    ----------------------
    المصادر:
    1. الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
    2. الأمثال للمفضل الضبي
    3. الأوائل لأبي هلال العسكري
    4. ديوان المعاني لأبي هلال العسكري
    5. رسالة الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري
    6. زهر الآداب وثمر الألباب للحصري القيرواني
    7. شرح ديوان الحماسة للمرزوقي
    8. الشعر والشعراء لابن قتيبة
    9. الصحاح للجوهري
    10. العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق القيرواني
    11. فضاء البيت الشعري لعبد الجبار البصري
    12. فن التقطيع الشعري والقافية لصفاء خلوصي
    13. الكافي في العروض والقوافي للخطيب التبريزي
    14. المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها لعبد الله الطيب
    15. ميزان الذهب في صناعة شعر العرب لأحمد الهاشمي
    16. نهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويري
    17. يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر لأبي منصور الثعالبي
    واستفدنا من الشبكة العنكبوتية في دراسة دواوين الشعراء وإحصاء ما أمكننا مما ورد فيها من أبيات للشعراء من حيث البحور.

    [/align]
    التعديل الأخير تم بواسطة مهند حسن الشاوي; الساعة 21-05-2010, 10:33.
    [CENTER][SIZE=6][FONT=Traditional Arabic][COLOR=purple][B]" رُبَّ مَفْتُوْنٍ بِحُسْنِ القَوْلِ فِيْهِ "[/B][/COLOR][/FONT][/SIZE][/CENTER]
  • د. وسام البكري
    أديب وكاتب
    • 21-03-2008
    • 2866

    #2
    أهلاً وسهلاً بالأستاذ الكريمة مهند حسن الشاوي وبموضوعه الحواري النقدي القيّم والجميل.
    آملين التفاعل معه.
    ودمتم موفّقين.
    د. وسام البكري

    تعليق

    • عبدالرحمن جيلاني
      عضو الملتقى
      • 10-02-2010
      • 45

      #3
      عظيم أيها الأستاذ الكريم ، لك جزيل الشكر على هذا المقال الرائع ، كم أنت ركن مهم في بناء هذا الملتقى ، شكرا مرة أخرى ، ستكون لي محاولة على المنسرح عما قريب

      تعليق

      • عبدالرحمن جيلاني
        عضو الملتقى
        • 10-02-2010
        • 45

        #4
        سيد العربية وخادمها في آن واحد الأستاذ مهند الشاوي لك جزيل الشكر على هذا الموضوع والدراسة المعمقة للمنسرح لقد أفدتنا وأجدت لك امتناني

        تعليق

        • مهند حسن الشاوي
          عضو أساسي
          • 23-10-2009
          • 841

          #5
          المشاركة الأصلية بواسطة د. وسام البكري مشاهدة المشاركة
          أهلاً وسهلاً بالأستاذ الكريم مهند حسن الشاوي وبموضوعه الحواري النقدي القيّم والجميل.

          آملين التفاعل معه.

          ودمتم موفّقين.
          الأستاذ الكريم د. وسام البكري
          أشكر لك هذا التفاعل البناء
          دمت بحفظ الله
          [CENTER][SIZE=6][FONT=Traditional Arabic][COLOR=purple][B]" رُبَّ مَفْتُوْنٍ بِحُسْنِ القَوْلِ فِيْهِ "[/B][/COLOR][/FONT][/SIZE][/CENTER]

          تعليق

          • مهند حسن الشاوي
            عضو أساسي
            • 23-10-2009
            • 841

            #6
            المشاركة الأصلية بواسطة عبدالرحمن جيلاني مشاهدة المشاركة
            عظيم أيها الأستاذ الكريم ، لك جزيل الشكر على هذا المقال الرائع ، كم أنت ركن مهم في بناء هذا الملتقى ، شكرا مرة أخرى ، ستكون لي محاولة على المنسرح عما قريب
            الأخ الأستاذ عبد الرحمن جيلاني
            أهلاً بك ومرحباً، يشرفني حضورك، وأعتز بكلماتك الجميلة المعبرة
            لا أنسى أنك كنت سبباً في كتابة هذه الدراسة لأنها كانت نزولاً لطلب منك
            لذا فالفضل بعد الله تعالى يعود لك أيضاً لما أثرته عندي من إلفات للكتابة عن هذا البحر الجميل
            ولعل مثل هذه المواضيع يقل المتخصصون فيها لذا لا نجد من يناقش مثل هذه الأمور هنا
            وأنا بانتظار أن أقرأ لك شعراً على هذا البحر الرائع
            تقبل صادق الود والاحترام
            [CENTER][SIZE=6][FONT=Traditional Arabic][COLOR=purple][B]" رُبَّ مَفْتُوْنٍ بِحُسْنِ القَوْلِ فِيْهِ "[/B][/COLOR][/FONT][/SIZE][/CENTER]

            تعليق

            يعمل...
            X