رسالة حي بن يقظان لابن طفيل
مقاربة لتاريخ النص
ــــ 1 ـــــ
القصد من هذا العرض تقديم مساهمة في دراسة تاريخ نص ابن طفيل الفلسفي اليتيم حي بن يقظان، لاعتقادنا انه لم يعد من الممكن تقديم نشرة نقدية لنص دون المرور بتاريخ النص أو بعبارة الأستاذ المحقق أحمد شوقي بنبين " لا تحقيق بدون تاريخ للنص"، يتأسس هذا الطرح على الأبحاث المعاصرة في تاريخ النص التي تهتم بانتقال النصوص ونقلها عبر الزمان والمكان، في هذا النقل يفقد النص براءته الأصلية لأن كل ناسخ وكل قارئ وكل شارح وكل مترجم يساهم كل على حدة في تشويه النص بقصد أو غير قصد، ويجب على المحقق أن يأخذ بعين الاعتبار هذه "التشويهات" لكي يرجع النص إلى صفائه الأول ما وسعه ذلك، فالسؤال الأكبر الذي يواجه المحقق هو كيف نمر من الأخطاء التي لم يكن من الممكن تجنبها في النص للاقتراب ما أمكن ذلك من النص الأصلي وفهم كيف عاش هذا النص بعد ذلك وكيف تكيف مع جمهوره المتعدد، فتاريخ النص هو الطريق الافضل بل الاسهل للوصول إلى نتائج قوية في مجال نقد النصوص.
حقا إن منطق تاريخ النص هو غير منطق تحقيق النص لكن لتاريخ النص دور هام في ضبط النص ونشره نشرة نقدية، ومادام الهدف الذي نرومه من تعاملنا مع نص ابن طفيل هو إخراج نشرة نقدية له كما بينا ذلك في مقالتنا : كيف أخرج الناشرون رسالة حي بن يقظان لابن طفيل والمنشور في العدد من مجلة مدارات فلسفية التي تصدرها الجمعية المغربية الفلسفية، فإننا نسلك هنا مسلك البحث في تاريخ نص ابن طفيل نهيئ أرضية علمية لإنجاز نشرة نقدية تستوفي ما وسعها ذلك شروط التحقيق العلمي,
نسارع إلى القول أولا إنه ليس من اليسير القيام بتاريخ نص من النصوص فهذا الأمر جزء من عملية طويلة يجب أن تقوم في مختبر علمي يساهم فيها الكوديكلوجي لمعرفة كيفية الإنتاج المادي للنص والفيلولوجي والباليوغرافي لقراءة الخط ووضع تاريخ للكتابة وتحديد مكانها ثم مؤرخ النص لكي يستخلص من المقارنة بين مختلف نسخ الكتاب الواحد ظروف ميلاده وتطوره وانتشاره وغير ذلك من المقاربات الضرورية لعملية القيام بتاريخ للنص متكامل، لكننا هاهنا سنحاول تقديم مساهمة أولية في هذا المجال إلى أن تتاح فرص اخرى لتعميق البحث في الموضوع.
تاريخ نص حي بن يقظان أو أركيولوجيا النص يبدآ من تاريخ إنشاءه إلى قراءته إلى ترجمته إلى تأويله إلى تشويهه إلى حفظه، فلماذا أنشا ابن طفيل هذا النص؟ وكيف انتقل هذا النص عبر العصور حتى وصلنا اليوم؟ وما هي الإمكانات التي تقدمها لها كتب النص المخطوطة اليوم لتقديم تاريخ للنص؟
تلكم هي الهموم التي سترافقنا في هذا العرض والتي سنحاول تقديم أجوبة مقتضبة عنهما في هذا العرض من خلال جمل؟
1 ـ حي بن يقظان في سياقة التاريخي ـ الثقافي
لا يمكن فصل نص ابن طفيل عن الإصلاح الموحدي الذي جاء به ابن تومرت كما لا يمكن فصله عن الفضاء الثقافي العام والفلسفي الخاص الذي كان يتنفس فيه نخبة العصر؛ فقد جاء الموحدون بمنهج "ارتفع عن حضيض المقلدين، وانحط عن تشغيب المتكلمين ونبه الخواص إلى وجوب النظر التام في أصل الشريعة" كما يقول ابن رشد في فصل المقال، وأكدوا متأثرين بالمذهب الشعري أن أول الواجبات النظر وأن العقل هو الطريق إلى التوحيد مع فتح الباب لكتب ابي حامد الغزالي التي أحدثت ثورة معرفية في الأندلس في مجالات الفقه والفلسفة والتصوف، وكل ذلك انعكس على نص ابن طفيل الذي عاش فترة طويلة من عمره في ظل خليفة جمع بين النظر الشرعي والنظر الفلسفي اقصد يوسف بن عبد المؤمن، ولنا حول علاقة ابن طفيل بهذا الرجل سواء عندما كان أميرا أو عندما أصبح خليفة فرضية فصلنا القول فيها في كتابنا "مع ابن طفيل في تجربته الفلسفية"، وكنا قد أكدنا أن نص ابن طفيل كتب لهذا الخليفة، لكن ما يدفعنا اليوم إلى مراجعة هذه الفرضية هو دلالة حضور الخليقة يعقوب المنصور جنازة ابن طفيل فضلا عن المنحى الصوفي لهذا الخليفة وهو ما نعتبره قرينتين على أن حظوة ابن طفيل عند هذا الخليفة سببها انه كان تلميذا لابن طفيل كما كان أبوه من قبل، لكن أباه كان ذا نزوع أرسطي وهو ما جعله قريبا من ابن رشد أما ابن طفيل فكان ذا نزوع سينوي ـ غزالي وهو ما جعله قريبا من يعقوب، ولعل رسالة ابن طفيل كتبت للأمير يعقوب بن يوسف قدم له فيها خلاصة الفلسفة العربية الإسلامية ونبهه فيها إلى أن الفلسفية الأرسطية ما هي إلا محطة من المحطات الفلسفية وان المحطة المأمولة والمنشودة هي محطة الفلسفة المشرقية كما تجلت عند الاتجاه الغزالي ـ السينوي، وأن من أراد الكمال الإنساني فعليه أن يطلبه في التأمل والانخلاع عن ربقة الماديات على جميع المستويات حتى تنفتح له أسرار المعرفة الإشراقية. لقد تحددت رسالة ابن طفيل في بدايتها سواء في مقدمتها أو في خاتمتها حيث يعلن ابن طفيل مقاصده من النص،باعتباره نصا للهداية، ولعل هذه الصفة هي التي سترافق النص طوال مساره وانتقاله كما سنرى,.
2 ــ انتقال النص :
يرتبط انتقال النصوص عادة بالتلاميذ أو الحكام لكن يبدو أن ابن طفيل لم يترك تلاميذ يعتنون بنصه وينقلونه أو أن هؤلاء التلاميذ لا يعرفون، لكن لعل الفضل في نقل النص يرجع أولا إلى أسرة ابن طفيل حيث نجد ابنه يحيى يقدم نصوصا للمراكشي كما يصرح بذلك صاحب المعجب وحفيده يحيى يقدم نصوصا لابن رشيد السبتي في القرن الثامن، ولذا عرف النص وصاحبه عند صاحب المعجب الذي يعتبر اقرب المؤرخين زمانا إلى ابن طفيل هذا إذا استثنيا ابن صاحب الصلاة معاصر ابن طفيل الذي يذكر ابن طفيل دون رسالته، وفي القرن الثامن نجد ابن خلدون يتحدث عن رسالة ابن طفيل في المقدمة ويلخصها أما الشُّشتَري تلميذ ابن سبعين فيذكر ابن طفيل في قصيدته كأصل من الأصول التي متح منا ابن سبعين أما في القرن الثامن الهجري فنجد ابن الخطيب في كتابه روضة التعريف يعرف الرسالة ويَنْسُبها إلى صاحبها مع عرض ملخص لها أما صاحب النفح فينفرد بعرض رسالة أدبية في وصف ابن طفيل للمصحف العثماني ويسكت عن حي بن يقظان.
يبدو أنه منذ القرن الثامن الهجري لم يعد هناك ذكر لابن طفيل ولا لرسالته في العالم الإسلامي كما سيصمت الدهر عن كثير من رواد المعرفة الإسلامية ومصنفاتهم البديعة إلى حدود القرن التاسع عشر حيث ستظهر سنة 1882م نشرتان لابن طفيل في مصر عن دار الوطن ودار وادي النيل ثم بعد خمسين عاما ستظهر نسخة أخرى في مصر لتتوالى النسخ بعد ذالك في القرن العشرين مع نشرة أحمد أمين المصرية ونشرة جميل صليبا وكامل عياد السورية...
أما في العالم الغربي فنجد احتفاء كبيرا لابن طفيل في الفضاء العبري أولا ثم بعد ذلك في الفضاء اللاتيني ثانيا، حيث نجد رشديا عبريا هو موسى النربوني يحتفي احتفاء كبيرا برسالة ابن طفيل ويقوم بشرحها ويعتقد الأستاذ شحلان أن إبراهيم بن عِزرة هو المترجم المفترض للنص، مؤكدا أن "أعمال موسى النربوني هي الخيط الواصل بين حي بن يقظان وغيرها من الأعمال الأوروبية"ص249 يعني إلى بوكوك لكن ما القول في شخصية إيطالية فلسفية عاشت في القرن الخامس عشر الميلادي تدعىJean Pic de la Mirandole وقد كان أفلوطينيا ويحترم أرسطو ويرغب في الجمع بينهما وكان قارئا للفلسفة العربية ويرجح أنه عثر على الترجمة العبرية لحي بن يقظان وكان أول من ترجمها إلى اللاتينية لكن حي بن يقظان لن يعرف حظه السعيد في الغرب اللاتيني إلا عندما سيترجمه بوكوك الابن في سنة 1671 إلى اللاتينية عن مخطوط البودليانا بأكسفورد، ونشرها تحت عنوان الفيلسوف المعلم نفسه، واطلع عليها في نفس السنة التي ترجمت الفيلسوف الهولندي لا يبنتز وأثنى عليها ثناء حسنا لتشكل بعد ذلك جزءا من العقلية الأوروربية إذا نحن صدقنا أصداها وتأثيرها في الأدب اللاتيني مع دانييل دوفو والكريتكون وفي فلاسفة كبار من امثال لز واسبينوزا وروسو وكنط وكار ماركس...دون أن ننس طائفة الكويكرز وتقريض رينان وقد نتج عن هذا الاهتمام الغربي بابن طفيل أهم نشرة لحي بن يقظان في القرن العشرين على يد مستشرق فرنسي عرف بولعه بابن طفيل يدعى ليون غوتييه وهي النشرة التي أخرجها في ثلاثينات القرن العشرين عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت بعد نشرته البدائية كما سماها في أوائل القرن، و هي نشرة قوبلت على 3 مخطوطات وعلى الطبعات المصرية وكذا على نشرة بوكوك ويمكن اعتبارها أول نشرة نقدية للنص وعنها بدأت أولى ترجمات حي بن يقظان إلى اللغات الأجنبية، وفي نشرته الأولى كان غوتييه قد أبرز إعجابه برسالة حي بن يقظان إعجابا معبرا عن اندهاشه بهذا الوسط الذي وجد فيه نفسه؛ وسط فيزياء أرسطية متجذرة في صوفية متعالية ونظرات فلكية وجغرافية وفزيلوجية وفلسفية ذات طابع معاصر، وكذا الدور الاجتماعي للأديان الوضعية وعلاقة الرموز بالحقيقة الميتافزيقية مبديا إعجابه بوضوح الأسلوب والفنية التي استطاع من خلالها المؤلف أن ينفتح على تطور فلسفي مترابط في كل أجزائه ومؤسس على اعتبارات ذات طابع علمي، ويبدي غوتييه تعاطفه الكبير مع شخصية ابن طفيل الذي كان يذيق الموحدين حساسية متوحد هندي حريص على رعاية بذور النباتات، يتجنب تحطيمها ويطلب لها الغذاء. لقد اشتد إعجاب غوتييه بنص ابن طفيل فاعتبره نصا جذابا وعميقا وذو درجة عالية من الإلهام حيث عمل المؤلف على الجمع بين السلطة والعقل؛ علم الكلام الإسلامي والعقل الحر، الجمع ببين الإيمان البسيط والصوفية المتعالية.
هذه باختصار شديد مخل رسم لمعالم مسار طويل لنص تعرض لتعديلات أثناء نقله وتأويلات مختلفة لنصوصه نريد ان نعرض لها لتتضح لنا أكثر البصمات التي تركته عملية انتقال النص ونقله.
3 ــ معالم "تشويه"!!
وسنحاول انطلاقا من المخطوطات التي عايناها للنص ومن خلال القراءات التي اطلعنا عليها أن نقدم معالم كبرى لهذا "التشويه" الذي لحق النص، لعل أول عملية لهذا التشويه نجدها تمتد إلى زمن قريب من ابن طفيل سواء في القرن السابع أو في القرن الثامن الهجريين وهو التشويه الذي سيؤثر على تأويل النص، فالمراكشي كان يتوفر على نسختين من نص حي بن يقظان كما حقق ذلك ليون غوتتيه مما سبب له خطا اعتقاد أن لابن طفيل رسالتين رسالة حي بن يقظان ورسالة في النفس في حين أن الأمر كان يتعلق بكتاب واحد، فكيف ساهم الكتاب المخطوط لابن طفيل في خطإ المراكشي في تحديد النص؟وما السبب في أن نص ابن طفيل أصبح منذ فترات وجوده الأول يعاني سوء في التحديد كما سيصبح يعاني سوء النسبة؟
تختلف المخطوطات التي بين أيدينا في نسبة النص وفي عنوانه، فنجد بعضها يُنْسب إلى ابن طفيل وبعضها ينسب إلى ابن سينا وبعضها ينسب إلى ابن سبعين، فما دلالة هذا الاختلاف في النسبة؟
منذ القرن الثامن من الهجرة أو للهجرة نجد ابن خلدون ينسُب النص إلى ابن سينا وعلى مخطوط الجزائر نجد العنوان التالي "المراقي الزلفى والمورد الأصفى للعالم أبي بكر بن سينا" .....فهل كان هذا هو المخطوط الذي اطلع عليه ابن خلدون فغلطه وكان سببا في خطإ النسبة في مخطوطات أخرى مثل مخطوط إبراهيم سمعان ، والغريب أن نفس الخطأ سيقع فيه الناشران المصريان سواء نشرة وادي النيل أو نشرة دار الوطن حيث سينسبان معا النص لان سينا، لكن قبل ذلك في القرن السابع الهجري نسبت قصة حي بن يقظان إلى ابن سبعين، وإذا كان مفهوما أن يقع خطأ في نسبة النص إلى ابن سينا لوجود نصين يحملان نفس الاسم عند الفيلسوفين فضلا عن شهرة الشيخ الرئيس فإن نسبة هذا النص لابن سبعين يطرح صعوبة على الدارس كما نجد على مخطوط ليدن ومخطوط القاهرة، فما سبب نسبة النص إلى ابن سبعين؟ لقد كان ابن طفيل من المصادر التي رجع إليها ابن سبعين كما يذكر الششتَري تلميذ ابن سبعين عند إسناده الطريقة السبعينية في قصيدته النونية فيذكر ابن طفيل إلى جانب ابن قسي وهرمس وسقراط وأفلاطون وأرسطو والحلاج والشبلي والنفري وقضيب البان والشوذي والسهروردي وابن مسرة وابن سينا والطوسي وابن رشد وأبي مدين وابن عربي وابن الفارض والحَرَالِّي، فهل نسب ناسخ جاهل رسالة ابن طفيل إلى ابن سبعين عندما وجدها بين أوراقه؟
لكن أليس هذا ذا دلالة على تقارب المشاريع الثلاثة وخروجها من مشكاة واحدة؟
ذلك ما تؤكده أيضا اختلاف عناوين الرسالة فإذا كان ابن طفيل واضحا في اختياره لعنوانه عندما قال في آخر مقدمته الفلسفية : "فأنا واصف لك قصة حي بن يقظان وآسال وسالامان" فإن بعضا من الكتب المخطوطة التي بين أيدينا تحمل عناوين مختلفة حيث نجد في مخطوط الجزائر كما رأينا "المراقي الزلفى والمورد الأصفى للعالم أبي بكر بن سينا""، و"أسرار الحكمة المشرقية كتاب أسرار الحكمة المشرقية تأليف الشيخ الفقيه الفاضل قطب الوجود عبد الحق بن سبعين رحمة الله وتعالى وجميع المسلمين" في مخطوط القاهرة" و"رسالة حي بن يقظان في أسرار الحكمة المشرقية للحسين بن عبد الله بن سينا أبو علي" في مخطوط إبراهيم سمعان، وفي مخطوط دار الكتب المصرية نجد "مرقاة الزلفى والمشرب الأصفى" وفي مخطوط ليدن نجد "كتاب أسرار الحكمة المشرقية تأليف الشيخ الفقيه العالم القطب الوجود عبد الحق بن سبعين رحمة الله تعالى وجميع المسلمين" ولا نجد العنوان كما اختاره ابن طفيل لرسالته إلا في مخطوط البودليان حيث نجد "رسالة حي بن يقظان وآسال وسلامان" تأليف الإمام العارف الواصل المحقق ابي جعفر ابن طفيل رحمه الله تعالى عليه" وهو ما يؤكد القرابة بين المشاريع الثلاثة في أذهان النساخ، هذا إذا افترضنا نساخا لهم علم بما يكتبون، بل إن مخطوط الإسكوريال عرف لوقت طويل أنه كتاب للنفس لابن طفيل بسبب الخطأ الذي وقع له في العنوان..
4 ــ "تغييرات" في المخطوطات
إن هذا التشويه الذي عرفه الكتاب المخطوط لابن طفيل سواء على مستوى النسبة أو على مستوى العنوان رافقه بعض التغييرات التي عرفتها مختلف هذه الكتب المخطوطة للنص، حيث نجد بين بعضها فروقات وإن لم تكن عميقة لكنها تقدم دلالات مهمة في فهم النص وبالتالي في نشرته النقدية المأمولة؟
فبالنسبة للكتب المخطوطة التي بين أيدينا نجدنا أمام كتب تسقط منها خطبة الكتاب وكتب تثبتها، ونجدنا أمام كتب تسقط فيا الإشارة إلى المسعودي كما في مخطوط الجزائر، بل إن هناك كتبا تثبت اسم الجنيد وكتب يسقط منها ونحن نعلم ما للجنيد من دلالة وحضور سواء على مستوى ما سُمِّي بالتصوف السني أو على مستوى التصوف المغربي بخاصة، فضلا عن تغييرات في بعض الكلمات بعضها قد يكون من قبيل الخطأ الذي يقع فيه النسّاخ أو من قبيل الجهل لكن ما نلاحظه في بعض هذه التغييرات هو انه رغم ببساطة التغييرات فإن دلالتها كبرى خاصة أن ابن طفيل لم يكن كاتبا عاديا فقد كان الرجل بليغا ويضع الكلمات في مواضعها ، أسرد أولا بعضا من هذه التغييرات :
الشريعة المحمدية أم الشريعة الحقيقية
النور الأعلى أم نور الحق
الحديث عن الجنيد في الكتب المخطوطة للبوديان والمتحف البريطاني وإبراهيم سمعان ومخطوط دمشق وغيابه في الكتب المخطوطة للجزائر وأنقرة وحاسّي محمود والإسكوريال وليدن وسقوطه منها..
وكذا سقوط الترضية على الفلاسفة في بعض النسخ ..
إننا نعتبر هذه التغييرات ذات دلالة كبرى في تلقي النص وكان الأمر يتعلق بنوعين من التلقي : تلقي يريد ربط النص بفضائه الثقافي الإسلامي فيشير إلى الجنيد في نهاية القسم النظري من الرسالة وبداية القسم العملي للتأكيد على أن فضاء الرسالة لا يخرج عن التصوف السني ووضع الرسالة في الإطار الصوفي المغربي الذي تنتهي أسانيده إلى الجنيد "شيخ الصوفية وإمامهم" كما تقول بعض مخطوطات الرسالة، وتلقي كوني يريد أن يمنح النص بعدا كونيا، وهو ما نجده أيضا في مخطوطي القاهرة وليدن حيث نجد عبارة مدرجة ذات دلالة عميقة في هذا السياق كلمة مدرجة بين عبارة زيادة الوضوح والانبلاج وعبارة اللذة العظيمة هذه الكلمة هي الإشراق حيث تصبح الجملة هكذا :"زيادة الوضوح والانبلاج والإشراق واللذة العظيمة" وهو ضرب من التأكيد على المنحى الإشراقي الكوني للرسالة الفلسفية، وفي تقديري أن هذا التلقي الثاني هو المقصود من النص وهو ما يؤكده حديث ابن طفيل في أواخر النص عندما تحدث عن مجتمع سالامان فهو عندما تحدث عن الدين لم يشر إلى دين مخصوص وإنما تحدث عن "ملة من الملل الصحيحة المأخوذة عن بعض الأنبياء المتقدمين" ولعل ابن طفيل كان يشعر أنه يوجه النص من خلال متلقي محلي إلى متلقي كوني وهو ما يبرزه أكثر فزعه إلى الرمز في كل شيء حتى في مثل هذه المواضع. لكن مع ذلك يظل النص يطرح إشكالات عميقة تثيرها بعض الاختيارات مما يطرح السؤال : هل فعلا كان النساخ يحرصون على التأكيد على الطابع المحلي للنص فيضيفون إليه كل مرة إضافات تربطه بالتداول العربي الإسلامي أو بمذهب الناسخ إذا كان له معتقد ينتصر له...
فرضية نثيرها ونضعها على مائدة الحوار.
[للحديث صلة]
تعليق