أطلال الماضي / نادية البريني
انكفأت على نفسي داخل غرفتي.غاصت عيناي في كلّ ركن من أركانها تقرآن قصّة أمسي.تشابكت السّطور مع غمرة الدّموع التّي فاضت على وجنتيّ فتعطّلت قدرتي على متابعة حروف ماضيّ.
حاولت تهدئة روحي المكدودة لكنّني كنت أخدعها.أبواب الحزن لا يمكن أن توارب بعد اليوم.
أحسست بثقل جسدي الذّي أعلن عصيانه لي فلم يطاوعني في التّسلّل إلى الخارج.أصرّت الغرفة أيضا على رهني داخلها.منذ انفتحت على الحياة وجدت نفسي بين أحضانها،تحاورت مع جدرانها،ألفت كلّ أركانها،توحّدت روحي مع بنيانها.
غرقت في بحر هواجس أخرجني منها صوت أمّي.تحاملت على نفسي فكفكفت دموعي ونهضت.ما كان لي أن أضاعف حزنها حتّى وإن كنت أرى الغرفة تحتضر وتحتضر معها قصّة عشقي لها.
شرعت في جمع أغراضي داخل حقائب احتوت أيضا حبل الوريد الذي انقطع بيني وبين مرتع صبايا.حملت بعضها إلى الخارج فوجدت أثاث
بيتنا قد تكدّس و كأنّه يعلن احتجاجه على ما حلّ به ويئنّ تحت وطأة تعذيبه بنقله من هنا إلى هناك.
بدا هذا المشهد في أعماقي كتلة من المشاعر المتضاربة التي يجمع بينها خيط رفيع هو كينونتنا داخل بيتنا لذا عذّبتني رؤية والديّ اللّذين يحاولان تجنيبنا مرارة خيبتنا.أراهما منهكي النّفس وهما يعرّيان البيت من كلّ محتوياته إيذانا بالرّحيل الذي لم نحسب له يوما حسابا إلاّ ساعة صدمتنا الحقيقة المرّة التي انفجرت كالبركان "سيباع البيت" هكذا سرى الخبر بيننا وبات يقضّ مضجعنا.
كنت مشتّتة الفكر والحركة.لم أستطع المكوث في الخارج .كان الحنين يشدّني إلى الدّاخل حيث أجواء الألفة التي جمعتنا.
أحسست لوهلة أنّ الغرف تبكي لبكائنا ،يصدمها الفراق المفاجئ الذي استشعرته من صدى أصواتنا وهو يتردّد داخلها بعد أن خلت من عبق أنفاسنا.
واريت دموعي لمّا رأيت من نافذة غرفتي شاحنة النّقل التي اكتراها أبي لحمل أثاث بيتنا تبتعد تدريجيّا حتّى تغيب عن ناظريّ فتتشكّل صورة مستقبل غامض سيقوم على أنقاض الحاضر الآسن الذي قوّض استقرارنا بإفلاس أبي بعد تأثّر تجارته بأزمة ماليّة طوّقت البلاد.كثرت ديونه فلم يستطع تسديد القروض البنكيّة.
خوى مستودع الخشب الذي خلّفه له جدّي كخواء روحي الآن من الأمل فوجد نفسه بين خيارين صعبين:السّجن مقابل دفع الدّيون أو بيع ممتلكاتنا بما فيه بيتنا.
لم يكن لنا خيار غير أن ننتزع من جنّتنا الدّنيويّة التّي قضيت فيها سنين طفولتي وشبابي.
وقفت على أطلال غرفتي بعد أن جرّدت من كلّ محتوياتها.وجدتها كئيبة.
نزفت الألم والمرارة.
هنا كان فراشي الذي طالما هدهدتني فيه أمّي بصوتها الحنون وهناك مكتبتي الصّغيرة التي كانت تتربّع عرش المكان فأتباهى بها أمام أقراني لما تحتويه من كتب مثّلت غذاء فكري وروحي.حتّى نافذة غرفتي كانت لي معها قصص وحكايات،قصص قلب نبض للحبّ والجمال فتدفّقت مشاعره حالمة معطاء.
من خلال هذه النّافذة عرفت نبض الحبّ لأوّل مرّة فأورقت نفسي وأزهرت.لكنّني اليوم أفقد كلّ شيء حتّى الأحلام.
أحسّ والدي بالمرارة التي تعتصرني فطوّقني بذراعه وأخذني خارج البيت.
وددت لو أخفّف عناءه وعبء تحمّله مسؤوليّة ما أصابنا لكنّني أنزف من الدّاخل وأصرخ بصوت مكتوم حتّى أكاد أختنق.
حسدت أخويّ التّوأمين اللّذين لم يتجاوزا الرّابعة من العمرفقد كفاهما صغر سنّهما عذاب هذا الفراق القاتل.لا شكّ أنّه ستبقى في وجدانهما بعض الخيوط التي تصلهما ببيتنا لكّنها ستكون ضبابيّة.أمّا أنا فسأقف باستمرار على أطلال ماضيّ أبكي الرّحيل والفراق وعزائي أنّ أسرتنا كتلة من مشاعر الحبّ والألفة ولن نقدر بغير هذا الحبّ أن نشقّ طريقنا.
------------
كثيرا من نعجز عن الحفاظ على ما هو بين أيدينا .. ونضطر لتركه .. سواء كان علاقة ما شخصا ما أو متاعا ما أو أية ملكية مادية .. ولكن الملكيات لا بد أن تدور وتُتبادل أو تُشارك حتى الأكثر ثباتا نسبيا منها ( المساكن ) فإن لم تباع ستؤول إلى وارثين جدد .. وتبقى المسألة مسألة وقت ..
ولكن كثيرا ما تقوم علاقة نفسية وجدانية تربط بين الأشخاص وبين مرتع طفولتهم عموما لا لشيء سوى لأن طفولتهم كانت تأريخا حيا للكثير من اللحظات السعيدة التي بدأت تقل مع التقدم في السن .. وأصبح كل ما يمت لتلك اللحظات عزيز وغال وشخصي جدا بما في ذلك ملاعب أو مرتع الطفولة ..
كما أن العلاقة مع المكان هي تعبير شخصي عن امتداد لحضور اختياري شخصي حي يتبناه الراشدون وفقا لدوافعهم المتضاربة سلبا أو إيجابا اتجاه مكان ما ..
وهذا لا يرتبط بالعاطفة والذاكرة فقد بل أيضا بالقرار الواعي المتفاعل مع أحداث الحياة المختلفة والمتغيرة ..
وهذا ينسحب أيضا على الكثير من الممتلكات الشخصية مهما كانت بسيطة أو صغيرة ..
ففي حين كان امتلاكنا لشيء ما يصبح أمرا اعتياديا ولا يسبب لنا بهجة بحد ذاته .. ولكن افتقاده هو ما قد يسبب لنا هذا الشعور العميق بالحزن وأيضا ليس الحزن عليه بحد ذاته بل على الحضور الحي الشخصي لنا الذي يشهد به هذا الشيء الذي ترتفع قيمته بذلك ليصبح ثمينا ..
وكان هذا الحضور تأريخا يمثل كل النشاطات التربوية والثقافية والإنجازات التعلّمية المبدعة
وكذلك المغامرات العاطفية الخجولة المتحفزة خلف نافذة تسجل عبث القلوب المراهقة المتهورة ..
و كل ذلك التأريخ والحضور الحي .. ماذا يقابله الآن ..؟؟
ما هو البديل المطروح أو المتوقع ..؟؟
لاشيء سوى المجهول .. .. مجهول بكل الأبعاد .. وبكل الاتجاهات ..
وهنا كان للموضوع بعد آخر ..
فالانتقال الذي اعترى الأسرة هو ليس مجرد انتقال من بيت إلى آخر .. بل هو انتقال من وضع ومكانة اجتماعية واقتصادية إلى وضع أدنى وهو موقف يسجل حالة انكسار لدى العاهل الذي خسر تجارته ..
وهذا ما أدى إلى تداعيات أكثر سوءا زلزلت أركان الأسرة وأطاحت بها خارج منزل العائلة ..
وهكذا بدا أن مصيبة حلت واستدعت تلاحم العائلة .. والجميع كانوا بحاجة للمواساة والرعاية والتعاضد حتى العاهل .. وكان هذاطرح مفيد .. فخسارة الملكية وإن كان يسبب كل هذا الحزن والأسى .. إلا أن الأسرة لابد لها من أن تعتمد على الحب والتعاضد لمواجهة تبعات الخسارة ومعاوة النهوض .. وكثيرا ما يكون الحب حلا ناجعا ضد مسببات الحزن ..
.....
الكاتبة نادية البريني
كانت قصتك جميلة وشخصية ,هادئة نوعا ما رغم مشاعر الحزن والألم والعاطفة الجياشة التي حملتها بطلتك .. وقد بدأ السرد بطيئا وهادئا واستمر حتى النهاية بتسلسل وتصاعد هادئ وثابت مع أن اللغة كانت سهلة وسلسة وذات أسلوب ذكي ورقيق في التناول ..
في حين لم أجد مبررا دراميا في النص للعنوان ( أطلال الماضي ) فالأطلال عادة ما كانت تمثل موقدا ورمادا وبضعة مخلفات هي أثار تدل على من أموا مكانا ما تطالع من قبل مكتشفين .. ولكنك تعرضتِ هنا لموضوع اجتماعي مهم هو الانتماء الشخصي وقد أطل علينا من نافذة الأسرة .. وكانت قصتك تحمل نهاية إيجابية .. وعظية قليلا .. قد لا تروق للكثيرين من دعاة القصة القصيرة كثيرة الترميز والتورية ..
تحيتي وتقديري لك ..
( مجلس النقد )
تعليق