مش أنا
استيقظ عمرو من نومه في السابعة صباحا نشيطا متفائلا كعادته ، منذ أن تم تثبيته مؤخرا في وظيفة تتناسب مع مؤهله وطموحاته فضلا عن دخلها الوفير وراتبها العالي ، فارتدى أحلى ثيابه وتعطر بأجمل عطوره ، وألقى تحية الصباح على إخوته ، وطبع على جبين والديه قبلة البر والطاعة ، ونزل مسرعا ليلحق بالسيارة التي تنتظره على ناصية شارعه لتقله مع باقي زملائه إلى العمل .وما إن وطأت قدماه أرض الشارع وعلى بعد أمتار قليلة من منزله ، فوجي بطفلة صغيرة لا يكاد عمرها يتجاوز العشر سنوات تشير إليه وهي تقول لأمها ( هو ده يا ماما ) ، وبمجرد أن سمعت الأم هذه الجملة من ابنتها انقضت على عمرو ممسكة بثيابه الأنيقة وراحت تكيل إليه وصلات متنوعة من الشتائم والسباب وتتهمه بأحقر الاتهامات والنعوت ، وأمام هول المفاجأة لم يزد عمرو على أن يقول ( مش أنا ) .
وإذ كان من حسن حظه الوحيد أن ما حدث كان على بعد أمتار قليلة من منزله ، فقد تجمع أفراد أسرته جميعا حوله وبعض من الجيران الذين يرونه مثالا للشاب الخلوق المتدين ، ونزعوا يد المرأة وابنتها عنه ، ثم علموا منها أن عمرو يترصد لأبنتها كل صباح ويراودها عن نفسها ، ويختلي بها خلف هذا الجدار ليهتك عرضها ويتحسس مواطن العفة من جسدها ، بل ولعله يكون اغتصبها . وعمرو يقول ( مش أنا )
فوقع القول على الجميع موقع الذهول والمفاجأة ، واندفعوا جميعا يدافعون عن فتاهم ويصدون المرأة عن قولها صدودا ، وهي تصر عليه إصرارا وتبكي بدمع العين أنهارا ، فلم يكن من بد إلا الذهاب إلى قسم الشرطة ليتولى هو حسم هذه المشكلة ، وتولى القسم التحقيق المبدئي ثم عرض الأمر على النيابة المختصة ، وبعد التحقيق وسماع جميع الأقوال ، وأمام إصرار البنت وأمها ، وإنكار عمرو ومحاولة محاميه إخلاء سبيله ، قرر وكيل النيابة حبس المتهم أربعة أيام على ذمة التحقيق مع مراعاة التجديد . ثم ذهب كل إلى حال سبيله ، وذهب عمرو إلى محبسه الاحتياطي .
وفي اليوم الثاني من الأيام الأربعة فوجئت أسرة عمرو بذات الأم وذات الابنة يقفان على باب شقتهم يطلبان الإذن بالدخول ، فهموا أن يفتكوا بهما لولا حكمة الأب الذي امتص عضبهم وسمح لهما بالدخول ، وقد تولدت لديه في ذات اللحظة فكرة مساومة هذه الأم لكي تتنازل عن القضية مقابل مبلغا من المال لعل ذلك يخفف عن ولده العقوبة القضائية . وتنتفع هي بالمال خاصة مع حالة الفقر والعوز البادية على هيئتها وهيئة ابنتها ، فدخلت الأم وبعد مقدمات ومواساة واعتذارات قالت لهم ، ابنكم عمرو ليس هو الفاعل وإنما الفاعل شخص آخر لم نعرفه بعد ، وما اضطر ابنتي إلى أن تتهم عمرو إلا خوفها مني وإصراري على أن تجد هذا الشخص الجبان الذي فعل معها ما فعل وكرر فعلته أكثر من مرة ، انتفضت أم عمرو من جلستها وهرولت إلى باب الشقة تصرخ في الجيران ليجتمعوا ثم يسمعوا ليكونوا شهودا ، وحضر الجيران وأمامهم أعادت الأم ما قالت وبرئت عمرو مما نسبته ابنتها إليه ، فطلبوا منها جميعا أن تذهب من فورها إلى النيابة لتقول ما قالت وتكذب ما ادعت ، وذلك بعد أن طمأنوها وتعهدوا لها بأنهم لن يعودوا عليها ببلاغ كاذب أو تعويض .
وأمام النيابة تم الإدلاء بالأقوال الجديدة التي تبريء الفتى وترد إليه اعتباره وكرامته ، وبناء عليه قرر وكيل النيابة إحضاره من محبسه فورا ليفرج عنه في التو واللحظة ما لم يكن مطلوبا على ذمة قضية أخرى ، وكاد وكيل النيابة أن يأمر بحبس المرأة التي ادعت على الفتى ما ادعت لولا إصرار أسرته على التنازل عن حقوقهم قبلها واكتفوا بظهور براءته .
وليذهب الجميع إذن إلى القسم لاستكمال إجراءات الإفراج عنه مالم يكن مطلوبا على ذمة قضية أخرى ، وهناك بدأ الضابط المنوط به اتخاذ إجراءات الإفراج يبحث بحثا روتينيا سريعا عن ثمة قضية أخرى ليكتب في أوراقه عدم وجود ما يمنع من الإفراج عنه ، وما هي إلا لحظات حتى توقف الضابط عند اسم معين ، عاود معه النظر إلى بطاقة عمرو الشخصيـة ( الورقية ) ليقارن بين الاسمين ليجدهما متطابقين تماما ، ليعلن عندئذ عن وجود قضية أخرى محكوم فيها غيابيا على عمرو بالحبس ستة أشهر وكفالة لوقف التنفيذ . فألجمت المفاجاءة عمرو فلم يزد على أن يقــول ( مش أنا ) .
إلا أنه أرغم على عمل المعارضة وتحدد لنظرها جلسة أمام المحكمة التي أصدر الحكم الغيابي ، وهي محكمة تبعد عن دائرة موطن عمرو ومحل سكنه عشرات الكيلومترات .
وبدأ عمرو مع محاميه رحلة البحث عن براءته في هذه القضية ، فكان أول ما فعله المحامي هو الإطلاع على القضية المحكوم فيها ، فلم يجد إلا محضر الشرطة المبين به بيانات المجني عليه وأقواله ، وليس من أي بيانات تفصيلية عن المتهم الحقيقي إلا اسمه ومحل سكنه ، وبيانات المتهم هذه لا تكفي لبراءة عمرو، إذ كان لابد للمحامي أن يثبت أن الاسمين متشابهين . وآني له هذا الإثبات وليس من أوراق أو مستندات يمكن مضاهاتها والمقارنة بينها .
فطرأت على ذهن المحامي فكرة الذهاب إلى المجني عليه لعرض الأمر عليه ، حتى إذا علم أن عمرو ليس هو المتهم الأصلي ذهب معهم إلى المحكمة ليبرئه ، وراقت الفكرة لعمرو ووالده ، فحدد الثلاثة موعدا للذهاب إلى المجني عليه . فالتقوه بعد مشقة وعناء ، فوجدوا رجل في نهاية العقد السادس من عمره ، بدا من ملامحه ومظهره سخطه على الحياة وغضبه على الناس جميعا ، فتقدموا إليه على وجل وحذر، وحادثوه على مهل وتؤوده . فتفهم موقفهم ووعدهم بالحضور إلى المحكمة ليقرر أمامها أن هذا الفتى الخلوق الوديع ليس هو المتهم الحقيقي ، وطلب منهم أن يعودوا إليه قبل موعد الجلسة بيوم أو يومين للتأكيد على موعدها ، لأنه كثير النسيان بحكم السن وبحكم عبثية الحياة ومللها .
وقبل الجلسة بيومين ذهب عمرو وحده إلى الرجل ليذكره بموعد الجلسة ، والتقى به بعد عناء ومشقة أيضا ، وما إن راءه الرجل حتى انقض عليه وراح يكيل إليه وصلات من السباب والشتائم ، مدعيا أن عمرو اتفق مع المتهم الحقيقي على أن ينتحل شخصيته أو يستغل تشابه الاسمين ، فيتمكن من استصدار حكم يبرئه ، فألجمت عمرو المفاجاءة مرة أخرى ، فلم يزد على أن يقــــول ( مش أنا ) .
وبصعوبة نزع الناس يد الرجل عنه وطلبوا من عمرو أن يعود إلى حال سبيله .
وإزاء ذلك حضر المحامي الجلسة وقد رتب نفسه ودفاعه ومرافعته على المستندات التي توافرت لديه ، وقال ما قال أمام المحكمة وجاهد لإثبات صحة موقف موكله ، وطلب طلبا احتياطيا هو إعلان المجني عليه بالحضور للتقرير بأن المتهم الماثل ليس هو المتهم الحقيقي . وأرجأت المحكمة القرار لأخر الجلسة ، ثم أصدرت قرارها بعدم جواز نظر المعارضة للتقرير بها من غير ذي صفة ، وما إن علم عمرو بالقرار وفهم أنه تبرئة لموقفه ، حتى تنفس الصعداء وحمد الله كثيرا ، وشكر المحامي ( صديقه ) على مجهوده معه ، فطلب منه الأخير باقي الأتعاب . فابتسم عمرو وكان لم يبتسم منذ ما يربو على ستين يوما ، ثم ضحك حتى بدت أسنانه ، ثم قهقه حتى سمع الناس قهقهاته ، ثم سكت ، ثم نظر ، ثم قــال ( مش أنا )
وإذ كان من حسن حظه الوحيد أن ما حدث كان على بعد أمتار قليلة من منزله ، فقد تجمع أفراد أسرته جميعا حوله وبعض من الجيران الذين يرونه مثالا للشاب الخلوق المتدين ، ونزعوا يد المرأة وابنتها عنه ، ثم علموا منها أن عمرو يترصد لأبنتها كل صباح ويراودها عن نفسها ، ويختلي بها خلف هذا الجدار ليهتك عرضها ويتحسس مواطن العفة من جسدها ، بل ولعله يكون اغتصبها . وعمرو يقول ( مش أنا )
فوقع القول على الجميع موقع الذهول والمفاجأة ، واندفعوا جميعا يدافعون عن فتاهم ويصدون المرأة عن قولها صدودا ، وهي تصر عليه إصرارا وتبكي بدمع العين أنهارا ، فلم يكن من بد إلا الذهاب إلى قسم الشرطة ليتولى هو حسم هذه المشكلة ، وتولى القسم التحقيق المبدئي ثم عرض الأمر على النيابة المختصة ، وبعد التحقيق وسماع جميع الأقوال ، وأمام إصرار البنت وأمها ، وإنكار عمرو ومحاولة محاميه إخلاء سبيله ، قرر وكيل النيابة حبس المتهم أربعة أيام على ذمة التحقيق مع مراعاة التجديد . ثم ذهب كل إلى حال سبيله ، وذهب عمرو إلى محبسه الاحتياطي .
وفي اليوم الثاني من الأيام الأربعة فوجئت أسرة عمرو بذات الأم وذات الابنة يقفان على باب شقتهم يطلبان الإذن بالدخول ، فهموا أن يفتكوا بهما لولا حكمة الأب الذي امتص عضبهم وسمح لهما بالدخول ، وقد تولدت لديه في ذات اللحظة فكرة مساومة هذه الأم لكي تتنازل عن القضية مقابل مبلغا من المال لعل ذلك يخفف عن ولده العقوبة القضائية . وتنتفع هي بالمال خاصة مع حالة الفقر والعوز البادية على هيئتها وهيئة ابنتها ، فدخلت الأم وبعد مقدمات ومواساة واعتذارات قالت لهم ، ابنكم عمرو ليس هو الفاعل وإنما الفاعل شخص آخر لم نعرفه بعد ، وما اضطر ابنتي إلى أن تتهم عمرو إلا خوفها مني وإصراري على أن تجد هذا الشخص الجبان الذي فعل معها ما فعل وكرر فعلته أكثر من مرة ، انتفضت أم عمرو من جلستها وهرولت إلى باب الشقة تصرخ في الجيران ليجتمعوا ثم يسمعوا ليكونوا شهودا ، وحضر الجيران وأمامهم أعادت الأم ما قالت وبرئت عمرو مما نسبته ابنتها إليه ، فطلبوا منها جميعا أن تذهب من فورها إلى النيابة لتقول ما قالت وتكذب ما ادعت ، وذلك بعد أن طمأنوها وتعهدوا لها بأنهم لن يعودوا عليها ببلاغ كاذب أو تعويض .
وأمام النيابة تم الإدلاء بالأقوال الجديدة التي تبريء الفتى وترد إليه اعتباره وكرامته ، وبناء عليه قرر وكيل النيابة إحضاره من محبسه فورا ليفرج عنه في التو واللحظة ما لم يكن مطلوبا على ذمة قضية أخرى ، وكاد وكيل النيابة أن يأمر بحبس المرأة التي ادعت على الفتى ما ادعت لولا إصرار أسرته على التنازل عن حقوقهم قبلها واكتفوا بظهور براءته .
وليذهب الجميع إذن إلى القسم لاستكمال إجراءات الإفراج عنه مالم يكن مطلوبا على ذمة قضية أخرى ، وهناك بدأ الضابط المنوط به اتخاذ إجراءات الإفراج يبحث بحثا روتينيا سريعا عن ثمة قضية أخرى ليكتب في أوراقه عدم وجود ما يمنع من الإفراج عنه ، وما هي إلا لحظات حتى توقف الضابط عند اسم معين ، عاود معه النظر إلى بطاقة عمرو الشخصيـة ( الورقية ) ليقارن بين الاسمين ليجدهما متطابقين تماما ، ليعلن عندئذ عن وجود قضية أخرى محكوم فيها غيابيا على عمرو بالحبس ستة أشهر وكفالة لوقف التنفيذ . فألجمت المفاجاءة عمرو فلم يزد على أن يقــول ( مش أنا ) .
إلا أنه أرغم على عمل المعارضة وتحدد لنظرها جلسة أمام المحكمة التي أصدر الحكم الغيابي ، وهي محكمة تبعد عن دائرة موطن عمرو ومحل سكنه عشرات الكيلومترات .
وبدأ عمرو مع محاميه رحلة البحث عن براءته في هذه القضية ، فكان أول ما فعله المحامي هو الإطلاع على القضية المحكوم فيها ، فلم يجد إلا محضر الشرطة المبين به بيانات المجني عليه وأقواله ، وليس من أي بيانات تفصيلية عن المتهم الحقيقي إلا اسمه ومحل سكنه ، وبيانات المتهم هذه لا تكفي لبراءة عمرو، إذ كان لابد للمحامي أن يثبت أن الاسمين متشابهين . وآني له هذا الإثبات وليس من أوراق أو مستندات يمكن مضاهاتها والمقارنة بينها .
فطرأت على ذهن المحامي فكرة الذهاب إلى المجني عليه لعرض الأمر عليه ، حتى إذا علم أن عمرو ليس هو المتهم الأصلي ذهب معهم إلى المحكمة ليبرئه ، وراقت الفكرة لعمرو ووالده ، فحدد الثلاثة موعدا للذهاب إلى المجني عليه . فالتقوه بعد مشقة وعناء ، فوجدوا رجل في نهاية العقد السادس من عمره ، بدا من ملامحه ومظهره سخطه على الحياة وغضبه على الناس جميعا ، فتقدموا إليه على وجل وحذر، وحادثوه على مهل وتؤوده . فتفهم موقفهم ووعدهم بالحضور إلى المحكمة ليقرر أمامها أن هذا الفتى الخلوق الوديع ليس هو المتهم الحقيقي ، وطلب منهم أن يعودوا إليه قبل موعد الجلسة بيوم أو يومين للتأكيد على موعدها ، لأنه كثير النسيان بحكم السن وبحكم عبثية الحياة ومللها .
وقبل الجلسة بيومين ذهب عمرو وحده إلى الرجل ليذكره بموعد الجلسة ، والتقى به بعد عناء ومشقة أيضا ، وما إن راءه الرجل حتى انقض عليه وراح يكيل إليه وصلات من السباب والشتائم ، مدعيا أن عمرو اتفق مع المتهم الحقيقي على أن ينتحل شخصيته أو يستغل تشابه الاسمين ، فيتمكن من استصدار حكم يبرئه ، فألجمت عمرو المفاجاءة مرة أخرى ، فلم يزد على أن يقــــول ( مش أنا ) .
وبصعوبة نزع الناس يد الرجل عنه وطلبوا من عمرو أن يعود إلى حال سبيله .
وإزاء ذلك حضر المحامي الجلسة وقد رتب نفسه ودفاعه ومرافعته على المستندات التي توافرت لديه ، وقال ما قال أمام المحكمة وجاهد لإثبات صحة موقف موكله ، وطلب طلبا احتياطيا هو إعلان المجني عليه بالحضور للتقرير بأن المتهم الماثل ليس هو المتهم الحقيقي . وأرجأت المحكمة القرار لأخر الجلسة ، ثم أصدرت قرارها بعدم جواز نظر المعارضة للتقرير بها من غير ذي صفة ، وما إن علم عمرو بالقرار وفهم أنه تبرئة لموقفه ، حتى تنفس الصعداء وحمد الله كثيرا ، وشكر المحامي ( صديقه ) على مجهوده معه ، فطلب منه الأخير باقي الأتعاب . فابتسم عمرو وكان لم يبتسم منذ ما يربو على ستين يوما ، ثم ضحك حتى بدت أسنانه ، ثم قهقه حتى سمع الناس قهقهاته ، ثم سكت ، ثم نظر ، ثم قــال ( مش أنا )
تعليق