ردّ زيــــــــارة ...
مضى وقت طويل منذ زيارته الأخيرة لي، اشتعل الحنين بين ضلوعي مرّات ولكن كلما اعتزمت زيارته خانتني الفرص، وشغلتني اهتمامات أدنى .بين الرّجاء والتسويف وقفت، ولكن كسيحة كنت .لا يفصلني عن مسكنه سوى بعض ميل ومع ذلك فقد كانت الأماكن تأخذني، تطوّحني هنا وهناك، لتلقي بي بعيدا خلف نواياي ....
صدفة التقيته هذا الصّباح على غير توقّع. خجلت كثيرا من نفسي... أهويت أقبل يديه ولم يسحبهما كدأبه... شعرت بحاجته إليّ، فاقتربت أكثر.ورغم أننا وحيدين كنّا إلاّ أن جرأتي خانتني لمّا فكّرت باحتضانه .أرسل نظراته باللّوم فأحسست بالتشظّي، ونهشني النّدم على تقصيري....كيف أُخرج من حياتي شأنا بهذه الأهمية؟كيف يهون عليّ أن أتركه لغربته وحيدا؟ وكيف أتخلّى عنه كلّ هذه المدّة؟
لقد استنفذ كل طاقته في احتمال الألم حين غادرنا،وإلاّ ما هان عليه فراقنا .
لمّا طال صمته دنوت منه وسألته:"ألهذه الدرجة تشعر بالوحشة؟" وسرعان ما انفرجت شفتاه ليؤكد لي قائلا:"وأيّ وحشة... !" ثم تنهّد ورفع إلى عينين لا أخطئ تعبيرهما متسائلا :"متى ...؟" وفهمت بالقوّة ما يريد فقلت:"أتعني متى سآتي...؟" فهزّ رأسه بالإيجاب.عندها فقط أدركت فداحة جرمي .كيف أقابل لهفته بذاك الجفاء ؟ كيف أتنكر لذراعيه اللّتين احتوتاني دهرا في فيض من الحنان...؟ وعقدت العزم أن أغتنم كلّ لحظة قادمة في إطفاء الشوق إليه .
ولأني على يقين بأنه يعلم أكثر مما أدري أنا عن نفسي فقد حداني الأمل في معرفة أمر أثاره سؤاله، فقلت:"وهل تعلم متى سيكون ذلك ؟" وتعلّقت روحي بشفتيه .لم أكن خائفة، ولا خالجني التوجّس ممّا سيقول. فقط فكّرت بكيفيّّة التّصرّف في الوقت الذي يفصلني عن الحدث.
كنت أتوقع أن يفيدني بإشارة ما... بتلميح ضمنيّ... ولكنه نفى علمه بإشارة من رأسه مؤكدا:"لا أعلم شيئا...لا أعلم شيئا ..."
افترقنا على وعد بأن لا أتأخّر عليه أكثر.
انصرفت تاركة جوارحي بين يديه، ولم يغادرني طيفه لحظة.
لم يكن في متناولي أن أهديه أكثر من قارورة ماء مزجته بزنجبيل منذ المساء. وما إن تململت الشمس في مهدها استعدادا لتسابيح الصّباح حتى وجدتني في الطّريق إليه .
لمّا وقفت وجها لوجه معه، أمسكت دموعي والغصّة تبتلع ريقي، ورغم أنّه لم يكلّمني إلاّ أنّني أحسست احتفاءه بمجيئي.فوقفت أناجيه طويلا وأعتذر عن الغياب.
طال نشيجي الداخلي فخفت أن تخونني شهقة بلغت حلقي... استودعته الله واستدرت أهمّ بالانصراف، ولكنّي أحسست شدّا في ذيل ثوبي، فتقهقرت، فإذا بقارورة الماء تتدحرج بين قدميّ. انحنيت ألتقطها لأسكب ماءها الذي اختلط بدموعي على قبره.وقبل أن أجهش بالبكاء حثثت الخطى مبتعدة حتى لا يسمعني .
تعليق