

محمد حسام الدين دويدري
شعرت بالفخر وأنا أقرأ مقالاً مفيداً طريفاً كانت قد نشرته صحيفة "اليوم" المغربية منذ مدّة قصيرة تحت عنوان : " اللغة العربية: عقدة تقنية المعلومات"؛ كتبه الباحث العربي السوري "ياسر المحيو"؛ حيث رد على مدَّعي قصورِ اللغة العربية في مجاراة التطور الحضاري المعاصر؛ مشيراً إلى تقصير المتخصصين في أداء واجبهم المفترض في شأن إبراز ما لهذه اللغة من سمات وما تدخره من قدرات؛ ومنوهاً إلى العلاقة العضوية الوثيقة بين حضور الأمة وحضور اللغة؛ فالأمّة لا يمكن أن ترتقي دون الارتقاء بمكانة لغتها، مما يعني أنّ التراجع الحضاري الذي تشهده أي أمة ليس عائداً إلى طبيعة لغتها؛ بل هو عائد إلى واقع وتقصير الناطقين بها. وبيّن الباحث "المحيو" أنّ هيمنة الثقافة الغربية على بقاع العالم العربي والإسلامي قد أحدثت صدمة انبهارية أثرت في نفوس بعض المنبهرين فحركت فيها الظن بوجود تناقضٍ سلبيٍّ بين اللغة العربية والتقانات الرقمية الحديثة؛ خاصة بعد فشل بعض المحاولات المتواضعة في المعالجة اللغوية الرقمية عبر تقانات المعلومات؛ كالاشتقاق الرقمي؛ والتعرف الآلي على الكلام؛ والتحليل النحوي والصرفي بصورة آلية...، ذلك الفشل الذي كان مردُّهُ إلى تلازم أمرين اثنين: أولهما فِقدان قواعد العمل المُنَسَّق القياسية بين اللغوي والمعلوماتي؛ وثانيهما فقدان الدعم والتأهيل لفرق بحثية كان يجب أن تُشَكَّلَ من قبل هيئات علمية رسمية.
وبيَّن الباحث أنّ اللغويين العرب الأوائل قد تنبهوا إلى مدى الانسجام والتوازن الصوتي في الكلمة العربية؛ ومن خلال ما توصلوا إليه ندرك ما لهذا الانسجام من خصائص تجعل معالجة الكلام العربي هندسياً أمراً ميسراً. فالنظام الصوتي للكلام العربي متناسق متلائم محكم التفاصيل دقيق التوصيف، تتوزع فيه المناطق الصوتية على مدرج صوتي واسع دون تزاحم أو تداخل؛ وهذا ما يجد الباحث توصيفه بدقة عند اللغويين الرواد أمثال "الفراهيدي" في معجمه (العين) و"سيبويه" و" الجاحظ" في (البيان والتبيين) ومن تلاهم من الدارسين والباحثين. وأشار الباحث إلى مرونة قواعد الاشتقاق في اللغة العربية بشكل تسهل معه عمليات معالجتها رقمياً مشيراً إلى الأبحاث الراقية التي أرسى قواعدها "أبو علي الفارسي" وتلميذه "ابن جني"؛ وما تفتحه من آفاق في مجال المعالجة الرقمية؛ مؤكداً أن اللغة العربية ليست لغة تراث فقط بل هي لغة حيّة متطورة صالحة لكل العصور؛ ولكنها تحتاج إلى ثقة الناطقين بها بما تدّخره من طاقات ترقى بهم ليكونوا في الصفوف الرائدة...
وفي الحقيقة فإنّ هذا البحث الراقي والجدير بالاهتمام قد حرّك في بصيرتي الطموح إلى السعي نحو استكشاف طبيعة النبض العربي الذي أخذ في الآونة الأخيرة يزيد من نشاطه في المجال الافتراضي الرقمي؛ ونحو البحث في إمكانات الارتقاء بهذا النبض لتطوير أساليبه ومكوناته والبعد به عن الغوغائية والاضطراب بالسعي إلى رسم خطوات منهجية سليمة تتناسب مع ثقافتنا وإرثنا الحضاري الملتزم بالمنهجية العلمية واضحة الهدف وبالقيم والقواعد السامية؛ خاصة وأنَّ المواقع العربية المختلفة قد بدأت تتزايد وتنتشر في الشبكة العنكبوتية بشكل غير منضبط ؛مستخدمة اللغة العربية بشكل مضطرب لا يخلو من الخطأ والضعف وتداخل اللهجات المحلية...
لقد حاول العرب ولوج عصر الإنترنت منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، لكنهم واجهوا المشكلة اللغوية والحرف الرقمي؛ إذ بدأت الصفحات المصممة بالحرف العربي تبدو بلغة الآلة على شكل مربعات ورموز وعلامات استفهام غير مفهومة. مما اضطر المصممين إلى اللجوء إلى تقنية "الصورة الرقمية" فحولوا النصوص العربية إلى صور يمكن تحميلها على الشبكة لتتمكن جميع الحواسيب من إظهارها. لكن ذلك الحل لم يكن ناجعاً إذ اكتشف المصممون أنّ تلك الصور كبيرة الحجم تحتاج إلى زمن أطول للتحميل علاوة على المساحة الكبيرة التي تحتلها، فكان لابد من بذل الجهد في تطوير الحرف الرقمي العربي؛ لتصبح اللغة العربية واحدة من لغات عالمية راحت تنشر نسغها الفكري في فضاء "الإنترنت"، وأخذ المصممون يضعون صفحات المواقع العربية التي راحت تتطور وتتنوع مع تطور البرمجيات العالمية الجاهزة التي باتت تيَسِّرُ عملية تصميم الصفحات بالحرف العربي وإغنائها بالنصوص؛ حتى أصبح فضاء "الإنترنت" وسيلة إعلامية هامة؛ ووسيلة للنشر والتبادل المعرفي، بل وتحول إلى مجال خصب للتواصل بين بني البشر على امتداد رقعة العالم، وظهرت المواقع المتخصصة في مجالات الحياة كافة بشكل حطَّم الحدود السياسية والإقليمية؛ جاعلاً من اللغة مجالاً حيوياً لنمو تلك المواقع التي بات يمكن تصنيفها في زمر عديدة حسب تخصصات مضامينها:
· المواقع الحكومية : فمنها التابعة للوزارات أو المؤسسات البرلمانية والقانونية أو الإدارات المحلية والهيئات والفعاليات الحكومية والنقابات والمنظمات... وغير ذلك من الفعاليات الرسمية.
· الصحف والمجلات: إذ احتلت الصحف العربية اليومية التقليدية مكاناً لها؛ فكانت صحيفة الشرق الأوسط هي الرائدة؛ فنشرت أول أعدادها الإلكترونية على شكل صور في أيلول عام 1995 ، ثم تلتها "النهار" اللبنانية عام 1996، ثم "الحياة" فصحيفة "السفير"، ليتوالى بعد ذلك ظهور الصحف في هيئة إلكترونية تعتمد في أساليب عرضها على تقنيات الصورة وتقنيات الكتاب الإلكتروني "PDF" وتثنية النصوص، ثمّ ظهور الصحف الإلكترونية والبوابات الشاملة ذات الصيغة الإلكترونية التي ليس لها نظير مطبوع؛ والتي أخذت تنقل الأخبار المحلية والعالمية بشكل فوري ومباشر مفسحة المجال لقرائها للتعليق بشكل تفاعلي ودون تحفظ بشكل فتح آفاقاً جديدة من التواصل الإعلامي الذي لم يَخلُ من الإسفاف في الطرح والركاكة اللغوية واستعمال اللهجات الموغلة في المحلية وأحياناً في "السوقية" والابتذال...، ومادامت هذه المواقع غير خاضعة للرقابة الفعلية ولا تؤطّر عملها القوانين والأنظمة؛ فإن هذه المواقع سوف تبقى عاملاً سلبياً في إمكانية الحفاظ على المستوى الأعلى الممكن من المهنية الصحفية؛ وفي دعم مسيرة حماية اللغة العربية والحفاظ على نقائها وقوة بقائها...
· المواقع العلمية المتخصصة في مجالات العلوم كالطب والزراعة وعلوم الأحياء والدين والفلسفة وأبحاث البيئة والفضاء والتكنولوجيا والسياسة والاقتصاد والقانون... وما إلى ذلك من ضروب العلوم...
· المكتبات الإلكترونية والمواقع التي يتم فيها تخزين الكتب الإلكترونية التي غالباً ما تكون في صورة ملفات ذات امتداد "PDF".
· المواقع الشخصية والمدونات التي تحولت إلى نوع جديد من أساليب النشر فأقبلت عليها فئات كثيرة تراوحت بين المراهقين المبتدئين في ضروب الكتابة والمحترفين الذين وجدوا في تلك المدونات مجالاً خصباً للنشر محدود التكلفة والانتشار الواسع؛ لكن لغة تلك المدونات لم ترق -في الغالب- إلى المستوى المأمول وكذلك فإنّ السوية الفنية لما ينشر فيها لم تكن مدروسة لغياب الرقابة الفنية واللغوية عن تلك المدونات...
· مواقع التواصل والمحادثة والبريد الإلكتروني؛ وهي عديدة وقد بدأت تستعمل الحرف العربي..؛ وأشهرها "ويندوز لايف ماسنجر"... .
· المنتديات الشاملة المفتوحة والتي لا تلتزم بالضوابط التخصصية ولا اللغوية فتفتح المجال للمتحركين على صفحاتها للنقاش والجدال وتبادل الصور والملفات الصوتية والرسائل الخاصة...؛ في إطار تفاعلي متعدد الخدمات والمسارات ، وهذه المنتديات أيضاً وفي الغالب غير منضبطة تماماً بشكل تغدو معه بيئة غير سليمة لغوياً وربما تستعمل فيها اللهجات المحلية العامية...
· المنتديات اللغوية والأدبية: وقد ظهرت العديد من المنتديات التي تهتم باللغة العربية وفنون الأدب العربي اشتهر منها: شاعر العرب؛ أقلام؛ ملتقى المبدعين العرب؛ قناديل الفكر؛ فرسان الثقافة...، كما ظهرت بعض المنتديات كمنظمات إلكترونية كاتحاد كتاب الإنترنت العرب ومنظمة شعراء بلا حدود... . وهذه المواقع تمتاز بسوية لغوية جيدة حيث تضم باقات من الأدباء والمفكرين العرب لكن بعضها لا يخلو من المشاحنات والمماحكات التي ربما تقلب بعض صفحاتها إلى حلبات للصراع وتقاذف التهم بشكل يسيء إليها. ومع ذلك فإن من تلك المواقع ما وضعت لأعضائها الضوابط الصارمة التي تكفل الحفاظ على سوية لغوية وأدبية جعلتها ترتقي مغزىً ومبنىً. ومن أشهر تلك المنتديات الأدبية منتدى "مرافئ الوجدان" http://www.mrafee.com/vb/index.php الذي حاولت إدارته استقطاب باقة من الكتاب والشعراء العرب مؤكدة على السوية الفنية واللغوية كما أخذ أعضاء المنتدى على عاتقهم تشكيل رابطة متخصصة باسم "رابطة حماة اللغة العربية" وضعت في صلب مهمة صيانة اللغة العربية كلغة جامعة للأمة والدفاع عن نقائها وبقائها والعمل على إنشاء معجم دلالي معاصر للمفردات والألفاظ العربية...، وربما تكون هذه التجربة جديرة باهتمام ورعاية الجهات الأكاديمية الرسمية لنقل ما تحققه من إنجازات من المجال الرقمي الافتراضي إلى النطاق العملي ضماناً لبقاء تلك الإنجازات خاصة وأن المجال الرقمي معرض لهجوم القراصنة وعبث العابثين وتهديد الأخطاء الإلكترونية...
· محركات البحث: فمع تنامي أعداد المواقع العربية كان لابد من إيجاد السبل التي تكفل لمستخدمي "الإنترنت" العرب سهولة البحث عن المواقع والمعلومات المدونة عليها؛ خاصة وأنّ عناوين مواقع "الإنترنت" لا تكتب بالحرف العربي. وقد لعب محرك البحث "Google" دوراً كبيراً في تسهيل عمليات البحث إضافة إلى أداء دور هام في الترجمة الآلية الفورية من وإلى لغات العالم. وفي الآونة الأخيرة؛ أخذت بعض الشركات على عاتقها إنشاء محركات بحث عربية كمحرك البحث :أين" http://www.ayna.com/index.ar.html ، إضافة إلى بعض المواقع التي خصصت مساحات لإنجاز أرشفة المواقع العربية المنتشرة على الشبكة العنكبوتية. لكن التطور الأبرز الذي حدث مؤخراً هو ما تناقلته بعض وكالات الأنباء حول التوصل قريباً إلى إمكانية تدوين عناوين مواقعالانترنت باللغات العالمية المختلفة؛ وفي مقدمتها اللغة العربية، فقد أعلنت مؤخراً هيئةالإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة 'آيكان' التي تتولى مسؤولية توزيع مجالات العناوين في "بروتوكول" الإنترنت؛ أعلنت أنها منحت كلاً من جمهورية مصرالعربية والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية موافقة مبدئية تسمح لتلك الدول بتدوين عناوين مواقع الانترنتبالحرف العربي. كما بدأت الشركة "آيكان" بتلقي طلبات بلغات أخرى منهية احتكار الحرف اللاتيني لأسماء النطاقات؛ بحيث سيكون في المستقبل القريب من الممكن كتابة أسماء المواقع بأي لغة من لغات العالم؛ سعياً وراء استقطاب أكبر عدد ممكن في زمرة مستخدمي الإنترنت في العالم. وصرحت وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات المصرية أنها بدأت التشغيل التجريبي لأول نطاق على الإنترنت باستخدام الأبجدية العربية؛ ومن المتوقع أن يبدأ وضع هذا النظام في حيز التطبيق في السادس عشر لشهر تشرين الثاني 2010، وهذه الخطوة نقلة نوعية في المجال الرقمي.
وبعد ؛ فإنني لم أكن أهدف إلى توصيف النبض العربي في المجال الافتراضي الرقمي، بل هي مساحة هامسة ساعية إلى تحفيز العقل العربي إلى خوض غمار الشبكة العنكبوتية بشكل أكثر رقياً وأكثر حرصاً على اللغة العربية والهوية العربية . وإذا كانت أخبار العصور السابقة قد نقلت إلينا صور النشاط الثري الفريد الذي كان يجري في الإطار المكاني الضيق للصالونات الأدبية والفكرية بين الأدباء؛ فإن نبض الحياة المعاصرة قد حولت هذا النشاط إلى الواقع الافتراضي ذات الفضاء الأرحب الذي يوسع دائرة النقاش بين أهل الفكر والأدب عابراً المسافات والحدود محققاً الوحدة العربية بمعزل عن القرار السياسي والإرادة الرسمية المرهونة بالضغوط والمواقف الدولية. فهل ستكون تلك الأنشطة قادرة على لعب الدور المأمول في حماية اللغة العربية والدفاع عنها في وجه محاولات الغزو الفكري والثقافي...؟.
الأحد، 09 أيار، 2010
تعليق