ســــــــــــــــرّ ...
لم أجد بما أجيب لمّا سألتني أمّي: " إلى أين ...؟" تلعثمت وأنا أحاول ارتداء قناع البراءة " نفذت أوراقي ..سأذهب إلى المكتبة ..." كنت أعلم أنها ستنتظر في غرفتي بعض الوقت ثم تنسلّ إلى فراشها وتستسلم لنوم عميق مطمئنّة لكوني سأعود سريعا...
لطالما أدركت ببديهتها أني لا أملك الجرأة لترتيب موعد كبقيّة الصّبايا ...المسكينة، لقد غاب عن تصوّرها إمكانيّة أن أهيّئ لهذا الموعد على بعد خطوات منها ....
كم كنت أشعر بالاختلاف وأنا أسمع بنات القرية يتفاخرن بمواعيدهنّ اللّيليّة، ومغامراتهنّ مع السّلم الذي يرتقين ليجتزن حدود إمبراطورية العائلة، و قبل الفجر بقليل، يعدن مترنّحات بكؤوس الغرام ...
كم كنت أنفر من مجرّد التفكير في قطع مسافة باتجاه رجل ، من فكرة الاختلاء به دون مسافة ...
ما كانت خديجة التي تخطّت خريفها الثلاثين، لتفوّت حفلا في القرية، ما كانت لتترك مناسبة تمرّ، دون أن تكون لحبيبها حتى تفترّ شفة الأفق عن إشراقة أوّل شعاع للشمس. وتتغامز الفتيات، فتغرق في الضّحك، تضرب كفّا بكفّ ثم تقول في تحدّ:" لست ابنة أبي إن لم أتزوّجه " وتشكّ الأخريات بذلك، ولكن تمرّ السّنوات وتكسب الرّهان خديجة .
كم مرّة على غير انتظار أتت فتنة، لتركع في استجداء أمامي ودون كلام أعرف ما تريد، ولكنّي أتغابى فتهمّ بتقبيل قدميّ:" لن تخسري شيئا، إذا استبطأتني أمّي وهاتفتك اطلبي أن أبيت عندك " وتحت شجرة الزيتون المجاورة تبيت فتنة مع عادل، ويسكنني الخوف من أن تطرق الباب أمّها فجأة، فيلازمني الأرق ....
ولا تأتي أمّها ورغم ذلك ترتجف ركبتاي في أوّل لقاء بها ولا يتحرّك لفتنة ساكن،لا بل تزداد فتنة وتتورّد وجنتاها وهي ترفع أهدابها نحوي وتنفرج شفتاها عن ابتسامة كأنها الشّهد ....
فلم لا يكون لي موعدي أنا الأخرى؟ ولم لا أتجاوز عادات كثيرة دأبتني؟ فأركب كغيري سفن التمرّد ليكون لي حبيبي الذي أرسو على شاطئه بأمان، ولا يساورني الخوف بأن يلوكني النّاس بأحاديثهم، ولا يقضّ مضجعي التوجّس بأن يتفطّن أحد أفراد العائلة لذلك... ولم لا أعجن أقراص الفرح الشهيّ احتفاء بقدومه كأي أنثى برّح بها الاشتياق؟
أرحل مع تعلّة الأوراق التي اختلقتها لأصرف أمّي عن ملاحظة الشّوق الّذي يتفلّت من نظراتي المشتّتة ...ينبت على أطراف أناملي ...يعصر فؤادي عصرا لذيذا ...ويعانق المدى الذي سيطلّ منه حبيبي متهاديا بعد أن قطع آلاف الكيلومترات .
لم تكن أمّي قد نامت لمّا عدت من المكتبة .
ألاحظت ارتباكي..؟ فتوصّلت بحدسها الأنثوي إلى أنّي أعدّ لقصّة لم أعشها من قبل .
...لأطمئنها طفقت أسوّي أطراف الأوراق وأطويها نصفين وبين الورقة والورقة أودع سرّا مفتعلة اللاّمبالاة والنّار تستعر بداخلي، انتقلت للبحث عن قلمي الأحمر، بجانب التلفاز ...تحت الفراش...بين الوسادة والأريكة الّتي تقلّ أحلامي كلّ ليلة...
بعد لأي عثرت عليه في جيب الحقيبة.
ويخطر لأمّي فجأة أن تجلس على حافة الفراش قبالتي لتسألني:" هل رأيت أختك اليوم؟" فأجيب بإيماءة أن لم يحصل، رغم أني لاعبت ابنتها، وإليها وقفت طويلا وأنا في طريق العودة من العمل. كلّ همّي أن أقطع حبل الكلام لأجدني بمفردي .
بينما تعود أمّي للسّؤال:" وزوجها...ألم يقاطعك؟ " أمازال في دكّانه إلى الآن؟" " لا " ـ يتيمة ـ تصدر عني بلا إشباع،وأكاد أجزم أنها فهمت إضماري صرفها، ولكنّها تواصل :" اطلبيه ،أريده في أمر هامّ " وتهمّ بشرح الأسباب ولكنّي أمدّ يدي بالهاتف، فتصمت لتفتح صفحة جديدة معه . ومع كل كلمة من كلماتها تموت اختلاجاتي وأنا أفكّر بآخر عبارة كتبها لي، و بآخر تلميح وآخر رجاء ....وأخاف أن تنطفئ جذوة رغبتي في امتطاء صهوة المغامرة، وأن يتحوّل شوقي لمعانقة الضّياء الذي سيجود به حضوره إلى رماد .
تعيد إليّ أمّي السّمّاعة وعلى شفتيها كلام كثير، فأكتم أنفاسي مخافة أن تعود على عقبها لتفتح نافذة جاهدت في إغلاقها .
كانت الليلة باردة بما يكفي لتلحّ الأطراف في طلب الدفء، ولأظلّ متيقـّظة، نبذت كلّ تقنيّات التّدفئة وكالقطّة رحّلت أذنيّ خلف الأصوات تترصّدان هدوء طلّته ...
جعلت أسترجع كيف سرق الأضواء من حوله...وكيف أمالتني استفزازاته اللّذيذة...وكيف خطرت ببالي فكرة دعوته ....
أجلت بصري في الغرفة التي اجتهدت في ترتيبها عصرا فساورني القلق. قومت الشّمعدان الذي اتكأ على رفّ بأحد الزوايا، وثبّت عليه شمعة رشيقة في أوج تأهّبها للعطاء، ضغطت زرّ الولاعة الفضّية فانطلقت شرارة ألهبت الفتيل وأخرجت المعدن الخجول عن طوره، فالتمعت خلاياه تغازل قوام الشمعة وترنو إليها في وله .
غيّرت الماء بالمزهريّة الّتي ضاع شذى ورودها البيضاء في الفضاء، وداعب سحره أعصابي بدا المكان مرتبكا رغم اجتهاداتي، عرى الخجل ظلال اللّهب وهي تتراقص عشوائيا على جدار أرّقه الانتظار..
منذ اكتشفت هذه الأنثى التي تسكنني وأنا أحلم برجل استثنائي يملك الجرأة لاختراق السائد والقدرة على اجتياز العقبات ليكون معي ساعة تطلب السّفر روحي..
أنثى غريبة الأطوار لا تطلب الكثير أمام فتيات جيلها...لا تحلم ببيت عصري وزوج مطيع وأبناء يملأ الشّارع صراخهم ولا حتى بمصوغ وهدايا نادرة لكلّ مناسبة، ولكنّها تتطلّع لشخص مسكون بالحبّ، كالبحر في عطائه، شخص يسع قلبه كل التّقلّبات وكلّ الحماقات ....
كم كنت أشعر بالغربة بين نديداتي وهنّ يتحدّثن عن علاقاتهنّ ...كيف يسمحن أن يشاركهن ّ أحد أسرارهنّ؟ كيف يضربن بقداسة هذه الأسرار، ويشعنها في الحومة ...؟
ماذا سيبقى من سحرها، عندما يتلاشى غموضها ؟
لن يشاركني أحد سواه سرّي، ولن يحصل بيننا ما يحصل بين أيّ رجل وامرأة، سيكون الأمر مختلفا، سأكتفي بوضع رأسي على صدره وسأردّ من حين لآخر خصلة شعر فالتة على جبينه...قد أحيط وجهه بكفي لتسري فيهما حرارة روحه، وسوف أنام في وداعة على ذراعه منتقمة من ليالي التشرّد بين قلب وآخر، وإن ألحّ في طلب المزيد فسأنظر في عينيه برجاء ليعرف أنّي لست كالأخريات، وأنّي أكتفي منه بضمّة تزيح عن روحي صقيع الذّكريات المؤلمة، قد تتسحّب شفتاي منّي فتلثمان أديما يراودني طيبه وقد لا يحصل ...
داخلني الاطمئنان بأنّ أمّي قد نامت، فشرّعت بوّابة الأمنية التي حاصرتني طويلا. سمعت وقع خطاه، ثمّ طرقاته الخفيفة على الباب، فهرعت أسحبه من يديه إلى مملكتي الصّغيرة، أحكمت إغلاق الباب ودعوته إلى حيث كنت أجلس، شهقت الشّمعة وكاد لهبها ينطفئ حياء، تلألأ بياض الأزهار أكثر وسرت إليها البهجة، فتضوّعت بالطّيب زفراتها وبدا المكان أرحب.
لم يكن يتوقّع أنّي أملك جرأة الاندساس في حضنه ولكنّه أحاطني، ولم أكن أتصوّر أنّ رجلا مثله سيهتزّ خافقه لأنثى تتنطّع عن نواميس القبيلة ...
قال:" أواثقة يا صبيّة ؟" قلت:" ضمّني إليك ..لا تفكّر بشيء عدا أنّنا معا." ورحلنا نلاحق صهيل الدّماء وهي تتقافز في شراييننا ....
لحقتني اليقظة مرّات، وفي كلّ مرّة أجده يتأمّلني في دهشة وأنا أنام كطفلة في عينيه...فأمدّ يدي لتردّ نفس الخصلة النّاشز على جبينه، وأتراجع إلى الخلف لأفسح له مكانا أوسع في صدري، وأطلق أنفاسي نحوه لترتدّ مضمّخة برائحة عطره، وأصرّ على أسناني ويسألني: " ما بك ؟" فأتنهّد ولا أردّ وأدخل جلده ...
مع ابتسام الفجر الأوّل أخاف أن يسعى الشّيطان إليه فيحكم عقده تحت رأسه فينام، وتفجؤني أمّي متلبّسة بالسّهر...في لطف أتسلّق كتفيه لأوقظه همسا، وكغيمة مشبعة بالنّدى يتبخّر في فضاء غرفتي، فأجمع شتات أوراقي وأرقّّّم الصّفحات وأرتّبها في دفتري ثمّ أسجي قلمي بين طيّاتها .
أشيّع عينيّ إلى ميناء السّاعة، ويرتفع صوت الآذان متزامنا مع طرقات أمّي على الباب، فأجيبها، وقبل أن تنطفئ بقيّة الجمرات في روحي، أقوم لأداء الصّلاة ....
تعليق