تستيقظ في الخامسة .تصلي الفجر ..تسبح وتدعو ..تلوذ به وحده ..تتوكل عليه وتمضي في همة إلي حيث سيصطفوا في الطابور. تحجز مكانها الإفتراضي بطاولتي الخبز الخشبيتين المزينتين بأشرطة زرقاء يختلط لونها بالقسوة وبالتراب.لا يثنيها برد ولا يلوي عزمها مرض .تجد عشرات الطاولات قد سبقتها إلي الطابور .تتعجب في صمت متي أو كيف تفوقن علي طاولتها المبكرة. تتنهد كعادتها وتمضي إلي المدرسة. تدس المفتاح في بابها المعدني فتنفتح طاقة صغيرة تكفي لدخول شخص واحد. يغيب فيها جسدها النشيط وهمتها العالية وروحها الواهنة .. تبتلعها داخلها. تمضي أول ما تمضي إلي غرفة المدير ..تدس فيها مفتاح آخر.. تشغل الراديو علي إذاعة القرآن الكريم ملتمسة الأنس والسكينة .. تشرع في تنظيف الغرفة ومسحها بالماء.. تنتقل إلي الردهة.. يتوافد بعض الحضور فرادي في تتابع بطيء يعقبه تواتر وتلاحق.
- صباح الخير يا أم مصطفي . ويردف دون إنتظار رد : أنا عاوز النهاردة باثنين جنية عيش. ثم محذرا بلهجة تنطوي علي غدر : إياك ونسيان طلبي .
- ربك يسهل يا بيه.كله بتساهيل ربنا.
تهرع إلي الطابور فتجده وقد إنغرس مكان كل طاولة إنسان. فتنغرس في رقعتها ساعة أو اثنتان كيفما تقتضي الحال. يتكررالمشهد اليومي من إلقاء التحية وتعالي الاصوات والزجر واللمز وأحيانا العراك .. كيفما يقتضي الحال
تملأ بعد مشقة طاولتاها بنصيبها اليومي المعتاد.. تسرع إلي غرفتها في المدرسة بجوار البوابة الحديدية التي لا ينفتح منها إلا طاقة تسمح بمرور شخص واحد.. تخبيء كنزها وبضاعتها التي تؤمن لها مكسب يومي جنيهان .
يتلقفها المعلمون وغيرهم بطلباتهم لجلب الإفطار من مطعم في طرف الشارع . تزرع الشارع جيئة وذهابا مرات كثيرة .. يدسون في يدها قروش متفاوتة. ينفض الجمع . تصطلب المدرسة مهجورة وحيدة . لا تزال هناك .. وحدها.. تبتلعها الهوة الضيقة. ينصرف الجميع .. يتركونها تنظف دورات المياة .. تزيل أوساخهم.. وكذا الطابق المنوط بها تهيئته ليوم حافل جديد . تصلي المغرب في المدرسة بعد أن تغسل نفسها , وتبدل ملابسها بأخري جافة ونظيفة . تغلق خلفها طاقة الباب. تمشي بتعب وإعياء إلي حجرتها . تضيء النور .. تشغل إذاعة القرآن الكريم ملتمسة الإيناس ودفع الوحشة ومجابهة جحافل الذكري التي تتربص بها .. تترصدها بخيولها وحوافرها وسهامها ورماحها وصليل سيوفها .. تنفلت من الحائط المواجه للسرير كسيل كاسح مع تحدر أول دمعة ألم سانحة.. ينغرس سهم أول ذكري في حبة القلب.. زوجها الذي ألقاها بلا طلاق أو نفقة هي وإبناها ووحيدتها إرضاء لأطماع وأحقاد أهله . تتلقفهم الطرقات وخسة من تبقي من الأهل. تتابع طعنات السهام والرماح في أجزاء متفرقة من الجسد المثخن المنهار .. صبرها علي الأعوام العجاف السبعة في خيمة إيواء مهترئة بعد أن أوشك بيت القطامية المنهارعلي حصد أرواحهم .. عملها الدؤوب في مدرسة أخري وفي بيوت المعلمات لتأثيث شقة المحافظة التي إستلموها.. طرده لها وزواجه بأخري في شقة العمر .. جائزة الصبر.. لجوئها للمدرسة عاملة بالأجر بلا تأمين أو ضمان .. راتبها الذي لا يفي بأجرة الحجرة التي ينتهي عقدها في غضون أعوام .. ابنها الاكبر الذي مسخه الخوف أنانيا رعديدا يخشي زيارتها بعد أن توعده والده ومناه بمساعدة , والأصغر الذي طرده جيرانها وصاحب المنزل بعد أن تعدي عليها بالضرب مرات كثيرة وكاد يصرعها طمعا في مالها الزهيد. حوله الظلم إلي فاجر مستهتر .. يخاف ولا يستحي . ترتسم في ذهنها دوما صورته في الثالثة من عمره .. تبتسم .. يعتصرشيء ما قلبها.. لا تعرف له طريق ولا ترغب أن يعود .. ابنتها التي كفلها الله فأتمت بفضله تعليمها الجامعي .. رمي عرضه, جازاه الله , إلي الشارع .. سترها الرحمن وسخر لها من أبرار خلقه من جهزها للزواج.
- إخص عليكي يا أم مصطفي !.. ليه تحرجي بنتك الجامعية كدة ليلة زفافها ! إنتي فاكرة نفسك لسة في الأرياف وعاداته المهينة زمان؟!
* يا أبلة إحنا خارجين مطرودين . مطرودين. وعشنا لوحدنا من غير راجل ! كان لازم أعمل كده , واكثر من كده عشان أقطع أي لسان يفكر يؤذينا..وهي فاهماني وموافقاني!
تتبدي حفيدتها .. زهرة الجنة الندية وعبقها العبقري. تبتسم وهي تتصورها رافعة كفيها المنمنين إلي السماء .. تقول يا رب بلغتها المتكسرة الشهية
.. تتسع إضحكة تحاول تخفيف وقعها .. ماذا سيقول الجيران .. (الست إتجننت ).. تضحك وحدها في الغرفة . تتنهد.. تدعو الله أن يحفظهما وأن يخلص ابنتها من قسوة أهل زوجها وأذاهم . تدعوه بعد أن تغرق وجهها الدموع ألا ترث قلة حظ أمها.. ويشمت فيهما الشامتون .. يخلصها النوم من هذيانها في لحظة غامضة. يتكوم الناس في طابور طويل تتسمر فيه متململة أجسادهم المنهكة.. ينتظرون في صبر نافد وإصرار مرير شيء مبهم لم يفصح الحلم يوما عن كنهه.
قصة قصيرة بقلم:
اميرة فايد
مايو 2010
- صباح الخير يا أم مصطفي . ويردف دون إنتظار رد : أنا عاوز النهاردة باثنين جنية عيش. ثم محذرا بلهجة تنطوي علي غدر : إياك ونسيان طلبي .
- ربك يسهل يا بيه.كله بتساهيل ربنا.
تهرع إلي الطابور فتجده وقد إنغرس مكان كل طاولة إنسان. فتنغرس في رقعتها ساعة أو اثنتان كيفما تقتضي الحال. يتكررالمشهد اليومي من إلقاء التحية وتعالي الاصوات والزجر واللمز وأحيانا العراك .. كيفما يقتضي الحال
تملأ بعد مشقة طاولتاها بنصيبها اليومي المعتاد.. تسرع إلي غرفتها في المدرسة بجوار البوابة الحديدية التي لا ينفتح منها إلا طاقة تسمح بمرور شخص واحد.. تخبيء كنزها وبضاعتها التي تؤمن لها مكسب يومي جنيهان .
يتلقفها المعلمون وغيرهم بطلباتهم لجلب الإفطار من مطعم في طرف الشارع . تزرع الشارع جيئة وذهابا مرات كثيرة .. يدسون في يدها قروش متفاوتة. ينفض الجمع . تصطلب المدرسة مهجورة وحيدة . لا تزال هناك .. وحدها.. تبتلعها الهوة الضيقة. ينصرف الجميع .. يتركونها تنظف دورات المياة .. تزيل أوساخهم.. وكذا الطابق المنوط بها تهيئته ليوم حافل جديد . تصلي المغرب في المدرسة بعد أن تغسل نفسها , وتبدل ملابسها بأخري جافة ونظيفة . تغلق خلفها طاقة الباب. تمشي بتعب وإعياء إلي حجرتها . تضيء النور .. تشغل إذاعة القرآن الكريم ملتمسة الإيناس ودفع الوحشة ومجابهة جحافل الذكري التي تتربص بها .. تترصدها بخيولها وحوافرها وسهامها ورماحها وصليل سيوفها .. تنفلت من الحائط المواجه للسرير كسيل كاسح مع تحدر أول دمعة ألم سانحة.. ينغرس سهم أول ذكري في حبة القلب.. زوجها الذي ألقاها بلا طلاق أو نفقة هي وإبناها ووحيدتها إرضاء لأطماع وأحقاد أهله . تتلقفهم الطرقات وخسة من تبقي من الأهل. تتابع طعنات السهام والرماح في أجزاء متفرقة من الجسد المثخن المنهار .. صبرها علي الأعوام العجاف السبعة في خيمة إيواء مهترئة بعد أن أوشك بيت القطامية المنهارعلي حصد أرواحهم .. عملها الدؤوب في مدرسة أخري وفي بيوت المعلمات لتأثيث شقة المحافظة التي إستلموها.. طرده لها وزواجه بأخري في شقة العمر .. جائزة الصبر.. لجوئها للمدرسة عاملة بالأجر بلا تأمين أو ضمان .. راتبها الذي لا يفي بأجرة الحجرة التي ينتهي عقدها في غضون أعوام .. ابنها الاكبر الذي مسخه الخوف أنانيا رعديدا يخشي زيارتها بعد أن توعده والده ومناه بمساعدة , والأصغر الذي طرده جيرانها وصاحب المنزل بعد أن تعدي عليها بالضرب مرات كثيرة وكاد يصرعها طمعا في مالها الزهيد. حوله الظلم إلي فاجر مستهتر .. يخاف ولا يستحي . ترتسم في ذهنها دوما صورته في الثالثة من عمره .. تبتسم .. يعتصرشيء ما قلبها.. لا تعرف له طريق ولا ترغب أن يعود .. ابنتها التي كفلها الله فأتمت بفضله تعليمها الجامعي .. رمي عرضه, جازاه الله , إلي الشارع .. سترها الرحمن وسخر لها من أبرار خلقه من جهزها للزواج.
- إخص عليكي يا أم مصطفي !.. ليه تحرجي بنتك الجامعية كدة ليلة زفافها ! إنتي فاكرة نفسك لسة في الأرياف وعاداته المهينة زمان؟!
* يا أبلة إحنا خارجين مطرودين . مطرودين. وعشنا لوحدنا من غير راجل ! كان لازم أعمل كده , واكثر من كده عشان أقطع أي لسان يفكر يؤذينا..وهي فاهماني وموافقاني!
تتبدي حفيدتها .. زهرة الجنة الندية وعبقها العبقري. تبتسم وهي تتصورها رافعة كفيها المنمنين إلي السماء .. تقول يا رب بلغتها المتكسرة الشهية
.. تتسع إضحكة تحاول تخفيف وقعها .. ماذا سيقول الجيران .. (الست إتجننت ).. تضحك وحدها في الغرفة . تتنهد.. تدعو الله أن يحفظهما وأن يخلص ابنتها من قسوة أهل زوجها وأذاهم . تدعوه بعد أن تغرق وجهها الدموع ألا ترث قلة حظ أمها.. ويشمت فيهما الشامتون .. يخلصها النوم من هذيانها في لحظة غامضة. يتكوم الناس في طابور طويل تتسمر فيه متململة أجسادهم المنهكة.. ينتظرون في صبر نافد وإصرار مرير شيء مبهم لم يفصح الحلم يوما عن كنهه.
قصة قصيرة بقلم:
اميرة فايد
مايو 2010
تعليق