السرد والرؤى (3-5 ):قراءات في العالم القصصي ل: (1) عيسى الحلو .(2) علي المك.(3) محمد ابراهيم الشوش.(4) زهاء الطاهر .(5) عادل القصاص.
حول رمزية السياق التعبيري في عالم عيسى الحلو القصصي ..
قصر المرايا - نموذجا
إذ نتناول الاستاذ القاص عيسى الحلو في هذه القراءة, لسبر اغوار عالمه القصصي , في واحدة من التقنيات المعقدة التي يستخدمها: (رمزية المرايا ) - إذا جاز لنا إعتبارها تقنية في الكتابة القصصية - فانما ياتي ذلك ابتداء , كمحاولة لإضافة قول جديد , إلى ما قاله النقاد, لدى وقوفهم عند تخوم عالم الحلو القصصي . فالحلو من دون القصاصين السودانيين الآخرين - بإستثناء الطيب صالح , بالطبع - وجد اهتماما كبيرا, من قبل النقاد السودانيين - على قلتهم - نظرا لتجربته الثرة في كتابة القصة الحداثية .. فهو أحد أبرز أقلام مرحلة التحولات الحداثية , والتي تلت مرحلة الستينيات. والتي كان عيسى الحلو من أبرز كتابها " تم تدمير البنية التقليدية بواسطة التقنيات الحديثة , التي استخدمها كتاب هذه المرحلة , مثل : المنلوج الداخلي والتقطيع واللغة الشعرية المكثفة, ذات الدلالات المفتوحة والفلاش باك , وتداخل الازمنة (1)".. وأكثر ما يستوقفنا لدى قراءة عيسى الحلو , ما تجابهنا به نصوصه من اسئلة , حول الكيفية التي يلتقي فيها: الحس والتجريب في بنية اللغة..اللغة القصصية , على وجه التحديد و ( ما ) حدود المعنى وآفاقه الممكنة , في إشتغال لغة القصة .. "الثابت بدء في الدراسات التداولية , ذات البعد التأويلي , أن المعنى ليس صورة للحسي المباشر , ولكن اللغة هي: التجريبي والرمزي في اللحظة ذاتها , وان تفاوت مستوى الحضور لأحدهما, في اللغات الاصطلاحية أو الإصطناعية , فليست اللغة إظهارا للمحسوس, بواسطة التجريبي , وإنما هي الظهور بذاتها وفي ذاتها , مما يهدم فكرة إمكان إحلال اللفظ محل الشيء (2)" .. ومن هنا نجد الإهتمام الفائق للحلو بلغة القصة , وإشتغاله المستمر بالتجريب فيها , حتى تتكشف عن إمكاناتها القصوى ما أمكن , ولذلك نجده يلجأ إلى لغة الشعر كثيرا , بإعتبارها غاية - لغة الشعر - في حد ذاتها . لكنه هنا يوظفها كغاية , و - ايضا - كحامل للفكرة التي يريد توصيلها عبر السردى .. وذلك لأن القصة عند الحلو إنبثقت من قلب فضاء دينامي , يعج بالحركات والمدارس والمذاهب الفكرية والأدبية , التي عاشها الحلو: على المستوى الذهني في تحصيله المعرفي . وتطبيقا: في إنتاجه الابداعي القصصي ..
من قلب هذا المناخ الذي يعج بالتحولات - فترة الستينيات م القرن الماضي- و تتحاور فيه تاثيرات الوجودية و الواقعية والواقعية الاشتراكية والسحرية , نهضت الكتابة القصصية المتميزة للحلو , لتشكل نسيجا متفردا في المشهد القصصي في السودان ..
ما تتميز به القصة القصيرة, كشكل ادبي ماكر وقلق ومراوغ , هو "ما تنطوي عليه بنيتها الأساسية, من إجتزاء شريحة متوهجة من الحياة , لتعيد صياغة ما بداخلها من بؤر دلالية وتأويلية, تجسد الواقع أو توازيه . قد تكون في بعض الأحيان ملتحمة بهذا الواقع: بمراراته وتأزماته والمسكوت عنه فيه , بحيث تبدو بعض الأشكال منها غرائبية اللحظة, أو لا معقولية الأزمة , المتاحة داخل نسيج النص .. وبحيث غدت القصة القصيرة في ادبنا المعاصر , وكأنها وثيقة إجتماعية أو سياسية ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا , من صراع وتمزق وحيرة وإنهزام وتعدد في الرؤية (3) "..
ونلاحظ في الكتابة القصصية للحلو بعضا من السمات : كخصوصية استخدامه للغة والتقنية وتعدد الأصوات " البلوفونية" في النص القصصي - كما سنلاحظ لدى قراءتنا لقصر المرايا, التي ينساب فيها السرد بضمير المتكلم (للراوي) والمتكلم أيضا للشخصيات الأخرى, إلى جانب لمحة عابرة لضمير الغائب لا تكاد تبين - وهي حيلة تهدف إلى خلق تعدد في زوايا النظر للموضوع الواحد , وهى عادة تستدعي عبر ضمائر الروي جماليات السرد , من خلال تلاقي البنية التشكيلية مع الايقاع النغمي في شاعرية االلغة , كما هو الحال في " قصر المرايا" ..
الى جانب ملاحظاتنا هذه , لاحظ الناقد والقاص معاوية البلال, في دراسته عن الإستيهامي: في القصة القصيرة السودانية , من خلال نموذج ( عرش الحضور والغياب- للحلو ) , أن الحلو "ممن تأثرت كتابتهم القصصية, بما حملته الواقعية السحرية من تأثيرات. فمارست الكتابة الإستيهامية بطرق إبداعية جديدة وأكثر إثارة . وصفوة القول أن الحلو أحد أبرز القصاصين السودانيين , الذين اهتموا بإتقان خلق الشخصية السايكولوجية, المتعددة الأبعاد , وبنية التفجير والمرئي واللامرئي (4)" .. سمات أخرى في تجربة الكتابة القصصية عند الحلو في, دراسته لظاهرة: الإنسيابية في القصة القصيرة السودانية أشار معاوية البلال إلى ما تتسم به قصة عيسى الحلو من "مستوى تلاقي, بين التحفيز والنسق وتنظيم الحبك السردي, والتحقق المعرفي , في تجلياته المختلفة , متخذا نموذجا لذلك قصة ( وماذا فعلت الوردة ) و( الحديقة التي أحبت البستاني) (5)" ..
ولما كان النص القصصي غير منفصل عن النصوص السابقة وإنما يحمل في طياته آثار هذه النصوص - كذلك يستشرف نصوص غائبة , لم يحتك بها ويتوق للتحاور معها فيما يشبه الإستبصار - التي تتداخل بشكل أو بآخر في تكوين القاص, وتفتح إمكانياته الإستشرافية على ما هو غائب عنه . وتسهم في صياغة الخطاب القصصي عنده , بقدر ما يحمل من رغبة في الإبتكار والمجاوزة ..
لكل لذلك نرى أن المدخل لدراسة أى نص قصصي, إنما يتحقق بالتعامل مع النص نفسه , ودراسته في علاقاته بالنصوص الأخرى, التي تعمل في فضاءه. بهدف الكشف عن مداخل جديدة, تساعد على فتح العالم القصصي للحلو .. ومن هنا نجد أن أحد إهتمامات هذه القراءة التي تنهض أيضا في إعادة قراءة ( قصر المرايا ) في علاقاتها الرمزية , والإنطلاق منها إلى فضاء النص , وما يتشكل به من علاقات , وتجسيد لرؤية القاص , وكشف عن مصادر نسيجه الإبداعي ...
يتميز الحلو كحالة متفجرة , بقدرته الفائقة على إستيعاب التجربة الإنسانية ككل, وإعادة صياغتها سرديا. سواء كان ذلك فيما تكشف لنا, بقراءتنا لروايته " صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل" أو قصته موضوع هذه القراءة : " قصر المرايا ", التي تجعل من مجابهة الموت أحد تيماتها الأساسية , في سياق رمزية المرايا بما هي انعكاس لكل الرؤي المتراكبة في النفس البشرية, وكذلك هي سؤال الذات في مواجهة نفسها , ومواجهة الآخر في الآن نفسه ...
رمزية الفضاء النّصِّي :
إنتسجت هذه القصة بما للحلو من قدرة فائقة, على حشد الوقائع والأحداث , التي تحيط بقضية صغيرة , يقوم بتصعيدها الى أقصى مديات ممكنة , في حلقات متماسكة وترابط وثيق الصياغة, والبناء الدرامي الفني . الذي تتخلله االغرائبية شكلا ومضمونا - الغرائبية بمعنى الخارج عن المألوف في القصة القصيرة - فقصر المرايا حكاية زوجين هما : حليم وبهيجة . تتأزم علاقتهما الزوجية . ووفقا لوجهة نظر الراوي: أن السأم وغيرة حليم من عوض زهران, هما سبب هذا التأزم !!..
عوض زهران هو والد بهيجة, بالتبني .. حاول الراوي تهدئة خواطرهم, لكنهم لم ينصتوا, سوى لأصوات ذواتهم /" مراياهم " .. من وجهة نظر الراوي أن حليم مصطفى : "كهل ذو جمال شرير" وكان هذا الجمال الشرير, هو الذي دفع عوض زهران ليصادق حليم, ثم يزوجه من بهيجة, ليخلص نفسه (أو ليخلصوا أنفسهم ) عبر هذه العلاقة الثلاثية . كما أن عوض زهران, رغم ما يبدو عليه, من ورع وتقوى, وشيء من كرامات الصوفية , يظل مستغلقا على الفهم . وهنا يحكي الراوي, عن علاقة عوض زهران بسميرة خليل - التي نعرف فيما بعد أنه تزوجها " هب واقفا لينصرف . وعندما سألته عن الخبر . أجابني :- هناك امرأة عانس , تعاني الوحدة وتتوهم بمحب غير موجود أصلا . سيعود على ظهر فرس أبيض (..)
- قلت أتعرفها من قبل ؟ ..
- لا .. المسألة أنها أضاءت في صدري شيئا, كما لو أوقدت شمعة(6)".
وبعد موت عوض زهران وحليم, وطرد بهيجة لسميرة خليل من قصر المرايا , ترحل بهيجة أيضا إلى الاسكندرية, ثم تمضي بعيدا لتنضم للمقاتلين في سراييفو .. منذها يرى الراوي خيالين : لحليم وبهيجة , لكنهما غير حائرين كما كانا من قبل - كأن موت عوض زهران وحليم خلصا روح بهيجة من مأزقها الوجودي إزاء أسئلة ذاتها, مثلما خلص حليم من حيرته - " ورجحت أن بهيجة على قيد الحياة, وأن سميرة بدورها هناك في مكان ما. من أم درمان (..) تقضي نهارها تصيح في الشوارع والناس (7)".. لكن يظل الراوي يرى أشباح هؤلاء جميعا كما تراها سميرة - بمشاهدها القديمة وعالمها القديم .. فهو لا شيء بدونهم . يتحقق وجوده فقط من خلالهم " مراياهم " ..
وجهة نظر بهيجة بابا دبلوس :
لهيجةبابا دبلوس تحتكم على وجهتي نظر, تمثلان شخصيتيها المختلفتين: كإبنة لوالدها الأصلي( بابا دبلوس /مسيحي) ووالدها بالتبني : عوض زهران/المرآة (مسلم) ,في الأزمة التي عصفت بحياتها الزوجية. لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر الراوي : أن غيرة حليم من عوض زهران هي السبب . في تصاعد الأمور التي آلت بحليم, إلى الإختفاء الغامض ثم الموت , خروجا من أزمة العلاقة .. فلا يبقى لبهيجة سوى أن تلوك ذكرياتها - منذ كانت في سن السادسة -, كامرأة خمسينية .. فبهيجة ذات الجذور اليونانية, تعيش الحرمان من الأب, ثم الأم بعد أن إنفصلت والدتها( إيلين - مسيحية ) ,عن والدها. وجاءت بها من القاهرة إلى الخرطوم . ثم توفيت, فتبناها عوض زهران, ولذلك ينشأ بينها وبين عوض زهران, نوعا غامضا من الحب " يا من علمتني أن أحب الحب ذاته ولذاته " ولذلك تعتنق دينه- الإسلام - سرا دون أن يكون لديه علم - كما تتصور هي - وبإختفاء حليم الغامض بعد موت عوض زهران , وتأكيد موت حليم في نشرة رسمية, من مناطق العمليات - بعد مضي شهرين من ذلك - تبدأ بهيجة عوض زهران في, الحديث عن سميرة خليل " جاءتني إمرأة في الثلاثين (..) وطلبت منيأان تسكن معي , لنتشارك العزلة , فهي وحيدة بعد أن هجرها عوض زهران (8)" لكنها سرعان ما تطرد سميرة , وتكتشف أن كل ما حولها وهم , فتعود إلى شخصيتها ك(بهيجة بابا دبلوس) وتقرر العودة إلى أرض ميلادها ( الاسكندرية ). وهناك لا يعرفها أحد . فتنضم إلى المقاتلين في سراييفو " قالوا أن أسرتي من البلقان أو النوبة , وبعد أسبوع رحلت إلى سراييفو, وانضممت إلى المقاتلين (9) "..
تتشظى مرايا بهيجة (ذاتها), لحظة إحتكاكها بسميرة خليل, التي تتشظى هي الأخرى - فكلاهما مرآة للأخرى - والتي كانت قد جاءتها لتشاركها - كإبنة لزوجها- أحزان الفقد ولوعة الذكريات , فتكتشف أنها ليست إبنة لزهران كما توهمت وتوهم زهران , وأن سميرة ليست سوى وهم- كليهما يكتشف أنه وهم - هذا الكشف يفتحها على وعي ذاتها التي تتشظى بقوة هذه اللحظة - ووعيها بالآخرين الذين طالهم الوهم كذلك - فتبدأ البحث عن هذه الذات , لتعرف حقيقة هويتها!! .. وجهة نظر حليم في أزمة زواجهما: أن زواجهما كان بمثابة السجن. وعوض زهران يتفرج عليهما, يتخبطان داخله " كان عاجزا تماما عن حب بهيجة , فادعى الزهد فيها , وزوجني منها . يعلل عدم زواجه منها بأنها ربيبته . وهي كإبنته (..) الحب عند ثلاثتنا تقوى وتغذى, من الغيرة فإن غاب طرف من الأطراف يهلك الحب بيننا " .. فغياب المرآة يغيب الصورة . لابد من سطح المرآة , الأملس حتى يرى الإنسان صورته . وعوض زهران هو مرآة حليم وبهيجة .. بل ومرآة الراوي نفسه .. وبغيابه تغيب ذواتهم, وهو ما استطاعت سميرة آخيرا أن تفهمه " لقد خرجت من هذا القصر في تلك الليلة , بعد أن يئست وفشلت في المواساة التي تجمع الضحايا (..) أعاقلة أنا ؟ وأصبحت أتحسس كياني . هل أنا سميرة حقا ؟ أم أنا اكذوبة ؟ (..) فكانت بهيجة هائجة تلك الليلة . كانت تصيح في جنون : أنت وهم يبحث عن وهم . أنت لاشيء البتة . أحقيقة ما تقوله بهيجة . ربما أنني لا شيء "..
تقيم رواية ماركيز الأخيرة ( ذكريات عن عاهراتي الحزينات )(10)" حوارا مع هذه القصة , فهاجس الموت( اللامرئي). يهيمن على فضاء النصين . تحكي( ذكريات عن عاهراتي الحزينات): قصة رجل عجوز. ينتبه فجأة إلى أن عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين , فيما يعيش في عزلة تامة .. يقرر العودة إلي متعته الوحيدة, التي مارسها كثيرا في حياته, منذ أن بدأ وعيه يتفتح على العلاقة مع الأنثى مصادفة, وهو لم يبلغ بعد الحادية عشرة . يقرر عندها العودة الى ماضيه السابق من خلال " روسا كاباراكاس تلك السيدة التي تدير البيت السري, الذي كان نافذته على هذه الدنيا . وتنفيذا لحلمه أراد أن يعيش ليلة حب مجنونة, فطلب منها: أن تكون رفقته في هذه الليلة " صبية صغيرة " بشرط ان تكون عذراء .. لكن الصبية التي يلتقي بها في رحلته الجديدة في الحياة بعد التسعين .. تجعله يغير نظرته إلى الحياة ومعها تحدث له التحولات ...
كل النصين ينهضان في ذكريات الماضي - والإستيهامي, من خلال إسترجاع أو تبديد الزمن في اللحظة الحاضرة, التي تشتغل في مجابهة الموت -, ومحاولات الإنعتاق منه .. في أجواء تخييم الموت أو مجابهته أو الإحساس بدنوه ..
فالراوي يستمد حياته من هذا العالم المتحفز ( عالم عوض زهران ) فعوض زهران - كإله صغير - يحرك كل شخوص عالمه - مخلوقاته - بما في ذلك الراوي, الذي يبدو أن عوض زهران
أثر فيه عميقا - حتى بعد أن مات بوقت طويل - إذ ظل يلاحق الراوي.. ومجابهة الموت عند بطل ماركيز كانت بعودته الى أيام شبابه , من خلال صبية عذراء - كأنها القربان - جددت دماء عروقه - برحيق الذكريات - وهو في هذه السن المعمرة.. وأحدثت تحولا جديدا في حياته .. وعوض زهران جابه حبه - ذاته - لبهيجة بتزويجها من حليم . ولم تفلح علاقته بسميرة- التي رغم بلوغها السبعين, إلا أنها ظلت كانها فتأة في الثلاثين تجري في عروقها- دماءالذكريات , التى خلفها زهران وراءه , هذه اللعنة التي جعلتها, تنام في المقابر. وتجري في الشوارع تلاحق أطياف عالم عوض زهران - للتخفيف من وطء هذه المجابهة, التي أحدثت تحولا في حياته , انتهى به إلى مجابهة الموت, في مناطق العمليات الحربية!..
كذلك ما فعله حليم .. حيث تنهض بهيجة هنا كلعنة لعوض زهران, طالت كل من يقترب منها, حتى عوض زهران نفسه - لعنةالذات النرجسية, التي سنأتي إليها لاحقا- ذات عوض زهران - لتنتهى هذه اللعنة في مكان ما آخر.. كذلك هو حال الراوي, الذي تلاحقه أطياف عالم زهران . لتكون خلاصة هذه المجابهات : إنتصارا لفكرة الأبدية من خلال الإستمرار في المراقبة, لهذه الحياة الأبدية. التي صنعها عوض زهران وليس غيره ..
كما نجد أن النص يقيم علاقة حوارية مع نص قصصي اخر . هو قصة " وصية سيسيلياالأخيرة ل " أليثيا شتايمبيرج " (11) فعند موت سيسيليا تجد بطلة القصة أنها تركت وصية غريبة لورثتها , جاءت على هذا النحو " إلى بيب أترك سنواتي العشر الأخيرة من حياتي , بما فيها من متعة وألم متماثلان ( سيقول بيب أن الألم فاق المتعة ) على أى حال هو يعرف أنها لم تكن اسوأ سنوات عمري (..) أترك هذا الخيال لجوسية , أتصور من العذاب الدائم المرتسم على وجهه أنه سيعرف ماذا سيفعل به (..) إلى ما تيلدا أترك مجموعة الصرخات الهائلة, التي أحتفظت بها دوما (..) أعرف من غير المعتاد أن تترك أشياء لشخص مات بالفعل (..) (أنا) إليك .. يا من ستجديني حتما . تلك الأوراق على البيانو (..) إليك يا (أنا) .. وهكذا تمضي الوصية التي تخاطب فيها سيسيليا نفسها التي تجد الوصية, بعد موت سيسيليا فتقول " طالما أنا على قيد الحياة . سيسيليا ستعود " فاللامرئي والمرئي يشكلان وصية سيسيليا وإستمرارية وجودها, بعد الموت - كروح هائمة, أو طيف حلمي ربما ..- مثلما يشكل عوض زهران إستمرارية الراوي , فسيسيليا مرآة الأنا .. وعوض زهران مرآة الراوي .. مثلما بهيجة هي سميرة ذاتها .. المرآة التي رأت فيها نفسها . فطردتها " أنت وهم يبحث عن وهم " ..
ومثلما مثلت عذراء ماركيز المرآة للراوي العجوز .. فالموت أو الإحساس بدنوه . يشكل بؤرة تنطلق منها حياة الشخوص, من المبتدأ إلى المنتهى . بمعنى تتكشف فيه كل لحظات الألم, واللوعة والغبطة .. وتتكثف فيه الذكريات والأحلام .. فهو كالرحم الذي نتخلق فيه ويحتوينا , ثم لا يلبث أن يقذف بنا الي حدود الحلم واللا مرئي ..إلى الوجود , إذ يعيدنا مرة أخرى إلي ظلام هذا الرحم - الارض - الماتريكس.. والأحداث والوقائع - الحياة - عندما تتحول إلى ذكريات , و تصبح أشبه بأحلام البارحة . كما في " متحف المساعي العبثية " ل ( لكريستينا بيري روسي) إذ يقول بطل قصتها هذه " كنت كل مساء أزور متحف الحياة العبثية . أطلب الكاتلوج وأجلس إلى الطاولة الخشبية الكبيرة (..) كتالوج سنة 1922 (..) سنة مكثفة . كثير من الناس قاموا بجهود عبثية . كم مجلد هنا ؟ (..) أكدت لي الموظفة أن المتحف يحتفظ بجزء صغير جدا من المساعي العبثية (12).. فبطل هذه القصة يجد نفسه مأخوذا إلى حد الإدمان , بالمضي كل يوم لمطالعة عالم الماضي , والتعرف على حكايات من مضوا , كان يستمد إستمراريته ووجوده. من هذه الدورة .. دورة الحياة بوقائعها التي تمثلها مساعي ابطالها وهزائمها ومراراتها .. فالموت.. أنه يجابه الموت بالتعرف على حياة من ماتوا : ماذا كانوا يفعلون في حياتهم - فحياتهم هي المرآة التي يرى فيها حياته - فتتجذر هذه الحيوات فيه , لتعطيه الإستمرارية ..
رمزية المرايا في قصر المرايا ..
حول استراتيجية العنوان : (قصر المرايا ):
يتكون هذا العنوان من كلمتين الأولى : هي " قصر" والثانية: هى" المرايا" . في المحتوى الدلالي للطرف الأول :" القصر " دلالة على المكان, الذي تجري فيه أحداث القصة. و"المرايا" واحدة من المكونات التي شيدت به, على المستوى المعنوي لا المادي , فالقصر هو (القفص الذي يفترض أن يكون ذهبيا - بيت الزوجية ).. لكنه هنا محض قصر من المرايا للدلالة على مدى تشظي هذه العلاقة الزوجية .. يقول غاستون باشلار" من الواضح تماما, أن البيت كيان مميز, لدراسة ظاهراتية لقيم ألفة المكان من الداخل . على شرط أن ندرسه كوحدة, وبكل تعقيده . وأن نسعى لدمج كل قيمه الخاصة, بقيمة واحدة أساسية (..) فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها , والبيوت التي حلمنا أن نسكنها , فهل نستطيع أن نعزل, ونستنبط جوهرا حميما. ومحددا, يبرز القيمة غير الشائعة, لكل الصور المتعلقة بالألفة المحمية ؟(..) قد يقدم لنا الجغرافي أو عالم الأثنوغرافيا أوصافا لمختلف أنواع البيوت (..) البيت هو ركننا في العالم . أنه كما قيل مرارا . كوننا الأول (13)..
فما هو بيت ( قصر المرايا ).. يصف لنا الحلوفي قصته( قصر المرايا) هذا البيت بضمير المتكلم ( بهيجة بابا دبلوس): " لنا أنا وزوجي حليم .. قصر صغير . بديع . مكون من غرفة واحدة , تلحق بها صالة ومطبخ.. وتحيط بالقصر أربع حدائق من الجهات كافة . يسوره سياج حديدي رمادي اللون . كتبنا إسمينا : حليم وبهيجة , على بطاقة مضيئة عند البوابة . وعند البوابة كانت العصافير تأتي من كل مكان لتغني في مرح ذاك النشيد الذي ينطلق كالرصاصة النارية (..) يتهمونني على الخصوص بالجنون . فما القصر عندهم إلا بيت صغير . بنى من الآجر الاحمر, المخلوط بالحصى . كشأن كل بيوت أم درمان القديمة منذ عهد الخليفة التعايشي , وهو يقع في الجهة الجنوبية من المدينة, على طرف خور أبي عنجة الشمالي, حيث استقرت الفيالق المحاربة (..) ولكن بيتنا هو حقيقة راسخة , لكل عارف ذي بصيرة . قصر عال .. يتأرجح وسط السراب , يذهب ويجيء غيمة كبيرة من البخار , يتصاعد في علو السموات الزرقاء, متشكلا بألوان الفجر والضحى والمساء (..) وحينما يؤذن الآذان, ينبثق القصر مثل زهرة , وينكشف البهاء فتكشف الرؤيا جدرانا من الماء الشفيف الممطر .. ويأتلق كله قصرا من الزجاج , الكرستال ومن المرايا (14). فهذا القصر هو عبارة عن : بيت عتيق يعود تاريخه الى حقبة المهدية, -المستوى المادي - مكون من غرفة واحدة , مسورة- سور رمادي اللون , بما للون الرمادي من دلالة على الزمن المنصرم . ولما لهذا اللون أيضا من دلالة على الكآبة _ ومزروعة .. لكنه مشيد أيضا على المستوى الدلالي, من هذه الذكريات العتيقة لمدينة أم درمان – كمتكأ للقومية السودانية المزعومة - , ويرتبط بذاكرتها المدينية, في لحظة تكونها وتشكلها الأولى , في أكثر لحظات التاريخ حرجا و دمجا للمجتمعات السودانية من كل أطراف البلاد, لتلتحم في أم درمان - إذ نهضت أم درمان نتيجة للحراك الإجتماعي الواسع , والأول من نوعه في السودان إبان المهدية, بما نقل المجتمعات , من مرحلة القبيلة إلى مرحلة متقدمة عليها هي مرحلة الطائفة -.. هذا البيت الذي يسكنه حليم وبهيجة . تأسس اذن على هذه الذكريات (المرايا) , لذلك هو قصر عال, يتارجح في فضاء هذه الذكريات , التي أضيفت إليها ذكريات أخرى بتعاقب الزمن . وأضيفت إليها أيضا وقائع وأحداث حياة حليم وبهيجة التى نهضت - الوقائع والاحداث - , في هذا البيت ذي الغرفة الوحيدة , لكن الكافية لرعاية ميلاد زواجهما ونموه, و ذكريات حبهما التي سبقت هذا الزواج , حتى مرحلة الصبا فالشيخوخة , لتتشكل من كل هذه المراحل التي تعاقبت على البيت مزيدا من المرايا ( مزيدا من الذكريات ) , التي يرون فيها أنفسهم, كأنهم هم وليس هم , بين بين .. ففي لحظاتهما السعيدة , تسقط أحاسيس الغبطة على البيت , فيشاركهما البيت هذه الغبطة , مثلما شاركهما لحظات صراعهما الإنساني العديدة ..
والطرف الآخر من عنوان القصة هو ( المرايا ), وهي المفتاح المركزي لعالم هذا القصر . فالمرايا في السرد , تقنية وأداة تعبير فني , قبل أن تكون سطحا أملسا , دوره ينحصر في تأدية الإنعكاس , أنها مرايا الذات .. يقول حاتم الصكر " المرايا مقترح شعري إرتبط بأدونيس , الذي عرف عنه إستخدامه المبكر للرمز والقناع, وهما ممهدان ضروريان للمرايا (15). إن أى دراسة للإمكان السردي , في( قصر المرايا) – كما نظن - يجب أن تبدأ أولا بتأمل دلالة المرايا من شتى وجوهها : الظاهرية بحكم وجودها الشيئي ضمن وعينا وشعورنا.. والنفسية لما تحمله من دلالة وجود القرين , ورؤية النفس , وتعرفها عليها, ضمن حيز المرآة: جذرا رمزيا يربطها برغبة( نرسيس) في رؤية وجهه منعكسا على صفحة الماء . والفنية بكونها دالا شعريا وأدبيا عاما , يمكن أن يحمل معه تقنيات خاصة , ترتبط بالإنعكاس وتشويه الإنعكاس معا , أو التشظية والتناثر .. فقصر المرايا تشظت داخله حياة حليم وبهيجة, كما تشظت داخله, كل الذكريات الماضية منذ تأسيسه !!..
حليم وبهيجة رأيا ذاتيهما , بكل غروريهما - حب ذاتهما : إذ توهما أنهما يحبان بعضيهما, بينما هما يحبان الحب لذاته , متمثلا في ذاتهما: فهما, الحب .( كنرسيس النرجسي )..
تشظيا عندما رأيا ذلك في مرايا نفسيهما .. وأول ما يجب ملاحظته – في تقديرنا - أن وجود المرايا بالنسبة إلى الجسد , يرتب تغير موقع المتلفظ أيضا , وموقعه كراو أو سارد من هذه المرايا .. وهم كانوا محاصرين بالمرايا .. المرايا التي امامهم والتي خلفهم .. المرايا من حولهم, وداخلهم.. غرقا في لعبة المرايا .. المرايا التي لها وجودا شيئيا, أكثر عمقا وتاثيرا مما يحسب المبصرون, المتعجلون . والمرايا التي هي أول ما يقع عليه بصرنا .. والمرايا تقتضي وجودا لشيء ما يتمرأى فيها . وبذلك تصبح موضوعا دائما, لذات تمارس فعلها عليه, لكن وظيفة المرآة, تتعدى التأثيث ولوازم الوجود الكمالي, على الجدران أو فوق المكاتب والزوايا , لأن الحيز الذي تشغله , في تفكير الإنسان وأفعاله وسلوكه, هو الأكثر أهمية , وهو الذي أثر في حياة حليم وبهيجة ..
أن المرايا توهمنا بأنها حيادية, تعكس ما ينطبع عليها , أو يتراءى أمامها أو يعرض عليها . وفي حقيقة الأمر تكمن وظيفة المرآة, في كونها تضاعف. وعبر فعل المضاعفة هذا تعطينا "صورة القرين " . الأنا/الآخر. غير المرئي ولكنه موجود .. ورغم أن المرايا ترينا ما تقتنصه أعماقنا فإنها - كما يلاحظ فوكو - إلى جانب كونها تضاعف , لا ترينا ما لا يظهر عبر سطحها . فيظل ثمة فاصل بين ما نرى وما نقول .. فالمرايا لا تقترح علينا آخرا, بل ترينا هذا الآخر الذي نقترحه عليها .. أننا لا نبحث في المرايا, عن واحدية أجسادنا وصورنا , بل نسارع إلى البحث, عن تفاصيل منسية أو مطمورة , كي نؤلف منها صورة القرين , الذي يشاركنا خطانا وحياتنا .. وهو ذو وجود سردي , لأنه يمثل الجانب الثاني في حوارية شخوصنا . وقد إستثمر القصاصون المزايا السردية لوجود قرين المرآة وطوروه ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي أو الشخصية ..
وترينا الحكايات والأساطير أنواعا متعددة من المرايا منها : مرايا الزمن : حيث كانت( سندريلا) تهرب من مرآة زمنية , فلو أنها تأخرت عن ساعة محددة, لعادت إلى صورتها الأولى فتاة فقيرة . ومرايا الاسطورة : حيث يتحول كل ما يقع عليه بصر( ميدوزا) إلى حجر . وثمة في هذه المرايا الأسطورة وجود نرسيسي ( أو نرجسي بالمصطلح العربي المتداول ) (16) لكن ما يدعوه المحلل النفسي الشهير" جاك لاكان" (1901 - 1981) بمرحلة المرآة يستحق التأمل . فهو يرى أن الطفل يستطيع التعرف, على صورته في المرآة في سن مبكرة , على أنها صورته , ويختبر حركات الصورة , ومحيطها المنعكس في المرآة, ثم العلاقة بين ذلك, والواقع المزاوج له , أى جسد الطفل والأفراد والأشياء المحيطة به .. والمهم في مفهوم( لاكان) لمرحلة المرآة بانها تماه, وبأن تمثل الصغير لصورته المرآوية, مع عجزه الحركي, والغذائي. شبيه بالرحم الرمزي. حيث يندفع ضمير الذات إلى شكل أولي , قبل أن يتموضع في جدلية التماهي مع الآخر .
أن المرايا تنطوي علي طبيعة, أو جوهر من جوانب ذاتها الأصلية , تحتفظ بها مهما أخضعت لتحولات .. بوصفها رمزا من رموز الشخصية , وتقنية سردية يقف أمامها ليرصد, ما يتراءى في أعماقها .. يلاحظ( جبرا ابراهيم جبرا) أن اللحظة( النرجسية) هي لحظة لا زمنية . لحظة الممثل على المسرح, وقد إنفلت من قيد التسلسل.. والنرجسية هي الخط الدقيق الذي ينظم وجود الرموز الأسطورية والتاريخية على مستوى الرؤية . يفسر بعض النقاد( قتل المرايا) بأنها إعدام وحرق للكل الثقافي - كما عند ادونيس - الذي تعادله المرايا ( فالقصر ينهار ليعود الى مكوناته كما يراها الجيران: مجرد غرفة مبنية من الآجر الأحمر, المخلوط بالحصى. شأن كل بيوت أم درمان القديمة .. ينهار بإنهيار ذكرياته , بإختفاء أبطالها , بحيث لا تعود ثمة أهمية لذاكرة المكان " القصر", دون شهود أو سكان, يحيون هذه الذاكرة , فينهار بإختفاء حليم وعوض زهران وموتهما .. وينهار بطرد سميرة منه ورحيل بهيجة ) = وفي المثل السوداني ما معناه إذا كان للإنسان منزلا من زجاج فليحذر رمي الآخرين بالحجارة . وهي كناية تحذيرية عن عدم الحديث عن عيوب الناس لأن لنا عيوبنا , التي سيتحدثون عنها أيضا إذا تحدثنا عن عيوبهم !!..
عيوبنا التي ستستحيل أيضا إلى ذكريات , لكنها تظل إحدى مكوناتنا النفسية , فهي جزء من تاريخنا الإجتماعي على مر السنين , وتستطيع مرايانا منحنا رؤيتها بوضوح , كأنها جسم مادي .. وثمة مرايا لا يمكن إخضاعها للتقابل الثنائي, أو للتفسير الرمزي العابر , وهي - كما تسميها( خالدة سعيد)مرايا الأعماق حيث تتقاطع الرؤي جميعا .. وأشار إحسان عباس إلى المرايا باعتبارها اسلوب نظر إلى الماضي(17) . وتقنية إنعكاس المرايا في القص الحديث , من أبرز التقنيات لإستدعاء التاريخ الذاتي ...
فأى نوع من المرايا تلك التي شيد منها قصرالمرايا , و الشخصيتين اللتين تسكنانه (حليم وبهيجة ) . مما تقدم قدمنا إشارات, حول طبيعة هذا القصر التي يصفها لنا الحلو - مقرؤة في سياق علاقتها بطبيعة علاقة هذين الزوجين - على لسان الراوي" كانا : حليم وبهيجة . زوجين من الأرق والتوتر . وذلك عندما وضعا , بمحض حريتهما, علاقتهما الزوجية على حافة الخطر . إذ كانا بحياتهما المشتركة يلهوان . فبعد مضي العام من الزواج. شعرا بالسأم . وهكذا انخرطا في اللعب المهلك , أن يكتشفا في الحياة شيئا بينهما أعمق وأصدق , وأن يريا في علاقتهما, نفسيهما على المرايا (..) كففت عن الكلام مجبرا . ومن ثم .. في نهاية الأمر, أخذوا يكلمون المرايا, المحتشدة بالصور (18).. ثم على لسان بهيجة بابا دبلوس " يأتلق كله قصرا من الزجاج الكريستال, ومن المرايا , بحيرة من الجمال الصافي (..) أرفع رأسي . رأيت صورنا على المرايا . كنت أنا وحليم.. وأنا الأخرى مع عوض زهران . وعوض زهران تارة أخرى مع سميرة.. ورفع حليم عينيه من الكتاب :
- ما بك ؟ أنت شاحبة جدا ؟!
وكنت أرى صورا على المرايا, شديدة العجب, الزمن فيها يجري كيفما شاء . الماضي والحاضر والمستقبل . كل الزمن المستدير يأتي (..)..( أجلس وحدي وصوري تتكاثر, على سطوح المرايا . وتجيء صورة حليم وعوض زهران (..) وتداخلت في هذا الوقت كل الأشياء .. الخواطر والأفكار والأحداث .. حتى بت أشك في القصة بمجملها (19).. ويمضي الحلو في عرض شخوص نصه , معتمدا على تقنية تعدد الاصوات التي أشرنا إليها سابقا . منتقلا إلى شخصية أخرى فيطل علينا حليم مصطفى زوج بهيجة , مستعرضا وجهة نظره بضمير الأنا المتكلم " كنا في داخل هذا القصر الزجاجي, أشبه بسمكتين صغيرتين ملونتين . نسبح داخل هذا الماء الزجاجي (..) كانت كل الأيام تمر متشابهات . نجلس ثلاثتنا نحلق في وجوهنا, التي تنطبع على سطح المرايا, المحيطات بنا . فنرى دواخلنا حتى النخاع (20).. ثم نعود الى شخصية الراوي مرة اخرى , مضيفا إلى وجهة نظره, التي أستهل بها هذه القصة, لننتقل بعد ذلك إلى بهيجة - لكن هذه المرة هي ليست إبنة" بابا دبلوس" والدها الحقيقي بل - إبنة عوض زهران الذي تبناها "أنني أرى حياتي في عزلتي . أرى هذا الحب الغريب الأطوار . دائرة تجري في الإتجاهات الأربعة . وكيف أن هذا الدوار قد قاد كل منا, إلى طريق مختلف . فكنا ندور في متاهة, وشعور يجعلني موقنة, أننا سنلتقي على تخوم ذلك العالم . مكان يشبه قصر المرايا (..) أهو صورة بهيجة على مرايا عوض زهران ؟ أم جئت أبحث عن صورتي.. عن معنى وهدف هذه الحياة ؟ (21)...
ليطل علينا بعد ذلك الوجه الآخر لبهيجة : بهيجة بابا دبلوس , ثم ننتقل إلى الراوي " الذي يحكي حياة سميرة, بعد أن أنهى حكاية بهيجة " كانت سميرة بالجمال تضيء بدرا مكتملا . لقد توقف دوران الزمن فيها عند الثلاثين . وكانت الأقدار تمسح غبار الزوال عنها . رغم بلوغ سميرة السبعين, وعندما تنظر في المرايا, كانت تحدث نفسها بصوت عال (..) الضؤ أمواجا من ألوان الطيف المزبدة . يرفرفون . يشقشقون . وعلى سطوح المرايا هالات زرق (..) وكلما كانت على سطوح المرايا صور , وكلما كان في الفضاء جناح , فأنا بدونهم لا شيء .. لا شيء البتة (22) وهكذا يمكننا أن نستخلص من طرفي العنوان : " قصر - المرايا " ..
إضافة الى إحالاتنا السابقة , أن المرايا هي ذكرياتهم وطريقتهم في النظر إلى ماضيهم وحياتهم . وهي نزعتهم الأنانية في تكريس ذواتهم , دون رغبة في عطاء هذه الذات للآخر , بل عطاءها فقط لنفسها , فحتى في تصور - بهيجة مثلا - لنفسها ما بعد هذه الحياة - الموت - ترغب في أن تلتقيهم ( عوض زهران / سميرة / حليم ) وتتصور أنهم سيلتقون, في قصر شبيه بقصر المرايا .. تريد أن تلتقيهم لتأكيد وجودها المطلق , ليس لأي شيء آخر فهي " لا شيء بدونهم " وحتى تكون شيئا, يجب أن تكون معهم . وهي ذات الرؤية التي توصل إليها حليم , فقد أدرك منذ البداية أن إنسحاب أى طرف من أطراف, علاقتهم الثلاثية. يعني أن ينهار كل شيء . فلا أحد من ثلاثتهم يعني شيئا, دون الآخرين . كذلك الراوي يستمد وجوده عبرهم في حياتهم , وعبر أطيافهم التي تلاحقه, بعد أن آلوا إلي مختلف طرق .. وهكذا تتشكل رمزية المرايا أيضا , في علاقة الذات بالاخر ..
يتبع
حول رمزية السياق التعبيري في عالم عيسى الحلو القصصي ..
قصر المرايا - نموذجا
إذ نتناول الاستاذ القاص عيسى الحلو في هذه القراءة, لسبر اغوار عالمه القصصي , في واحدة من التقنيات المعقدة التي يستخدمها: (رمزية المرايا ) - إذا جاز لنا إعتبارها تقنية في الكتابة القصصية - فانما ياتي ذلك ابتداء , كمحاولة لإضافة قول جديد , إلى ما قاله النقاد, لدى وقوفهم عند تخوم عالم الحلو القصصي . فالحلو من دون القصاصين السودانيين الآخرين - بإستثناء الطيب صالح , بالطبع - وجد اهتماما كبيرا, من قبل النقاد السودانيين - على قلتهم - نظرا لتجربته الثرة في كتابة القصة الحداثية .. فهو أحد أبرز أقلام مرحلة التحولات الحداثية , والتي تلت مرحلة الستينيات. والتي كان عيسى الحلو من أبرز كتابها " تم تدمير البنية التقليدية بواسطة التقنيات الحديثة , التي استخدمها كتاب هذه المرحلة , مثل : المنلوج الداخلي والتقطيع واللغة الشعرية المكثفة, ذات الدلالات المفتوحة والفلاش باك , وتداخل الازمنة (1)".. وأكثر ما يستوقفنا لدى قراءة عيسى الحلو , ما تجابهنا به نصوصه من اسئلة , حول الكيفية التي يلتقي فيها: الحس والتجريب في بنية اللغة..اللغة القصصية , على وجه التحديد و ( ما ) حدود المعنى وآفاقه الممكنة , في إشتغال لغة القصة .. "الثابت بدء في الدراسات التداولية , ذات البعد التأويلي , أن المعنى ليس صورة للحسي المباشر , ولكن اللغة هي: التجريبي والرمزي في اللحظة ذاتها , وان تفاوت مستوى الحضور لأحدهما, في اللغات الاصطلاحية أو الإصطناعية , فليست اللغة إظهارا للمحسوس, بواسطة التجريبي , وإنما هي الظهور بذاتها وفي ذاتها , مما يهدم فكرة إمكان إحلال اللفظ محل الشيء (2)" .. ومن هنا نجد الإهتمام الفائق للحلو بلغة القصة , وإشتغاله المستمر بالتجريب فيها , حتى تتكشف عن إمكاناتها القصوى ما أمكن , ولذلك نجده يلجأ إلى لغة الشعر كثيرا , بإعتبارها غاية - لغة الشعر - في حد ذاتها . لكنه هنا يوظفها كغاية , و - ايضا - كحامل للفكرة التي يريد توصيلها عبر السردى .. وذلك لأن القصة عند الحلو إنبثقت من قلب فضاء دينامي , يعج بالحركات والمدارس والمذاهب الفكرية والأدبية , التي عاشها الحلو: على المستوى الذهني في تحصيله المعرفي . وتطبيقا: في إنتاجه الابداعي القصصي ..
من قلب هذا المناخ الذي يعج بالتحولات - فترة الستينيات م القرن الماضي- و تتحاور فيه تاثيرات الوجودية و الواقعية والواقعية الاشتراكية والسحرية , نهضت الكتابة القصصية المتميزة للحلو , لتشكل نسيجا متفردا في المشهد القصصي في السودان ..
ما تتميز به القصة القصيرة, كشكل ادبي ماكر وقلق ومراوغ , هو "ما تنطوي عليه بنيتها الأساسية, من إجتزاء شريحة متوهجة من الحياة , لتعيد صياغة ما بداخلها من بؤر دلالية وتأويلية, تجسد الواقع أو توازيه . قد تكون في بعض الأحيان ملتحمة بهذا الواقع: بمراراته وتأزماته والمسكوت عنه فيه , بحيث تبدو بعض الأشكال منها غرائبية اللحظة, أو لا معقولية الأزمة , المتاحة داخل نسيج النص .. وبحيث غدت القصة القصيرة في ادبنا المعاصر , وكأنها وثيقة إجتماعية أو سياسية ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا , من صراع وتمزق وحيرة وإنهزام وتعدد في الرؤية (3) "..
ونلاحظ في الكتابة القصصية للحلو بعضا من السمات : كخصوصية استخدامه للغة والتقنية وتعدد الأصوات " البلوفونية" في النص القصصي - كما سنلاحظ لدى قراءتنا لقصر المرايا, التي ينساب فيها السرد بضمير المتكلم (للراوي) والمتكلم أيضا للشخصيات الأخرى, إلى جانب لمحة عابرة لضمير الغائب لا تكاد تبين - وهي حيلة تهدف إلى خلق تعدد في زوايا النظر للموضوع الواحد , وهى عادة تستدعي عبر ضمائر الروي جماليات السرد , من خلال تلاقي البنية التشكيلية مع الايقاع النغمي في شاعرية االلغة , كما هو الحال في " قصر المرايا" ..
الى جانب ملاحظاتنا هذه , لاحظ الناقد والقاص معاوية البلال, في دراسته عن الإستيهامي: في القصة القصيرة السودانية , من خلال نموذج ( عرش الحضور والغياب- للحلو ) , أن الحلو "ممن تأثرت كتابتهم القصصية, بما حملته الواقعية السحرية من تأثيرات. فمارست الكتابة الإستيهامية بطرق إبداعية جديدة وأكثر إثارة . وصفوة القول أن الحلو أحد أبرز القصاصين السودانيين , الذين اهتموا بإتقان خلق الشخصية السايكولوجية, المتعددة الأبعاد , وبنية التفجير والمرئي واللامرئي (4)" .. سمات أخرى في تجربة الكتابة القصصية عند الحلو في, دراسته لظاهرة: الإنسيابية في القصة القصيرة السودانية أشار معاوية البلال إلى ما تتسم به قصة عيسى الحلو من "مستوى تلاقي, بين التحفيز والنسق وتنظيم الحبك السردي, والتحقق المعرفي , في تجلياته المختلفة , متخذا نموذجا لذلك قصة ( وماذا فعلت الوردة ) و( الحديقة التي أحبت البستاني) (5)" ..
ولما كان النص القصصي غير منفصل عن النصوص السابقة وإنما يحمل في طياته آثار هذه النصوص - كذلك يستشرف نصوص غائبة , لم يحتك بها ويتوق للتحاور معها فيما يشبه الإستبصار - التي تتداخل بشكل أو بآخر في تكوين القاص, وتفتح إمكانياته الإستشرافية على ما هو غائب عنه . وتسهم في صياغة الخطاب القصصي عنده , بقدر ما يحمل من رغبة في الإبتكار والمجاوزة ..
لكل لذلك نرى أن المدخل لدراسة أى نص قصصي, إنما يتحقق بالتعامل مع النص نفسه , ودراسته في علاقاته بالنصوص الأخرى, التي تعمل في فضاءه. بهدف الكشف عن مداخل جديدة, تساعد على فتح العالم القصصي للحلو .. ومن هنا نجد أن أحد إهتمامات هذه القراءة التي تنهض أيضا في إعادة قراءة ( قصر المرايا ) في علاقاتها الرمزية , والإنطلاق منها إلى فضاء النص , وما يتشكل به من علاقات , وتجسيد لرؤية القاص , وكشف عن مصادر نسيجه الإبداعي ...
يتميز الحلو كحالة متفجرة , بقدرته الفائقة على إستيعاب التجربة الإنسانية ككل, وإعادة صياغتها سرديا. سواء كان ذلك فيما تكشف لنا, بقراءتنا لروايته " صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل" أو قصته موضوع هذه القراءة : " قصر المرايا ", التي تجعل من مجابهة الموت أحد تيماتها الأساسية , في سياق رمزية المرايا بما هي انعكاس لكل الرؤي المتراكبة في النفس البشرية, وكذلك هي سؤال الذات في مواجهة نفسها , ومواجهة الآخر في الآن نفسه ...
رمزية الفضاء النّصِّي :
إنتسجت هذه القصة بما للحلو من قدرة فائقة, على حشد الوقائع والأحداث , التي تحيط بقضية صغيرة , يقوم بتصعيدها الى أقصى مديات ممكنة , في حلقات متماسكة وترابط وثيق الصياغة, والبناء الدرامي الفني . الذي تتخلله االغرائبية شكلا ومضمونا - الغرائبية بمعنى الخارج عن المألوف في القصة القصيرة - فقصر المرايا حكاية زوجين هما : حليم وبهيجة . تتأزم علاقتهما الزوجية . ووفقا لوجهة نظر الراوي: أن السأم وغيرة حليم من عوض زهران, هما سبب هذا التأزم !!..
عوض زهران هو والد بهيجة, بالتبني .. حاول الراوي تهدئة خواطرهم, لكنهم لم ينصتوا, سوى لأصوات ذواتهم /" مراياهم " .. من وجهة نظر الراوي أن حليم مصطفى : "كهل ذو جمال شرير" وكان هذا الجمال الشرير, هو الذي دفع عوض زهران ليصادق حليم, ثم يزوجه من بهيجة, ليخلص نفسه (أو ليخلصوا أنفسهم ) عبر هذه العلاقة الثلاثية . كما أن عوض زهران, رغم ما يبدو عليه, من ورع وتقوى, وشيء من كرامات الصوفية , يظل مستغلقا على الفهم . وهنا يحكي الراوي, عن علاقة عوض زهران بسميرة خليل - التي نعرف فيما بعد أنه تزوجها " هب واقفا لينصرف . وعندما سألته عن الخبر . أجابني :- هناك امرأة عانس , تعاني الوحدة وتتوهم بمحب غير موجود أصلا . سيعود على ظهر فرس أبيض (..)
- قلت أتعرفها من قبل ؟ ..
- لا .. المسألة أنها أضاءت في صدري شيئا, كما لو أوقدت شمعة(6)".
وبعد موت عوض زهران وحليم, وطرد بهيجة لسميرة خليل من قصر المرايا , ترحل بهيجة أيضا إلى الاسكندرية, ثم تمضي بعيدا لتنضم للمقاتلين في سراييفو .. منذها يرى الراوي خيالين : لحليم وبهيجة , لكنهما غير حائرين كما كانا من قبل - كأن موت عوض زهران وحليم خلصا روح بهيجة من مأزقها الوجودي إزاء أسئلة ذاتها, مثلما خلص حليم من حيرته - " ورجحت أن بهيجة على قيد الحياة, وأن سميرة بدورها هناك في مكان ما. من أم درمان (..) تقضي نهارها تصيح في الشوارع والناس (7)".. لكن يظل الراوي يرى أشباح هؤلاء جميعا كما تراها سميرة - بمشاهدها القديمة وعالمها القديم .. فهو لا شيء بدونهم . يتحقق وجوده فقط من خلالهم " مراياهم " ..
وجهة نظر بهيجة بابا دبلوس :
لهيجةبابا دبلوس تحتكم على وجهتي نظر, تمثلان شخصيتيها المختلفتين: كإبنة لوالدها الأصلي( بابا دبلوس /مسيحي) ووالدها بالتبني : عوض زهران/المرآة (مسلم) ,في الأزمة التي عصفت بحياتها الزوجية. لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر الراوي : أن غيرة حليم من عوض زهران هي السبب . في تصاعد الأمور التي آلت بحليم, إلى الإختفاء الغامض ثم الموت , خروجا من أزمة العلاقة .. فلا يبقى لبهيجة سوى أن تلوك ذكرياتها - منذ كانت في سن السادسة -, كامرأة خمسينية .. فبهيجة ذات الجذور اليونانية, تعيش الحرمان من الأب, ثم الأم بعد أن إنفصلت والدتها( إيلين - مسيحية ) ,عن والدها. وجاءت بها من القاهرة إلى الخرطوم . ثم توفيت, فتبناها عوض زهران, ولذلك ينشأ بينها وبين عوض زهران, نوعا غامضا من الحب " يا من علمتني أن أحب الحب ذاته ولذاته " ولذلك تعتنق دينه- الإسلام - سرا دون أن يكون لديه علم - كما تتصور هي - وبإختفاء حليم الغامض بعد موت عوض زهران , وتأكيد موت حليم في نشرة رسمية, من مناطق العمليات - بعد مضي شهرين من ذلك - تبدأ بهيجة عوض زهران في, الحديث عن سميرة خليل " جاءتني إمرأة في الثلاثين (..) وطلبت منيأان تسكن معي , لنتشارك العزلة , فهي وحيدة بعد أن هجرها عوض زهران (8)" لكنها سرعان ما تطرد سميرة , وتكتشف أن كل ما حولها وهم , فتعود إلى شخصيتها ك(بهيجة بابا دبلوس) وتقرر العودة إلى أرض ميلادها ( الاسكندرية ). وهناك لا يعرفها أحد . فتنضم إلى المقاتلين في سراييفو " قالوا أن أسرتي من البلقان أو النوبة , وبعد أسبوع رحلت إلى سراييفو, وانضممت إلى المقاتلين (9) "..
تتشظى مرايا بهيجة (ذاتها), لحظة إحتكاكها بسميرة خليل, التي تتشظى هي الأخرى - فكلاهما مرآة للأخرى - والتي كانت قد جاءتها لتشاركها - كإبنة لزوجها- أحزان الفقد ولوعة الذكريات , فتكتشف أنها ليست إبنة لزهران كما توهمت وتوهم زهران , وأن سميرة ليست سوى وهم- كليهما يكتشف أنه وهم - هذا الكشف يفتحها على وعي ذاتها التي تتشظى بقوة هذه اللحظة - ووعيها بالآخرين الذين طالهم الوهم كذلك - فتبدأ البحث عن هذه الذات , لتعرف حقيقة هويتها!! .. وجهة نظر حليم في أزمة زواجهما: أن زواجهما كان بمثابة السجن. وعوض زهران يتفرج عليهما, يتخبطان داخله " كان عاجزا تماما عن حب بهيجة , فادعى الزهد فيها , وزوجني منها . يعلل عدم زواجه منها بأنها ربيبته . وهي كإبنته (..) الحب عند ثلاثتنا تقوى وتغذى, من الغيرة فإن غاب طرف من الأطراف يهلك الحب بيننا " .. فغياب المرآة يغيب الصورة . لابد من سطح المرآة , الأملس حتى يرى الإنسان صورته . وعوض زهران هو مرآة حليم وبهيجة .. بل ومرآة الراوي نفسه .. وبغيابه تغيب ذواتهم, وهو ما استطاعت سميرة آخيرا أن تفهمه " لقد خرجت من هذا القصر في تلك الليلة , بعد أن يئست وفشلت في المواساة التي تجمع الضحايا (..) أعاقلة أنا ؟ وأصبحت أتحسس كياني . هل أنا سميرة حقا ؟ أم أنا اكذوبة ؟ (..) فكانت بهيجة هائجة تلك الليلة . كانت تصيح في جنون : أنت وهم يبحث عن وهم . أنت لاشيء البتة . أحقيقة ما تقوله بهيجة . ربما أنني لا شيء "..
تقيم رواية ماركيز الأخيرة ( ذكريات عن عاهراتي الحزينات )(10)" حوارا مع هذه القصة , فهاجس الموت( اللامرئي). يهيمن على فضاء النصين . تحكي( ذكريات عن عاهراتي الحزينات): قصة رجل عجوز. ينتبه فجأة إلى أن عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين , فيما يعيش في عزلة تامة .. يقرر العودة إلي متعته الوحيدة, التي مارسها كثيرا في حياته, منذ أن بدأ وعيه يتفتح على العلاقة مع الأنثى مصادفة, وهو لم يبلغ بعد الحادية عشرة . يقرر عندها العودة الى ماضيه السابق من خلال " روسا كاباراكاس تلك السيدة التي تدير البيت السري, الذي كان نافذته على هذه الدنيا . وتنفيذا لحلمه أراد أن يعيش ليلة حب مجنونة, فطلب منها: أن تكون رفقته في هذه الليلة " صبية صغيرة " بشرط ان تكون عذراء .. لكن الصبية التي يلتقي بها في رحلته الجديدة في الحياة بعد التسعين .. تجعله يغير نظرته إلى الحياة ومعها تحدث له التحولات ...
كل النصين ينهضان في ذكريات الماضي - والإستيهامي, من خلال إسترجاع أو تبديد الزمن في اللحظة الحاضرة, التي تشتغل في مجابهة الموت -, ومحاولات الإنعتاق منه .. في أجواء تخييم الموت أو مجابهته أو الإحساس بدنوه ..
فالراوي يستمد حياته من هذا العالم المتحفز ( عالم عوض زهران ) فعوض زهران - كإله صغير - يحرك كل شخوص عالمه - مخلوقاته - بما في ذلك الراوي, الذي يبدو أن عوض زهران
أثر فيه عميقا - حتى بعد أن مات بوقت طويل - إذ ظل يلاحق الراوي.. ومجابهة الموت عند بطل ماركيز كانت بعودته الى أيام شبابه , من خلال صبية عذراء - كأنها القربان - جددت دماء عروقه - برحيق الذكريات - وهو في هذه السن المعمرة.. وأحدثت تحولا جديدا في حياته .. وعوض زهران جابه حبه - ذاته - لبهيجة بتزويجها من حليم . ولم تفلح علاقته بسميرة- التي رغم بلوغها السبعين, إلا أنها ظلت كانها فتأة في الثلاثين تجري في عروقها- دماءالذكريات , التى خلفها زهران وراءه , هذه اللعنة التي جعلتها, تنام في المقابر. وتجري في الشوارع تلاحق أطياف عالم عوض زهران - للتخفيف من وطء هذه المجابهة, التي أحدثت تحولا في حياته , انتهى به إلى مجابهة الموت, في مناطق العمليات الحربية!..
كذلك ما فعله حليم .. حيث تنهض بهيجة هنا كلعنة لعوض زهران, طالت كل من يقترب منها, حتى عوض زهران نفسه - لعنةالذات النرجسية, التي سنأتي إليها لاحقا- ذات عوض زهران - لتنتهى هذه اللعنة في مكان ما آخر.. كذلك هو حال الراوي, الذي تلاحقه أطياف عالم زهران . لتكون خلاصة هذه المجابهات : إنتصارا لفكرة الأبدية من خلال الإستمرار في المراقبة, لهذه الحياة الأبدية. التي صنعها عوض زهران وليس غيره ..
كما نجد أن النص يقيم علاقة حوارية مع نص قصصي اخر . هو قصة " وصية سيسيلياالأخيرة ل " أليثيا شتايمبيرج " (11) فعند موت سيسيليا تجد بطلة القصة أنها تركت وصية غريبة لورثتها , جاءت على هذا النحو " إلى بيب أترك سنواتي العشر الأخيرة من حياتي , بما فيها من متعة وألم متماثلان ( سيقول بيب أن الألم فاق المتعة ) على أى حال هو يعرف أنها لم تكن اسوأ سنوات عمري (..) أترك هذا الخيال لجوسية , أتصور من العذاب الدائم المرتسم على وجهه أنه سيعرف ماذا سيفعل به (..) إلى ما تيلدا أترك مجموعة الصرخات الهائلة, التي أحتفظت بها دوما (..) أعرف من غير المعتاد أن تترك أشياء لشخص مات بالفعل (..) (أنا) إليك .. يا من ستجديني حتما . تلك الأوراق على البيانو (..) إليك يا (أنا) .. وهكذا تمضي الوصية التي تخاطب فيها سيسيليا نفسها التي تجد الوصية, بعد موت سيسيليا فتقول " طالما أنا على قيد الحياة . سيسيليا ستعود " فاللامرئي والمرئي يشكلان وصية سيسيليا وإستمرارية وجودها, بعد الموت - كروح هائمة, أو طيف حلمي ربما ..- مثلما يشكل عوض زهران إستمرارية الراوي , فسيسيليا مرآة الأنا .. وعوض زهران مرآة الراوي .. مثلما بهيجة هي سميرة ذاتها .. المرآة التي رأت فيها نفسها . فطردتها " أنت وهم يبحث عن وهم " ..
ومثلما مثلت عذراء ماركيز المرآة للراوي العجوز .. فالموت أو الإحساس بدنوه . يشكل بؤرة تنطلق منها حياة الشخوص, من المبتدأ إلى المنتهى . بمعنى تتكشف فيه كل لحظات الألم, واللوعة والغبطة .. وتتكثف فيه الذكريات والأحلام .. فهو كالرحم الذي نتخلق فيه ويحتوينا , ثم لا يلبث أن يقذف بنا الي حدود الحلم واللا مرئي ..إلى الوجود , إذ يعيدنا مرة أخرى إلي ظلام هذا الرحم - الارض - الماتريكس.. والأحداث والوقائع - الحياة - عندما تتحول إلى ذكريات , و تصبح أشبه بأحلام البارحة . كما في " متحف المساعي العبثية " ل ( لكريستينا بيري روسي) إذ يقول بطل قصتها هذه " كنت كل مساء أزور متحف الحياة العبثية . أطلب الكاتلوج وأجلس إلى الطاولة الخشبية الكبيرة (..) كتالوج سنة 1922 (..) سنة مكثفة . كثير من الناس قاموا بجهود عبثية . كم مجلد هنا ؟ (..) أكدت لي الموظفة أن المتحف يحتفظ بجزء صغير جدا من المساعي العبثية (12).. فبطل هذه القصة يجد نفسه مأخوذا إلى حد الإدمان , بالمضي كل يوم لمطالعة عالم الماضي , والتعرف على حكايات من مضوا , كان يستمد إستمراريته ووجوده. من هذه الدورة .. دورة الحياة بوقائعها التي تمثلها مساعي ابطالها وهزائمها ومراراتها .. فالموت.. أنه يجابه الموت بالتعرف على حياة من ماتوا : ماذا كانوا يفعلون في حياتهم - فحياتهم هي المرآة التي يرى فيها حياته - فتتجذر هذه الحيوات فيه , لتعطيه الإستمرارية ..
رمزية المرايا في قصر المرايا ..
حول استراتيجية العنوان : (قصر المرايا ):
يتكون هذا العنوان من كلمتين الأولى : هي " قصر" والثانية: هى" المرايا" . في المحتوى الدلالي للطرف الأول :" القصر " دلالة على المكان, الذي تجري فيه أحداث القصة. و"المرايا" واحدة من المكونات التي شيدت به, على المستوى المعنوي لا المادي , فالقصر هو (القفص الذي يفترض أن يكون ذهبيا - بيت الزوجية ).. لكنه هنا محض قصر من المرايا للدلالة على مدى تشظي هذه العلاقة الزوجية .. يقول غاستون باشلار" من الواضح تماما, أن البيت كيان مميز, لدراسة ظاهراتية لقيم ألفة المكان من الداخل . على شرط أن ندرسه كوحدة, وبكل تعقيده . وأن نسعى لدمج كل قيمه الخاصة, بقيمة واحدة أساسية (..) فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها , والبيوت التي حلمنا أن نسكنها , فهل نستطيع أن نعزل, ونستنبط جوهرا حميما. ومحددا, يبرز القيمة غير الشائعة, لكل الصور المتعلقة بالألفة المحمية ؟(..) قد يقدم لنا الجغرافي أو عالم الأثنوغرافيا أوصافا لمختلف أنواع البيوت (..) البيت هو ركننا في العالم . أنه كما قيل مرارا . كوننا الأول (13)..
فما هو بيت ( قصر المرايا ).. يصف لنا الحلوفي قصته( قصر المرايا) هذا البيت بضمير المتكلم ( بهيجة بابا دبلوس): " لنا أنا وزوجي حليم .. قصر صغير . بديع . مكون من غرفة واحدة , تلحق بها صالة ومطبخ.. وتحيط بالقصر أربع حدائق من الجهات كافة . يسوره سياج حديدي رمادي اللون . كتبنا إسمينا : حليم وبهيجة , على بطاقة مضيئة عند البوابة . وعند البوابة كانت العصافير تأتي من كل مكان لتغني في مرح ذاك النشيد الذي ينطلق كالرصاصة النارية (..) يتهمونني على الخصوص بالجنون . فما القصر عندهم إلا بيت صغير . بنى من الآجر الاحمر, المخلوط بالحصى . كشأن كل بيوت أم درمان القديمة منذ عهد الخليفة التعايشي , وهو يقع في الجهة الجنوبية من المدينة, على طرف خور أبي عنجة الشمالي, حيث استقرت الفيالق المحاربة (..) ولكن بيتنا هو حقيقة راسخة , لكل عارف ذي بصيرة . قصر عال .. يتأرجح وسط السراب , يذهب ويجيء غيمة كبيرة من البخار , يتصاعد في علو السموات الزرقاء, متشكلا بألوان الفجر والضحى والمساء (..) وحينما يؤذن الآذان, ينبثق القصر مثل زهرة , وينكشف البهاء فتكشف الرؤيا جدرانا من الماء الشفيف الممطر .. ويأتلق كله قصرا من الزجاج , الكرستال ومن المرايا (14). فهذا القصر هو عبارة عن : بيت عتيق يعود تاريخه الى حقبة المهدية, -المستوى المادي - مكون من غرفة واحدة , مسورة- سور رمادي اللون , بما للون الرمادي من دلالة على الزمن المنصرم . ولما لهذا اللون أيضا من دلالة على الكآبة _ ومزروعة .. لكنه مشيد أيضا على المستوى الدلالي, من هذه الذكريات العتيقة لمدينة أم درمان – كمتكأ للقومية السودانية المزعومة - , ويرتبط بذاكرتها المدينية, في لحظة تكونها وتشكلها الأولى , في أكثر لحظات التاريخ حرجا و دمجا للمجتمعات السودانية من كل أطراف البلاد, لتلتحم في أم درمان - إذ نهضت أم درمان نتيجة للحراك الإجتماعي الواسع , والأول من نوعه في السودان إبان المهدية, بما نقل المجتمعات , من مرحلة القبيلة إلى مرحلة متقدمة عليها هي مرحلة الطائفة -.. هذا البيت الذي يسكنه حليم وبهيجة . تأسس اذن على هذه الذكريات (المرايا) , لذلك هو قصر عال, يتارجح في فضاء هذه الذكريات , التي أضيفت إليها ذكريات أخرى بتعاقب الزمن . وأضيفت إليها أيضا وقائع وأحداث حياة حليم وبهيجة التى نهضت - الوقائع والاحداث - , في هذا البيت ذي الغرفة الوحيدة , لكن الكافية لرعاية ميلاد زواجهما ونموه, و ذكريات حبهما التي سبقت هذا الزواج , حتى مرحلة الصبا فالشيخوخة , لتتشكل من كل هذه المراحل التي تعاقبت على البيت مزيدا من المرايا ( مزيدا من الذكريات ) , التي يرون فيها أنفسهم, كأنهم هم وليس هم , بين بين .. ففي لحظاتهما السعيدة , تسقط أحاسيس الغبطة على البيت , فيشاركهما البيت هذه الغبطة , مثلما شاركهما لحظات صراعهما الإنساني العديدة ..
والطرف الآخر من عنوان القصة هو ( المرايا ), وهي المفتاح المركزي لعالم هذا القصر . فالمرايا في السرد , تقنية وأداة تعبير فني , قبل أن تكون سطحا أملسا , دوره ينحصر في تأدية الإنعكاس , أنها مرايا الذات .. يقول حاتم الصكر " المرايا مقترح شعري إرتبط بأدونيس , الذي عرف عنه إستخدامه المبكر للرمز والقناع, وهما ممهدان ضروريان للمرايا (15). إن أى دراسة للإمكان السردي , في( قصر المرايا) – كما نظن - يجب أن تبدأ أولا بتأمل دلالة المرايا من شتى وجوهها : الظاهرية بحكم وجودها الشيئي ضمن وعينا وشعورنا.. والنفسية لما تحمله من دلالة وجود القرين , ورؤية النفس , وتعرفها عليها, ضمن حيز المرآة: جذرا رمزيا يربطها برغبة( نرسيس) في رؤية وجهه منعكسا على صفحة الماء . والفنية بكونها دالا شعريا وأدبيا عاما , يمكن أن يحمل معه تقنيات خاصة , ترتبط بالإنعكاس وتشويه الإنعكاس معا , أو التشظية والتناثر .. فقصر المرايا تشظت داخله حياة حليم وبهيجة, كما تشظت داخله, كل الذكريات الماضية منذ تأسيسه !!..
حليم وبهيجة رأيا ذاتيهما , بكل غروريهما - حب ذاتهما : إذ توهما أنهما يحبان بعضيهما, بينما هما يحبان الحب لذاته , متمثلا في ذاتهما: فهما, الحب .( كنرسيس النرجسي )..
تشظيا عندما رأيا ذلك في مرايا نفسيهما .. وأول ما يجب ملاحظته – في تقديرنا - أن وجود المرايا بالنسبة إلى الجسد , يرتب تغير موقع المتلفظ أيضا , وموقعه كراو أو سارد من هذه المرايا .. وهم كانوا محاصرين بالمرايا .. المرايا التي امامهم والتي خلفهم .. المرايا من حولهم, وداخلهم.. غرقا في لعبة المرايا .. المرايا التي لها وجودا شيئيا, أكثر عمقا وتاثيرا مما يحسب المبصرون, المتعجلون . والمرايا التي هي أول ما يقع عليه بصرنا .. والمرايا تقتضي وجودا لشيء ما يتمرأى فيها . وبذلك تصبح موضوعا دائما, لذات تمارس فعلها عليه, لكن وظيفة المرآة, تتعدى التأثيث ولوازم الوجود الكمالي, على الجدران أو فوق المكاتب والزوايا , لأن الحيز الذي تشغله , في تفكير الإنسان وأفعاله وسلوكه, هو الأكثر أهمية , وهو الذي أثر في حياة حليم وبهيجة ..
أن المرايا توهمنا بأنها حيادية, تعكس ما ينطبع عليها , أو يتراءى أمامها أو يعرض عليها . وفي حقيقة الأمر تكمن وظيفة المرآة, في كونها تضاعف. وعبر فعل المضاعفة هذا تعطينا "صورة القرين " . الأنا/الآخر. غير المرئي ولكنه موجود .. ورغم أن المرايا ترينا ما تقتنصه أعماقنا فإنها - كما يلاحظ فوكو - إلى جانب كونها تضاعف , لا ترينا ما لا يظهر عبر سطحها . فيظل ثمة فاصل بين ما نرى وما نقول .. فالمرايا لا تقترح علينا آخرا, بل ترينا هذا الآخر الذي نقترحه عليها .. أننا لا نبحث في المرايا, عن واحدية أجسادنا وصورنا , بل نسارع إلى البحث, عن تفاصيل منسية أو مطمورة , كي نؤلف منها صورة القرين , الذي يشاركنا خطانا وحياتنا .. وهو ذو وجود سردي , لأنه يمثل الجانب الثاني في حوارية شخوصنا . وقد إستثمر القصاصون المزايا السردية لوجود قرين المرآة وطوروه ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي أو الشخصية ..
وترينا الحكايات والأساطير أنواعا متعددة من المرايا منها : مرايا الزمن : حيث كانت( سندريلا) تهرب من مرآة زمنية , فلو أنها تأخرت عن ساعة محددة, لعادت إلى صورتها الأولى فتاة فقيرة . ومرايا الاسطورة : حيث يتحول كل ما يقع عليه بصر( ميدوزا) إلى حجر . وثمة في هذه المرايا الأسطورة وجود نرسيسي ( أو نرجسي بالمصطلح العربي المتداول ) (16) لكن ما يدعوه المحلل النفسي الشهير" جاك لاكان" (1901 - 1981) بمرحلة المرآة يستحق التأمل . فهو يرى أن الطفل يستطيع التعرف, على صورته في المرآة في سن مبكرة , على أنها صورته , ويختبر حركات الصورة , ومحيطها المنعكس في المرآة, ثم العلاقة بين ذلك, والواقع المزاوج له , أى جسد الطفل والأفراد والأشياء المحيطة به .. والمهم في مفهوم( لاكان) لمرحلة المرآة بانها تماه, وبأن تمثل الصغير لصورته المرآوية, مع عجزه الحركي, والغذائي. شبيه بالرحم الرمزي. حيث يندفع ضمير الذات إلى شكل أولي , قبل أن يتموضع في جدلية التماهي مع الآخر .
أن المرايا تنطوي علي طبيعة, أو جوهر من جوانب ذاتها الأصلية , تحتفظ بها مهما أخضعت لتحولات .. بوصفها رمزا من رموز الشخصية , وتقنية سردية يقف أمامها ليرصد, ما يتراءى في أعماقها .. يلاحظ( جبرا ابراهيم جبرا) أن اللحظة( النرجسية) هي لحظة لا زمنية . لحظة الممثل على المسرح, وقد إنفلت من قيد التسلسل.. والنرجسية هي الخط الدقيق الذي ينظم وجود الرموز الأسطورية والتاريخية على مستوى الرؤية . يفسر بعض النقاد( قتل المرايا) بأنها إعدام وحرق للكل الثقافي - كما عند ادونيس - الذي تعادله المرايا ( فالقصر ينهار ليعود الى مكوناته كما يراها الجيران: مجرد غرفة مبنية من الآجر الأحمر, المخلوط بالحصى. شأن كل بيوت أم درمان القديمة .. ينهار بإنهيار ذكرياته , بإختفاء أبطالها , بحيث لا تعود ثمة أهمية لذاكرة المكان " القصر", دون شهود أو سكان, يحيون هذه الذاكرة , فينهار بإختفاء حليم وعوض زهران وموتهما .. وينهار بطرد سميرة منه ورحيل بهيجة ) = وفي المثل السوداني ما معناه إذا كان للإنسان منزلا من زجاج فليحذر رمي الآخرين بالحجارة . وهي كناية تحذيرية عن عدم الحديث عن عيوب الناس لأن لنا عيوبنا , التي سيتحدثون عنها أيضا إذا تحدثنا عن عيوبهم !!..
عيوبنا التي ستستحيل أيضا إلى ذكريات , لكنها تظل إحدى مكوناتنا النفسية , فهي جزء من تاريخنا الإجتماعي على مر السنين , وتستطيع مرايانا منحنا رؤيتها بوضوح , كأنها جسم مادي .. وثمة مرايا لا يمكن إخضاعها للتقابل الثنائي, أو للتفسير الرمزي العابر , وهي - كما تسميها( خالدة سعيد)مرايا الأعماق حيث تتقاطع الرؤي جميعا .. وأشار إحسان عباس إلى المرايا باعتبارها اسلوب نظر إلى الماضي(17) . وتقنية إنعكاس المرايا في القص الحديث , من أبرز التقنيات لإستدعاء التاريخ الذاتي ...
فأى نوع من المرايا تلك التي شيد منها قصرالمرايا , و الشخصيتين اللتين تسكنانه (حليم وبهيجة ) . مما تقدم قدمنا إشارات, حول طبيعة هذا القصر التي يصفها لنا الحلو - مقرؤة في سياق علاقتها بطبيعة علاقة هذين الزوجين - على لسان الراوي" كانا : حليم وبهيجة . زوجين من الأرق والتوتر . وذلك عندما وضعا , بمحض حريتهما, علاقتهما الزوجية على حافة الخطر . إذ كانا بحياتهما المشتركة يلهوان . فبعد مضي العام من الزواج. شعرا بالسأم . وهكذا انخرطا في اللعب المهلك , أن يكتشفا في الحياة شيئا بينهما أعمق وأصدق , وأن يريا في علاقتهما, نفسيهما على المرايا (..) كففت عن الكلام مجبرا . ومن ثم .. في نهاية الأمر, أخذوا يكلمون المرايا, المحتشدة بالصور (18).. ثم على لسان بهيجة بابا دبلوس " يأتلق كله قصرا من الزجاج الكريستال, ومن المرايا , بحيرة من الجمال الصافي (..) أرفع رأسي . رأيت صورنا على المرايا . كنت أنا وحليم.. وأنا الأخرى مع عوض زهران . وعوض زهران تارة أخرى مع سميرة.. ورفع حليم عينيه من الكتاب :
- ما بك ؟ أنت شاحبة جدا ؟!
وكنت أرى صورا على المرايا, شديدة العجب, الزمن فيها يجري كيفما شاء . الماضي والحاضر والمستقبل . كل الزمن المستدير يأتي (..)..( أجلس وحدي وصوري تتكاثر, على سطوح المرايا . وتجيء صورة حليم وعوض زهران (..) وتداخلت في هذا الوقت كل الأشياء .. الخواطر والأفكار والأحداث .. حتى بت أشك في القصة بمجملها (19).. ويمضي الحلو في عرض شخوص نصه , معتمدا على تقنية تعدد الاصوات التي أشرنا إليها سابقا . منتقلا إلى شخصية أخرى فيطل علينا حليم مصطفى زوج بهيجة , مستعرضا وجهة نظره بضمير الأنا المتكلم " كنا في داخل هذا القصر الزجاجي, أشبه بسمكتين صغيرتين ملونتين . نسبح داخل هذا الماء الزجاجي (..) كانت كل الأيام تمر متشابهات . نجلس ثلاثتنا نحلق في وجوهنا, التي تنطبع على سطح المرايا, المحيطات بنا . فنرى دواخلنا حتى النخاع (20).. ثم نعود الى شخصية الراوي مرة اخرى , مضيفا إلى وجهة نظره, التي أستهل بها هذه القصة, لننتقل بعد ذلك إلى بهيجة - لكن هذه المرة هي ليست إبنة" بابا دبلوس" والدها الحقيقي بل - إبنة عوض زهران الذي تبناها "أنني أرى حياتي في عزلتي . أرى هذا الحب الغريب الأطوار . دائرة تجري في الإتجاهات الأربعة . وكيف أن هذا الدوار قد قاد كل منا, إلى طريق مختلف . فكنا ندور في متاهة, وشعور يجعلني موقنة, أننا سنلتقي على تخوم ذلك العالم . مكان يشبه قصر المرايا (..) أهو صورة بهيجة على مرايا عوض زهران ؟ أم جئت أبحث عن صورتي.. عن معنى وهدف هذه الحياة ؟ (21)...
ليطل علينا بعد ذلك الوجه الآخر لبهيجة : بهيجة بابا دبلوس , ثم ننتقل إلى الراوي " الذي يحكي حياة سميرة, بعد أن أنهى حكاية بهيجة " كانت سميرة بالجمال تضيء بدرا مكتملا . لقد توقف دوران الزمن فيها عند الثلاثين . وكانت الأقدار تمسح غبار الزوال عنها . رغم بلوغ سميرة السبعين, وعندما تنظر في المرايا, كانت تحدث نفسها بصوت عال (..) الضؤ أمواجا من ألوان الطيف المزبدة . يرفرفون . يشقشقون . وعلى سطوح المرايا هالات زرق (..) وكلما كانت على سطوح المرايا صور , وكلما كان في الفضاء جناح , فأنا بدونهم لا شيء .. لا شيء البتة (22) وهكذا يمكننا أن نستخلص من طرفي العنوان : " قصر - المرايا " ..
إضافة الى إحالاتنا السابقة , أن المرايا هي ذكرياتهم وطريقتهم في النظر إلى ماضيهم وحياتهم . وهي نزعتهم الأنانية في تكريس ذواتهم , دون رغبة في عطاء هذه الذات للآخر , بل عطاءها فقط لنفسها , فحتى في تصور - بهيجة مثلا - لنفسها ما بعد هذه الحياة - الموت - ترغب في أن تلتقيهم ( عوض زهران / سميرة / حليم ) وتتصور أنهم سيلتقون, في قصر شبيه بقصر المرايا .. تريد أن تلتقيهم لتأكيد وجودها المطلق , ليس لأي شيء آخر فهي " لا شيء بدونهم " وحتى تكون شيئا, يجب أن تكون معهم . وهي ذات الرؤية التي توصل إليها حليم , فقد أدرك منذ البداية أن إنسحاب أى طرف من أطراف, علاقتهم الثلاثية. يعني أن ينهار كل شيء . فلا أحد من ثلاثتهم يعني شيئا, دون الآخرين . كذلك الراوي يستمد وجوده عبرهم في حياتهم , وعبر أطيافهم التي تلاحقه, بعد أن آلوا إلي مختلف طرق .. وهكذا تتشكل رمزية المرايا أيضا , في علاقة الذات بالاخر ..
تعليق