السرد والرؤى (3-5 ):قراءات في العالم القصصي ل: (1) عيسى الحلو .(2) علي المك

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد ضحية
    أديب وكاتب
    • 10-05-2010
    • 121

    السرد والرؤى (3-5 ):قراءات في العالم القصصي ل: (1) عيسى الحلو .(2) علي المك

    السرد والرؤى (3-5 ):قراءات في العالم القصصي ل: (1) عيسى الحلو .(2) علي المك.(3) محمد ابراهيم الشوش.(4) زهاء الطاهر .(5) عادل القصاص.
    حول رمزية السياق التعبيري في عالم عيسى الحلو القصصي ..
    قصر المرايا - نموذجا
    إذ نتناول الاستاذ القاص عيسى الحلو في هذه القراءة, لسبر اغوار عالمه القصصي , في واحدة من التقنيات المعقدة التي يستخدمها: (رمزية المرايا ) - إذا جاز لنا إعتبارها تقنية في الكتابة القصصية - فانما ياتي ذلك ابتداء , كمحاولة لإضافة قول جديد , إلى ما قاله النقاد, لدى وقوفهم عند تخوم عالم الحلو القصصي . فالحلو من دون القصاصين السودانيين الآخرين - بإستثناء الطيب صالح , بالطبع - وجد اهتماما كبيرا, من قبل النقاد السودانيين - على قلتهم - نظرا لتجربته الثرة في كتابة القصة الحداثية .. فهو أحد أبرز أقلام مرحلة التحولات الحداثية , والتي تلت مرحلة الستينيات. والتي كان عيسى الحلو من أبرز كتابها " تم تدمير البنية التقليدية بواسطة التقنيات الحديثة , التي استخدمها كتاب هذه المرحلة , مثل : المنلوج الداخلي والتقطيع واللغة الشعرية المكثفة, ذات الدلالات المفتوحة والفلاش باك , وتداخل الازمنة (1)".. وأكثر ما يستوقفنا لدى قراءة عيسى الحلو , ما تجابهنا به نصوصه من اسئلة , حول الكيفية التي يلتقي فيها: الحس والتجريب في بنية اللغة..اللغة القصصية , على وجه التحديد و ( ما ) حدود المعنى وآفاقه الممكنة , في إشتغال لغة القصة .. "الثابت بدء في الدراسات التداولية , ذات البعد التأويلي , أن المعنى ليس صورة للحسي المباشر , ولكن اللغة هي: التجريبي والرمزي في اللحظة ذاتها , وان تفاوت مستوى الحضور لأحدهما, في اللغات الاصطلاحية أو الإصطناعية , فليست اللغة إظهارا للمحسوس, بواسطة التجريبي , وإنما هي الظهور بذاتها وفي ذاتها , مما يهدم فكرة إمكان إحلال اللفظ محل الشيء (2)" .. ومن هنا نجد الإهتمام الفائق للحلو بلغة القصة , وإشتغاله المستمر بالتجريب فيها , حتى تتكشف عن إمكاناتها القصوى ما أمكن , ولذلك نجده يلجأ إلى لغة الشعر كثيرا , بإعتبارها غاية - لغة الشعر - في حد ذاتها . لكنه هنا يوظفها كغاية , و - ايضا - كحامل للفكرة التي يريد توصيلها عبر السردى .. وذلك لأن القصة عند الحلو إنبثقت من قلب فضاء دينامي , يعج بالحركات والمدارس والمذاهب الفكرية والأدبية , التي عاشها الحلو: على المستوى الذهني في تحصيله المعرفي . وتطبيقا: في إنتاجه الابداعي القصصي ..
    من قلب هذا المناخ الذي يعج بالتحولات - فترة الستينيات م القرن الماضي- و تتحاور فيه تاثيرات الوجودية و الواقعية والواقعية الاشتراكية والسحرية , نهضت الكتابة القصصية المتميزة للحلو , لتشكل نسيجا متفردا في المشهد القصصي في السودان ..
    ما تتميز به القصة القصيرة, كشكل ادبي ماكر وقلق ومراوغ , هو "ما تنطوي عليه بنيتها الأساسية, من إجتزاء شريحة متوهجة من الحياة , لتعيد صياغة ما بداخلها من بؤر دلالية وتأويلية, تجسد الواقع أو توازيه . قد تكون في بعض الأحيان ملتحمة بهذا الواقع: بمراراته وتأزماته والمسكوت عنه فيه , بحيث تبدو بعض الأشكال منها غرائبية اللحظة, أو لا معقولية الأزمة , المتاحة داخل نسيج النص .. وبحيث غدت القصة القصيرة في ادبنا المعاصر , وكأنها وثيقة إجتماعية أو سياسية ملتصقة بما يشتمل عليه وجودنا , من صراع وتمزق وحيرة وإنهزام وتعدد في الرؤية (3) "..
    ونلاحظ في الكتابة القصصية للحلو بعضا من السمات : كخصوصية استخدامه للغة والتقنية وتعدد الأصوات " البلوفونية" في النص القصصي - كما سنلاحظ لدى قراءتنا لقصر المرايا, التي ينساب فيها السرد بضمير المتكلم (للراوي) والمتكلم أيضا للشخصيات الأخرى, إلى جانب لمحة عابرة لضمير الغائب لا تكاد تبين - وهي حيلة تهدف إلى خلق تعدد في زوايا النظر للموضوع الواحد , وهى عادة تستدعي عبر ضمائر الروي جماليات السرد , من خلال تلاقي البنية التشكيلية مع الايقاع النغمي في شاعرية االلغة , كما هو الحال في " قصر المرايا" ..
    الى جانب ملاحظاتنا هذه , لاحظ الناقد والقاص معاوية البلال, في دراسته عن الإستيهامي: في القصة القصيرة السودانية , من خلال نموذج ( عرش الحضور والغياب- للحلو ) , أن الحلو "ممن تأثرت كتابتهم القصصية, بما حملته الواقعية السحرية من تأثيرات. فمارست الكتابة الإستيهامية بطرق إبداعية جديدة وأكثر إثارة . وصفوة القول أن الحلو أحد أبرز القصاصين السودانيين , الذين اهتموا بإتقان خلق الشخصية السايكولوجية, المتعددة الأبعاد , وبنية التفجير والمرئي واللامرئي (4)" .. سمات أخرى في تجربة الكتابة القصصية عند الحلو في, دراسته لظاهرة: الإنسيابية في القصة القصيرة السودانية أشار معاوية البلال إلى ما تتسم به قصة عيسى الحلو من "مستوى تلاقي, بين التحفيز والنسق وتنظيم الحبك السردي, والتحقق المعرفي , في تجلياته المختلفة , متخذا نموذجا لذلك قصة ( وماذا فعلت الوردة ) و( الحديقة التي أحبت البستاني) (5)" ..
    ولما كان النص القصصي غير منفصل عن النصوص السابقة وإنما يحمل في طياته آثار هذه النصوص - كذلك يستشرف نصوص غائبة , لم يحتك بها ويتوق للتحاور معها فيما يشبه الإستبصار - التي تتداخل بشكل أو بآخر في تكوين القاص, وتفتح إمكانياته الإستشرافية على ما هو غائب عنه . وتسهم في صياغة الخطاب القصصي عنده , بقدر ما يحمل من رغبة في الإبتكار والمجاوزة ..
    لكل لذلك نرى أن المدخل لدراسة أى نص قصصي, إنما يتحقق بالتعامل مع النص نفسه , ودراسته في علاقاته بالنصوص الأخرى, التي تعمل في فضاءه. بهدف الكشف عن مداخل جديدة, تساعد على فتح العالم القصصي للحلو .. ومن هنا نجد أن أحد إهتمامات هذه القراءة التي تنهض أيضا في إعادة قراءة ( قصر المرايا ) في علاقاتها الرمزية , والإنطلاق منها إلى فضاء النص , وما يتشكل به من علاقات , وتجسيد لرؤية القاص , وكشف عن مصادر نسيجه الإبداعي ...
    يتميز الحلو كحالة متفجرة , بقدرته الفائقة على إستيعاب التجربة الإنسانية ككل, وإعادة صياغتها سرديا. سواء كان ذلك فيما تكشف لنا, بقراءتنا لروايته " صباح الخير ايها الوجه اللامرئي الجميل" أو قصته موضوع هذه القراءة : " قصر المرايا ", التي تجعل من مجابهة الموت أحد تيماتها الأساسية , في سياق رمزية المرايا بما هي انعكاس لكل الرؤي المتراكبة في النفس البشرية, وكذلك هي سؤال الذات في مواجهة نفسها , ومواجهة الآخر في الآن نفسه ...
    رمزية الفضاء النّصِّي :
    إنتسجت هذه القصة بما للحلو من قدرة فائقة, على حشد الوقائع والأحداث , التي تحيط بقضية صغيرة , يقوم بتصعيدها الى أقصى مديات ممكنة , في حلقات متماسكة وترابط وثيق الصياغة, والبناء الدرامي الفني . الذي تتخلله االغرائبية شكلا ومضمونا - الغرائبية بمعنى الخارج عن المألوف في القصة القصيرة - فقصر المرايا حكاية زوجين هما : حليم وبهيجة . تتأزم علاقتهما الزوجية . ووفقا لوجهة نظر الراوي: أن السأم وغيرة حليم من عوض زهران, هما سبب هذا التأزم !!..
    عوض زهران هو والد بهيجة, بالتبني .. حاول الراوي تهدئة خواطرهم, لكنهم لم ينصتوا, سوى لأصوات ذواتهم /" مراياهم " .. من وجهة نظر الراوي أن حليم مصطفى : "كهل ذو جمال شرير" وكان هذا الجمال الشرير, هو الذي دفع عوض زهران ليصادق حليم, ثم يزوجه من بهيجة, ليخلص نفسه (أو ليخلصوا أنفسهم ) عبر هذه العلاقة الثلاثية . كما أن عوض زهران, رغم ما يبدو عليه, من ورع وتقوى, وشيء من كرامات الصوفية , يظل مستغلقا على الفهم . وهنا يحكي الراوي, عن علاقة عوض زهران بسميرة خليل - التي نعرف فيما بعد أنه تزوجها " هب واقفا لينصرف . وعندما سألته عن الخبر . أجابني :- هناك امرأة عانس , تعاني الوحدة وتتوهم بمحب غير موجود أصلا . سيعود على ظهر فرس أبيض (..)
    - قلت أتعرفها من قبل ؟ ..
    - لا .. المسألة أنها أضاءت في صدري شيئا, كما لو أوقدت شمعة(6)".
    وبعد موت عوض زهران وحليم, وطرد بهيجة لسميرة خليل من قصر المرايا , ترحل بهيجة أيضا إلى الاسكندرية, ثم تمضي بعيدا لتنضم للمقاتلين في سراييفو .. منذها يرى الراوي خيالين : لحليم وبهيجة , لكنهما غير حائرين كما كانا من قبل - كأن موت عوض زهران وحليم خلصا روح بهيجة من مأزقها الوجودي إزاء أسئلة ذاتها, مثلما خلص حليم من حيرته - " ورجحت أن بهيجة على قيد الحياة, وأن سميرة بدورها هناك في مكان ما. من أم درمان (..) تقضي نهارها تصيح في الشوارع والناس (7)".. لكن يظل الراوي يرى أشباح هؤلاء جميعا كما تراها سميرة - بمشاهدها القديمة وعالمها القديم .. فهو لا شيء بدونهم . يتحقق وجوده فقط من خلالهم " مراياهم " ..
    وجهة نظر بهيجة بابا دبلوس :
    لهيجةبابا دبلوس تحتكم على وجهتي نظر, تمثلان شخصيتيها المختلفتين: كإبنة لوالدها الأصلي( بابا دبلوس /مسيحي) ووالدها بالتبني : عوض زهران/المرآة (مسلم) ,في الأزمة التي عصفت بحياتها الزوجية. لا تختلف كثيرا عن وجهة نظر الراوي : أن غيرة حليم من عوض زهران هي السبب . في تصاعد الأمور التي آلت بحليم, إلى الإختفاء الغامض ثم الموت , خروجا من أزمة العلاقة .. فلا يبقى لبهيجة سوى أن تلوك ذكرياتها - منذ كانت في سن السادسة -, كامرأة خمسينية .. فبهيجة ذات الجذور اليونانية, تعيش الحرمان من الأب, ثم الأم بعد أن إنفصلت والدتها( إيلين - مسيحية ) ,عن والدها. وجاءت بها من القاهرة إلى الخرطوم . ثم توفيت, فتبناها عوض زهران, ولذلك ينشأ بينها وبين عوض زهران, نوعا غامضا من الحب " يا من علمتني أن أحب الحب ذاته ولذاته " ولذلك تعتنق دينه- الإسلام - سرا دون أن يكون لديه علم - كما تتصور هي - وبإختفاء حليم الغامض بعد موت عوض زهران , وتأكيد موت حليم في نشرة رسمية, من مناطق العمليات - بعد مضي شهرين من ذلك - تبدأ بهيجة عوض زهران في, الحديث عن سميرة خليل " جاءتني إمرأة في الثلاثين (..) وطلبت منيأان تسكن معي , لنتشارك العزلة , فهي وحيدة بعد أن هجرها عوض زهران (8)" لكنها سرعان ما تطرد سميرة , وتكتشف أن كل ما حولها وهم , فتعود إلى شخصيتها ك(بهيجة بابا دبلوس) وتقرر العودة إلى أرض ميلادها ( الاسكندرية ). وهناك لا يعرفها أحد . فتنضم إلى المقاتلين في سراييفو " قالوا أن أسرتي من البلقان أو النوبة , وبعد أسبوع رحلت إلى سراييفو, وانضممت إلى المقاتلين (9) "..
    تتشظى مرايا بهيجة (ذاتها), لحظة إحتكاكها بسميرة خليل, التي تتشظى هي الأخرى - فكلاهما مرآة للأخرى - والتي كانت قد جاءتها لتشاركها - كإبنة لزوجها- أحزان الفقد ولوعة الذكريات , فتكتشف أنها ليست إبنة لزهران كما توهمت وتوهم زهران , وأن سميرة ليست سوى وهم- كليهما يكتشف أنه وهم - هذا الكشف يفتحها على وعي ذاتها التي تتشظى بقوة هذه اللحظة - ووعيها بالآخرين الذين طالهم الوهم كذلك - فتبدأ البحث عن هذه الذات , لتعرف حقيقة هويتها!! .. وجهة نظر حليم في أزمة زواجهما: أن زواجهما كان بمثابة السجن. وعوض زهران يتفرج عليهما, يتخبطان داخله " كان عاجزا تماما عن حب بهيجة , فادعى الزهد فيها , وزوجني منها . يعلل عدم زواجه منها بأنها ربيبته . وهي كإبنته (..) الحب عند ثلاثتنا تقوى وتغذى, من الغيرة فإن غاب طرف من الأطراف يهلك الحب بيننا " .. فغياب المرآة يغيب الصورة . لابد من سطح المرآة , الأملس حتى يرى الإنسان صورته . وعوض زهران هو مرآة حليم وبهيجة .. بل ومرآة الراوي نفسه .. وبغيابه تغيب ذواتهم, وهو ما استطاعت سميرة آخيرا أن تفهمه " لقد خرجت من هذا القصر في تلك الليلة , بعد أن يئست وفشلت في المواساة التي تجمع الضحايا (..) أعاقلة أنا ؟ وأصبحت أتحسس كياني . هل أنا سميرة حقا ؟ أم أنا اكذوبة ؟ (..) فكانت بهيجة هائجة تلك الليلة . كانت تصيح في جنون : أنت وهم يبحث عن وهم . أنت لاشيء البتة . أحقيقة ما تقوله بهيجة . ربما أنني لا شيء "..
    تقيم رواية ماركيز الأخيرة ( ذكريات عن عاهراتي الحزينات )(10)" حوارا مع هذه القصة , فهاجس الموت( اللامرئي). يهيمن على فضاء النصين . تحكي( ذكريات عن عاهراتي الحزينات): قصة رجل عجوز. ينتبه فجأة إلى أن عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين , فيما يعيش في عزلة تامة .. يقرر العودة إلي متعته الوحيدة, التي مارسها كثيرا في حياته, منذ أن بدأ وعيه يتفتح على العلاقة مع الأنثى مصادفة, وهو لم يبلغ بعد الحادية عشرة . يقرر عندها العودة الى ماضيه السابق من خلال " روسا كاباراكاس تلك السيدة التي تدير البيت السري, الذي كان نافذته على هذه الدنيا . وتنفيذا لحلمه أراد أن يعيش ليلة حب مجنونة, فطلب منها: أن تكون رفقته في هذه الليلة " صبية صغيرة " بشرط ان تكون عذراء .. لكن الصبية التي يلتقي بها في رحلته الجديدة في الحياة بعد التسعين .. تجعله يغير نظرته إلى الحياة ومعها تحدث له التحولات ...
    كل النصين ينهضان في ذكريات الماضي - والإستيهامي, من خلال إسترجاع أو تبديد الزمن في اللحظة الحاضرة, التي تشتغل في مجابهة الموت -, ومحاولات الإنعتاق منه .. في أجواء تخييم الموت أو مجابهته أو الإحساس بدنوه ..
    فالراوي يستمد حياته من هذا العالم المتحفز ( عالم عوض زهران ) فعوض زهران - كإله صغير - يحرك كل شخوص عالمه - مخلوقاته - بما في ذلك الراوي, الذي يبدو أن عوض زهران


    أثر فيه عميقا - حتى بعد أن مات بوقت طويل - إذ ظل يلاحق الراوي.. ومجابهة الموت عند بطل ماركيز كانت بعودته الى أيام شبابه , من خلال صبية عذراء - كأنها القربان - جددت دماء عروقه - برحيق الذكريات - وهو في هذه السن المعمرة.. وأحدثت تحولا جديدا في حياته .. وعوض زهران جابه حبه - ذاته - لبهيجة بتزويجها من حليم . ولم تفلح علاقته بسميرة- التي رغم بلوغها السبعين, إلا أنها ظلت كانها فتأة في الثلاثين تجري في عروقها- دماءالذكريات , التى خلفها زهران وراءه , هذه اللعنة التي جعلتها, تنام في المقابر. وتجري في الشوارع تلاحق أطياف عالم عوض زهران - للتخفيف من وطء هذه المجابهة, التي أحدثت تحولا في حياته , انتهى به إلى مجابهة الموت, في مناطق العمليات الحربية!..
    كذلك ما فعله حليم .. حيث تنهض بهيجة هنا كلعنة لعوض زهران, طالت كل من يقترب منها, حتى عوض زهران نفسه - لعنةالذات النرجسية, التي سنأتي إليها لاحقا- ذات عوض زهران - لتنتهى هذه اللعنة في مكان ما آخر.. كذلك هو حال الراوي, الذي تلاحقه أطياف عالم زهران . لتكون خلاصة هذه المجابهات : إنتصارا لفكرة الأبدية من خلال الإستمرار في المراقبة, لهذه الحياة الأبدية. التي صنعها عوض زهران وليس غيره ..
    كما نجد أن النص يقيم علاقة حوارية مع نص قصصي اخر . هو قصة " وصية سيسيلياالأخيرة ل " أليثيا شتايمبيرج " (11) فعند موت سيسيليا تجد بطلة القصة أنها تركت وصية غريبة لورثتها , جاءت على هذا النحو " إلى بيب أترك سنواتي العشر الأخيرة من حياتي , بما فيها من متعة وألم متماثلان ( سيقول بيب أن الألم فاق المتعة ) على أى حال هو يعرف أنها لم تكن اسوأ سنوات عمري (..) أترك هذا الخيال لجوسية , أتصور من العذاب الدائم المرتسم على وجهه أنه سيعرف ماذا سيفعل به (..) إلى ما تيلدا أترك مجموعة الصرخات الهائلة, التي أحتفظت بها دوما (..) أعرف من غير المعتاد أن تترك أشياء لشخص مات بالفعل (..) (أنا) إليك .. يا من ستجديني حتما . تلك الأوراق على البيانو (..) إليك يا (أنا) .. وهكذا تمضي الوصية التي تخاطب فيها سيسيليا نفسها التي تجد الوصية, بعد موت سيسيليا فتقول " طالما أنا على قيد الحياة . سيسيليا ستعود " فاللامرئي والمرئي يشكلان وصية سيسيليا وإستمرارية وجودها, بعد الموت - كروح هائمة, أو طيف حلمي ربما ..- مثلما يشكل عوض زهران إستمرارية الراوي , فسيسيليا مرآة الأنا .. وعوض زهران مرآة الراوي .. مثلما بهيجة هي سميرة ذاتها .. المرآة التي رأت فيها نفسها . فطردتها " أنت وهم يبحث عن وهم " ..
    ومثلما مثلت عذراء ماركيز المرآة للراوي العجوز .. فالموت أو الإحساس بدنوه . يشكل بؤرة تنطلق منها حياة الشخوص, من المبتدأ إلى المنتهى . بمعنى تتكشف فيه كل لحظات الألم, واللوعة والغبطة .. وتتكثف فيه الذكريات والأحلام .. فهو كالرحم الذي نتخلق فيه ويحتوينا , ثم لا يلبث أن يقذف بنا الي حدود الحلم واللا مرئي ..إلى الوجود , إذ يعيدنا مرة أخرى إلي ظلام هذا الرحم - الارض - الماتريكس.. والأحداث والوقائع - الحياة - عندما تتحول إلى ذكريات , و تصبح أشبه بأحلام البارحة . كما في " متحف المساعي العبثية " ل ( لكريستينا بيري روسي) إذ يقول بطل قصتها هذه " كنت كل مساء أزور متحف الحياة العبثية . أطلب الكاتلوج وأجلس إلى الطاولة الخشبية الكبيرة (..) كتالوج سنة 1922 (..) سنة مكثفة . كثير من الناس قاموا بجهود عبثية . كم مجلد هنا ؟ (..) أكدت لي الموظفة أن المتحف يحتفظ بجزء صغير جدا من المساعي العبثية (12).. فبطل هذه القصة يجد نفسه مأخوذا إلى حد الإدمان , بالمضي كل يوم لمطالعة عالم الماضي , والتعرف على حكايات من مضوا , كان يستمد إستمراريته ووجوده. من هذه الدورة .. دورة الحياة بوقائعها التي تمثلها مساعي ابطالها وهزائمها ومراراتها .. فالموت.. أنه يجابه الموت بالتعرف على حياة من ماتوا : ماذا كانوا يفعلون في حياتهم - فحياتهم هي المرآة التي يرى فيها حياته - فتتجذر هذه الحيوات فيه , لتعطيه الإستمرارية ..
    رمزية المرايا في قصر المرايا ..
    حول استراتيجية العنوان : (قصر المرايا ):
    يتكون هذا العنوان من كلمتين الأولى : هي " قصر" والثانية: هى" المرايا" . في المحتوى الدلالي للطرف الأول :" القصر " دلالة على المكان, الذي تجري فيه أحداث القصة. و"المرايا" واحدة من المكونات التي شيدت به, على المستوى المعنوي لا المادي , فالقصر هو (القفص الذي يفترض أن يكون ذهبيا - بيت الزوجية ).. لكنه هنا محض قصر من المرايا للدلالة على مدى تشظي هذه العلاقة الزوجية .. يقول غاستون باشلار" من الواضح تماما, أن البيت كيان مميز, لدراسة ظاهراتية لقيم ألفة المكان من الداخل . على شرط أن ندرسه كوحدة, وبكل تعقيده . وأن نسعى لدمج كل قيمه الخاصة, بقيمة واحدة أساسية (..) فلو تجاوزنا ذكرياتنا عن كل البيوت التي سكناها , والبيوت التي حلمنا أن نسكنها , فهل نستطيع أن نعزل, ونستنبط جوهرا حميما. ومحددا, يبرز القيمة غير الشائعة, لكل الصور المتعلقة بالألفة المحمية ؟(..) قد يقدم لنا الجغرافي أو عالم الأثنوغرافيا أوصافا لمختلف أنواع البيوت (..) البيت هو ركننا في العالم . أنه كما قيل مرارا . كوننا الأول (13)..
    فما هو بيت ( قصر المرايا ).. يصف لنا الحلوفي قصته( قصر المرايا) هذا البيت بضمير المتكلم ( بهيجة بابا دبلوس): " لنا أنا وزوجي حليم .. قصر صغير . بديع . مكون من غرفة واحدة , تلحق بها صالة ومطبخ.. وتحيط بالقصر أربع حدائق من الجهات كافة . يسوره سياج حديدي رمادي اللون . كتبنا إسمينا : حليم وبهيجة , على بطاقة مضيئة عند البوابة . وعند البوابة كانت العصافير تأتي من كل مكان لتغني في مرح ذاك النشيد الذي ينطلق كالرصاصة النارية (..) يتهمونني على الخصوص بالجنون . فما القصر عندهم إلا بيت صغير . بنى من الآجر الاحمر, المخلوط بالحصى . كشأن كل بيوت أم درمان القديمة منذ عهد الخليفة التعايشي , وهو يقع في الجهة الجنوبية من المدينة, على طرف خور أبي عنجة الشمالي, حيث استقرت الفيالق المحاربة (..) ولكن بيتنا هو حقيقة راسخة , لكل عارف ذي بصيرة . قصر عال .. يتأرجح وسط السراب , يذهب ويجيء غيمة كبيرة من البخار , يتصاعد في علو السموات الزرقاء, متشكلا بألوان الفجر والضحى والمساء (..) وحينما يؤذن الآذان, ينبثق القصر مثل زهرة , وينكشف البهاء فتكشف الرؤيا جدرانا من الماء الشفيف الممطر .. ويأتلق كله قصرا من الزجاج , الكرستال ومن المرايا (14). فهذا القصر هو عبارة عن : بيت عتيق يعود تاريخه الى حقبة المهدية, -المستوى المادي - مكون من غرفة واحدة , مسورة- سور رمادي اللون , بما للون الرمادي من دلالة على الزمن المنصرم . ولما لهذا اللون أيضا من دلالة على الكآبة _ ومزروعة .. لكنه مشيد أيضا على المستوى الدلالي, من هذه الذكريات العتيقة لمدينة أم درمان – كمتكأ للقومية السودانية المزعومة - , ويرتبط بذاكرتها المدينية, في لحظة تكونها وتشكلها الأولى , في أكثر لحظات التاريخ حرجا و دمجا للمجتمعات السودانية من كل أطراف البلاد, لتلتحم في أم درمان - إذ نهضت أم درمان نتيجة للحراك الإجتماعي الواسع , والأول من نوعه في السودان إبان المهدية, بما نقل المجتمعات , من مرحلة القبيلة إلى مرحلة متقدمة عليها هي مرحلة الطائفة -.. هذا البيت الذي يسكنه حليم وبهيجة . تأسس اذن على هذه الذكريات (المرايا) , لذلك هو قصر عال, يتارجح في فضاء هذه الذكريات , التي أضيفت إليها ذكريات أخرى بتعاقب الزمن . وأضيفت إليها أيضا وقائع وأحداث حياة حليم وبهيجة التى نهضت - الوقائع والاحداث - , في هذا البيت ذي الغرفة الوحيدة , لكن الكافية لرعاية ميلاد زواجهما ونموه, و ذكريات حبهما التي سبقت هذا الزواج , حتى مرحلة الصبا فالشيخوخة , لتتشكل من كل هذه المراحل التي تعاقبت على البيت مزيدا من المرايا ( مزيدا من الذكريات ) , التي يرون فيها أنفسهم, كأنهم هم وليس هم , بين بين .. ففي لحظاتهما السعيدة , تسقط أحاسيس الغبطة على البيت , فيشاركهما البيت هذه الغبطة , مثلما شاركهما لحظات صراعهما الإنساني العديدة ..
    والطرف الآخر من عنوان القصة هو ( المرايا ), وهي المفتاح المركزي لعالم هذا القصر . فالمرايا في السرد , تقنية وأداة تعبير فني , قبل أن تكون سطحا أملسا , دوره ينحصر في تأدية الإنعكاس , أنها مرايا الذات .. يقول حاتم الصكر " المرايا مقترح شعري إرتبط بأدونيس , الذي عرف عنه إستخدامه المبكر للرمز والقناع, وهما ممهدان ضروريان للمرايا (15). إن أى دراسة للإمكان السردي , في( قصر المرايا) – كما نظن - يجب أن تبدأ أولا بتأمل دلالة المرايا من شتى وجوهها : الظاهرية بحكم وجودها الشيئي ضمن وعينا وشعورنا.. والنفسية لما تحمله من دلالة وجود القرين , ورؤية النفس , وتعرفها عليها, ضمن حيز المرآة: جذرا رمزيا يربطها برغبة( نرسيس) في رؤية وجهه منعكسا على صفحة الماء . والفنية بكونها دالا شعريا وأدبيا عاما , يمكن أن يحمل معه تقنيات خاصة , ترتبط بالإنعكاس وتشويه الإنعكاس معا , أو التشظية والتناثر .. فقصر المرايا تشظت داخله حياة حليم وبهيجة, كما تشظت داخله, كل الذكريات الماضية منذ تأسيسه !!..
    حليم وبهيجة رأيا ذاتيهما , بكل غروريهما - حب ذاتهما : إذ توهما أنهما يحبان بعضيهما, بينما هما يحبان الحب لذاته , متمثلا في ذاتهما: فهما, الحب .( كنرسيس النرجسي )..
    تشظيا عندما رأيا ذلك في مرايا نفسيهما .. وأول ما يجب ملاحظته – في تقديرنا - أن وجود المرايا بالنسبة إلى الجسد , يرتب تغير موقع المتلفظ أيضا , وموقعه كراو أو سارد من هذه المرايا .. وهم كانوا محاصرين بالمرايا .. المرايا التي امامهم والتي خلفهم .. المرايا من حولهم, وداخلهم.. غرقا في لعبة المرايا .. المرايا التي لها وجودا شيئيا, أكثر عمقا وتاثيرا مما يحسب المبصرون, المتعجلون . والمرايا التي هي أول ما يقع عليه بصرنا .. والمرايا تقتضي وجودا لشيء ما يتمرأى فيها . وبذلك تصبح موضوعا دائما, لذات تمارس فعلها عليه, لكن وظيفة المرآة, تتعدى التأثيث ولوازم الوجود الكمالي, على الجدران أو فوق المكاتب والزوايا , لأن الحيز الذي تشغله , في تفكير الإنسان وأفعاله وسلوكه, هو الأكثر أهمية , وهو الذي أثر في حياة حليم وبهيجة ..
    أن المرايا توهمنا بأنها حيادية, تعكس ما ينطبع عليها , أو يتراءى أمامها أو يعرض عليها . وفي حقيقة الأمر تكمن وظيفة المرآة, في كونها تضاعف. وعبر فعل المضاعفة هذا تعطينا "صورة القرين " . الأنا/الآخر. غير المرئي ولكنه موجود .. ورغم أن المرايا ترينا ما تقتنصه أعماقنا فإنها - كما يلاحظ فوكو - إلى جانب كونها تضاعف , لا ترينا ما لا يظهر عبر سطحها . فيظل ثمة فاصل بين ما نرى وما نقول .. فالمرايا لا تقترح علينا آخرا, بل ترينا هذا الآخر الذي نقترحه عليها .. أننا لا نبحث في المرايا, عن واحدية أجسادنا وصورنا , بل نسارع إلى البحث, عن تفاصيل منسية أو مطمورة , كي نؤلف منها صورة القرين , الذي يشاركنا خطانا وحياتنا .. وهو ذو وجود سردي , لأنه يمثل الجانب الثاني في حوارية شخوصنا . وقد إستثمر القصاصون المزايا السردية لوجود قرين المرآة وطوروه ليغدو صوتا داخليا ثانيا لوجود الراوي أو الشخصية ..
    وترينا الحكايات والأساطير أنواعا متعددة من المرايا منها : مرايا الزمن : حيث كانت( سندريلا) تهرب من مرآة زمنية , فلو أنها تأخرت عن ساعة محددة, لعادت إلى صورتها الأولى فتاة فقيرة . ومرايا الاسطورة : حيث يتحول كل ما يقع عليه بصر( ميدوزا) إلى حجر . وثمة في هذه المرايا الأسطورة وجود نرسيسي ( أو نرجسي بالمصطلح العربي المتداول ) (16) لكن ما يدعوه المحلل النفسي الشهير" جاك لاكان" (1901 - 1981) بمرحلة المرآة يستحق التأمل . فهو يرى أن الطفل يستطيع التعرف, على صورته في المرآة في سن مبكرة , على أنها صورته , ويختبر حركات الصورة , ومحيطها المنعكس في المرآة, ثم العلاقة بين ذلك, والواقع المزاوج له , أى جسد الطفل والأفراد والأشياء المحيطة به .. والمهم في مفهوم( لاكان) لمرحلة المرآة بانها تماه, وبأن تمثل الصغير لصورته المرآوية, مع عجزه الحركي, والغذائي. شبيه بالرحم الرمزي. حيث يندفع ضمير الذات إلى شكل أولي , قبل أن يتموضع في جدلية التماهي مع الآخر .
    أن المرايا تنطوي علي طبيعة, أو جوهر من جوانب ذاتها الأصلية , تحتفظ بها مهما أخضعت لتحولات .. بوصفها رمزا من رموز الشخصية , وتقنية سردية يقف أمامها ليرصد, ما يتراءى في أعماقها .. يلاحظ( جبرا ابراهيم جبرا) أن اللحظة( النرجسية) هي لحظة لا زمنية . لحظة الممثل على المسرح, وقد إنفلت من قيد التسلسل.. والنرجسية هي الخط الدقيق الذي ينظم وجود الرموز الأسطورية والتاريخية على مستوى الرؤية . يفسر بعض النقاد( قتل المرايا) بأنها إعدام وحرق للكل الثقافي - كما عند ادونيس - الذي تعادله المرايا ( فالقصر ينهار ليعود الى مكوناته كما يراها الجيران: مجرد غرفة مبنية من الآجر الأحمر, المخلوط بالحصى. شأن كل بيوت أم درمان القديمة .. ينهار بإنهيار ذكرياته , بإختفاء أبطالها , بحيث لا تعود ثمة أهمية لذاكرة المكان " القصر", دون شهود أو سكان, يحيون هذه الذاكرة , فينهار بإختفاء حليم وعوض زهران وموتهما .. وينهار بطرد سميرة منه ورحيل بهيجة ) = وفي المثل السوداني ما معناه إذا كان للإنسان منزلا من زجاج فليحذر رمي الآخرين بالحجارة . وهي كناية تحذيرية عن عدم الحديث عن عيوب الناس لأن لنا عيوبنا , التي سيتحدثون عنها أيضا إذا تحدثنا عن عيوبهم !!..
    عيوبنا التي ستستحيل أيضا إلى ذكريات , لكنها تظل إحدى مكوناتنا النفسية , فهي جزء من تاريخنا الإجتماعي على مر السنين , وتستطيع مرايانا منحنا رؤيتها بوضوح , كأنها جسم مادي .. وثمة مرايا لا يمكن إخضاعها للتقابل الثنائي, أو للتفسير الرمزي العابر , وهي - كما تسميها( خالدة سعيد)مرايا الأعماق حيث تتقاطع الرؤي جميعا .. وأشار إحسان عباس إلى المرايا باعتبارها اسلوب نظر إلى الماضي(17) . وتقنية إنعكاس المرايا في القص الحديث , من أبرز التقنيات لإستدعاء التاريخ الذاتي ...
    فأى نوع من المرايا تلك التي شيد منها قصرالمرايا , و الشخصيتين اللتين تسكنانه (حليم وبهيجة ) . مما تقدم قدمنا إشارات, حول طبيعة هذا القصر التي يصفها لنا الحلو - مقرؤة في سياق علاقتها بطبيعة علاقة هذين الزوجين - على لسان الراوي" كانا : حليم وبهيجة . زوجين من الأرق والتوتر . وذلك عندما وضعا , بمحض حريتهما, علاقتهما الزوجية على حافة الخطر . إذ كانا بحياتهما المشتركة يلهوان . فبعد مضي العام من الزواج. شعرا بالسأم . وهكذا انخرطا في اللعب المهلك , أن يكتشفا في الحياة شيئا بينهما أعمق وأصدق , وأن يريا في علاقتهما, نفسيهما على المرايا (..) كففت عن الكلام مجبرا . ومن ثم .. في نهاية الأمر, أخذوا يكلمون المرايا, المحتشدة بالصور (18).. ثم على لسان بهيجة بابا دبلوس " يأتلق كله قصرا من الزجاج الكريستال, ومن المرايا , بحيرة من الجمال الصافي (..) أرفع رأسي . رأيت صورنا على المرايا . كنت أنا وحليم.. وأنا الأخرى مع عوض زهران . وعوض زهران تارة أخرى مع سميرة.. ورفع حليم عينيه من الكتاب :
    - ما بك ؟ أنت شاحبة جدا ؟!
    وكنت أرى صورا على المرايا, شديدة العجب, الزمن فيها يجري كيفما شاء . الماضي والحاضر والمستقبل . كل الزمن المستدير يأتي (..)..( أجلس وحدي وصوري تتكاثر, على سطوح المرايا . وتجيء صورة حليم وعوض زهران (..) وتداخلت في هذا الوقت كل الأشياء .. الخواطر والأفكار والأحداث .. حتى بت أشك في القصة بمجملها (19).. ويمضي الحلو في عرض شخوص نصه , معتمدا على تقنية تعدد الاصوات التي أشرنا إليها سابقا . منتقلا إلى شخصية أخرى فيطل علينا حليم مصطفى زوج بهيجة , مستعرضا وجهة نظره بضمير الأنا المتكلم " كنا في داخل هذا القصر الزجاجي, أشبه بسمكتين صغيرتين ملونتين . نسبح داخل هذا الماء الزجاجي (..) كانت كل الأيام تمر متشابهات . نجلس ثلاثتنا نحلق في وجوهنا, التي تنطبع على سطح المرايا, المحيطات بنا . فنرى دواخلنا حتى النخاع (20).. ثم نعود الى شخصية الراوي مرة اخرى , مضيفا إلى وجهة نظره, التي أستهل بها هذه القصة, لننتقل بعد ذلك إلى بهيجة - لكن هذه المرة هي ليست إبنة" بابا دبلوس" والدها الحقيقي بل - إبنة عوض زهران الذي تبناها "أنني أرى حياتي في عزلتي . أرى هذا الحب الغريب الأطوار . دائرة تجري في الإتجاهات الأربعة . وكيف أن هذا الدوار قد قاد كل منا, إلى طريق مختلف . فكنا ندور في متاهة, وشعور يجعلني موقنة, أننا سنلتقي على تخوم ذلك العالم . مكان يشبه قصر المرايا (..) أهو صورة بهيجة على مرايا عوض زهران ؟ أم جئت أبحث عن صورتي.. عن معنى وهدف هذه الحياة ؟ (21)...
    ليطل علينا بعد ذلك الوجه الآخر لبهيجة : بهيجة بابا دبلوس , ثم ننتقل إلى الراوي " الذي يحكي حياة سميرة, بعد أن أنهى حكاية بهيجة " كانت سميرة بالجمال تضيء بدرا مكتملا . لقد توقف دوران الزمن فيها عند الثلاثين . وكانت الأقدار تمسح غبار الزوال عنها . رغم بلوغ سميرة السبعين, وعندما تنظر في المرايا, كانت تحدث نفسها بصوت عال (..) الضؤ أمواجا من ألوان الطيف المزبدة . يرفرفون . يشقشقون . وعلى سطوح المرايا هالات زرق (..) وكلما كانت على سطوح المرايا صور , وكلما كان في الفضاء جناح , فأنا بدونهم لا شيء .. لا شيء البتة (22) وهكذا يمكننا أن نستخلص من طرفي العنوان : " قصر - المرايا " ..
    إضافة الى إحالاتنا السابقة , أن المرايا هي ذكرياتهم وطريقتهم في النظر إلى ماضيهم وحياتهم . وهي نزعتهم الأنانية في تكريس ذواتهم , دون رغبة في عطاء هذه الذات للآخر , بل عطاءها فقط لنفسها , فحتى في تصور - بهيجة مثلا - لنفسها ما بعد هذه الحياة - الموت - ترغب في أن تلتقيهم ( عوض زهران / سميرة / حليم ) وتتصور أنهم سيلتقون, في قصر شبيه بقصر المرايا .. تريد أن تلتقيهم لتأكيد وجودها المطلق , ليس لأي شيء آخر فهي " لا شيء بدونهم " وحتى تكون شيئا, يجب أن تكون معهم . وهي ذات الرؤية التي توصل إليها حليم , فقد أدرك منذ البداية أن إنسحاب أى طرف من أطراف, علاقتهم الثلاثية. يعني أن ينهار كل شيء . فلا أحد من ثلاثتهم يعني شيئا, دون الآخرين . كذلك الراوي يستمد وجوده عبرهم في حياتهم , وعبر أطيافهم التي تلاحقه, بعد أن آلوا إلي مختلف طرق .. وهكذا تتشكل رمزية المرايا أيضا , في علاقة الذات بالاخر ..
    يتبع
    [mark=#FFFFCC]
    الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
    كي يسمى في القواميس بكاء ..
    الصادق الرضي
    [/mark]
  • أحمد ضحية
    أديب وكاتب
    • 10-05-2010
    • 121

    #2
    (2) عالم علي المك القصصي ..

    (2) عالم علي المك القصصي ..
    الحديث عن القصة القصيرة لدى جيل علي المك , ( منتصف الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي) , لهو حديث محفوف بالمخاطرة ولا يخلو من مغامرة ومعاناة الولوج إلى عالم من الأحاسيس, وفيوضات المشاعر والتدفقات الحدسية , التي يعيشها القاريء وهو يقرأ ( هل أبصر أعمى المعرة ) أو ( حمى الدريس ) , إلخ .. إذ يجد نفسه لا يقرأها بقدر ما هو يعيشها , فمن خلال نصوص علي المك, بصياغاتها اللغوية ذات العالم الخاص , والنظام اللغوي الأكثر خصوصية , في ترابطاته وعلاقاته التركيبية. بسبب أن اللغة عند المك تختلف, عن اللغة النمطية التي تجعل هدفها الأساسي التوصيل والإبلاغ - فلقصة علي المك خصوصيتها- رغم أنها تجري على النهج الموباساني - فبسبب هذه الخصوصية, لم أنشغل عند قراءة علي المك, بالبحث عن صور مجازية تضيء( حمى الدريس- القصة ) أو حتى البحث عن مجموعة, من الرموز والدوال أشغل نفسي بحلها , وإنما هي لحظات من التوتر, والترقب والحذر , تملكتني وأنا أحاول في جهد مضن- أشبه بنقص القادرين عن التمام- , متابعة المك عبر تخوم عالمه , الثر . لاتوقف أخيرا عند كوّن اللغة والحس الشعبي! ..
    تنبع أهمية علي المك من كونه أحد أبرز , الكتاب الذين أرسوا, وكرسوا لكتابة القصة القصيرة في السودان . وفقا للنهج " الأرسطي - الموباساني " : ( بداية - ذروة - نهاية ) .. وساد هذا الأسلوب في كتابة القصة في السودان , منذ فترة الخمسينيات حتى الستينيات , ويعتبر هو قاعدة الإنطلاق في السودان , للأساليب الأخرى في كتابة القصة - ما أفضى إلى كتابة القصة الحديثة في السودان , نتيجة لجدل التلاحم بين مختلف الأساليب والذي مهدت له مجهودات علي المك وغيره من أبناء جيل الأربعينيات والخمسينيات بإرسائهم لدعائم المنهج الموباساني - الذي شكل القاعدة لإنطلاق الأساليب الأخرى في القصة الحديثة في السودان إبتداء من ستينيات القرن الماضي ..
    "ولذلك يعتبر بروفيسور علي المك, أحد رواد القصة القصيرة في السودان, بشكلها الأرسطى الموباساني .. وتجدر الإشارة هنا إلى أن القصة عند علي المك, إعتمدت بشكل أساسي على الفضاء المفتوح( قصة كرسي القماش - مثلا ) وهذه القصة ( حمى الدريس ) "(23) التي يلعب فيها "هذيان الحمى " كفضاء ميتافيزيقي شاسع , تيمة أساسية لهذا النص, الذي تتفاعل فيه هذيانات اللغة والفكرة . فبطل هذه القصة , لا يكتفي بتحديد الشارع, كفضاء مفتوح للهذيان الواعي أو اللاواعي , بل يتعداه الى مناقشة قضايا جمالية معنوية , تجسد علاقته بالنيل الازرق, الذي تمت الهيمنة عليه من قبل الأبيض , فينطلق من هذه العلاقة, بالنيل لممارسة هذياناته , التي هي في واقع الأمر ليست هذيان محموم, بقدر ما هي محاولة لتكيف إنسان, مع عالم كل شيء فيه قاهر.. حتى الطبيعة .. حمى الدريس نموذج للقصة, التي يهيمن فيها صوت الراوي المتكلم, كما هو الحال في قصص الاسلوب الموبساني عموما , وقصص علي المك خصوصا ..
    إن الدخول إلى النص وعلاقاته في سياق معين , إنما يتحدد بمحاور عديدة , تبدأ بالخطاب - يعرف بنفيتست الخطاب بأنه : "أى منطوق أو فعل كلامي يفترض وجود راو ومستمع وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما , والخطاب عند فوكو :هو مجموعة من المنطوقات التي تنتهي إلى تشكل واحد يتكرر على نحو دال في التاريخ , بل على نحو يغدو معه الخطاب جزء من التاريخ هو بمثابة وحدة إنقطاع في التاريخ (24)" وعلاقته باللغة ومدى تفاعل النص مع السياق الناشيء فيه.
    مغامرة اللغة والحس الشعبي في حمى الدريس :
    تتسم كتابة علي المك بالحميمية والحس الشعبي , والبراءة ( وتلك هي وفاء . تقول لها : - من الذي إخترع اللبن الزبادي ؟... أهل منغوليا .. قالوا . بل قرأت مرة.. كذبا كاذب ..".. فعلي الملك يعيد صياغة الحوارات التي تدور بين الأطفال, و يعمل على توظيفها في لغة النص بكل ما تتركه من أثر على هذه اللغة .. لإغناء تجربة الإنسان مع اللغة , بما هي كون تنتظم فيه الحياة الإنسانية , حيث تتكشف في النص عن علاقة الإنسان بتأثيرات الحياة والتجربة الإجتماعية ,التي يمثلها المك هنا بعلاقة الورق بالكتابة عليه , فمهما ارتدى الإنسان من مظهر خارجي ففي خاتمة المطاف يبقى الجوهر الإنساني , كذا مهما تسودت الأوراق باللغات المختلفة , تبقى أوراق ( كشخص ما يوماً يلبس جلابية وتارة قفطاناً ، وطوراً بنطلوناً وقميصاً والروح هي ذاتها ، هي اياها ، هي.. هي ..) .. الحس الشعبي ينعكس لدى علي المك, على مستوى لغة القصة , فلا تخلو منه الكثير من مفرداتها - وبذات الوقت العالم موضع إهتمام الراوي - العالم الشعبي في أقصى تفاصيله وحكاياه, يتماهيان معا حتى يشكلان شيئا واحدا, هو كوّن اللغة : ( ذاك الصديق كان قد عشق إمراة يغشاها "دم التاجر" كثيراً في الصيف ، تحك جسدها ، يكاد يدمي .. قال ان مرضها ينبئ .. يتلمظ .. يقول ما يعني أن ذاك الهياج إنما هو إعلان عن رغبتها فيه ، قلتم له : مسكين .. مريض أنت لا هي ) .. ( وما شأنك بالقماير.. ).. ( قبلها قلت أن ذلك كله من بعض ما يسمي أمراض الحساسية منها حمى الدريس (هي فيفر) ..) .. ( ثم تصبر أو أن يزهر النيم إلي إحمرار في العينين يفيض ، وفيض من العطس. أنت تعلم إصرارها .ذكران الدكتورسعيد طبه ناجح. يده لاحقة بإختصار رجل مبروك ومختص في مثل ما كنت منه تشكو وتتعذب ، ولتضف لهذا, ذاك الصوت الصفيري.. يجعل الصدر جحيماً ، قيل الربو .. ذاك .. وجمعوا هذا كله فاسموها الحساسية ).. وقد تميز علي المك بقدرة مدهشة على الإنسياب في الحكي- طبيعة اللغة الإنتقالية التي يستخدمها : سنأتي إليها لاحقا - والتنقل في القصة الواحدة بين مواضيع مختلفة, دون أن تدرك اللحظة التي تم فيها هذا الإنتقال, ففي هذه القصة( حمى الدريس) التي يستهلها بعشقه للنيل الأزرق, وتحسره على إنطفاء لون النيل , يمضي مع( وفاء) في اللحظة ذاتها, للحديث ببراءة تتلائم وهذا الشعور بالإنتماء, إلى النيل الأزرق . ثم لا يلبث أن يقدم إشارات عن هذا المجتمع الذي يحيا فيه ووفاء , والطامعين في وصالها من الأصدقاء وإهتماماتهم,إلخ ..
    هكذا ينساب في بساطة وسرعة لا نستشعر معها, أنه يتحدث الآن عن موضوع آخر , ليس هو ذاك الموضوع, الذي كان يتكلم فيه منذ قليل, وكل ذلك يتم بحس شعبي عالي - رغم رصانة اللغة الفصحي - , التي يجري عليها التركيب الدارجي السوداني, والتي عندما يوظفها في هذا التركيب الشعبي للغة الدارجة, تتحول الى لغة مدهشة تتماس مع الفصحى القحة , التي كتبت بها أمهات الكتب..
    تمتلك لغة علي المك هكذا خصائص مرونة مدهشة, تجعل قدرتها على الإنتقال, في التعبير عن مواضيع مختلفة , غير محسوسة.. فتخال نفسك عند بعض المقاطع, تري تلك اللغة تبعث في طبعة جديدة عند علي المك "إذا كانت اللغة أداة للتوصيل والتواصل الانساني, في المستوى الأول من وظائفها ,إلا أنها كنواة للنظام الدلالي , ولما تتمتع به من قدرة سيميو طيقية خلاقة ومتجددة , بتجدد إستخداماتها , فهي تعتبر وسيلة الأدب, الذي يعد مستوى أرقى من التعبير ومن إستخدام اللغة, على مستوى الشكل والمضمون , لذلك فإرتباط اللغة بالخطاب الأدبي وثيق , وبالاضافة لخصوصية هذا الإرتباط , فالخطاب هو الذي يحدد لغته الخاصة, التي تفرز شكلها الملائم. وتتحرك فيه وفقا لقوانين هذا الخطاب , التي تحقق لكل منهما تميزه عن الخطابات واللغات الأخرى , وتحقق لكل لغة جمالياتها الخاصة (25)".. يمضي راوي حمى الدريس في القول :( وقال قدم الى لورنس كانساس يزور أخته أولاً ويعالج لغته الإنكليزية من بعد ، ويتحرى أصول البلوز .. لحظت أنك اندهشت .. قالت : نطقي في الإنكليزية لا بأس به أليس كذلك لا تظن أنني مثل بعض مذيعي راديو أمدرمان لا يعرفون الفرق بين أمريكا وأم ريكا !! ضحكتما.. إنقضى أوان حمى الدريس وشهور حمى الدريس إنقضين وسفر الصيف ".." صدر كتاب الحكايات – كل العصور – المصادفة قاعدة .. أما الإستثناء ؟ يقولون أنه بينما كان يعبر الطريق بصريهما نظراليها.. إليه نظرت حين نظرت إلي عيني وفاء أول مرة, كانت حمي الدريس كما تعرفها أنت عن نفسك ، تفور في وجهها ، ما وصف أحدعيوناً تغشاها حمرة ، هي حمرة، الدماء .. كان كتاب الحكايات ، يتحدثون عن المصادفة كما إعتاد الشعراء نبش العصافير في قبورها .. كل عصفور ..وصفوا عصفور ميت .. هل رأيت الإحمرار في عينيها ، أذاك شي جميل؟ فيوصف.. أصمت. صه ..تذكر صديقاً.. إذن دعني أقص عليك هذه .. نعم .." ولنلاحظ في المجتزأ أعلاه كيف استخدمت اللغة " وقال قدم إلى لورنس..." كأنك تقرأ في مفتتح من كتب السير والأخبار العتيقة .. لكنك ما أن تمض قليلا حتى تفاجأ بأنك خارج من بطن المعاجم , إلى لغة العصر التي أختلطت بلغة هذه المعاجم : " يتحرى أصول البلوز .." وهكذا مرورا بالتناص مع لغة القرآن وتراكيبها " عيونا تغشاها حمرة .."..ويمضي راو على المك في حمى الدريس ليفتحنا على مزيد من أغوار هذا الكون : اللغة ( تعود إلى أمر المصادفة عند كتاب الحكايات ، صدق أولئك ، كذبت أنت عيادة طبيب ، أيام كانت أدواء الحساسية تأخذك كل جانب ، العام جله، تارة كله.. حكة تبدأ علي الأذن اليسري تقول تعالجها بظفر إذ يبلغ مقامها ناب تستكين وتغفو، تظن أنك قضيت علي ثورتها ، إحتويت حدتها ، هذه لغة السياسة كما تعلم . يقولون الإحتواء ..واء .. واء .. إنصرف عن هذا العبث الساذج .. قل كلامك .. " حاضر طيب " .. قلنا تهبط الثورة من الأذن اليسري إلي الساق اليمني .. طريق معقد كما تراه ، ولها معبد إذ هي تسلكه غير هيابه سبيلها مجري الدم في لمحة اوبعض لمحة تنحدر يدك تتبعها بظفر،وقد تبلغ مكانها بناب،أوأنت أعسر تكون اليد اليسري،أو أيمن فباليمني .. بديهي أيها الثرثار .. تقول حين تبلغ ساقك اليمني بظفر من أصبع في اليد اليسري، أم هي اليمني ؟ أنت معقد.. لا ريب لأنك أعسر ، تسمع كثيراً من يذكر الشيطان في اليد اليسري ، والأعسر يخالطه الشيطان . صه .. يصعد الدم الفوار إلي الكتفين وإلي الظفر نفسه الذي به نستعين . هذا يدعو أن تعض مكانه بأسنانك كلها..) وفي هذا المجتزأ نلاحظ بوضوح تخلل الحس الشعبي, لكل ثنايا اللغة:" حكة تبدأ على الاذن تقول تعالجها بظفر".."الاعسر يخالطه الشيطان "..وفي المجتزأ التالي يوظف المك الذاكرة الشعبية المشتركة , بتوظيفه لإشارات تنتمي إليها مثل حكاية دخول شجرة النيم السودان : ( شجرة النيم التي في البيت غرست يوم مولدك إن أجتثت تموت أنت وإن جفت عروقها قضيت أيضاً. ولله العجب! فلها أنوثة طاغية تزهر قبل الآوان وتؤذيك .. وما الصوت الصفيري ؟ وما حكاية الناس في القمائر ؟ والنزلات المعوية ؟.. حسنا سافر إلي بلاد ليس بها نيم ، كثيرة بلاد الله التي لم يدخل اليها اللورد كتشنر شجرته الاثيرة .. ذكروا هذا وصدقنا في عيادة الدكتور سعيد تلفزيون ملون، ومصلي .. والناس المرضي مؤمن وغير مؤمن جلس الي جانبها في العيادة– مصادفة. إتفاقاً كان صوته الصفيري يسمع، وسعاله متصل. يلتفت إليك المرضي من الناس من يعرف بصوت سعاله سيقولون هوذاك هو ذاك وليس لديك ,نظارة فتخفي وراءها العينين الحمراوين كل أولئك قد لحظوا أمرعينيك. تكون كارثة لوتبع هذا أولئك.. مااولئك سوي حك الأذن اليسري فالساق اليمني وبعد ذلك الأنف والسرة وهلم جرا..... أول مانزلت أرض مصر رآك أحد معارفك من الطلاب السودانيين تحك كل مكان تارة ..تحك فيما يشبه العنف اللذيذ، كالمحموم يلذ له الجلوس أوالوقوف تحت الشمس والشمس تصليه .. كنت أنت .. قال صديقك الطالب في مصر " تغير الهواء " ، كان المفروض أن تأكل بصلة ساعة وصولك إليها ! مسكي طالب وبائس ما عرف من خيرات أم الدنيا شئياً سوي بصلها..) ..
    وهكذا نجده يستخدم إحدى إشارات هذه الذاكرة المشتركة للتعبير عن موقف نفسي راهن لا يخلو من الإسقاط التاريخي ... على سبيل المثال نلاحظ رصانة اللغة في : عيونا تغشاها حمرة - إن جفت عروقها قضيت أيضا, الخ -.. ومثالا للغة الفصحى التي أجراها مجرى الدارجة السودانية : وما حكاية الناس في القماير والنزلات المعوية -أنك إندهشت - المصادفة قاعدة - الفرق بين أمريكا وأم ريكا, الخ .. ومثالا ثالثا للتركيب المألوف في القص : حين نظرت إلى عيني وفاء أول مرة كانت حمى الدريس كما تعرفها أنت .. وهكذا نجد أن علي المك في دمجه,للإسلوبين الذين أشرنا إليهما : ( رصانة اللغة - والفصحى التي تجرى مجرى الدارجة السودانية ) في تركيب اللغة , في الإسلوب( القصصي المألوف) الذي يحاول إنتقاء الكلمات الأدبية في التعبير السردي, خلق إسلوبه القصصي المميز في مغامرة اللغة..
    فمن هذا الهجين كانت( حمى الدريس) النص القصصي ترتبط بحمى لغة النص وشكله . بحيث شكل علي المك من كل ذلك توحدا مع موضوعه : هذيان الحمى, التي سعى لتحديدها وتأكيدها على مستوى اللغة والفكرة- التي حملتها هذه اللغة - . ما خلف أثرا كبيرا فينا . ليس هو بموضوع هذه القراءة. وأخيرا نجد أن المك يتميز بقدرة على التوليدات في اللغة , بسبب قدرته العالية على الإختيار الواعي الحر للغته وقدرته الفائقة على بناء علاقات خاصة من عناصر اللغة العادية , كاشفا عن الطاقات التعبيرية الكامنة فيها : من حيث اللفظ وتركيب الجملة وبناء الفقرة - وفقا لما أشرنا إليه - وهو ما عناه تشوفسكي بقوله :" ان اللغة خلاقة تتكون من عناصر محدودة وتنتج او تولد انماطا لا نهاية لها " .. ولغة المك بحاجة لدراسة متأنية فهي لغة متوترة مشحونة مقطعة متداخلة ومركبة تركيبا خاصا" ..
    يظل بروفيسور علي المك أحد العلامات المضيئة في تاريخ القصة القصيرة في السودان - التي من الصعب تجاوزها دون الوقوف عندها طويلا - , ومرحلة من عمر هذا الجنس القلق المتوتر المسمى بالقصة القصيرة ..
    [mark=#FFFFCC]
    الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
    كي يسمى في القواميس بكاء ..
    الصادق الرضي
    [/mark]

    تعليق

    • أحمد ضحية
      أديب وكاتب
      • 10-05-2010
      • 121

      #3
      (3) العالم القصصي لمحمد إبراهيم الشوش ..

      (3) العالم القصصي لمحمد إبراهيم الشوش ..
      ( وجوه وأقنعة ) لدكتور محمد ابراهيم الشوش(26) , تندرج في ذلك النوع من القصص القصيرة المكثفة, التي يسميها النقاد في مصر " قصة الومضة ".. تقيم مجموعة عبد الحميد البرنس - (تداعيات في بلاد بعيدة - اقصد القصص القصيرة جدا ) - حوارا مع هذه المجموعة .. كما تقيم هذه المجموعة حورا مع مجموعة قصص القاص التركي عزيز نيسين ( ذيل الكلب).. وأعني هنا بأنها تقيم حوارا ," التناص ".. بمعنى أن فكرة التناص تنشأ من علاقة النص بغيره من النصوص , فالنص لا ينشأ في فراغ , وإنما ينشأ في لغة / في عالم ممتليء بالنصوص الأخرى والأبنية النصية والمعرفية التي تسهم في تكوين هذا النص من خلال محاولته للتعامل مع هذه النصوص من خلال العمليتين الحفريتين : " الإحلال والإزاحة " , "ومحاولة الحلول محلها في الكيان اللغوي, وهذه العلاقة هي علاقة تفاعلية, تقوم على الإحتكاك بين النصوص, والتحاور معها. فقد يقع النص في ظل نص, أو نصوص أخرى(27)" , وقد تتصارع مع بعضها. وقد تتمكن من الإجهاز على بعضها - مثلما أجهزت موسم الهجرة على صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل لعيسى الحلوأو إجهاز خريف البطريرك ومائة عام من العزلة على الفرقة الموسيقية وعصافير آخر أيام الخريف لأحمد حمد الملك - وتترك جدلية الإحلال والإزاحة هذه آثارها على النص , والتناص هنا بين نيسين والبرنس والشوش, على مستوى آلية المواقف في التناص السردي, وهي أدنى حد من آليات التناص , إذ لا تتجاوز المستوى الشكلي ..
      حول قصص الشوش:
      تتميز القصة عند الشوش - وهي تجري على نسق الحكاية - بالتكثيف الشديد . ففي قصته (ضياع) " عشرة اسطر فقط " يتركز المعنى في أن الاشياء التي ليس بإمكاننا إستبدالها أو الإستغناء عنها هى في واقع الأمر تلك الأشياء التي لا نتذكرها ( قال عابر السبيل : منذ أشهر وأنا اراك تأتي يا أبتي إلى هذا المكان , وتبحث في نفس البقعة , هل ضاع منك شيء . قال الشيخ العجوز دون أن يرفع رأسه : نعم يا إبني ضاع مني شيء ثمين . سأل الشاب : وما ذاك ؟ . أجاب الشيخ تلك هي المصيبة الكبرى يا بني أنني نسيت ما هو . قال الشاب : وما وجه المصيبة في ذلك ؟ إن كنت لا تذكره فهو ليس بشيء . تمتم الشيخ وهو ينظر حوله وينقب في داخله : لو أنني تذكرته يا بني لأمكن أن أستبدله أو أستغنى عنه بشيء آخر . أما الآن فقد ضاع مني إلى الأبد (28) ..
      ففي هذه القصة يجري الحوار بين الماضي ( الرجل العجوز ) والحاضر ( الشاب) , ليكشف من خلال هذه العلاقة الزمنية , عن قيمة الزمن المستقبلي غير المرئي , من خلال ما هو ماض - لكنه( كان) مستقبل" قبل أن يمضي" بالنسبة للشيخ العجوز , فالمستقبل هو أى لحظة قادمة - ولأن المستقبل دائما غائب , لا ملامح له سوى في أحلامنا و خططنا التي قد تتحقق وقد لا تتحقق, والتي عندما لا تتحقق تسقط في جب الذاكرة , وإطلالتها على سطح الذاكرة أحيانا تحمل معها نوعا من المرارات , ربما .. وربما لا شيء . ومع الإعتياد ربما ننسى . لكن يظل الزمن الذي بإمكاننا - في الماضي- كان من الممكن أن ننجز فيه هذه الأحلام والخطط , دوما هو زمن عزيز علينا , وبنسيانه يسقط شيئا عزيزا من وجداننا ..
      تحتمل هذه القصة أكثر من هذا التأويل الذي توسلها بالزمن . وتلك هي طبيعة النصوص المكثفة, إذ تحتمل العديد والعديد من التأويلات. فهي نصوص مفتوحة على فضاء شاسع من التأويلات الممكنة .. وفي قصة ( الحافلة)التي ككل قصصه لاتزيد عن أسطر قليلة , مضي بنا الراوي للتعبير عن لحظة إنسانية( مصادفة) يمكن أن تحدث لأي إنسان , لكنها تكفي لإحداث تغيير وجداني يظل ممسكا بتلافيفه طيلة سنوات عمره القادمة(29).. وفي قصته " تحسن" يتكثف المعنى حول الزمن المعنوي , وأثره على شعورنا بمدى سوء الأحوال أو تحسنها(30).. وفي قصته ( المهم ) يمضي للتعبير عن مدى سلطة المال في تغيير مواقف البشر (31) ..
      وكل هذه النصوص للشوش .. تنفتح على التاويل لإحتمالها معان عديدة .. ويلاحظ على قصص الشوش إعتمادها على المفارقة وروح النكتة والسخرية ( أو ما يشبه الكوميديا السوداء ) في توصيل رسالة النص, ونموذجا لذلك سنتخذ من قصته (البنسلين الى جانب قصص اخرى ) نموذجا للدراسة ..
      المفارقة في عالم الشوش القصصي...
      يقول"شليجل" أننا لن نصل إلى المفارقة, إلا بعد أن تكون الأحداث والناس , بل الحياة بأسرها مدركة وقابلة للتمثل بوصفها لعبة , فالحياة حشد من المتناقضات, والمتعارضات التي لا يمكن الإمساك بها, في إطار موحد من الإدراك. اللهم إلا بعد أن نصل, إلى حالة من إدراك أن المفارقة هي جوهر الحياة(32) .. هذه القصة ( البنسلين ) ( 33)اشتغلت بالتعبير عن أزمة التعبير , والحجج الواهية التي يتم التبرير بها لهذه الأزمة .. فالقصة( على لسان الراوي المتواري) تتكشف خلال حواربين كاتب تم رفض نشر مقاله, من قبل رئيس التحرير , فيمضي للحوار مع هذا المسئول, للتعرف على أسباب منع مقاله عن النشر ( قال رئيس التحرير في يأس : - أنني آسف ولقد اوضحت لك الظروف , وليس عندي ما اضيفه ".." لم يقل لي احد من قبل ان الظروف قد منعت نشر مقال لي . فما هي الظروف التي جدت هكذا فجأة, بعد مجيئك انت الى رئاسة التحرير ؟ . قال رئيس التحرير : - يا اخي الظروف قد تتغير فجأة , فقد ظلت الامراض تفتك بالبشر قرونا طويلة حتى اكتشف العلماء البنسلين .).. ونلاحظ في هذه القصة قوة المفارقة في ذهن الكاتب , من مقارنة الحال التي لا تجوز فيها المقارنة على هذا النحو . وفي قصته ( مذكرة تفسيرية ) . التي يستهلها بالحوار, بين رئيس تحرير ومحرره للصفحة الأدبية, حول عدم نشر نص شعري, لأحد الشعراء الشباب البارزين " قال رئيس التحرير لمحررالصفحة الأدبية : يا أخي الموضوع أبسط من ذلك بكثير , فأنا لست ضد الشعر المعاصر, أو المستقبلي أو الحديث أو الحر أو "المنطلق"! . سمه ما شئت . ولست أمانع أن تنشر له قصائده , فهو كما تقول شاعر معروف وله معجبون في أوساط الشباب . كل ما في الأمر أنني - ربما لغبائي الشديد - لا أفهم حرفا واحدا في شعره , ولا أدري ماذا يريد أن يقول . وبوصفي رئيس التحرير, المسئول عن كل كلمة تكتب في هذه الصحيفة , فإنني أصر بأن يرفق مع كل قصيدة, ننشرها له مذكرة تفسيرية, توضح بلغة عربية سليمة, ما يريد أن يقوله بالضبط , لأنني بصراحة , لا أريد أن انشر شيئا لا أفهمه , فأتورط في مصيبة (34) ..
      إذا تركز هذه القصة الضوء على منطقة مهمة من الصراع في المشهد الثقافي / الإعلامي .. وهو ليس مجرد صراع بين قيم الحداثة والقيم التقليدية , إذ يتعلق في جوهره بالأسس المعنوية, التي ينهض عليها طرفي الصراع , فهذه الأسس المعنوية هي ما يشكل القاعدة لجوهر الصراع: "المصالح المشتركة" .. لكن لا يعبر هذا الصراع عن نفسه بهذه الفجاجة " المصالح " بل يتمظهر بطرق وأساليب أخرى , هي الصراع بين القديم والجديد في مستويات مختلفة : لكن إلى أي مستوى يمضي هذا الصراع ؟ فهذا ما انطوى عليه النص , كسؤال للتاويل ..
      وفي قصته (معجزة) يدور الحوار في إحدي البلدات, التي لا تعتبر أنه لو حدث وتكلم الحمار , أن ذلك يمثل معجزة , حيث يعمل المعنى البعيد _ على المستوى البلاغي - بدلا عن القريب ( قال الصحفي في لهفة لشيخ البلدة الصغيرة : هل صحيح ما سمعت أنكم وجدتم هنا حمارا يتكلم ؟ . قال شيخ البلدة بدون إكتراث : نعم . قال الصحفي : هذا شيء غريب للغاية . لا أصدق أن هناك حمارا يتكلم , إلا إذا رأيته بعيني وسمعته بأذني . رفع شيخ البلدة رأسه وقال في هدوء : وما الغريب في ذلك ؟ قال الصحفي وهو في حالة قصوى من الدهشة : حمار يتحدث كالآدميين تماما , الا يعد ذلك معجزة خارقة في نظرك ؟ قال الشيخ وهو ينصرف إلى عمله : لا ! أننا لا نعد ذلك معجزة في هذه البلدة(35) ففي هذه القصة يدور سؤال المفارقة حول التبلد الذي أصاب الإنسان , جراء هذا الواقع ( الذي في حقيقة الامر غير واقعي مع أنه واقع معاش لكنه غريب!!) , ولذلك إختيار الصحافي ( بوصفه ملاحقا للاحداث وأحد عناصر تشكيل الرأي العام بل أحد اعمدة صياغة المعنى الإجتماعي العام ) فبهذه الصفة , تتبدى المفارقة في كون أن الرجل العجوز الذي ليست له وضعية الصحفي أدرك غرابة الواقع التي لم يستطع إدراكها هذا الصحفي بعد, على الرغم من وضعيته كصحفي .. وهنا يأتي توظيف الحمار الذي يتكلم كإسقاط على شخوص الواقع !!!.. وبالاحالة الى قول زولجر : " أن المفارقة لا ينبغي أن تختلط بالسخرية " سنجد أن الشوش يحاول إزاحة المفهوم التقليدي في البلاغة القديمة للمفارقة " تنقسم المفارقة إلى نوعين : - المفارقة اللفظية ومفارقة الموقف . وتتحقق الأولى في النص الادبي على المستوى البلاغي ومستوى التعبير واسلوب السرد والشكل الأدبي عامة . أما النوع الثاني فيعتمد أساسا على المستوى التاريخي والآيديولوجي (36) ..
      ربما أن إعتماد الشوش للمفارقة جاء من كونه أحد أفراد جيل التحولات الإجتماعية والسياسية الضخمة , التي عاشت الهزيمة السياسية والإجتماعية لسودان ما بعد الإستقلال في 1956 , ورأت أحلامها الكبرى تنهار يوما بعد آخر , فلم يبق أمامها سوى الغربة و الشعور بالغرابة .. وحملت كتابات هذا الجيل , آثار هذه الهزيمة . لتكون هنا - في السرد - تجسيدا للمفارقة بين الحلم والواقع , في تطور المجتمعات السودانية . نتاج الانكسارات والهزائم .المريرة .
      [mark=#FFFFCC]
      الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
      كي يسمى في القواميس بكاء ..
      الصادق الرضي
      [/mark]

      تعليق

      • أحمد ضحية
        أديب وكاتب
        • 10-05-2010
        • 121

        #4
        (4) قراءة في عالم زهاء الطاهر القصصي...

        (4) قراءة في عالم زهاء الطاهر القصصي.
        اللغة و الراوي ..
        زهاء الطاهرأحد كتاب القصة القصيرة , الذين أفرزتهم مرحلة التحولات الحداثية , منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي ..
        ملمحان أساسيان يستوقفان قاريء زهاء الطاهر , سواء كان في كتابته القصة القصيرة( مجموعة ليلى والجياد - مثلا ) أو في ( وجه جالا يتجلى - كتابة ) (37), التي أصدرها عن مركز الدراسات السودانية القاهرةفي العام 2003. أو في قصصه العديدة التي طالعناها في الملفات الثقافية المختلفة . والملمحان الأساسيان هما : - الاسلوب المميز في تعامله مع اللغة القصصية , أو لغة الكتابة كما في وجه جالا يتجلى - ونوعية الراوي ( المتكلم ) التي يستخدمها في كل كتاباته . حتى في , خطابات تكريم الآخرين ( عثمان علي نور : العدد الثاني والعشرون من كتابات سودانية - ديسمبر 2002 - والتي استعنا بمجتزأ من خطاب زهاء في هذا العدد الخاص بتكريم مركز الدراسات السودانية لعثمان علي نور , في مقدمة هذا الكتاب ) .وقد أشار الناقد معاوية البلال من قبل إلى أن زهاء الطاهر من أميز القصاصين , الذين يستخدمون صيغة المتكلم , كإسلوب سرد ذو فعالية , دون إفتعال(38) وتعمل هذه الصيغة بالإحالة للبلال على توافق سردي بين الإيقاع والنسيج وتعمل على ضبط حركتها داخل النسق السردي من خلال تدفق الوعي . وصيغة المتكلم هذه تقنية حديثة, تتيح ما يمكن قوله إلى ما يجاور ويلامس تخوم الشعر , وارتبطت هذه الصيغة بتيار الوعي ..
        كما أن لغة زهاء الطاهر القصصية , تتميز بالإختزال والتكثيف والإيحاء, وإستخدام المفردات فيما يشبه الجناس مع توظيف المترادفات أيضا (39).. و كتمهيد لقراءة الراوي في قصته القصيرة ( الساهي) (40) .. نبدا أولا بملاحظاتنا حول اللغة في ( وجه جالا يتجلى )...
        أولا : اللغة في وجه جالا يتجلى:
        تتكون هذه المجموعة ( وجه جالا يتجلى ) من 13 نصا ( أتتركني ليزدردني وحدي المطر - ليتها لو أنها كانت هي الزمن كله - حين خرج المساء من بهر السماء - شربنا فهمنا فاستهامت نفوسنا - آه يرول ما أنقى لسانك - محمود محمد طه آخر عهدنا بالفرح - وجه جالا يتجلى - هي دنيا تحجل في رونقها - زاك .. أيها الولد المشاكس .. أين نحن الان ؟- ويزهر الطيب صالح هكذا .. دوما هكذا - نضرة وزاهية هي الطائرات رغم إجهادها - ثم أني لا أملك إلا أوتاري وعقيرتي ).. وأول ما نلاحظه على هذه المجموعة وجه جالا يتجلى التوظيف المدهش للغة عند زهاء . إذ تتناثر مفردات العامية لتشكل مع الفصحى ولغة الوسط جسدا واحدا لا تكاد تبين بينه المستويات الفاصلة للغة . لكننا سنتخذ هنا نموذجا نصه الذي وظف فيه أيضا لغة غرب السودان"دارفور"( النص : يا بعض اهل الله بالله كيفكمو ؟ ) . اللغة بالنسبة لسوسيور جزء معين من الكلام, وإن كانت أساسه الجوهري , وهي كل مستقل بذاته قابل للتصنيف , وعلى ذلك فان اللغة هي : نظام من الرموز المختلفة التي تشير إلى أفكار مختلفة (41) يقول علماء اللغة : أن إدراج الكلمة في بنية مركبة متعددة المستويات , يضفي عليها قيمة دلالية موحدة, تجعلها صالحة لأداء وظائفها على هذه المستويات المختلفة (42) .. واللغة عند زهاء الطاهر مدهشة . بإنسيابها, ونعومتها.. هذا المزيج من الدارجة التي تتخللها مفردات من غرب السودان , وفقا لتراكيب ا العربية الفصحى . ويتقاطع زهاء الطاهر هنا على _ مستوى اللغة _, مع لغة الطيب صالح : لغة وسط السودان , ومع إبراهيم إسحق في إستخداماته المزيج , وبذلك تشكل اللغة في كتابة زهاء الطاهر نسيجا مختلفا عن اللغة عند الطيب صالح بذات درجة الإختلاف عن اللغة عند إبراهيم إسحق , إذ تقف لغة زهاء في منتصف المسافة بينهما , لكنها تقيم حوارا مع اللغة عند كل منهما , فلغة زهاء ليست صعبة بمفردات غير مألوفة تماما , كما نستشعر عند ابراهيم اسحق . وليست سهلة بسيطة, كما نجدها عند الطيب صالح . وربما أسهم زهاء بذلك في لعبة اللغة القصصية , بأن جعلها - لغة القصة - قادرة على تأدية معانيها إلى أقصى حد ممكن , لكأن لغته تخرج من أغوار ذلك العالم الحكائي الحلمي الناعم لألف ليلة وليلة , لتمتزج بلغة القصة المعاصرة ولغة الشعب في غرب ووسط السودان . ليشكل هذا المزيج خصوصية اللغة عند زهاء . ونلاحظ ذلك في " يا أهل الله بالله كيفكمو " (43) , وقبل أن نسترسل في وجهة نظرنا نشرح هذه القصة " يا اهل الله بالله كيفكمو " بهذا التخطيط السمولوجي :
        التعليم المدني = الدراسة = النجاح في الدراسة والتخرج والوظيفة= الرضا التام بما تم التوصل إليه يقابل ذلك إنعدام الرضا المخطط يشرح المنفعة التي يسعى اليها بطل القصة ( الراوي المتكلم/ زرقان) . فقد تحول , لدى لقاءه امرأة " جفالة" من " مهاجري " : أي طالب علم قرآني في الخلاوى . إلى طالب تعليم مديني " رأتني حين رأيتها .. مالك والشرافات وقد سمع وحطب الخلاوى .. كلمت ناظر المدرسة عشان ياخدك في المدرسة تدرس مع العيال (44) " ..ونجح في دراسته بالتعليم المديني وتخرج من مدرسة الرسم " التي صاغوني بها جيدا , حتى صيروني مدرسا بها (45) " . لكنه لا يشعر بالرضا بعد كل هذه السنوات " يا ولد. ناديت على نفسي .. هو أنا في أسمال الذكرى .. أزمان الرمل والمدارس بكل فصولها الأربعة ومستقبل الألوان الذي تسبب في موتي وبعثي , لكني لم أشا . وزغردت جفالة بجلال وجمال ووفاء , فيا بعض أهل الله بالله كيفكمو ؟ (46)" . ويشرح المخطط أدناه الضرر المحتمل, لبطل هذه القصة جراء تركه لطريق أسلافه , وإتخاذ طريقا مدنيا جديدا: مساكنة زرقان لجفال .. التخلي عن حفظ القرآن في الخلوة.. التخلي عن جفالة.. التخلي عن حياة الخلوة .. ضياع زرقان فقد تخلى زرقان عن حياة الخلوة. والمهمة الاساسية التي إبتعثه أهله لأجلها " حفظ القرآن " بمساكنته جفالة , ما يعد ضياعا له وفقا لوجهة نظر الفقيه الذي يحفظه القرآن ووفقا لوجهة نظر أهله وزملاؤه " وبكى الفكي أبكر كثيرا حتى تمخط ثم أستغفر وهو يقول : - زرقان ضاع إلى الأبد (47)" . وإنخرط زرقان في التعليم المدني وأستمرت حياته مع جفالة بعد التخرج والوظيفة .
        حملت لغة القصة عند زهاء هذه الأفكار, بسهولة ويسر. فبينما نجد لغة الوسط تكاد تطغى على لغة النص :" يلا بينا فقرا .. وتغطيني من العين , وأكتب لي بخرات .. ثم خرج الفكي مبسوطا .. يا ولية كيفن أقعد وسط عيال فرافير أدرس معاهم ؟ .. بكره من صباح الرحمن تمشي السوق لحمدين الترزي , الخ ..) نجد أن الفصحى تزاحم هذه اللغة " فلما مددت لها بآياتي المكتوبة .. كان عاما كريما حين خرج بنا الفقيه أبكر المسلاتي .. ذهبت معها وقابلت الناظر والمدرسين , إلخ ..) يتخلل هذين التوظيفين للغة مفردات غرب السودان بصورة تنافس التوظيفين السابقين للغة ( عبد البنات ..الأضية .. جفالة .. أبكر المسلاتي .. إنبسطت الداجاوية .. دقيق الجير ..أسكت يا جنقجورا .. وأنا الأرنتنق ضحكت معها .. ترى أنتايا الناظر .. الورتاب , الخ ).
        فاللغة عند زهاء ليست مجرد مرآة عاكسة للحياة .فقط _ حياة هذه الشريحة من الناس : المهاجرية _ بل هي كائنا في حياة هؤلاء المهاجرية , يقع في قلب عالمهم المحفوف بسلطة الفقيه, والتعليم المديني والمجتمع , الذي تنتمي اليه جفالة , بكل طموحاته وتطلعاته ..ومن هنا لا تكتفي اللغة في يا أهل الله بالله كيفكمو في توصيف العالم الباطني للراوي المتكلم بطل القصة وحبيبته جفالة , إذ تتحول إلى نشاط يكشف عن دلالات كثيرة وغنية , تتلاقح فيها لغة الوسط مع الغرب والفصحى .. " أن الإمساك بالجانب المتعلق بمحتوى اللغة بصورة علمية, هو أصعب من الوقوف على الجانب المتعين منها , أى الجانب الذي يتمثل في التعبير بصورة ملموسة , فالوحدات التي تتمثل على مستوى الدلالة, أكثر كثيرا منها على مستوى النحو أو الصوتيات . ذلك بان ما هنالك من صيغ نحوية وأشكال صوتية أقل مما هنالك من المعاني (48).. وتقودنا هذه الملاحظة إلى حقيقة أن محتوى النص اللغوي, مراوغ بحيث يصعب ضبطه, على نحو ما يصنع علم النحو, أو علم الأصوات اللغوية . وأهم من هذا ملاحظة أن المعاني - على ضخامة حجمها - إنما تتجسد لغويا في عدد محدود نسبيا من الصيغ . وهذا ما يخلق مسافة كبيرة في بعض الحالات . بين الصيغة النحوية والمحتوى الدلالي للعبارة .
        ولتوضيح ذلك لنفكر نحويا في الجملة عند زهاء الطاهر . على سبيل المثال : ( كنت أسجع . فقربت مني (49) فمن الناحية النحوية تحدد هذه الجملة علاقة بين فعل وفاعل . لكن من حيث الدلالة الأمر مختلف فإقترابها " جفالة " وهو " زرقان " في سجعه نحويا يمكن قراءتها بصورة عامة هكذا : ( التاء في محل رفع اسم كان . وأسجع فعل مضارع مرفوع . والفاء للعطف وقربت فعل ماضي . والتاء للتانيث في محل رفع فاعل . ومن حرف جر والياء للمتكلم و والكلمة مني مجتمعة : " جار ومجرور" ).. وعلى المستوى الدلالي نجد أن جفالة ليست هى فاعل الاقتراب, , لأن سجع زرقان, مارس دور الغواية, ودفعها للإقتراب. فهى أقتربت مدفوعة دفعا بغواية السجع . بالتالي زرقان أقرب لأن يكون فاعلا في حاله : السجع .. وهي أقرب لأن تكون مفعولا بها . عكس القراءة النحوية .. التي تعلن عن حالة الفعلية في ( كنت أسجع ) في شقها الأول , وفي شقها الثاني ( فقربت مني ) تعلن عن حالة الفاعلية . في حين أنها تضمر بشقيها الأول والثاني على المستوى الدلالي - وفقا لما ننحاز إليه من تأويل - حالة واحدة فقط أما : الفاعلية , أو الفعلية . وتقودنا هذه الملاحظة إلى الوقوف على اللغة, بوصفها نظاما عاما ينطوي على مجموعة, من النظم المتكاملة والمتآزرة ( النحوي - الدلالي - الوظيفي ) ولمزيد من التوضيح, يمكننا أخذ مثال من النص ( حملنا أخراجنا على ظهورنا . ظهور أيامنا (50) . فهذه الجملة المكونة من جملتين متصلتين - طريقة بناء الجملة عموما عند زهاء - يربطهما التأكيد (ظهور - ظهورنا) . موضوعها" الأيام" - وليس "الأحمال" كما قد يتبادر إلى الذهن, على المستوى النحوي - فالكلام هنا وصفي . يصف فيه المتكلم بضمير الجمع, أن للأيام ظهور . فهو يعرف ذلك .و مفردة " ظهور" نفسها . ليست غريبة على أحد فلكل شخص ظهر- بله كل كائن حي نراه حولنا - كما أن هناك فضل الظهر كتعبير كنائي . لكن ليس ذاك هو غرض المتكلم . فهو يريد تمليكنا معلومة جديدة هي : أن ظهورهم التي حملو عليها أحمالهم, ليست هي الظهور التي نعرفها . فهي ظهور الأيام واأد على ذلك بالتكرار . وهكذا نجد أن المتكلم أضاف هنا حقيقة جديدة للأيام من معنى يندرج في التجريد الذهني , إلى جسم مادي محسوس, وهو أن للأيام ظهور. بالتالي لها جسد هذا الظهر جزء منه وهذه الحقيقة هي حقيقة محتملة بين عدد من الخيارات, فمثلما للأيام ظهر لها أنياب وسيقان وأقدام وأسنان وعيون ولسان , الخ ..الخ ...
        وهو أمر مدهش أن تكون الأيام = غير المحسوسة . جسد محسوس . فمن خلال الدلالة التي يحملها اللفظ , ندرك هذه المعرفة الجديدة , وهكذا ... أن زهاء الطاهر بلا شك أضاف للغة القصة القصيرة إضافات هامة . وأتصور أنه إلى جانب إبراهيم اسحق, قدما مداخل لمشروع لغوي جذري للقصة _ ينهض في بلاغة وجمال الدارجة ولغة غرب السودان _ حري به أن يكون هو لغة مستقبل القصة الحديثة في السودان . التي تتلاقح وتتفاعل فيها لغات السودان في مختلف أطرافه, ليتخلق من هذا المزيج, نص لغوي مشحون بالدلالات المتنوعة, ويفيض بالمعاني المدهشة ..
        ثانيا : الراوي في الساهي :
        لابد لنا من الإشارة إلى أن للمتكلم في الحكي حالتان : أما أن يكون الراوي, خارجا عن نطاق الحكي , أو أن يكون شخصية حكائية, موجودة داخل الحكي . فهو راو ممثل داخل الحكي . وهذا التمثيل له مستويات " فأما أن يكون الراوي مجرد مشاهد متتبع لمسار الحكي , ينتقل عبر الأمكنة , ولكنه مع ذلك لا يشارك في الأحداث . وأما أن يكون شخصية رئيسية في القصة " . وعندما يكون الراوي ممثلا في الحكي _ كما في قصة الساهي _ , أي مشاركا في الأحداث أما كشاهد أو كبطل , يمكن أن يتدخل في سيرورة الأحداث, ببعض التعليقات أو التأملات , تكون ظاهرة ملموسة . إذا ما كان الراوي شاهدا , لأنها تؤدي إلى إنقطاع في مسار السرد , وتكون مضمرة متداخلة مع السرد , بحيث يصعب تمييزها إذا كان الراوي بطلا . وفي بعض الحالات التي يكون فيها الراوي غير ممثل في الحكي , ويلجأ إلى التدخل والتعليق على الأحداث , فإن الأمر قد يؤدي إلى تصديع البناء الخيالي الذي أقامه الراوي نفسه_ وهذا ما لا نجده عند راو زهاء _ إذ يصعب بعد هذا على القاريء أن يصدق بأن الأبطال لديهم حرية الحركة والتصرف .(51)..
        الراوي / المتكلم في الساهي يباشر بالحديث المتواطيء عبر الجملة ذات الإيقاع الوصفي , ما يجعل المتلقي منذ السطر الأول يشرع مشاعره لتداعيات هذا الراوي " ومفعما كنت حتى الجلد , وحتى منبت الكلام وأرجاء الروح الهادلة , وشائقا كعهدي , وشيقا كعهدها ومندفعا كلي نحوي , تواقا وعذبا كنهير في حلم أخضر . فياضا ومسكونا ببعض الوحي الموحي . كنت كأني أصيل مذهول (52)" فنلاحظ في هذا المجتزأ أن الجملة التعبيرية تدفع بالقاريء إلى التسلل إلى النسيج السردي . إذ يستخدم زهاء الإحالات المجازية الباعثة على التأثير في وجدان المتلقي " ومفعما كنت حتى الجلد - أصيل مذهول ومنغوم , الخ " وهكذا يتم توظيف طاقة الإنفعال في المجاز الذي يسقطه في عالم الأشياء " لأصبحت لهذه الإدارة نكهة آسرة وحالمة " وإستخدام المجاز هنا ليس إلا مستوى من مستويات التعبير عند زهاء , والذي يستخدمها في توسل الراوي للتحقق مما يسرد . الأنا / الهي: يرصد زهاء هنا شخصية الراوي عبر ضمير المتكلم , وشخصية سالي (الهي) مبينا كيف نشأت العلاقة بينهما من قلب التناقض " مالها لو غارت أو طارت , فان فعلت فحتما أبدا لن أطراها .طريت النبي "- " لو أنه توقف أو أوقفوه وفارقنا لأصبح لهذه الإدارة نكهة أخرى " ..
        وهكذا إبتداء يتم تحديد الأبعاد النفسية للأنا ( الراوي) ول (الهي) = سالي موضوع حب وحنين الراوي .. ويجد المتلقي نفسه مرتبكا, إزاء هذه العلاقة , فالعلاقة تنهض بشكل أساسي في ( السهو ) وهكذا يشكل السهو محورا لعلاقات السرد , تنهض فيه علاقة الراوي الساهي بسالي الساهية . " مرة أخرى رفعت رأسي بجبهته العريضة ولم أسألها بل سألت ضيفتها : أما جاء وسأل عني أحد في غيابي يا رجاء ؟ لم يكن إسمها رجاء . أبدا لم تكن رجاء, فغمغمت بضياع ثم قالت لي : - فقط أبوك سأل عنك لكنه لم يجيء . أين كنت يا ناصر ؟ .. لم يكن هذا إسمي أبدا لم أكن ناصر ... إذا هي امك التي سألت .. إبتسمنا ثلاثتنا وأخرجت لهما صورة أمي من جيب جلبابي .." ..
        وأخيرا : تحتشد هذه القصة بالدلالات والرموز التي تتأسس على المفارقة في عدم تطابق الإسم مع المعني " رجاء / الرجاء " - " ناصر / النصر " . . يسرد زهاء بضمير الراوي بلغة مميزة لا تعوق الحدث . لغة مزيج من العامية والفصحى . يسحبنا بهذه اللغة الى أغوار سرده دون أن نحس بملل ..
        يتبع
        [mark=#FFFFCC]
        الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
        كي يسمى في القواميس بكاء ..
        الصادق الرضي
        [/mark]

        تعليق

        • أحمد ضحية
          أديب وكاتب
          • 10-05-2010
          • 121

          #5
          (5) عادل القصاص و"الوصف" في صور زنكوغرافية ليوم عادي ..

          (5) عادل القصاص و"الوصف" في صور زنكوغرافية ليوم عادي ..
          عادل القصاص , أحد القصاصين المميزين الذين أفرزتهم, مرحلة التحولات الحداثية, في القصة القصيرة في السودان . وقد بدأ في نشر إنتاجه القصصي, منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي , وهو من القصاصين الضنينين بالنشر , كما وصفه القاص بشرى الفاضل ...
          القصة موضوع قراءتنا " صور زنكوفرافية ليوم عادي ..(53) " واحدة من قصصه المتميزة , اللتي حملتها مجموعته " لهذا الصمت صليل غيابك" .. وكنا قد كتبنا من قبل , متابعات نقدية حول قصته " ذات صفاء , ذات نهار . سادس أخضر (54) إلى جانب قصته " نشيد التماسك (55)", ولكن يبدو أنها ضاعت ,مع كثير من الكتابات التي تضيع في المنافي , فسمة المنافي التنقل الدائم وعدم الاستقرار .
          الوظيفة التي يلعبها الوصف في النص القصصي , ظلت تجد إهتماما مستمرا , لدور هذه الوظيفة في : التفسير والترميز معا - فهي ليست مجرد حلية للإسلوب كما كان يعتبرها النقد القديم , ولاهي بمثابة تجميل للقصة فحسب - إذ يتحرك الوصف فيما يحيط بالشخصية , أو المكان ليكشف عبر توصيفه المكان أو الأشياء التي توجد فيه , عن التركيب النفسي للشخصية , مشتغلا في التبرير لسلوكها - الشخصية - .. فوظيفة الوصف رمزية وسببية , كما أنها أيضا نتيجة " ويعتبر الوصف, عنصرا ذا أهمية حيوية, في العرض. بخلاف ما كان عليه, في العصور القديمة , وقد إنتهى هذا التطور, إلى غلبة العنصر الروائي في القصة , إذ وظف له العنصر الوصفي, الذي فقد ما كان يتمتع به من إستقلال ,مقابل إكتسابه للأهمية الدرامية , غير أن هناك بعض المحاولات القصصية المعاصرة, تهدف إلى تحرير الوصف ,من سطوة الحكاية , عن طريق بناء ما يسمى ب "الحكايات الوصفية" (56)" ..
          الراوي في هذه القصة : ( صور زنكوغرافية ليوم عادي ) - هذا اليوم غير العادي في واقع الأمر , فالمفارقة أنه في مكان مثل البلاد, محل هذه الوقائع يعد عاديا, نتاج تراكم العسف والقمع الناهضان في التجسس, وحركة أجهزة الأمن. كما حددت اللغة الوصفية المشحونة, بالوقائع والأحداث والإنفعالات !! - , يتم تقديمه لنا عبر الوصف – بدء بالإستهلال - الدقيق , لصور واقعية مشحونة ومحتقنة , لمشاهد من الحياة اليومية . تستعرض : حالة متوترة لبطل المشهد الأول "إنحنى بزاوية حادة نحو الأرض . جهدت يده اليمنى في محاولة جادة لإلتقاط كتاب, من وسط الكتب ,التي كانت تفترش الأرض ,بطريقة حاول فارشها أن تبدو قدر الإمكان , متسقة . وباسلوب فوضوي أقرب للتشنج , وبإتحاد عشوائي, مع قدميه النابت منهما ساقان مرتجفتان , راحت يده اليسرى. تحاول منعه الإنكفاء, على وجهه . حينما كانت اليد اليمنى, تلامس الكتاب , إمتدت ثلاث من أصابعها, بالإنكماش نحو الراحة . وبينما أفلح الأبهام والسبابة, في إلتقاطه , تحولت الزاوية الحادة إلى منفرجة .. فإلى وضع طبيعي (57)" .. عبر هذا المقطع الوصفي , نستطيع تحسس مدى إهتمام بائع الكتب بالنظام . ومدى الجهد الذي يبذله, هذا المشتري للحصول على الكتاب . حيث يعبر الوصف عن حالته النفسية .. حالة التوق لتحقق الإمتلاك للكتاب. فالوصف هنا, يقدم لنا موضوع الإستهلال , وفضاؤه وأشياؤه , في بطانة من الحمى والمقاومة .
          فالقصة كلها تنهض في مناخ العسف, والرقابة والخوف. بكل ما يعتمل في الوجدان, من حذر وترقب الإعتقال.. فهذه الحمى تتحكم في مسيرة, بطل القصة وهو ينتظر الحافلة, أو يركبها متخللا الزحام, باحثا عن موطيء قدم ,أو وهو يستيقظ من نومه, ليمضي إلى مساعدة عم خضر أو لعب الدومينو, مع عم جابر أو وهو يتبادل المثاقفة, مع أصدقاءه حول: الكتابة و الكتاب والموسيقى, والغناء والحياة والناس, والإجتماعي المأزوم الذي يتخلل كل ذلك . إلى أن يتم إعتقاله في المشهد السادس .
          تمر كل هذه المشاهد عبر الوصف, متخللة الوحدات السردية الصغرى, بروح البوح المعطون في التساؤل , محمولة على أكتاف لغة مجازية , بكل ما تحتوي على طاقة إنفعال . لتشكل مجالا ديناميا, يمثل فيه البطل الذي تعرفنا عليه ,إبتداء من الإستهلال , مركزا لأحداث ووقائع الفضاء القصصي , كما يلقي بظلاله على مشاهد الحياة الاخرى " كان ركاب عربة البوكس صامتين , يحاولون تجنب النظر إلى بعضهم ,بالإلتفات يمينا أو يسارا, أو بإنكفاء رؤوسهم على صدورهم, إلا من إختلاس النظر, بين لحظة وأخرى, إلى وجهي فتاتين ,كانتا من ضمن الركاب . وحينما تركت العربة شارعا, ذا أشجار ضخمة وعتيقة , منتقلة إلى شارع ذي بنايات حديثة وسامقة , قالت إحدى الفتاتين للأخرى الجالسة بجوارها : - أنني بعد كل محاضرة , أزداد إعجابا وإحتراما للدكتور مكي, أرأيت كيف ناقش اليوم, أزمة المثقف السوداني ؟ ..
          - ولكن ألا ترين معي, أن رؤيته للمسألة كانت ممنهجة بصرامة ,ومتطرفة أكثر من اللازم ؟ ..
          - وهذا ما نحتاجه حقا في هذه المرحلة .
          - معك حق. ففي مثل هذه الظروف ,لسنا في حاجة للحلول الوسطى . . إنتبهت أذنا شاب كان يجلس قبالة الفتاتين . إنتقل الإنتباه إلى عينيه. مسح وجهي الفتاتين بنظرة مستقيمة . وبلا تفكير , وبطريقة آلية , تحولت نظراته إلى وميض غريب . توقفت العربة, في المحطة النهائية . نزل الركاب . أشعل الشاب ذو النظرات ,ذات الوميض الغريب .سيجارة ثم سار خلف الفتاتين (58)" ..
          وهكذا يختم راو القصاص يومه غير العادي , بمتابعة رجل الأمن للفتاتين . .
          أن غلبة الوصف في نص ( صور زنكوغرافية ليوم عادي ) على السرد , تأتي بإبراز عالم الأشياء و شحن هذه الشخصية بمزيج من المشاعر المتناقضة , لتكون الشخصية بهذا التركيب النفسي المعقد , معادلا موضوعيا لمتناقضات الواقع الحي المعاش .. وكل ذلك عبر وظيفة الوصف . إلى أن تختم القصة ببناء الوحدات السردية المقتطعة ,من مشاهد الحياة الواقعية , من حيث حركة الأحداث .. إذ يمهد القصاص, لكل حدث . بمناخاته الشعورية. ما يجعل الشخوص, أكثر قدرة على مواجهة مصائرهم المأساوية .
          مصادر وهوامش السرد والرؤى :
          (1) معاوية البلال . الشكل والمأساة " دراسات في القصة القصيرة السودانية " . الشركة العالمية للطباعة والنشر. ص: 9
          (2) مجلة فصول للنقد الادبي . الهيئة المصرية العامة للكتاب المجلد 16 العدد الثاني خريف 1997. ص : 17
          (3) مجلة الثقافة الجديدة. قصور الثقافة . العدد 172. اكتوبر 2004 . ص : 108
          (4) معاوية البلال. الكتابة في منتصف الدائرة. الشركة العالمية للطباعة والنشر . ص : 132
          (5) معاوية البلال . الشكل والمأساة " مرجع سابق " ص : 32 (6) كتابات سودانية " كتاب غيردوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد 22 ديسمبر 2002. ص :133
          (7) السابق ص ك 136
          (8) نفسه ص : 134
          (9) نفسه ص : 135
          (10) جابرييل غارثيا ماركيز . ذكريات عن عاهراتي الحزينات . ترجمة د. طلعت شاهين . طبعة اولى ديسمبر 2004. سنابل للنشر والتوزيع . القاهرة
          (11) _ مناظر من أرض جديدة ( قصص لكاتبات من اميركا اللاتينية ) . ترجمة ايزابيل كمال .قصور الثقافة . آفاق عالمية . طبعة اولى 2003. - أليثيا شتايميرج (1933) كاتبة ارجنتينية . كتبت اربع روايات ومجموعة قصص قصيرة . من اهم الكاتبات المعاصرات في الارجنتين . (12)كريستينا بيري روسي .كاتبة من اوروغواي . ولدت في منفيديو . وهي ابنة لمهاجرين ايطاليين . وتعمل والدتها مدرسة . وقد علمها خالها الشيوعي تذوق الادب . تخرجت في كلية الاداب في جامعة منتفيديو . وعملت بالصحافة وتدريس الادب . اضطهدت من قبل السلطة لموقفها المناهض للظلم . فانتقلت الى برشلونة في اسبانيا في 1972. صدر لها في العام 1963 اول كتاب وهو مجموعة قصص قصيرة " الحياة " عن الجو المعتم المحيط بالمرأة ومعاناتها كضحية للمجتمع الابوي . في 1969 صدرت لها مجموعة القصص القصيرة " المتاحف المهجورة " وحازت بها على جائزة اركا للكتاب الشباب في ارجواى في 1968 وتصف فيها انحطاط الثقافة في ارجواي . وتظهر فقدان التواصل بين الرجل والمرأة . كما في قصة " الاشياء الغريبة التي تطير " . وفي 1969 حصلت قصتها " كتاب اولاد عمتى " على جائزة مجلة مارشا . وهي قصة على لسان طفل . بها تحولات سردية عميقة . وبيري روسي تستخدم حيلا مرئية , وتمزج النثر بالشعر . وتهدف الى السخرية من البرجوازية , خاصة الفتيات اللائي ينشأن محاطات برعاية مبالغ فيها . نشرت في 1970 " علامات ذعر" وهو مجموعة من 46 قطعة ادبية وقصة قصيرة وقصائد ومقالات وامثال تعبر عن سمات عصر القمع في ارجواي . وفي 1971 نشرت اول ديوان شعري لمجموعة قصائد حسية تحتفل بجسد المرأة . في 1975 نشرت ديوان " وصف حطام سفينة " تركز قصائده على النفي السياسي والحب . على النقيض من ذلك في 1983 نشرت " متحف المساعي العبثية " الذي تناقش فيه محاور معاصرة مثل العزلة والتحليل النفسي والحرب والقمع السياسي . وفي 1984نشرت " سفينة الحمقى " وفي 1986 "آلام ممنوعة" .
          (13) غاستون باشلار . جماليات المكان . ترجمة غالب هلسا . المؤسسة الجامعية.2000 . بيروت الطبعة الخامسة . ص : 35
          (14) كتابات سودانية " كتاب غيردوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد 22 ديسمبر 2002. ص : 129/130
          (15) فصول للنقد الادبي " مرجع سابق " ص : 25
          (16) تقول الاسطورة ان نارسيوسي ( وهذا هو اسمه في الاصل اللاتيني ) هو ابن احدى حوريات النهر اللاذوردية الشعر . انجبته من اله النهر . فهو كائن مائي تتبعه الحوريات العاشقات , لكنه لا يستجيب لهن فتحكم عليه الالهة استجابة لدعاء احدى عشيقاته , بان يقع في شراك حب لا يخرج منها فائزا . واذ يحس نرسيس بالعطش ينحني ليشرب من ماء النبع , فيرى صورته وقد انعكست على صفحة الماء , فسحرته ووقع في غرام طيف حسبه جسدا , وهو لا يعدو ان يكون ظلا . وحاول تقبيل وجهه المنعكس على صفحة النبع , وحاول ضم خياله . وتورد الاسطورة هاجسا يحاور نارسيوسي " اى نار سيوسي ! ايها الصبي الساذج , فيما محاولتك الامساك بصورة خادعة ؟ ان ما تبحث عنه ليس له وجود حي , ولو انك استدرت لغاب عنك هذا الذي تهيم به . ان ما تراه ليس الا خيال نشأ عن انعكاس صورتك على الماء ..".. .. واذ يكتشف نرسيس الحقيقة يدرك وهمه قائلا : " ان هذا الصبي الذي يتراءى لي , ليس غيري . ان صورة وجهي لا تخدعني . انني احترق بنار حبي لنفسي . ويموت نرسيس حزنا , وتبكيه حوريات الغابة بنواح حزين . واذ تختفي جثته تظهر مكانها زهرة النرجس التي ستظل ترمز الى الاعجاب المرضي بالذات . لقد غدا الماء المرآة التي يبحث فيها نرجس عن ذاته التي حسبها شخصا آخر . ولذا اقترن ذكر المرايا بالماء او الظل .
          (17) فصول للنقد الادبي " مرجع سابق " . ص : 33.
          (18) كتابات سودانية " مرجع سابق " ص :
          129 (19) السابق . ص : 130/131
          (20) نفسه ص : 132
          (21) نفسه ص : 134 (22) نفسه ص : 136
          (22) سحر سامي . اكثر من سماء .مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص : 40. http://www.sudanjournal.com/Reports/Story4.html(23)حمى الدريس
          (24) السابق
          (25) سحر سامي . أكثر من سماء . " حقوق الانسان في الفنون والاداب " مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان . ص : 30.
          (26) السابق . ص : 32.
          (27) محمد ابراهيم الشوش . وجوه واقنعة .مكتبة مصر . الطبعة الاولى 1989.
          (28) السابق : ص : 21.
          (29) السابق : ص : 22.
          (30) السابق : ص : 23
          (31) السابق : ص :30.
          (32) الثقافة الجديدة . قصور الثقافة . العدد 173 . نوفمبر 2004. ص : 110.
          (33) محمد ابراهيم الشوش . مرجع سابق . ص : 85.
          (34) السابق . ص : 90 .
          (35) السابق . ص : 208.
          (36) الثقافة الجديدة " مرجع سابق " ص : 110 .
          (37) زهاء الطاهر . وجه جالا يتجلى - كتابة . مركز الدراسات السودانية . الطبعة الاولى 2002.
          (38) معاوية البلال . الكتابة في منتصف الدائرة . الشركة العالمية للطباعة والنشر . ص : 162. (39) معاوية البلال . الشكل والماساة " دراسات في القصة القصيرة السودانية " . الشركة العالمية للطباعة والنشر . ص : 80.
          (40) كتابات سودانية ." كتاب غير دوري " . مركز الدراسات السودانية . العدد العشرون يونيو 2002. ص : 105.
          (41) د. صلاح فضل . نظرية البنائية في النقد الادبي . مكتبة الاسرة .مهرجان القراءة 2003. ص : 20 .
          (42) السابق . ص : 199
          (43) زهاء الطاهر " مرجع سابق " ص : 7
          (44) السابق ص : 10
          (45) نفسه : ص : 12.
          (46) نفسه ص 12
          (47) نفسه ص 8
          (48)فصول للنقد الادبي . المجلد الخامس . العدد الرابع . يوليو اغسطس سبتمبر 1985 ص : 43
          (49) زهاء الطاهر " مرجع سابق " ص : 7
          (50) السابق ص 9
          (51) محمد السيد محمد ابراهيم . بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ " دراسة في الزمان والمكان " . الهيئة العامة لقصور الثقافة . 2004. ص : 347.
          (52) كتابات سودانية ." مرجع سابق " ص : 107
          (53) عادل القصاص. لهذا الصمت صليل غيابك. الشركة العالمية للطباعة والنشر 2002 . ص : 23
          (54) كتابات سودانية " كتاب غير دوري " العدد 22 ديسمبر 2002 ص :123
          (55) ثقافات سودانية " كتاب غير دوري " المركز السوداني للثقافة والاعلام .العدد الخامس 1999. ص : 108.
          (56) د . صلاح فضل . نظرية البنائية في النقد الادبي . مكتبة الاسرة مهرجان القراءة 2003. ص : 295
          (57) عادل القصاص " مرجع سابق " . ص : 23. (58) نفسه ص : 31/32
          [mark=#FFFFCC]
          الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
          كي يسمى في القواميس بكاء ..
          الصادق الرضي
          [/mark]

          تعليق

          يعمل...
          X