التوت وعطش البحر / رائعة الدكتور حكيم عباس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مصطفى خيري
    أديب وكاتب
    • 10-01-2009
    • 353

    التوت وعطش البحر / رائعة الدكتور حكيم عباس

    التوت و عطش البحر



    كانت دمعة حارة ، حفرت على خدّيّ مجراها ، تسقط فيه كفي كلّما مرّرتها على وجهي ، فيلسعني لهيبها رغم كل ما مرّ من سنين ، نما العشب و الزيتون على ضفافه و عششت الطيور ، تحوّل لتجعيد ، كأخدود يتمطى من ماقَيّ حتى هاوية الدّمع على طرفي ذقني .
    يسألني المعلّم : ما بك يا حكيم ؟ ، أتنهنه ، فيغلبني البكاء ، يتقطّع نَفَسي ، يهتزّ صدري فيهتز معه جسدي الصغير ، تختنق الكلمات في حنجرتي ، تنقلب أشواكا و حشرجة ، تتصلّب عيناي على وجهه ، يضع يده على كتفي ، ينحني ليوشوشني: إن كنت مريضا أو بحاجة للخروج من الصف ، يلحّ ، و حالي لا يتبدّل ، لم أكن أشعر بالكره نحوه ، و لا بالغضب منه ، كنت أتمزّق شفقة على جواد ، كان الظلم قاسيا ، لم أكن يومها أعرف التسمية ، لكنّه الإحساس بالقهر و قلّة الحيلة ، الممزوج بالجبن و تقريع الذات ، و الحنق و الغضب الشديد من باقي أولاد صفي ، بسبب سخريتهم و قهقهاتهم ، لماذا لم يتدخلوا لينقظوا جواد ؟ كلّنا نعرف الحقيقة ، لماذا لم أعترض أنا؟ لم أقل للمعلّم أن هذه ليست لجواد إنّها لأبيه ، "عمي لطيف" ... لماذا ؟؟ لماذا؟؟ لماذا؟؟
    عيناي مبتلتان كعصفورين تحت المطر ، لكنّهما ثابتتان ، انغرستا في عيني المعلّم ، كنت أشعر بارتباكه ، يحاول ملاطفتي و لا فائدة ، لم يذعنِ إلا حين صرخ أحدهم : زعلان على ابن عمه .. جواد ابن عمه يا أستاذ.
    في نهاية الدرس الأخير ، جمعت كتبي و أدواتي ، وضعتها في الكيس ، علّقته برقبتي و تركته يتدلى على جنبي المقابل ، اختلست نحو مازن النّظرة اليومية المعتادة ، بينما يجمع كتبه في حقيبة جلديّة بنيّة ، جلبها أبوه من ألمانيا في الصيف الماضي ، كان الوحيد بيننا ، يتبختر بحقيبته ، و ملابسه النّظيفة المرتّبة ، متناسقة الألوان.
    في الشارع خارج المدرسة ، هرج و صراخ ، يختلط الجدّ بالمزاح ، جواد يتعارك مع ثلة من أولاد الصّف ، يصرخ أحدهم مستهزءا بحركة مسرحية : أعطيني سيجارة ،
    يشتمه جواّد ، يهجم الولد عليه مازحا ، يحاول دسّ يديه في جيب بنطاله ليأخذ علبة السجائر ، يتعاركا ، يلكزه آخر من الخلف ، يؤشّر بيده لرأسه و يرسم معنى ما يقول : يا ابن "المهوّي"(1) .
    يركض خلفه جواد ، فيناديه آخر من بعيد : الهوى هوايا (2).. و ابن المجنون معايا

    ثم آخر : "خلعوها" .. "خلعوها" (3)...
    يقف أحدهم مقلّدا المعلم و يقول: يا أولاد ، عدّدوا نقائض الوضوء.
    فيصرخ الجميع : العبريّة يا أستاذ.
    يتراكضون تسقط أكياس الكتب من على أكتافهم ، تتناثر الدفاتر و الأقلام ، عندما ينحني أحدهم ليلملم خاصته ، يركله آخر فيسقط أرضا ، يتمرّغ في التراب ، ينفض ملابسه و يشتم ، فيتصاعد الغبار ..
    ينجح أحدهم بالوصول لعلبة السجائر ، يستولي عليها ، يشهرها في الهواء بمشهد مسرحي قائلا : حرّروا البلاد بسجائر أبو جواد .
    تعلو القهقهات و الصفير ، تختلط الأصوات و الشتائم ، يتناول جواد حجرا عن حافة الطّريق ، يرفع يده يهدّده ليعيد له العلبة ، يلقي بها لآخر ، يركض جواد نحوه شاهرا الحجر ، فيلقيها لثالث ، يركض نحوه و هو يصرخ و يشتم ، يدور جواد بينهم ، يركض و يلهث من واحد لآخر ، إلى أن تمزقت العلبة و تناثرت السجائر ، فتقاذفتها الأرجل في كلّ مكان .
    نظرت لوجهه عندما جاء ليأخذ كيس كتبه ، الذي حمّلني إياه ريثما ينهي معركته ، عَلِق التّراب برأسه الحليق ، و القشّ و أوراق حشائش يابسة ، وجهه مُعفّر ، دمعتان شقّتا طريقاهما على خدّيه ، بقيت ذرات التراب على جانبي الدموع ، في المجرى بانت بشرته النّظيفة ، كأنّه رسم كاريكاتوري ، يتدلّى من أنفه المخاط الممزوج بالتّراب ، تجمّد فوق شفته العليا ، أخذ كيسه دون أن ينبس ببنت شفة..

    كانت صورة المدير و هو يحمل عصاه الرّفيعة الطويلة ، تستحوذني ، غدا سيشتكون له و سيأتي العقاب.. أنا الطالب المثالي ، المتفوق علما و أدبا ، مضرب المثل !! كيف سأدخل هذه المعركة إلى جانب ابن عمّي؟ .. و مركزي؟؟ و عقاب المدير؟ و الشكوى التي ستتبعها لأبي؟ و العقاب من جديد ؟.. لا .. لا ليس من شأني ما حدث .. كيف و كنت في الصفّ تبكي بحرقة على جواد ؟؟! كيف؟؟!

    بكيت في حماية المعلم أمّا هنا ، ماذا أفعل ؟ أعاركهم ؟؟ لا .. لا ..
    دخلت البيت ، منهكا ، متعبا ، أشعر بروحي تزهق ، حين يحاول صوت في داخلي اتّهامي بالجبن ، أفرّ متشبّثا بالولد المثالي !
    لم أدخل من الباب المعتاد الذي يوصلني لأمي ، ذهبت حيث يعتاد جدّي الجلوس ، وجدته خلع ثوبه و استلقى مغمضا عينيه ، بقميصه و سرواله الطويل الفضفاض ، كقط أبيض يتلمّس برودة البلاط ، جلست على الأرض و ظهري نحو صدره ، تزحلقت بهدوء إلى أن أصبح كلّ جسمي يلامس الأرض و رأسي فوق خصره ، مدّ يده من فوق كتفي ، فتدلّت أصابعه الغليظة كثيفة الشّعر ، فوق صدري بمحاذاة عنقي ، تمتم دون أن يفتح عينيه : حكيم ؟؟
    لم أجب ، بل أغمضت عيني مثله ، فقال ببطء و هدوء: أسمعك .. أسمعك ..
    بقيت صامتا ، فقال بنفس النّبرة : ما بك يا حكيم ، أنا أسمعك !!.. لست نائما.. ثم هزّ يده ليحثّني ، فاهتزّ كتفي و كلّ جسدي. ، قلت: خذني يا جدي عند عمي لطيف.
    يبدو أنّني فاجأته ، هربت يده مسرعة من على كتفي ، فتح عينيه و رفع رأسه و بحلق في وجهي ، فتحت عينيّ لتصطدم بحدقتيه المذعورتين.
    حوقل و أعاد رأسه إلى الأرض ، لكن لم يُعِد يده ، و لم يَعُد قلبي يخفق ليعانق أصابعه التي تتدلّى فوقه من وراء الضلوع.
    فقلت: اليوم ضرب المعلم الغريب جواد . كان يحل مسألة حساب على السبورة ، سقطت منه الطبشورة ، فانحنى ليتناولها ، فسقطت من جيبه علبة السجائر، نسي علبة سجائر عمي لطيف في جيبه ، صفعه المعلّم بقوة على وجهه ، فسقط على الأرض ، ركله برجله ، ثمّ ركله و طرده خارج الصّف ، سخر كلّ الأولاد منه ، قهقهوا ، أتى المدير بعد قليل و وشوش المعلم ، فأعاده للصفّ و أعاد له علبة السجائر.
    لم يعلّق جديّ ، بل صرتُ أحس برأسي يعلو و يهبط فوق خصره ، مع تسارع نَفَسه ، هل أصابه القهر مثلي؟؟
    تابعت أكثر حماسا : في الطريق ، سخر منه الأولاد ، ضايقوه ، أخذوا علبة السجائر و مزّقوها ، فبكى جواد.. جدي.. هل سيضربه عمي لطيف؟
    رفع جسده عن الأرض ، وازن جلسته ، ثمّ زحف نحو مقعد قريب ، إتّكأ عليه و نهض.. نهضّت مسرعا : أتأخذني؟
    لبس ثوبه دون أن يجيب ، التقط يدي و خرجنا معا نحو ساحة الدّار الجانبية ، المليئة بأشجار المشمش ، بيت عمّي لطيف قريب ، غرفة واحدة أمامها مصطبة فارهة مرتفعة ، نسمّيها "الدّوسة" ، تُظلّل معظمها شجرة توت ضخمة ، لم يكن عندنا مثلها ، و لم أعرف التوت إلاّ من يديه .
    عمّي قصير القامة أسمر البشرة ، نحيل الجسم ، ذو شاربين رفيعين أنيقين ، لم أشعر يوما بالرّاحة حين كنت أجلس في حضنه و يطعمني التّوت ، كانت عظامه بارزة تضايقني ، أتململ فيضحك منّي ..
    نتحلّق حوله ليحكي لنا عن أيام الشّباب ، أيّام كان يعمل في حيفا ، وجهه هادئا ، مضيئا ، عششت فيه طيور الجليل(4) بكلّ تفاصيلها ، تسمع زقزقاتها بصوته و أصابعه الطويلة الرّفيعة ، كأنّها مناقيرها ، لا يكفّ عن التّمتمة بأغنية لم أنجح في حفظ سوى بعض الكلمات منها : "حيفا عروس و الكرمل(5) جديله
    البحر عطشان و القلب يناديله"
    بعد النكبة تغيّر كلّ شيء ، يقتله النّدم ، كأنّه كان يحمل سرّ الكون و فرّط به ، يلوم نفسه ، يضم أصابعه و يضغطها بقوة ، فترتجف قبضته حين يشهرها أمام وجهه و هو يقول : لو كنّا نعرف ، فقط لو كنّا نعرف .. أولاد الـ...... كنّا نبول عليهم ، نبصق في وجوههم ...
    تنام في أمان الله ، تستيقظ و قد احتلوا الهدار(6) و الكرمل ، و أصبحوا يقولون و يشورون .. يذبحون النّاس في الشوارع ... أولاد الكلب .. تفُ ... تفُ علي .. تفُ علي .. الله أكبر ، كم كنت غبيّا .. كم كنت غبيّا ، ويهزّ قبضته في الهواء..

    لا أريد رؤية الأنجاس ، لا أريد ما يصنعون و لا ما يزرعون ، ثم يمسك كاحله و يرفع قدمه و يضرب بها الأرض ، و هو يقول : هذه الأرض يجب أن تجف ، أن تصبح صحراء .. صحراء ، و رمالها جمر ، لا تنبت حشيشة واحدة لهم ... ينظر بعينين زائغتين ، يغيّر نبرته و يسأل بهدوء : لماذا لا تجف؟؟ لماذا؟؟ و يضربها بقدمه ... يضربها إلى أن يعلو لهاثه
    ثمّ يتمتم بحرقة : "حيفا عروس و الكرمل جديله
    البحر عطشان و القلب يناديله"
    و فجأة يصرخ مناديا زوجته : حسنية .. حسنية ... فتأتي بقامتها الطويلة ، و جمالها الريفي الذي لوّحته شمس الحقول ، تعرف ما عليها فعله دون أن يطلب ، تمدّ يدها لعلبة السجائر الملقاة جانبه ، تحت خرقة من قماش بالية ، تأخذ لفافة و تعطيه إياها ، يخرج من جيبه علبة كبريت "نابلسية" ، يشعل عود الثقاب و يعلّق : السجائر عربية لكن ، ختموا العلبة بختم الضريبة بلغتهم .. لعنة الله عليهم و على لغتهم..
    قليل الخروج من البيت كي لا تقع عينه على أحد منهم ، أو ترى حرفا بلغتهم ، يـتأفّف دوما و هو يقول: انتشرت حروفهم كالذّباب في كلّ مكان .
    إن لمست يده شيئا "ملوّثا" بهم ، يُسارع لغسلها ، لو وقعت عينه عليهم أو على كلمة عبرية ، يسارع لحوض الماء ، علبة السجائر تظلّ تحت الخرقة و معها البطاقة اللّعينة ، إذا خرج من البيت ، ترافقه زوجته لتحمل سجائره و بطاقته ، أو يرافقه جواد ، يصارحنا : لو كنت شجاعا لفقأت عيني ، لكنّني جبان ... جبان.. يضع إبهاميه فوق عينيه المغمضتين و يضغط بقوة ،، ثم يصرخ .. جبان .. جبان..
    فيما بعد حاول ، أنقذته الصدفة بعد أن أدمى جفونه ، بعدها استدعى جدي أبي و قرّرا اصطحابه للطّبيب.
    يمسح بيده على شعري و يبتسم ، يعطيني حبات من التّوت و يقول: مساكين .. يظنّونني مجنون ..
    مرّت كلّ الصور أمامي و أنا ألهث خلف خطوات جدي المسرعة ، دفع الباب التنكي القديم ، دخلت خلفه ، كان عمّي في ظلّ شجرة التوت على "الدوسة" ، يحتسي الشاي بهدوء ، عندما رآنا ابتسم ابتسامته الحنونة الدّافئة ، فركضت و القيت بنفسي قربه ، التصقت به ، انشغل بالحديث مع جدّي ، خرجت زوجته و خرج جواد ، لكنّني لم أتابعهم ، و لم أسمعهم ، طوّقني بأحد ذراعيه ، دسست رأسي في صدره ، أغمضت عيني .. شعرت بحاجة للبكاء ، رعشة برد تجتاحني ، فطوقت وسطه بكلتا يدي ، دفعت بجسمي نحوه أكثر ، كأنّني أدخل فيه ... كم أحب التّوت يا عمي لطيف.. كم أحبّ التّوت..




    حكيم


    ----------------
    1 : تعني المجنون
    2 : اشتقاق من الأولى ، و تغمز للجنون
    3 : ايضا تعني الجنون
    4 : منطقة شمال فلسطين المحتل منذ 1948
    5 : جبل في قلب مدينة حيفا
    6 : منطقة القطار الأرضي الذي يوصل بين المدينة و قمّة جبل الكرمل.
  • محمد جابري
    أديب وكاتب
    • 30-10-2008
    • 1915

    #2
    [align=right]الأستاذ مصطفى خيري؛

    إنه موضوع للأستاذ حكيم، وفيما يخصك يعتبر موضوعا منقولا وبالتالي ليس له محل بالصالون.
    [/align]
    http://www.mhammed-jabri.net/

    تعليق

    • مصطفى خيري
      أديب وكاتب
      • 10-01-2009
      • 353

      #3
      الاستاذ محمد الجابري المحترم
      نقلتها الى الصالون لانها قصة رائعة
      عن ولادة النبوغ كموهبة
      ووشعرت انها قد تجد هنا مكانا اخر بجانب مكانها السابق
      فقد لاحظت ان بعض الاعمال المميزة يتم اختيارها للنقد هنا
      ولك ما تراه مناسبا
      مع تحياتي

      تعليق

      • سهير الشريم
        زهرة تشرين
        • 21-11-2009
        • 2142

        #4
        الأستاذ القدير / د. محمد الجابري

        كانت رائعة من روائع الدكتور حكيم ، فلم لا نصافح روائعهم هناا ، وأعتبر هذا تقديرا من الأستاذ خيري لهذه الرائعة بأن يضعها بين أيدينا ..
        مع رجاء أوجهه للدكتور وسام .. فتح قسم خاص بالصالون توضع فيه فقط روائع مشرفين الصالون وكتاباتهم إن أمكن ..

        شكرا لهذه المساحة الرائقة الممزوجة بدمعة الحنين للوطن .. وشريط ذكرى برائحة الزيتون ..

        تحياتي للجميع
        سهير الشريم

        تعليق

        • د. وسام البكري
          أديب وكاتب
          • 21-03-2008
          • 2866

          #5
          الأساتذة الأفاضل ..

          جميعنا يعلم بالقلم الجميل الذي يكتب به الأستاذ القدير د. حكيم عباس، ولكن يعلم أخي د. حكيم عباس نفسه أننا (أنا وحضرته وهيئة الصالون) قررنا إلغاء قسم النصوص الأدبية، لأن اختيار النصوص الأدبية يؤدي إلى مشكلات كثيرة تبدأ بالاعتراضات ولا تنتهي بالضغائن .. وبالتأكيد يؤدي إلى انهيار الصالون.

          وتبعاً لذلك؛ قررنا آنذاك نقل جميع النصوص إلى الملتقى العام (خارج الصالون).

          هذا هو توجّهنا وما زلنا عليه، ولا مانع من الموضوع النقدي العلمي للنص الأدبي؛ علماً أن الصالون ليس تشريفاً لأحد، بل يتشرّف الصالون بالباحث وموضوعه.

          ولدينا إضافات جديدة بعد أن يتفق عليها أصحاب الخبرة.

          وأرجو من السادة المشرفين عدم نقل الموضوعات إلى الصالون.

          مع خالص التقدير والاعتذار.
          د. وسام البكري

          تعليق

          يعمل...
          X