السرد والرؤى (4-5) : قراءاءت في بنية القصة عند (1) أحمد أبو حازم.(2) صديق ا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • أحمد ضحية
    أديب وكاتب
    • 10-05-2010
    • 121

    السرد والرؤى (4-5) : قراءاءت في بنية القصة عند (1) أحمد أبو حازم.(2) صديق ا

    السرد والرؤى (4-5) : قراءاءت في بنية القصة عند (1) أحمد أبو حازم.(2) صديق الحلو.(3) محمد خير عبد الله.(4) آرثر غابريال.(5)أغنيس لوكود.(6) إستيلا قاتيانو.
    " بنية المشهد" : عند القاص أحمد أبو حازم :" يناير بيت الشتاء _ نموذجا (*)
    .. القاص أحمد الجعلي " أبو حازم ". من كتاب القصة القصيرة المميزين جدا . ويعتبر نسيج وحده. بتجربته الجمالية المتفردة , التي تحاول الافصاح عما هو عصي على البوح . وقبل أن نقدم قراءتنا لقصته يناير بيت الشتاء , سنقوم بإجراء قراءة عامة, وعابرة لنصين من نصوصه , تساعداننا على تفهم المناخ النفسي العام, لعالم أبو حازم القصصي , هما نص :" المسارات السرية للظلال " و النص : " غربة " و نص : " يناير بيت الشتاء".. (1)
    المسارات السرية للظلال:
    في قصته " المسارات السرية للظلال " , والتي يوطيء لها أبو حازم, ببيت شعري لأبي الطيب المتنبيء :( تتخلف الآثار عن أصحابها-*- حينا,ويدركها الفناء فتتبع ) , بما يحمله هذا البيت من معان لفناء الأحياء , وآثارهم في خاتمة المطاف _ مهما تركوا من آثار بقيت على مر الدهور_ , ففي نهاية الأمر ستفنى هي الأخرى .!!..
    هذه الرؤية الكافكاوية التي تتصدر قصة: " المسارات السرية للظلال ", بمثابة المفتاح لعالمها السري, الموغل في الرمادية .. فالراوي المتواري منذ مطلع القصة , يبدأ يحدثنا: عن مدينة غبراء أزمعت, ألا تعرف الأشجار " تذهب الظلال كلها متوشحة حدادها , وإحتجابها وتختفي .. عند مغيب الشمس.. تختلس الظلال أشكالها ويتلبسها سمت شبحي , وهي تسلك مسارها السري الغامض(1)" .. ليتوقف الراوي بعد ذلك عند شجرة وحيدة, تحتضن الجميع وتدثرهم بظلالها , ثم يسترجع_ الراوي_ ما فعله كلاب السلطات بالأشجار " مساحو الأرض , كلاب السلطات , دفعوا الظلال نحو مدار مجهول , عجنوا لهذا الغياب بفؤوسهم الحادة , وقدموه لها على طبق من شفرة ماضية . نزعوا الاشجار من جذورها , فذهبت أخشابها, إما محترقة كوقود , أو كمصنوعات كسولة, وبليدة تقبع طيلة الوقت. في ردهات لا يشغلها أحد. إلا لماما (2) " ..
    لينتقل بعد ذلك ليحكي - الراوي - عن أحد سكان هذه المدينة الغبراء - شاب . ورّاق . يتاجر في الكتب القديمة تحت هذه الشجرة التي تربطه بها علاقة حميمة " أول القادمين إلى المدينة هو . وإول نشاطه أن يسقي الشجرة قبل الماء بشوقه (3) " .. و هكذا يبدأ الراوي في الكشف عن المناخ السيء, الذي يعمل فيه هذا "الورّاق" , الذي كثيرا ما تداهمه كلاب السلطات .. يطأون كتبه , و يمارسون عليه هوايتهم في القمع. دون أن يجرؤ على الإحتجاج .. مسلطا الضوء – أبو حازم - على المسئولين, وعمالهم , ثم ينتقل بنا إلى لحظة حاسمة في مسيرة وقائع وأحداث " المسارات السرية للظلال ": حينما قرر المسئولون إقامة كشك, شرطة تحت الشجرة " عند الغسق وقبل شروق الشمس . كان هناك وكانت الشجرة واقفة مكانها . وتحتها يتربع الكشك الحديدي, بالقرب من جذعها. كالبصاق البذيء . وبعد أن حفروا له عميقا , ولا شك أنهم أصابوا عروقها بسوء (4)" ..ويمضي الراوي واصفا فظائع ما يجري: " أنين الأرصفة الدائري وبكائها المتحشرج, وهي ترزح تحت ثقل الأقدام المنتظرة في هجير الشمس ..(5) " وفي هذه اللحظات العظيمة من التمزق, ينهض تواصله بالشجرة في محنتهما المشتركة , لينتهي النص بإختفاءه في قلب الظلال " دفعه الفزع للقفز عاليا , حينما تدفقت نظرته العجولة للأسفل , ولم يجد ظله . تراكض هنا وهناك والصراخ الداوي يسبقه ويشق المدى شقا , والاسئلة المضطردة تلاحق خطاه التي ضلت نواحي بوصلتها انها الظلال وقد اخذته معها في مسيرها السري الغامض (6) " ...
    (2) غربة:
    وفي قصته " غربة " .. قصة: العصفور الطليق داخل الإنسان المحاصر. يستعير الراوي صوت طائر, يحكي عذاباته مع فصائل طيور أخرى - بشر آخرون - " كانوا خمسة ملونين وكنت سادسهم. وجدتني بينهم, لست من الفصائل النادرة . لكنني كنت لتكملة العدد. ولأشياء تبدو غامضة بالنسبة لي ! .. أما الخمسة الملونين فأنهم من الواضح, جيء بهم إلى هنا. في دفعات, أظنها ثلاث.. ذلك لأن كل أثنان منهم, تتشابه ألوانهما ..(7) .. يتملك هذا الطائر الإحساس المقيت بالغربة, والضيق. إزاء هذا الإعتقال , فيفشل في التواصل, مع الخمسة الملونين, المعتقلين معه - الألوان رمزية لفروقات ودرجات وإختلافات المعرفة والميول والرؤى - فينحسر نحو ذاته , و لا يصبح معتقلا داخل القفص فحسب. بل داخل ذاته أيضا!! بسبب الحصار الذي يفرضه حوله, الخمسة الملونون : زملاء المعتقل ..
    وهكذا تمضي هذه القصة جائسة في أغوار النفس وعذاباتها المضنية .. محاولا - هذا الطائر - تفكيك الحصار المضروب حوله " على ما أظن يقولون أني غريب الأطوار , فضولي متطفل , بل ويذهبون أبعد من ذلك (8) " .. ويستعيد الطائر ذكريات حياته السابقة , عندما كان طليقا " كنت وسرب فصيلتي نقوم بطلعات مرحة ,تحت الغيمات النائمة, بتراخ وإستسلام فوق رؤوسنا , ولا نبالي بها إن أصابها الصحو وأنهمرت علينا (9) " ..ويمضي في تداعياته وصولا إلى اللحظة التي تم أسره فيها, من قبل طفل شقي , ليجد نفسه بين الخمسة الملونين , الذين أطلق سراحهم دونه , فتتناهبه الأفكار بالإنتحار أو الإستمرار, في البقاء على قيد الحياة , ثم يبدأ في النضال للخروج من أسره " هذا هو اليوم التاسع وأنا ما زلت أمارس تنفيذها بمنقاري , وسأواصل النقر على مكان واحد من السلك النملي , حتى لو إقتضاني الأمر العمر كله , حتما سيلين , وتتقطع أسلاكه الشائكة آخر الأمر , أني على يقين (10) "..
    (3) يناير بيت الشتاء:
    والقصة موضوع قراءتنا التطبيقية في هذا الجزء من محاولاتنا للتعرف على بنية المشهد عند أحمد أبو حازم هي قصة : " يناير بيت الشتاء .." .. كنا قد تداولنا , في نادي القصة السوداني , مسودتها الأولى - قبل أن تنشر بعد ذلك في الرافد الأماراتيةوكتابات سودانية بوقت طويل - . وأذكر أنها أثارت إبتداء من عنوانها , موجة من التساؤلات : بكآبتها الملتاعة, وجرأتها على التحرر مما هو سائد في القص في السودان . , والعالم فوق الطبيعي الذي تحيل اليه , مستكنهة أكبر أسئلة الوجود "الموت / الحياة " , بكل ما تمتلك اللغة الشاعرية عند أبو حازم, من قدرة على التعبير في - وحول - هذا السؤال الوجودي الكبير , ليشكل _ سؤال المصير هذا _ مفصلا أساسيا في " بنية الحدث ".. وقتها تباينت إنطباعاتنا حولها , وما كان ذلك سوى دليل آخر على أن " يناير بيت الشتاء .." أستطاعت أن تلقي حجرا في بحيرة ساكنة , وقالت دوامة هذا الحجر , في التموجات على سطح هذه البحيرة , شيء ما , خلف ما خلف من أصداء !!..
    حاول بعضنا في ذلك الوقت أن ينظر إلى هذه القصة القصيرة من وجهة نظر فنية محضة , ليرى فيها نزوعا أدبيا لإقتفاء أثر الكافكاوية , وآثر البعض الآخر رؤيتها من منظور نفسي , في محاولة للتفتيش في التجربة الذاتية لأبوحازم - تجربة الإعتقال السياسي والسجن - ولكن كل هذه الملاحقات للنص " يناير بيت الشتاء" , ظلت قاصرة, عن الإحاطة بشيء مما نطوى عليه: من أبعاد فكرية وجمالية "و لكن كيف يكون الإقتراب النقدي, من كاتب تجاوز مستويات الإنتماء إلى بيئة أو طبقة أو وطن , طموحا إلى تقص روح الإنسان, في مواجهة العالم ؟ وبأى معيار يتم تقييمه , وهو الرافض لرؤى تجاوزها العصر . والواعي بقصور تلك الرؤي - " البعثية " التي عرفها - عن إحتواء العالم, وعجزها عن إعادة السلام إلى روحه التواقة للتحرر. أن الهدف من الكتابة هنا عن يناير بيت الشتاء, ليس الدعوة لما تم إكتشافه , ولكن الإعلان بكل درجات الصوت والصمت. عن عذاب البحث عن يقين (11) في هذا الواقع الملتبس , الذي يشككنا في موت الأحياء وحياة الأموات, وفقا لتشكيل لا يخلو من السريالية والعبث !!.خلاصة القول السردي في يناير بيت الشتاء , بكل مدلولات الشتاء الكئيبة !!..
    الحكاية في يناير بيت الشتاء :
    تتكون القصة يناير بيت الشتاء من حكايتين , تشكلان معا حكاية واحدة .. ولنتمكن من قراءة"بنية المشهد " في هذه القصة, لابد لنا من محاولة تلأويلها أولا, لإستكناه معناها العام , مع إدراك أن .. النص الذي كان يدين فيه المعنى للمبدع أصبح لا يحمل دلالة جاهزة أو معنى نهائيا , وإنما إمكانا من إمكانات معان النص , ويظل المعنى مجرد إحتمال, إلى أن يكونه القارىء بالفعل , عوض أن نفترض تحققه بالقوة , لتكون كل قراءة - طبقا لعلي حرب - في نص ما , هي حرف لألفاظه , وإزاحة لمعانيه . فليست القراءة مجرد صدى للنص . أنها إحتمال من بين إحتمالاته الكثيرة والمختلفة (12)...
    الحكاية الأولى:
    وبطلها كاتب قصة " الذاكرة المعطوبة "( مأمون ابراهيم علي) .. فهذا الكاتب بعد نشره لقصته " الذاكرة المعطوبة " في إحدى الصحف , يفاجأ بدعوى مرفوعة ضده . إذ يتضح, أن أسماء شخصيات قصته, مطابقة لأسماء حقيقية في الواقع. والوقائع كذلك .. " يسألك المحقق : - الإسم : مأمون ابراهيم علي . السن : أثنان وثلاثون عاما .. وتنهمر الأسئلة , فتجيب بإقتضاب . ثم يشير ناحية الرجلين . والفتاة دافعا إليك بالسؤال المباغت : - هل تعرف هؤلاء الناس ؟ . تلتفت بذهول , وتجيب بصوت كأنه ليس لك : - كلا , لم ألتقيهم في حياتي من قبل, يسحب صحيفة قديمة ويقرأبصوت مكتبي آمر لا يخلو من تهكم , عبارة محددة يضغط على كلماتها ببطء ويردد بلا مبالاة: الذاكرة المعطوبة .. الذاكرة المعطوبة .. الذا .. هل تتذكر هذه العبارة ؟..- نعم , فهي عنوان لآخر قصة قصيرة كتبتها . - هل تعترف بأنك كاتب هذا الكلام ؟ . - نعم . . (13)" ..
    وفي التحقيق معه إثر تقديم الشخصيات الحقيقية لشكوى ضده يصاب, بالذهول لهذه المصادفة الغريبة , ويصر على أنه لا يعرف هؤلاء الناس , وأن ما كتبه محض خيال , فيتم حبسه على ذمة التحقيق "فيسيطر عليك الذهول والحيرة , وتحاول أن تجد تفسيرا ملائما لوجودك هنا , وما علاقة كل الذي يجري - بهذا النص القصصي !!.. يعاجلك بسؤال يعيد إليك صوابك : - كيف أنك لا تعرف هؤلاء الناس ؟!. - ما زلت أؤكد أنني لم ألتقيهم قط في حياتي !. - وظيفتي كمحقق, تقتضي أن أعرفك بهم , فهذا الرجل الأشيب ذو الوسامة الهاربة , هو عبد المجيد خضر . أما هذا الرجل فهو السيد على زيدان سائق التاكسي رقم خ أ 6485 تاكسي الخرطوم وهذه هي رخصة القيادة , وبطاقته الشخصية , والذي أطلق ساقيه للريح كما تزعم في قصتك .!!... أما هذه الفتاة , فهي الأستاذة نادية عبد المجيد خضر , المحامية وموثقة العقود أمام المحاكم الجنائية والمدنية . ماذا تقول في هذه البراهين والحيثيات ؟ . عند ذلك كان المحقق مبتسما , وهو يفرك يديه, والغبطة مرتسمة على سيمائه, إعلانا لإنتصاره عليك (..) ومن بين ركام التلعثمات, تستنكر الورطة وتجيب بجدية غريبة : - أن هذا الأ محض خيال صادف الحقيقة . - إذن ماذا تقول في الوصف التفصيلي. والعنوان الكامل, لمنزل السيد عبد المجيد خضر ؟ . - ثم ماذا تقول عن الرقم الحقيقي , لسيارة السيد علي زيدان؟ (14)..
    الحكاية الثانية:
    وتتمثل في قصة الذاكرة المعطوبة نفسها, بشخصياتها الرئيسية: " نادية " ووالدها عبد المجيد خضر, وسائق التاكسي علي زيدان , الذي يصطحب الفتاة نادية , في وقت متأخر من الليل, ليقلها إلى منزلها ".. الناس تهاب أجرتها الباهظة, في مثل هذا الوقت من الليل. أشارت له بالتوقف , وبمحازاتها تماما أوقف السيارة , ودون أن تسأل فتحت الباب الأمامي , ورمت بجسدها الجميل, الموغل قليلا في السمنة على المقعد (..) - الحي الرابع لو سمحت شارع 13.. ولأنها كانت ترتعش من البرد , يرمي إليها بمعطفه ليدفئها قليلا " .. بنخوته أحس أنه يجب أن يفعل ما يفعله أى رجل شهم مثله , خلع معطفه وألقاه ناحيتها ..- يمكن أن ترتديه , فالبرد لا يحتمل . هكذا قال وتابع النظر بإهتمام, في جسد الشارع(15)" ..
    ويصل بها إلى العنوان, الذي أعطته إياه " باب أسود ضخم, ذو مقبض نحاسي , علقت فوقه لافتة صغيرة, بيضاء. مكتوب عليها 64 شارع 13 الحي الرابع منزل عبد المجيد خضر .(16) " .. وتفاجئه بأنها لا تملك الأجرة الآن , وتطلب منه أن يحضر في صباح اليوم التالي, لأخذ أجرته. "يؤسفني أن لا أحمل نقودا الآن , ويخجلني أن أرهقك بالقدوم إلى هنا صباح الغد, ولا مناص من ذلك . فأنا إسمي نادية عبد المجيد خضر , وهذا هو منزلنا (17) .. وعندما يحضر في الصباح التالي , يفتح له الباب رجل عجوز , وتبلغ هنا الحكاية ذروة تعقيداتها فالرجل العجوز يصر عليه أنه أخطأ في العنوان " - لا لم أخطيء العنوان, فقد إنسربت بهدوء وثقة داخل هذا البيت . وقرأت أنا اللافتة, المعلقة فوق الباب , لا شك أنك السيد عبد المجيد خضر . - نعم أنا هو . ولكن لي بنت وحيدة , ومقعدة منذ يناير الماضي. - ولكني متأكد من دخول تلك الفتأة هنا , فقد إنتظرت حتى أغلقت الباب خلفها (18) " ..
    وهكذا يمضي الحوار بينهما..يصر سائق التاكسي على التأكيد بينما يستمر العجوز في النفي " أقول لك أن لي بنت واحدة ومقعدة , وتقول لي أن إحداهن قد دخلت هنا , ماهذا الهذيان الصباحي الذي أسمعه ؟ .. - حسنا , لفك هذا الطلسم هل يمكنني رؤية إبنتك هذه . كان العجوز حريصا على إنهاء هذه التقطيبة الصباحية . - لا مانع من ذلك , ولكن إن لم تجد ضالتك, أرجو أن تذهب على الفور. دون أن تقلق صباحنا أكثر من ذلك (19)" ..
    وعندما يرى السائق الإبنة المقعدة " فادية " يتضح له أنها ليست التى أقلها, في ذلك الوقت المتأخر, من ليلة البارحة .. لكن يسقط في يده وهو يهم بالخروج, ونسيان هذا الأمر , إذ يرى في هذه اللحظة صورة فتأة البارحة, معلقة على الجدران "شد إنتباهه إطار ضخم, لصورة كانت معلقة على الجدار. خلف المقعد, الذي كان يجلس عليه. تسمر السائق محدقا في الصورة ثم هتف : - أنها هي التي أوصلتها بالأمس!! , وقد تذكرت إسمها , إنها نادية عبد المجيد خضر!!.. لكنه سمع شهقة, كأنها خروج الروح من مكمنها , فالتفت ليرى العجوز, وقد هبط جسده المهدود, كالخرقة البالية, على أحد المقاعد ., أما الفتاة فقد أدارت عجلتها, واختفت في دهاليز المنزل . ثقل اللسان , فخرجت الكلمات واهنة. وبطيئة من فم الرجل العجوز : - تقول أن إسمها نادية عبد المجيد خضر ؟!.. - نعم. - أأنت متأكد من ذلك ؟ . - نعم . - لابد أنك قد أصبت بمس من الجنون . - لا ياحاج , أنا في كامل رجاحتي العقلية . - أنا مضطر لإخطار الشرطة لهذا الاقتحام الغريب . - لماذا يا حاج ؟ - لأن تلك التي تحدثت عنها, قد ماتت منذ الشتاء الماضي, في منتصف يناير (20)" ..
    ولا يصدق أنه كان يقل فتاة في واقع الأمر ماتت منذ عام!!! , فيصر على رؤية قبرها , فيأخذه والدها إلى قبرها " هنا تحت أشجار السدر, ترقد فلذة كبدي نادية . كانت إحدى أشجار السدر , قد غطت القبر تماما, ومالت فروعها المخضرة, على جانبي القبر , أزاح العجوز الفروع النائمة على الشاهد . فقرأه السائق برهبة أقرب الى الخشوع . أما الرجل العجوز, فقد بدأ يزيح الاغصان , لتجلية القبر قليلا , وهنا بان المعطف بوضوح, راقدا على ظهر القبر قليلا (21)" ..
    ولدى إكتشافه أنه كان يقل فتاة ميتة منذ يناير الماضي يطلق ساقيه للريح ..
    بنية المشهد :
    تتكون يناير بيت الشتاء من 12 مشهدا . خمس مشاهد بطيئة, إبتداء من المشهد الأول وحتى الخامس . وسبع مشاهد درامية سريعة, إبتداء من المشهد السادس وحتى نهاية القصة في المشهد الثاني عشر . إذ إعتمد " أحمد أبو حازم " في هذه القصة تقنيتين في بناء السرد , من حيث الإيقاع الزمني: تقنية التتالي السريع للأحداث, مجسما في التلخيص . إبتداء من المشهد السابع : والذي يبدأ من لحظة وقوف سائق التاكسي. صباح اليوم التالي, أمام منزل عبد المجيد خضر , ليأخذ اجرته من إبنته نادية. فيدخل مع عبد المجيد خضر, في حوار مطول, ينفي فيه عبد المجيد أن لديه بنت تكون قد أقلها سائق التاكسي, ليلة الأمس إلى هذا المنزل . و تتلاحق الأحداث في المشهد الثامن. في محاولة أخيرة للوصول إلى تسوية للوضع. إذ يدخل سائق التاكسي مع عبد المجيد, لرؤية إبنته الوحيدة المقعدة. فيستوثق سائق التاكسي عند رؤيتها, أنها ليست فتاته المقصودة _ وقبل أن يراها يجول ببصره في الصالون, فيرى صورة عبد المجيد وزوجته " جلس السائق على أحد المقاعد. وكان ثمة إطار مذهب عليه صورة لعروسين, في غاية البهاء والرونق .هي نفس ملامح الرجل العجوز, لكنها هنا منحازة لشاب ذي نضارة لا تضاهى . أيقن السائق أنها صورة زفاف ذلك العجوز , في زمان سحيق, مضت أيامه في متاهات الذاكرة . لم يأبه السائق لما تبقى من صور (22) ..
    - ويتداخل هذا المشهد مع المشهد التاسع.. في حوار آخر بين عبد المجيد والسائق, الذي يفكر في الإعتذار عن الوضع. وقبل أن يفصح عن ذلك. يقع بصره على صورة لفتاته المقصودة , فيترتب على ذلك حوارا, يمضى بالأحداث في منعرج آخر. ليبدأ المشهد العاشر - الذي هو إمتداد للمشهد الذي سبقه حيث يتشكك السائق.. وتهتز مسلمات الأب عبد المجيد , فيحاولان معا, الوصول إلى يقين. بالذهاب إلى مقبرة إبنته .. وهكذا يبدأ المشهد قبل الآخير بوصف للمقابر " قطعت السيارة عدة تقاطعات , ثم انسابت عبر طرق ملتوية , وغير معبدة حتى وصلت ذلك المكان الموحش , الغارق في لجة صمت الأبدية .. ترجلا من السيارة . عبرا دروبا صغيرة متعرجة , تجاوزا عدة قبور (23) " ثم يبدأ المشهد الاخير, إسترجاعا للمشهد الأول الذي تم استهلال القصة به : لحظة وقوف الكاتب أمام المحقق...
    يلاحظ على المشاهد السابقة, أنها تقع في فترة زمنية متعاقبة, ومحددة تحديدا مكثفا , ومشحونة بالإنفعالات .. يقول برسي لوبوك: يعطي المشهد للقاريء إحساسا بالمشاركة الحادة في الفعل . إذ أنه يسمع عنه معاصرا وقوعه , كما يقع بالضبط وفي نفس لحظة وقوعه , لا يفصل بين الفعل وسماعه, سوى البرهة التي يستغرقها صوت الراوي, في قوله. لذلك يستخدم المشهد اللحظات المشحونة . ويقدم الراوي دائما ذروة سباق من الأفعال وتأزمها في المشهد (24)..
    ويلاحظ أيضا أن المشاهد السابقة, مثلت وعاء للاستطرادات والتشعبات والإستباق, والوصف والملاحظات المباشرة, من الراوي التي تحمل ما تحمل من تحليل نفسي وإجتماعي .. ما جعل هذه المشاهد غنية بزخم التقنية .. خاصة أنها تحاول توصيل فكرة محددة, تتعلق بماهية ما رآه سائق التاكسي: هل هي المرحومة نادية عبد المجيد - التي أصيبت أختها فادية بالشلل, في ذات فترة موتها في يناير الماضي , وعلاقة الحركة للتمتع بمباهج الحياة " في السهرات - مثلا " بفقدان القدرة على الحركة بسبب الشلل بالنسبة لفادية - .. أم هي روحها الهائمة, تحاول إيصال رسالة ما لأسرتها ..أم أنها شيء آخر ..
    ولعل السبب في التفكير في مثل هذا الموضوع. كموضوع لقصة قصيرة. تلك الرغبة المتزايدة لدى أحمد الجعلي في مسرحة الأحداث , وعرضها دراميا, لتمويه الممارسة الفانطاستيكية , وحجب نواقصها . وأيضا لمحاولة التخلص من سلطة الراوي ذو الصوت المنفرد وغير المقنع دراميا, وفسح المجال لتعدد الأصوات في النص السردي الواحد . فالمشاهد السبعة, التى أشرنا إليها, أثبتت قدرتها على كسر رتابة الحكي, بضمير الغائب, الذي ظل يهيمن على أساليب الكتابة السردية (25) ... وفي إعتماد أحمد أبوحازم على تقنية التتالي البطيء . إبتداء من المشهد الأول , الذي يصور كاتب القصة في الزنزانة , والمناخ النفسي الذي يحيط به " العرق ينزف بإصرار الجرح الجديد, والدهشة والإرتباك يصكان أوصالك , ينفتح لك الباب, ذي الصرير العالي . والمرهق كالأنين. تأخذ طريقك بصعوبة, عابرا الأجساد المكدسة , كأكياس.. تتلقاك رائحة البول . تصاب بانقباض طفيف . وشعور بالتقزز حاد, وعلقمي. كالصدأ يغزو دواخلك (..) تخرج لتدخل عدة أبواب, بعدها تعبر دهليز خافت الضوء , لتجد نفسك في نهاية المطاف, وجها لوجه أمام المحقق. وثمة رجلين وفتاة يجلسون بهدؤ , ولكنهم يتفحصونك بنظرات غريبة , وتكاد عيونهم تشربك (26)..
    ويستمر هذا المشهد النفسي, إلى أن يبدأ التحقيق في المشهد الثاني , ليقفز بنا المشهد الثالث إلى اللحظة السابقة لركوب نادية التاكسي . ليبدأ المشهد الرابع بركوبها التاكسي, وإستهلال الحوار بينها وبين السائق " فتحت صدفة الصمت , فخرج صوتها ذو التكسرات الخشبية الغريبة لتقول : - أنه يناير بيت الشتاء وصوت الريح .. التفت ناحيتها (..) - أنه قلب الشتاء ونبضه ..قالت :- أنه وحشي كنثار الزجاج تحت الأجساد المتعبة . - قال : أننا نحس فيه بمعنى الدفء , ونستدرك أن أجسادنا مكتملة . قالت : بالعكس فأنه يشعرنا بالكآبة والحزن . أنه قاس وقاتل .- قال أنه يشعرني بالإستقرار والإنتماء . - قالت : أنه يشعرني بالتيه والموت . أنه يناير الوحشي عليه اللعنة والطعنات المرة (..) - وواصلت هي حديثها, بنفس الصوت الخافت والنبرة الغريبة : - ما أقسى أن تموت في الشتاء!!!.. (27)...
    وهكذا تختم الفتاة بهذه الجملة المشهد الخامس, ليبدأ المشهد السادس في وقوف سائق التاكسي, يلاحقها ببصره حتى تدخل إلى منزلها .. فضلا عن الوظيفة الأساسية للمشهد السردي , فهو يقوم بدور حاسم في تطور الأحداث, وفي الكشف عن الطبائع النفسية والإجتماعية للشخصيات . وهو ما نلاحظه في الحوار بين السائق والفتاة الذي عبر - فيه الحوار - عن شخصيتين متناقضتين في مفهوميهما للحياة والموت ..
    والوظائف التي لعبتها هذه المشاهد يمكننا إجمالها في :
    محاولة الراوي إيهامنا بالواقع - ثمرة قول الراوي - إلتحام المشهد بفعل القص من خلال الصراعات والحوارات والوصف _ هذه العملية المعقدة في الإنتقال من تقنية إلى تقنية أخرى - حيث تضمن هذه الأفعال الإنتقال من السرد إلى الحوار والعكس .. فالمشهد والحوار متماهيان .. ففي المشهد أو الحوار يكتب الأديب ما لا ينطق به (28).. وهو ما يوحي بأننا نكاد نشعر بأننا إزاء حركة كاميرا , تضعنا في الحدث , بحيث نصبح جزء منه . فقد إستخدم أبوحازم هنا , تقنية المونتاج السينمائي , ما أعطى القصة يناير بيت الشتاء حيوية, وجعلها مفتوحة على تأويلات مختلفة...
    [mark=#FFFFCC]
    الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
    كي يسمى في القواميس بكاء ..
    الصادق الرضي
    [/mark]
  • د. سعد العتابي
    عضو أساسي
    • 24-04-2009
    • 665

    #2
    قراءة مهمة وعلمية
    الله اكبر وعاشت العروبة
    [url]http://www.facebook.com/home.php?sk=group_164791896910336&ap=1[/url]

    تعليق

    • أحمد ضحية
      أديب وكاتب
      • 10-05-2010
      • 121

      #3
      (2) " بنية الزمن " عند صديق الحلو ...

      (2) " بنية الزمن " عند صديق الحلو ...
      الأستاذ صديق الحلو , من كتاب القصة النشطين بإنتاجهم. كما أن الحلو يتميز بقدرته على التواصل مع مختلف أجيال المبدعين .إلى جانب إهتمامه بتلك الأفكار حول بناء مؤسسات للأدب . حتى يتم تداوله وتقييمه على نحو واسع . وقد أسهم عمليا في تأسيس الرابطة الأدبية بمدينة كوستي (النيل الأبيض)في أوائل ثمانينيات القرن الماضي . كما أسهم في تأسيس نادي القصة السوداني بالخرطوم في خواتيم القرن الماضي ..
      تتميز القصة عند صديق الحلو بلغتها الشاعرية , وإستلهام الحكاية الشعبية , والقص الديني , في كثير من نصوصه .. وربما لذلك تقلب في توظيفه للزمن بين مختلف التقنيات سواء كان تعاقبيا أو إسترجاعيا أو إستشرافيا ..
      وفي هذه القراءة سنتناول الزمن كموضوع لقراءتنا في مجموعته " غصة في الحلق " .. ونجد أن أحد ابرز تقنيات الزمن عند صديق الحلو هي تقنية الإسترجاع , وهي تكنيك خاص بترتيب الأحداث وتسلسلها داخل القصة , حيث يترك الراوي الشخصية الأولى ويعود إلى الماضي ليصحب الشخصية الثانية , ثم يلتحم مستوى القص الأول مع الإسترجاع , ويستمر سيره بعد ذلك . وهذا النوع من الاسترجاع يقل إستخدامه في النص التقليدي , لأنه يحافظ على التسلسل الزمني داخل زمن القص . وفيه يترك القاص مستوى القص الأول , ليعود إلى بعض الأحداث الماضية , ويرويها في لحظة لاحقة لحدوثها (29)..
      قراءة عامة في الإسترجاع عند الحلو.. غصة في الحلق : نموذجا :
      ولابد لنا هنا من الإشارة إلى بعض التقنيات, في بناء الزمن عند صديق الحلو, في مجموعته "غصة في الحلق" , كما تتمثل هذه التقنيات إبتداء, في القصة التي إستهل بها مجموعته " أحلام المواطن جار النبي قسم السيد " . ففي هذه القصة يعالج الراوي , التحولات التي تطرأ على السلوك الإنساني , عندما يرتبط بالسلطة وتحولاتها , فجار النبي قسم السيد ( رجل في الخمسين بادي الوسامة.. في الأيام الخوالي أتى مديرا للإدارة من العاصمة, منقولا . أنفه المستقيم , شعره المسبسب . عينيه غزيرة السواد (..) دهاء يقاوم الخروج وحيل كثيرة تود الظهور (..) الموظفات بهر عقولهن (..) راح يحدثهن في أول لقاء له, عن حقوقهن المهدرة ..(30) " .. الزمن في هذه القصة تعاقبي , بطيء , إذ نمضي في تتبع حياة جار النبي قسم السيد , من خلال راوي مركزي مهيمن , يعالج سلوك جار النبي تجاه رؤساءه وموظفيه " تقلبت الأيام خريف فشتاء (..) صار يمارس هوايته في القسوة عليهم بجبن , أصبحوا يحتقرونه. لقد سلبهم كل شيء حتى أمل النصر (31) ويظل جار النبي غارقا في الصراعات والأوهام إلى أن يتم إعتقاله " إنتهى جار النبي قسم السيد, وقوة مدججة بالسلاح جاءت لإعتقاله بتهمة إختلاس المال العام (32)..
      كذلك في قصته "الهرة المتوحشة " وهي من القصص التي تسفر عن تعاقبية في الزمن منذ لحظة صحو الراوي " نهض ذات صباح مثقل . إرتشف كوب الشاي الدافيء ..(33) لتستمر في إيقاعها التعاقبي البطيء حتى الخاتمة ..
      وفي قصته " الخل الوفي " , و " زهور لا تعرف الزبول " و " مهر الأميرة " و " غابت الزهرة " و " النور والنهر " و " أيام للتضحية .. أيام للوطن " واللعبة " و " القافلة " ..في كل هذه القصص وغيرها, نجد أن الزمن تم بناءه على أساس تعاقبي . وربما يعود ذلك لمحاولة الحلو توظيف الحكاية الشعبية, في القصة القصيرة , مثلما تحيل قصة " الخل الوفي " و " غابت الزهرة " و " "مهر الأميرة " و" القافلة " , إلى مرجعيات محددة في الذاكرة الشعبية السودانية, أو نتيجة لهيمنة الراوي مثلما في قصة " زهور لا تعرف الذبول " كذلك نجد تعاقبية الزمن في " النور والنهر " التى نشرت بمجلة حروف العام 1993. وفي قصة " سارة تموت مرتين " .. حيث نجد أن الزمن يتماهى في تقنية إنعكاس المرايا " وأنت يغزوك الحرمان والصد وهجر الحبيب .. في الوطن غربة صهدتك التباريح إبداعا (34)" .. حيث يتبدد الزمن في صوت الراوي وهو يتنقل بين محطات حاسمة, في حياة سارة التي يحب حينا " كانت سارة حلوة الأماني . متزوجة من فتاها العاشق (35)" وحياته حينا آخر " تظل تبحث عن الدروب الموصلة عن غيمة تطرز منها ياقات تلاميذ المدارس (36)".. و
      في قصة عيون لا تعرف الغفو, يتحرك الزمن في مسارين . مسار أساسي هو إنعكاس المرايا من خلا ل المخاطب " إلتقيتها.. صار للعشق لون قوس قزح وللحياة دوران آخر وانداح المدى الأخضر في ذاتك التي تعج بالبوار (37) يتخلل هذا المسار الزمني الإسترجاع من خلال نفس الضمير " ما بنيته البارحة, جرفه الموج في تعريشة منزلها, الجهنمية الحمراء تزداد إحمرارا في الأصيل , تاتي نحوها.. تقترب وفي ذاكرتك ليلة مضت (38)"..
      وفي قصته " عبر الصحراء إلى ليبيا " على الرغم من أن البنية الأساسية تعاقبية , إلا أنه يتخللها إسترجاع بضمير المتكلم , و بإستخدام العبارات المباشرة " قبل حضوري إلى هنا, قالت لي والدتي الحاجة . لقد أخبروني بأنك ذاهب إلى ليبيا . إذهب على بركة الله (..) وفي الطريق وأنا على الجسر الضيق المليء بالعابرين, وجدت صديقي التوم (39) " ..
      وتهيمن تقنية الإسترجاع على قصة " وتبعد المسافات " التي يستهلها الراوي المهيمن, ببث تجاربه الذاتية " فشل يحوطك .. أجمل سنوات عمرك مرت كهباء منثور . صديقك الحميم إفتقدته كثيرا . وشرخ أصاب حياتك والدنيا كربات لا تنتهي .. ملل إحتواك (40) مستعيدا - الراوي - بعض التجارب " قالت عفاف أنك لا تصلح لشيء. صمتك الزائد . بلاهتك البائنة . أسئلتك الكثيرة . الوقت يمر بطيئا( 41) " وهكذا تتحرك بنية الزمن على هذين المستويين ( التداعي - الإسترجاع ) ..إلى أن تنتهي القصة ..
      وفي قصته " حكاية بنت إسمها خدوج " . نجدها أيضا كسابقتها , يتحرك فيها الزمن على مستويين: زمن تعاقبي تقليدي , يحكم بنية الحكاية التي يرويها راو مهيمن .. وزمن إسترجاعي تكشف عنه الحاشية التي تضع النص إزاء هذا السؤال : ما إذا كان الراوي يحكي عن خدوج بطلة القصة . أم أن خدوج وزميلاتها يناقشن قصة في هذا المعنى مع زميلهن القاص ؟!..
      ونجد أن من قصص الاستاذ صديق الحلو التي أعتمدت تقنية الإسترجاع في هذه المجموعة: " وردة بيضاء لعيني ومضة " و " أيام للحزن أيام للشجن " و " الحلقات " و البدايات والنهايات " و "رياح الجنوب النديانة " و " متاهات لا تنتهي " و " أمونة بت حمودة الراجل " و" الخروج من القوقعة " و " الجذور " التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي .
      وكذلك قصة " جنوح نهى " و قد نشرت هذه القصة بصحيفة " صباح الخير التونسية 1992... وفي قصة " الذئاب " نجد أن بنية الاسترجاع تتشكل منذ إستهلال الراوي, في كشفه عن خلاصة ما يريد أن يرويه " لعلك عرفت أن المرأة الإضافة لم تخلق بعد .. أم حسبت أن الحب يضمد الجراح (42)" ليعود الراوي بعد ذلك إلى الماضي الذي جعله يتوصل إلى هذا الحكم " قلبن له ظهر المجن وتحولت سهير من بلسم شافي, إلى جرح نازف , صار الحنان صحراء بقيع (43)" " جاءت أيام الجذر .. تراجعت أم سهير بعد أن رأته يرفل في سندس أخضر نامي (44)"..
      أن إستخدام تقنية الإسترجاع في القصة القصيرة, يحقق عددا من المقاصد الحكائية, مثل ملء الفجوات التي يخلفهاالقاص وراءه , سواء باعطائنا معلومات حول سوابق شخصية جديدة دخلت عالم القص , أو باطلاعنا على حاضر شخصية, أختفت من مسرح الأحداث ثم عادت للظهور من جديد . وهاتان الوظيفتان تعتبرأن من أهم الوظائف التقليدية لهذه التقنية الزمنية . وهناك وظائف أخرى للإسترجاع أقل إنتشارا ولكنها أيضا ذات أهمية كبيرة , مثل الإشارة إلى أحداث سبق للسرد أن تركها جانبا , وإتخاذ الإسترجاع كوسيلة لتدارك الموقف, وسد الفراغ الذي حدث في القصة , أو العودة إلى أحداث سبقت. بغرض إثارتها أو التذكير بها , أو حتى لتغيير دلالة بعض الأحداث الماضية . سواء باعطائنا دلالة لما لم تكن له دلالة أصلا . أو لسحب تأويل وإستبداله بتفسير جديد . وكل ذلك يجعل الإسترجاع, من أهم وسائل إنتقال المعنى داخل العمل السردي . ويمكننا بالتالي التحقق مما يرويه السرد, عن طريق الإسترجاعات, التي تثبت صحته أو خطأه (45)..
      بنية الاسترجاع عند الحلو: في (دروب جديدة ) ..
      سنحاول أن نتناول هنا بتفصيل أكثر _ تطبيقيا _ بنية الإسترجاع في قصص الحلو الثلاث التي نشرت في مجموعة دروب جديدة : أفق أول ( منشورات نادي القصة السوداني ,عن دار نشر الأكاديمية - الخرطوم ) وهي قصة : (1) عشوشة تفتقد الصواب (2) الخالة سكينة (3) البرينسيسة..
      إبتداء يمكن التمييز بين نوعين أساسيين من الأنظمة , أو كما يقول توما تشفسكي في كتابه عن "نظرية الأدب " يتم وضع العناصر الموضوعية طبقا لأحد مبدأين : فأما أن تخضع لمبدأ السببية , وتنتظم داخل نوع من الإطار الزمني , وأما أن تعرض بشكل لا يخضع لمنطق الزمن , ولكنه يتتابع دون مراعاة السببية الداخلية " ويطلق على النوع الأول إسم " النظام الزمني " . كما يسمى الثاني " النظام المكاني " .. وعلى خلفية ذلك يمكننا قراءة الإسترجاع في القصص الثلاثة موضوع تطبيقاتنا العملية (46)"..
      (1) الحكاية في عشوشة تفتقد الصواب:
      إنها حكاية شيخ- سليمان - عاشق لزوجته " كانت تحبه وكان يضللها, والحياة بينهما شد وجذب (47).. يعالج الراوي في هذه القصة, إحدى مظاهر السلوك الأنثوي السلطوي " فقدت عشوشة صوابها, وهي تأمره أن يبني لها قصرا, من الريش يفوق ما أتى به الأولين طرا (48)".. والحكاية في تأويلها , إسقاط لقصة( سليمان الحكيم مع بلقيس ملكة سبأ) .. فعندما جاء الهدهد بعد تأخر طال , كانت إجابته " - ذهبت أحصي عدد النساء أكثر أم الرجال .. قال سليمان : - وماذا توصلت ؟ قال الهدهد : - وجدت أن النساء مع الرجال الذين يسمعون رأيهن أكثر , عندها فهم سليمان ! .. وأمر جموع الطير بالعودة إلى وكناتها . طارت الطيور وفي زحمة طيرانها تساقط آلاف الريش, الذي يشيد قصرا فأكثر (49) وتنتهي القصة بامتلاك سليمان معرفة جديدة فيما يخص النساء , تكون دليله للتعامل مع زوجته عشوشة . ولكن أيضا تحصل عشوشة على مرادها- بالمصادفة - " كانت عشوشة المشتهاة تسند رأسها على راحتها وفي عينيها دفء دلال , مليء بالرضا . ما أحلى الولوج ببطء, في متاهات الأحلام. في شتاء ليل طويل . لقد أرخت لحلمها وما تشتهي. وبذرت بحماسها والغنج نبتة مورقة, واستراحت .. وتابع سليمان سرب الطيور المغادرة, حين رأى الهدهد في زيل السرب يطير دون أن تسقط منه ريشة واحدة (50)"..
      تعتمد هذه القصة في دلالاتها, لا على الذاكرة المشتركة على مستوى المجال الثقافي العام ( قصة سليمان الحكيم ), بل وعلى مستوى اأد مستويات هذا المجال ( السودان : اذ تسمى فيه إحدى العصافير النزقة بعشوشة ) ..
      (2) الحكاية في الخالة سكينة:
      وهي حكاية عائلة يكيد أفرادها بقيادة أمهم المستبدة لزوج أختهم " الخالة سكينة وجهها الشبيه بوجه جرز هرم , تدير المكائد : قالت لحسن زوج إبنتها سميرة , أنك تثير المشاكل وسوف تقابلك نتائجها .. من يومها وهي تنفخ في المزمار , بناتها يصفقن لها ويرقص الجميع على أنغام ديسكو خفي بلا حياء . أنه شخص لايرجى منه , قالت الخالة سكينة . بخيل وقذر. أرسلت الخالة سكينة لحسن أهوالا بأظافر وأنياب (51) .. ويشارك الأم " الخالة سكينة " زوجها ضعيف الشخصية: "قال زوج الخالة سكينة الذي دائما ما يتظاهر بأنه يفهم كل شيء(..) سميرة الضعيفة تحضر نقودها من المدرسة لتنفقها في منصرفات المنزل المتعددة (52)" .. يحاول الراوي في هذه الحكاية, معالجة أزمة عائلية , بالكشف عن أسبابها المتمثلة في خيبة أمل هذه الأسرة, ذات الأحلام المحلقة , في واقع حال هذا الزوج الذي لا يلبي هذه الأحلام العريضة . فيتضارب واقع حاله مع أحلامهم , ويبدآن في تسريب كل ما يسيء إليه ,ومن هنا ينشب الصراع بينه وبين هذه العائلة, التى تفسد حياته الزوجية , إلى أن تصل الأمور بينه وزوجته إلى حد الإنفصال . فيشعر بأنه خسر الرهان " غام العالم في عيني حسن . لقد خسر الرهان . ضيق ألم به وعرف أن المكائد وصلت ذروتها (53)" ..
      ونجد أن قصة البرينسيسة هي بمثابة إعادة إنتاج لهذه القصة ..
      (3) الحكاية في البرنسيسة:
      لكن تختلف قصة البرنسيسة عن الخالة سكينة في أنها تسلط الضوء أكثر على زوايا أخرى من أزمة يعيشها زوج وزوجته إلى حد الإنفصال عن بعضهما بسبب تسلط الأم " الأم البرنسيسة تتحدث كالعواء . أزماتها النفسية والإخفاقات.. قالت لنا أن ننسى كل تلك المرارات. ورددن خلفها بناتها الثلاث في غضب وتحدي (..) ريم أختهن التي بالعاصمة سكبت كثير من الماء المراق على أمل ضائع (..) والدهن المترهل رغم أمراضه العديدة إلا أنه مكابر (..) أماني كالبغلة تهدده بالطلاق (..) قال لأخته العجوز ليأتي أحمد ويأخذ أبناؤه (54)" وهكذا تحاول هذه القصة تسليط الضؤ على النفسية المعقدة لأفراد هذه الأسرة , التي جعلت زوج اإنتهم " أحمد " يبتعد ليحلق في سماوات لا تطالها أجنحة أحلامهم ..
      الزمن والاسترجاع :
      في التصور الفلسفي الزمن هو: كل مرحلة تمضي لحدث سابق إلى حدث لاحق.. على حين أن غيوم ينظر إلى الزمن على أنه " لا يتشكل إلا حين تكون الأشياء مهيأة على خط بحيث لا يكون إلا بعدا واحدا هو( القول)" وقد يكون الزمن من المفاهيم الكبرى, التى حار الفلاسفة والعلماء والرياضيون, في الإجماع على تعريفها , مما يدع الباب مفتوحا لكل مجتهد وما يفترضه من تعريف . ولكل مفكر وما يتمثل له من تحديد . ويبدو أن اللغة البشرية لا تزال عاجزة عن عكس مفهوم الزمن حين يراد الدلالة عليه بشيء من الدقة والصرامة . فاللغة يرضيها أن تتحدث عن هذا الزمن في المستوى التقريبي , تاركة المبادرة لآلات القياس الزمنية الجديدة, التي تحاول الدلالة عليه . والزمن مظهر وهمي يستغرق الأحياء والأشياء , فتتاثر بمضيه الوهمي غير المرئي . فالزمن مظهر نفسي لا مادي , ومجرد لا محسوس , ويتجسد الوعي به من خلال تأثيره لا من خلال مظهره في حد ذاته . لكنه يأخذ مظهره في الأشياء المجسدة (55) ومما يساعد العلماء على تصور النظام الزمني ربط الزمن بالحيز , حيث لا يرون أى وضع حيزي إلا مصبوبا في وضع زمني , كدوران آلة من الآلات أو محرك من المحركات , فإن الحركة تدل على الزمن و( تظرف) فيه . إذ يستحيل حدوث أى حركة خارج نطاق النظام الزمني المتسلط (56).. ونجد أن الزمن السردي - خاصة - أنه هو الزمن الإنساني الواقعي . كما أنه الزمن الباطني المتدفق بحيث يشكل ذلك الجانب الغامض في التجربة الشعورية , وهكذا يرادف معنى الزمن في السرد معنى الحياة الداخلية , معنى الخبرة الذاتية للفرد . ورغم تغلغلها في أغوار النفس البشرية فهي خبرة جماعية , والزمن السردي هو الصورة الحقيقية لهذه الخبرة . ومن ثم فالزمن السردي زمن نفسي , بمعنى أنه لا يعني الزمن الموضوعي الذي يتم الإهتداء إليه بمعالمه الفلكية (..) إذن لم يعد الزمن مجرد خيط وهمي يربط الأحداث بعضها ببعض .. أصبح السرديون يرهقون أنفسهم في اللعب بالحيز واللغة والشخصية , فأصبحت الأعمال السردية فنا للزمن (57) ومن هنا نجد أن الحلو في قصته "عشوشة تفتقد الصواب " التي يستهلها بزمن المضارع المستمر " الطرق العاشقة والعشب ذو النكهة المارقة على مد البصر, وعشوش تحمل قلبا يضحك مع الضحى , تكفكف أساورها , وتتمنى لسدرة روحها أن تثمر . والشيخ صلى ركعتين , وشرب مزيج القرنفل والنعناع , ومسبحته تتساقط قناديلا من الأحلام لمساء رائع (58) يعمد إلى إستخدام مستويات زمنية مختلفة , إذ يتداخل زمن المضارع المستمر مع مستوى زمني آخر , هو مستوى الزمن " الإستباقي " " أخبرته زوجته عشوش أن يبني لها قصرا من الريش يفوق ما أتى به الأولون (59) ثم تمضي القصة بصوت الراوي , لتلج مستوى زمنيا آخر هو مستوى الزمن الحاضر " حل الأصيل جاء الهدهد منتفش الريش , يبدو الإجهاد على محياه (60): إلى أن تنتهي القصة في المضارع المؤكد بالأفعال ( تابع - يطير - يسقط - تزيح - تجعل - تفيض - يشعلن - تسبح ..) في خاتمتها " وتابع سليمان بنظره سرب الطيور المغادرة ,حين رأى الهدهد في زيل السرب يطير ,دون أن تسقط منه ريشة واحدة (..) إنها الجذوة والنساء, يشعلن بالتهجي حكايات الشجن القديم . عشوش تسبح في موج لهوها في قصر من ريش (61) "..
      كذلك في قصته " الخالة سكينة " , التي يستهلها بالإسترجاع " الخالة سكينة وجهها الشبيه بوجه جرز هرم , تدير المكائد : قالت لحسن ... (62) " وينتقل السرد من هذا المستوى الزمني إلى مستوى آخر هو مستوى " الإستشراف " " كن يحلمن به .. يمتلك السيارات المحملة والبوتيكات الممتلئة ذات الإضاءة المتلالئة ليلا (63)" ليعود مرة أخرى لمستوى الإسترجاع " مرت بخاطر حسن سكينة عند حضورها لإبنتها في وضعها الأول (64)" لينتقل من هذا المستوى الى مستوى الإستباق " ضيق ألم به . عرف أن المكائد وصلت ذروتها (65)"..
      لنجد من خلال ما تقدم أن الحلو يوظف تقنية الإستباق أو الإستشراف , في إطار سياق زمن الإسترجاع . ونلاحظ على قصته " البرنسيسة "أنه قد وظف الإستشراف في سياق الإسترجاع "ناسيات أن الدنيا تعقبها آخرة وأن الأيام مصيرها إلى زوال (66)" ...
      وما نلاحظه على التقنيات الزمنية المذكورة طبقا لما تقدم , أن الزمن بصورة عامة يتجلى عند الحلو في اللغة , لغة الوعي واللاوعي والإحساس الذي يذكي الخيال فينقلنا من لحظة إلى أخرى ومن لذة إلى لذة , حينما نسترجع حدثا جميلا مر بنا كالبرق الخاطف , فعبر سماء حياتنا الموحشة في لحظة هي أقصر من اللحظة وقد ينقلنا الخيال من ألم إلى ألم عندما نشعر بفقدان عزيز أو ضياع ثمين .
      وهكذا تحاول الذات المبدعة بإسترجاع الماضي الجميل وصنع المستقبل البديل , إيقاف الزمن واللحظة الهاربة , عن طريق الكتابة للتمتع بها أو للتحسر عليها . وبهذه الطريقة يتم تمديد لحظة الإحساس قصيرة العمر , حتى تصبح أطول عمرا بزمن القراءة , الذي قد يشغل حيز صفحات كاملة .
      أن اللغة هي التي تعبر عن كون الزمن الذي يشكل بحضوره المستمر خلفية التجربة , لذا فالزمن داخلي وكامن في طبيعة اللغة المعبر بها في الخطاب , فبنية الكلمات هي البنية العامة الوحيدة لفكرة الزمن الداخلي (67)...
      [mark=#FFFFCC]
      الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
      كي يسمى في القواميس بكاء ..
      الصادق الرضي
      [/mark]

      تعليق

      • أحمد ضحية
        أديب وكاتب
        • 10-05-2010
        • 121

        #4
        المشاركة الأصلية بواسطة د. سعد العتابي مشاهدة المشاركة
        قراءة مهمة وعلمية
        شكرا جميلا دكتور سعد
        مرورك فخر كبير لي
        دمت مع التقدير والإحترام
        [mark=#FFFFCC]
        الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
        كي يسمى في القواميس بكاء ..
        الصادق الرضي
        [/mark]

        تعليق

        • أحمد ضحية
          أديب وكاتب
          • 10-05-2010
          • 121

          #5
          (3) المكان والفضاء المكاني عند :(1) محمد خير عبد الله.(2) آرثر غابريال.(3)

          (3) المكان والفضاء المكاني عند :(1) محمد خير عبد الله.(2) آرثر غابريال.(3) آغنيس بوني لوكودو .
          (1) محمد خير عبد الله:
          محمد خير عبد الله قاص مسكون بالهواجس والظنون . أستطاعت قصصه أن " تثير " كثير من الأسئلة حول القصة القصيرة , والقصيرة جدا , أو تلك القصة التي يطلق عليها بعض النقاد - في مصر _ قصة " الومضة " ..
          استطاعت قصص محمد خير, إستكناه التفاصيل القصوى للوعي واللا وعي. في تكثيف يؤكد على براعته في إمتلاك أدوات القصة القصيرة .. ونتناول هنا في هذه المساحة " المكان " في ثلاث نماذج قصصية له . وهي تلك التي نشرها في كتاب " دروب جديدة " : (1) دم ومسبحة وعشق - (2) سيجارة - (3) حذاء .
          إذا كان الفن السردي في المقام الأول فن زماني. فأنه من الجانب الآخر فن مكاني . فالمساحة التي تقع فيها الأحداث, والتي تفصل الشخصيات بعضها عن بعض , بالإضافة للمساحة التي تفصل بين القاريء, وعالم الأعمال السردية , لها دور أساسي في تشكيل النص السردي . فالقاريء عندما يمسك بالعمل السردي , ينتقل من موضعه إلى عوالم شتى .. إلى عالم خيالي من صنع الكلمات . فالعمل السردي رحلة في الزمان والمكان على حد سواء .. السرد لا تتحقق له صفة الأدب دون مكان وفضاء مكاني . فالأدب يتناول المكان والفضاء , فيصف الأمكنة والدور والمناظر الطبيعية, وهو بذلك ينقلنا في خيال كما يقول بروست - حول قراءته في مرحلة الصبا - إلى مناكب مجهولة , توهمنا في لحظة القراءة, بأننا نرقد عبرها ونقطنها , فالباقي من آثار قراءتنا لأى عمل أدبي - خاصة السردي - يتمثل غالبا في أمرين مركزيين :
          (1) المكان .
          (2) الشخصية التي تتحرك في هذا المكان .
          بكل ما يتولد عن ذلك من اللغة التي تنسج الحدث(68)"... ما يلفت الإنتباه في قصص محمد خير عبد الله . قدرته الفائقة على السخرية واللامبالاة والإستخفاف بكل شيء حوله . إلى جانب قدرته على التكثيف , عبر إستخدام تقنيات حداثوية عديدة ببراعة فائقة . ففي قصته دم ومسبحة وعشق , التي يحاول فيها معالجة حالة إنسانية, لكاتب يعيش حبيس غرفته ( المكان) التي هي ملاذه الآمن . الذي يلجأ إليه, كلما شعر بحصارات الآخرين . يحاول هذا الكاتب وهو في غرفته كتابة قصة قصيرة عن علاقة تربط بين شاب وفتاة . يرى الآخرون أنها لا تناسبه ويحاصرونه بآرائهم السالبة فيها ..
          ما يؤثر على قدرته في إتخاذ قرار حاسم لصالح هذه العلاقة أو ضدها .. وتتماهي في هذه القصة شخصية الراوي المتواري, في شخصية الكاتب المتوحد في (غرفته ) بما يوحي سلوكه في هذا المكان, عن حالته النفسية المحبطة"جال ببصره ومسح بلا مبالاة , بين الستائر المتسخة وأطراف المقاعد التي علاها الغبار , وبعض الأوراق على المنضدة . جلس على أقرب كرسي ومسح الغرفة للمرة الثانية . مد يده وتناول القلم وبدأ يعالج قصة قصيرة (69)" .. نلاحظ أن المكان هنا ليس محايدا أو عاريا من الدلالة . فالتلاعب بصورة المكان من خلال وصف الستائر وأطراف المقاعد , إلخ .. تم إستغلالها لإسقاط الحالة الفكرية, والنفسية لشخصية الكاتب , على المحيط الذي يوجد فيه (الغرفة ) . ما يجعل للمكان دلالة تفوق دوره المألوف, كديكور أو كوسيط دلالة يؤطر الحدث .. ويلاحظ ذلك من علاقته المعقدة بغرفته التي أصبحت تحاصره مثلما يفعل الآخرون, لبطل قصته التي يزمع على كتابتها! ..
          فكل شيء حوله أصبح باهتا " التوق إلى الأشياء وهن . القراءة . وهي الركن الذي يهرع اليه , عندما تتصارعه الإحباطات (70)".. فيستعيد في إحباطاته هذه, وجه والده وحواراته معه حول الفتاة التي يحبها , وفي سياق ذلك يستعيد آراء الآخرين " تذكر والده وضحكته الخبيثة, وهو يقذف بوصيته في وجهه : - لا تتزوجها !.. سأل الإمام فأنتهره .. سأل أستاذ التاريخ الذي يوده (71)" ونلاحظ أن صورة المكان هنا, بما يبعثه من إحباط , تكتسب دلالة نفسية عميقة, من خلال عكسها بمفاهيم معينة , هي مفاهيم هذا القاص الذي يدور حول نفسه مستاء, من الستائر والمقاعد والتلفيزيون.. متنازعا بين آراء الاخرين, ممن يحبهم كوالده وأستاذه.. وممن تجمعهم به علاقات المجتمع السلطوية, كإمام الجامع.. وممن هم بمثابة الأصدقاء , إلخ ..فالفضاء المكاني هنا, من خلال الإسترجاع لوقائع ما هو خارج الغرفة. يحمل معه جميع الدلالات الملازمة له, والتي ترتبط بالثقافة العامة, لأسرة ومجتمع هذا الكاتب. التي تنطلق من مفاهيم قيمية, في تقييم علاقته بهذه الفتاة. بالتالي تنطلق من رؤيا خاصة, ومحدودة للعالم يرغب القاص محمد خير, في الكشف عنها. بحركة الكاتب بطل قصته في المكان ( الغرفة ), وفضاء هذا المكان من خلال الإسترجاع .. إذ نجده على الرغم من حبه لهذه الفتاة, لا يصل إلى يقين يدفعه لإتخاذ قرار حاسم, بعد أن بلبل الآخرون أفكاره , فما أن يخرج من غرفته, ليلتقيها حتى يفر هاربا منها , لائذا بغرفته " ورجع لغرفته الرحيبة كمحيط, وتعرى وجهها يتماوج (72)" ليبدأ في كتابة قصته معها " وقال لنفسه هل أسميها ايمان بوصلة الحب (73)" ..
          من خلال هذا المكان " الغرفة " يستعيد الكاتب أفكار قصته متماهيا في الراوي ..
          وفي قصة محمد خير ( سيجارة ) .. نلاحظ للحظة الأولى غلبة الحوار على السرد" - أعطني سيجارة . وقف البائع وناوله واحدة . - هل يمكنني أن أشعلها . - أنت حر .- أنا حر ؟!..(74) " هكذا يداهمنا منذ اللحظة الأولى في الحوار . حيث تنطلق أحداث القصة من مكان ما . عام . يمكن أن يكون أى مكان . سوق . دكان في الحي . كشك على ناصية الطريق . إذ تعتمد هذه القصة على فضاء المكان بشكل أساسي, من خلال المكان الذي انطلق فيه الحوار, بين بطل القصة والبائع . حيث ينطلق من هنا - بطل القصة - بحثا عن مكان آمن, يدخن فيه سيجارته. دون أن يصطدم بالسلطات , التي تمنع التدخين في شهر رمضان ..
          فيما يتصل بالأعمال السردية الواقعية فإن المكان يقوم بدور مهم, في تجسيد المشاهد. مما يكسب هذه الأعمال, جزء كبيرا من واقعيتها (75) " .. ولذلك هذه الأهمية تقل, كلما إنتقلنا إلى أشكال سردية أخرى, تدور فيها الحركة في الذهن, بدلا عن المكان . حيث يقل فيها تصوير الأحداث والحركة , إذ تتحول هذه الحركة إلى أذهان الأبطال..
          هذه القصة تحدد زمنها الداخلي بشهر مقدس " رمضان " ليعالج الراوي خلاله سلوك أجهزة السلطة الدينية تجاه " غير الصائمين " . هذا السلوك الذي يدفعهم للهروب من الأماكن العامة, إلى ملاذات آمنة , يتضح لهم بعد ذلك أنها هي الأخرى غير آمنة . وتكمن مفارقة القصة هنا, أن مسئولي وعمال أجهزة السلطة الدينية أنفسهم " غير صائمين" !.
          وعلى مستوى قول هذا النص : يتلخص القول في أزمة البحث عن مكان.. فالمكان هوالبطل وهو الحدث الأساسي ...
          وفي قصته" حذاء" يستهل الراوي بصوت الأنا المتكلم, قصته مستعيدا وقائع مأزقه, كما يتمثل هذا المأزق في حذاءه - وفقا لتصوره - ومظهره . إذ تسبب كل ذلك, في أن يتم رفضه من قبل حبيبته الجديدة , مثلما تركته حبيباته السابقات . فيقرر بيع كتبه, وترك الثقافة والمثقفين , وتغيير مظهره حتى يصبح مقبولا لدى النساء !..
          أهمية هذه القصة تنطلق, من كونها تناقش العلاقة الإشكالية/ الجدلية بين الجوهر والمظهر , وإسقاطاتها القيمية, بما يحدد السلوك أو الذوق العام. ممثلا كل ذلك بصورة مفتاحية في دلالات "الحذاء " !! ..
          فبعد أن رفضته حبيبته, يدخل في مغالطات مع كل شيء حوله , حتى التاريخ "بنت الكلب كيف ترفض حبي ؟ .. أف على التاريخ هذا الكاذب الأكبر.. كل الكتب كاذبة .. بل ميتة وجدتي حية .. وهي لم تسمع بدفترداركم هذا .. (76) " وهكذا يستمر في الهذيان " أنتم أحرار .. لكن بنت الكلب, لن أدعها تحادث ذلك الشاب (77)" ..
          ومن خلال تقنية الإستباق, يبدأ في تخطيط مكائد ضد صديقه " أما صديقي عبد العليم الذي يجيد الشماتة .. سأرشوه (78) " ويستمر في هذيانه محاولا التوصل, عن طريق تحليله الذاتي , معرفة سبب رفضها له " بنت الكلب سأبيع كتبي .ما نفعها ؟.. حاورت عنها وبها وأقنعت وأقتنعت , إلا بنت الكلب لم تقتنع . لا بأس من لم يقنعه الكتاب, يقنعه الحذاء .غدا سابيعها وأشتري حذاء آه لو كان معه بنطال جديد وقميص (79) " ...
          [mark=#FFFFCC]
          الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
          كي يسمى في القواميس بكاء ..
          الصادق الرضي
          [/mark]

          تعليق

          • أحمد ضحية
            أديب وكاتب
            • 10-05-2010
            • 121

            #6
            (2) آرثر غابريال ياك : (حكاية مشنقو - نموذجا )..

            (2) آرثر غابريال ياك : (حكاية مشنقو - نموذجا )..
            إذا كانت سيزا قاسم تقرر: عدم وضوح الرؤية في النقد العربي, بين مصطلحي المكان والفضاء , فإن حميد لحمداني في دراسته " بنية النص السردي .. من منظور النقد الادبي " يعلن : " لم نصادف ضمن الأبحاث التي إطلعنا عليها , دراسة تميز بشكل دقيق, بين الفضاء والمكان " (80) ويبدو أن التمييز بين كل من المكان والفضاء ضروري. حيث أن تحديد ووصف الأمكنة, في الأعمال السردية. عادة ما يأتي متقطعا, لإتصالها بلحظات الوصف , وهي لحظات متقطعة أيضا تتناوب في الظهور, مع السرد ومقاطع الحوار , ثم أن تغيير الأحداث, وتطورها يفترض تعددية الأمكنة . بل يتعداه إلى تعدد صورة المكان الواحد , بحسب زاوية النظر التي يرى منها هذا المكان. وحتى في الأعمال السردية التي تحصر أحداثها في مكان واحد , نراها تخلق أبعادا مكانية في أذهان الأبطال . أنفسهم . ومجموع هذه الأمكنة, هو ما نطلق عليه الفضاء السردي . وهو العالم الواسع الذي يشمل مجموع الأحداث السردية (81)..
            والفضاء السردي بهذا المعنى شمولي. يشير إلى المسرح السردي بكامله . والمكان يمكن أن يكون - فقط - متعلقا بمجال جزئي, من مجالات الفضاء السردي . ومن هنا فإن الفضاء السردي هو: المكان أو الأماكن المضمنة. التي تظهر فيها كل من المواقف, والأحداث والسياق الزمني المكاني, للحكي . أنه الإطار المكاني المحيط بحركة السرد, كله بما يتجاوز حدود الأمكنة المحددة ...
            ومن هنا فإن المكان عند آرثر غابريال ياك , من خلال قصته ( حكاية مشنقو ) , نجده فضاء فسيحا وعاما , ربما يكون قرية أو مكانا طرفيا , أو على الشارع العام أو المدينة أو عنبر الباطنية في المستشفى , الخ .." قطيع من الأغنام مر أمامه .. جمع من سكان الحي والمارة, إلتفوا حولهم وخرج الأطفال, من الأكواخ بثياب ممزقة .. هرعنا إلى المستشفى و وجدنا عنبر الباطنية ذا الرائحة الكريهة ... الخ (82 )"..
            وحكاية مشنقو حكاية فانتازية , إذ يدخل فيها الإيهام : هل مشنقو في تلك اللحظة التي مات فيها , تبدى عن وجه ميري؟!.. أم أن الراوي عبد الرحمن الفكي هو وحده من أنتج وجه ميرى؟, ورآه كأنه وجه مشنقو في ختام حياته؟!..
            يستهل الراوي هذه القصة بنداء مدام خميسة لمشنقو , طلبا لدينها منه " مشنقو مشنقو .. انا دايره دين بتاى(يتوجب على القاريء هنا أن العربية المستخدمة هنا هي عربية جنوب السودان- التي تعرف بعربي جوبا) (83) " . وكان مشنقو واقفا بمظهره الرّث, لا يأبه لشيء " لم يأبه لمدام خميسة التي كانت تناديه , ولم يلق بالا, إلى الأطفال الذين كانوا يعيرونه (84)" ويمضي السرد في تحليل شخصية مشنقو , كشخصية قريبة الشبه من أبطال الأساطير, والحكايات الشعبية في جنوب السودان " يا مشنقو هل أنت مسئول عن إصلاح هذا الكون ؟ .. وطن وأهل ودين وهوية .. ماذا يعني كل ذلك في غياب الحرية .. إحترنا جميعا في أمر مشنقو هذا , لا صديق له ولا تذوره زائرة .. كان يعرف معظم لغات قبائل الجنوب , أحيانا يحدث نفسه بلغات غريبة .. ويقرأ كتبا حروفها متعددة الأشكال " ولد دي أجيب خلاص!" قالها جدي وهو يغرغر فمه بالماء, ثم واصل إندهاشه (85) " ..هكذا تمضي حياة مشنقو إلى أن يتناهبه النزع الأخير في مستشفى مدينة واو "ابونا . أبونا . برئني من الخطيئة الأصلية .. سأل القس أنريكو فأجاب الصوت " ما.. ما .. رسم القس إشارة الصليب وهو يتمتم بآيات من إنجيل لوقا .. أمر الطبيب التمرجية أن يأخذوا الجثة إلى المشرحة (86)" ...
            [mark=#FFFFCC]
            الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
            كي يسمى في القواميس بكاء ..
            الصادق الرضي
            [/mark]

            تعليق

            • أحمد ضحية
              أديب وكاتب
              • 10-05-2010
              • 121

              #7
              (3) أغنيس بوني لاكو :( زواج نابورو - نموذجا ):

              (3) أغنيس بوني لاكو :( زواج نابورو - نموذجا ):
              والمكان والفضاء المكاني عند آغنيس بوني لاكودو, من خلال نموذج " زواج نابورو" لايختلف كثيرا عن طريقة توظيفه عند آرثر غابريال . فمنه يتشكل الفضاء المكاني الذي تدور فيه وقائع وأحداث هذه القصة " صحبه عدد من أولاد القرية, لكنهم جميعهم تركوا المدرسة, وعادوا إلى القرية (87) .. فهذه القصة( زواج نابورو) تحكي عن الزعيم " مودي " الذي إشتهر بتعدد زوجاته, إلى درجة أنه كان " لا يستطيع التمييز, بين زوجاته الأصغر سنا وبناته , ومع ذلك لم ينجب إلا من زوجته التاسعة , حيث رزق بطفلين ولسوء حظه أن الطفل الأول, توفي في الرابعة من عمره وبقى " لادو" الطفل الثاني (88)" وعندما وصل لادو السابعة من عمره يقرر الزعيم مودي, إرساله إلى المدرسة رغم إعتراض مستشاريه " كانوا يريدون أن يقوم بتعليمه هو نفسه حتى يكون صورة من والده (89) " ويستمر لادو في المدرسة رغم الصعوبات " ولم يفكر قط في الهروب (90)" وعندما نجح لادو في دراسته وعاد إلى أهله تجدد فيه شجن الطفولة تجاه " نابورو " التي تركها صغيرة, ولابد أنها أصبحت صبية ناهدة, بعد كل هذه السنوات . فيسأل عنها أقرانه الذين يؤكدون له: أنها هربت قبل شهر " مع شاب من إحدى القرى المجاورة لعزبة مانولا (91)"..
              والمكان هنا كما نلاحظ يتشكل كفضاء واسع, يشمل القرى المجاورة لعزبة( مانولا) كما يشمل حلبة الرقص, والمدرسة الأولية, والوسطى ومدرسة توريت الصناعية.. وإذ يتشكل هذا الفضاء من خلال العالم القصصي يحمل معه جميع الدلالات, الملازمة له. من دلالات ثقافية وحضارية .. ونجد سواء آرثر أو آغنيس , قدما حدا أدنى من الإشارات الجغرافية , التي شكلت نقطة إنطلاق لقراءتنا: في المكان والفضاء المكاني ...
              [mark=#FFFFCC]
              الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
              كي يسمى في القواميس بكاء ..
              الصادق الرضي
              [/mark]

              تعليق

              • أحمد ضحية
                أديب وكاتب
                • 10-05-2010
                • 121

                #8
                (4) الزمكان / المكان .. السرد, في العالم القصصي ل:(1) إستيلا قاتيانو .

                (4) الزمكان / المكان .. السرد, في العالم القصصي ل:(1) إستيلا قاتيانو .
                المكان والزمان يشكلان كلا واحد .. هو الإطار للحدث . وبينما يبدو المكان, بكل ما يرتبط به, وكأنه يمثل فلسفة البناء القصصي , نجده لا يكتسب أهميته, إلا بوصفه وعاء للزمن , وفي إطار بعدي المكان والزمان.. تسعى الشخصية القصصية, وتدب فيها الحياة, وإحساس الإنسانية بالمكان والزمان, اللذان هما أساس الشعور بالتواجد. والكيان الفردي والإجتماعي. وقد يستخدم المكان, للدلالة على الواقع النفسي, للشخصية القصصية , بحيث يتآزر الزمان والمكان, في تفسير حاضر الشخصية, من خلال ماضيها , أو بإسقاط الماضي. على الحاضر. لبيان وتصوير فعل المكان, في الشخصية (92)... والمكان عند استيلا قاتيانو, من خلال هذه النماذج, التي نقرأها لها : دائما مكان عام : بلدة .. شارع .. سوق ..الخ .. ما يجعل مشاركة الآخرين, في أحداث هذا المكان أمرا ممكنا . وهي تلتقي هنا مع قصص( الجيتو الأفريقي الأسود) التي تعني بحياة المعزولين في المجتمع , ونعني بالتحديد, هنا قصتها " خرائط لعوالم مجهولة" .. من خلال تصويرها لحياة المشردين ..هذه الفئة المعزولة في المجتمع .. حيث يشير النوع العام للمكان هنا , للخلفية التي تقصد إستيلا إجراء الأحداث, وصراعات الشخوص عليها , كما يشير البعد المكاني وزمانه, إلى عالم الراوي أو المحاور, وهو بالضرورة جزء من عالم النص كله ...
                إستيلا قاصة سودانية متميزة . تمتاز بقدرة فائقة على السرد والحكي , وإنتقاء الكلمات العذبة, الأكثر قدرة على التعبير, عن مدي جرح عالمها القصصي . والنماذج التي سنتناولها لها هنا هي : (1) خرائط لعوالم مجهولة .(2) بحيرة بحجم ثمرة الباباي .(3) وليمة ما قبل المطر .(4) في ليلة قمرية .(5) كل شيء ها هنا يغلي ...
                وهي قصص قد نشرت سابقا في كل من ( نماذج من القصة القصيرة النسائية في السودان - الأنثى كذات كاتبة والأنثى كموضوع للكتابة ) و ( مجموعة دروب جديدة _ نادي القصة السوداني ) و: ( كتابات سودانية ) ..
                (1) خرائط لعوالم مجهولة :
                وهي قصة صبي مشرد في الثامنة من عمره, .بينما هو غارق في نوم عميق, توقظه شقيقته, التي تكبره بعامين. بلكمة قوية. فيسترجع الراوي , من خلال الفعل المضارع المستمر, كل وقائع وأحداث الليلة التي مضت . عندما قرر الإفتراق عن شقيقته , بسبب شجارهما المستمر وحياتهما المعذبة , ولكن لا يستطيع الإستمرار في الإفتراق عنها , فيعود ليبحث عنها, بحثا مضنيا حتى يجدها, وهي نائمة فيستلقى قربها, بعد أن يغطيها بأرتاق من القماش , ويصحو في الصباح, إثر لكمتها القاسيةعقابا له على تبوله على سرواله , ويبدآن في إستعادة حياتهما معا مرة أخرى .. فيستأنفان أحداث الليلة الماضية : الأسباب التي جعلته يتخذ قرار الإفتراق عنها " قام وهو يعاني من نعاس يأبى إطلاق سراح جفنيه (..) عند إستيقاظه رأى الخريطة التي رسمها تبوله الليلي .لابد أنها بلاد يحلم بزيارتها يوما (93) " .. ويمضي الراوي كاشفا عن الحياة المأساوية, لهذا الصبي المتشرد " يمشي على أمشاط قدمه اليمنى , مقاوما الألم الناتج عن تشقق باطن قدميه , يتجه إلى المسجد قاصدا الحنفيات , التى أصطف أمامها الناس مثل جنود يتلقون تعليمات من قائدهم . يصب الماء على سرواله لإزالة أثر البول (..) يعود أدراجه (..) حيث إصطفاف المتسولين بصورة مقززة , يفكر : كل شيء بقايا وأوساخ يجب أن تلقى , فنحن قاذورات البشر يجب أن نلقى على الرصيف (94)"..
                وهكذا يستمر الراوي, في إلقاء الضوء على عالم التشرد والمشردين . هذا" الجيتو الأسود" المعزول على هامش المجتمع . من خلال الحياة البائسة لهذا الفتى وشقيقته" أطفال يفتك الرمد بعيونهم (..) كبار السن يتآكلون تحت وطأة الجذام, وسائر الأمراض (..) ثياب تجيد فضح العورات أكثر من سترها , وأواني سوداء هضمها الزمن (..) ذانك الطفلان (..) لا يدري أحد ما أصلهما أو فصلهما , دائما يتشاجران على بقايا طعام بائت (..) فضحه ذلك الشق الهائل, في خلفية سرواله , يظهر غباش ردفيه (95)" .. وتستعيد الصبي من هذه المشاهد نظرات شقيقته , التي تسترده من رصده للوقائع والأحداث حوله, في عالمه البائس , ثم يمضي الراوي, في تشريح علاقة هذا الصبي بشقيقته " كان يحملها على ظهره , خلال جولاتهما حول المدينة , بحثا عما يسد الرمق (..) وكانت مهمتها النشل (..) كثيرا ما كانا يتشاجران لعدم عدل شقيقته , في تقسيم النقود التي سرقانها بينهما (..) ويستمر كل منهما في إمتنانه على الآخر , وينتهي الشجار بأن تضربه بقسوة وغلظة (..) كان يبكي ويعلو صوته (96) " ..
                هذه العلاقة المعقدة بينه وبين شقيقته , تدفعه للتوحد مع ذاته , حيث يستعيد في حواره مع هذه الذات المعذبة , تاريخه وحياته " أختي قاسية مثل أبي , الصلة التي كانت تربطني به يده الثقيلة , التي كان يقبض بها على كتفي (..) كنت أنطلق به بين السيارات الفارهة , وأخرى تقل ركابا , فينطلق لسانه, بسيل من الدعوات لمن يعطيه ومن لم يعطيه . وكثيرا ما لا يعطيه أحد. ولا يثير ما يقوله من دعوات شفقة, أو يحرك ساكنا (..) كنت أغتاظ منه . لو دعا لنا كل هذه الدعوات لتغير حالنا (..) كنت أدعو في سري, دعوات مضادة لما يقوله أبي (97)" ويمضي الصبي المعذب في أحلامه البريئة, عندما يرى السيارات .. يحلم باقتناء سيارة .. ويتساءل : لكن من حينها سيقود والده ؟!.. فتتبخر أحلامه .. ولكن سرعان ما تعاوده هذه الأحلام " تصبح لي سيارة كبيرة حمراء . أقودها . أتوقف عندما تضيء الإشارة حمراء . لن أرفع زجاج سيارتي في وجه أبي (98)" .. وينتزعه من هذا الحلم سيارة عابرة , تكاد تحطم سيارته( اللعبة) التي يسحبها . فيفلت أصابع والده ويهرب , فيلقى والده حتفه " حتى الآن أذكر تطاير دمه على الأسفلت (..) هل كنت أحب أبي أم لا ؟!(99) " ويحطم الصبي سيارته اللعبة . بسبب هذه التجربة القاسية , التي تشكل وجدانه لسنوات قادمة ..
                كان خائفا في طريق عودته إلى المسجد " هاجمتني أختي : أين أبوك ؟! (..) بكت . تجمع حولها المتسولون (100)" ...
                ويدفعه إلتفاف الناس حول أخته للعدو والهرب , إذ يرى في هذا المشهد, ذات مشهد إلتفافهم حول جثة والده .. ففي لحظة هروبه وقع مكروه لوالده!! والآن أيضا يهرب , فقد يقع مكروه !!.. وعندما يتعمق الشجار بينه وبين شقيقته, يقررالإفتراق عنها " ذهب والتقى ببعض المشردين . قضى معهم بقية اليوم. وعندما تأخر الوقت تذكر شقيقته, فتناهبه القلق , فمضى للبحث عنها في كل مكان , فهو لا يريد أن يحدث لها مكروه, بسببه كما حدث لوالده " كان خائفا إذا سأله أحد : أين أختك ؟!.. وجدها مستلقية وتتنفس بإنتظام (101) " فيشعر بالإطمئنان عليها, ويغطيها برتق من القماش. ويستلقى قربها إلى أن توقظه صباحا, بتلك اللكمة المميزة. بعد أن وجدته قد تبول, على سرواله أثناء النوم ..
                الزمان هنا في هذه القصة, لحظات قصيرة. تمتد من اللحظة التي تم إيقاظ الصبي فيها, من النوم حتى لحظة خروجه إلى المسجد. مباشرة للإغتسال , وإستعادته لوقائع علاقته بشقيقته ووالده, والعالم الذي ظلوا يعيشون فيه, منذ حياة والده , بتحديداته لهذه العلاقة البائسة .. والمكان هنا كما أشرنا إليه - في إستهلال هذه القراءة - يشكل مع الزمان , نموذجا للزمكانية . حيث يندمجان معا, ليشكلان كلا واحدا. يصعب فصله .. رغم وسع المكان . باعتباره مكانا عاما. لكن الأحداث تدور في ذهن الصبي. من خلال تقنية الإسترجاع, أكثر مما هي تدور, في الواقع المكاني الواسع, الذي يشكل فضاء المكان. في القصة بما هو يتكون من: الطرقات , المسجد , السوق , الخ .. ومع ذلك ليس ثمة مكان محدد, يخصهما.. ويأويان إليه . وذلك لطبيعة حياتهما, كمتسولان , بحيث يتماهى مضمون القصة, مع شكلها..
                وتوظيف المكان , الذي رغم شسوعه, لا يملكان فيه حيزا يخصهما , ليكون فعلا إطارا محددا لخصوصية اللحظة الدرامية, المعالجة لأحداث ووقائع حياتهما , فالحدث لا يكون في لا مكان , وهنا يكشف المكان عن وظيفته الأساسية كخافية درامية للنص " (102)"...
                (2) بحيرة بحجم ثمرة الباباي:
                تتضح العلاقة بين الزمان والمكان " الزمكانية " في الوصف أو الصورة السردية , حيث أن الوقفة الوصفية, في النص السردي تمثل وقفة زمنية , ولذلك يلاحظ بهذا النص, نوع من التوتر بين دفع مستوى القص الأول للأحداث, إلى الأمام على خط الزمن , وبين جذب المقطع الوصفي, الذي يشد النص نحو الإستقصاء والسكون. حيث يستطيع الوصف, جذب النص وتجميده إلى ما لا نهاية. ومن هنا نستطيع في( بحيرة بحجم ثمرة الباباي) تبين اتجاهين :
                (1) اتجاه يخضع لدفع الزّمن فيزّمن المقاطع الوصفية , أى يحول المكان الى زمان .
                (2) وإتجاه يستسلم للإستقصاء, فيمكن الزمن أو يحول الزمن إلى مكان (103)" .. ولتوضيح ذلك نلاحظ أن زمن هذه القصة قصير . اللحظة التى تكفي - فقط - لإستعادة بطلة القصة ذكرياتها مع جدتها التى توفيت " كل شيء فيها يذكرني بشجرة الباباي المنتصبة في فناء بيتنا الواسع (104)".. فمن خلال المكان الذي يحدث فيه إسترجاع هذه البطلة لذكرياتها .. والذي هو مكان ما في الجنوب , إذ تم التعبير عنه من خلال رموز وعلامات , تكفي للإفصاح عن هويته الجغرافية " شجرة الباباي , الخبرة والسلوك الاجتماعي اليوميين في التعامل مع وقائع الحياة اليومية , الخ .. "ذات يوم ذهبت لتقضي حاجتها في العراء (..) يبدو أن افعى لدغتني , فأخذت مشرطا وفصدت موضع اللدغة (..) صنعت خطين على ظهر يدي وكذا على قدمي (..) هذا حتى لا تجرؤ تلك الحبال المتحركة على لدغك (105)" ..
                كذلك من خلال الأسماء المميزة, لا للفواكه فحسب. بل للناس أيضا, يتم تحديد المكان " أنت يا ربيكا إبنتي (.) وأنت يا ماريو فقد قتلك التحدي (106)" .. وهكذا يأخذ المكان ملامحه, لا من خلال تحديده جغرافيا , بل من خلال الرموز والعلامات, التي تشير إلى هذا الحيز الجغرافي, الذي تدور فيه أحداث القصة, وفضلا عن ذلك يتم تحديده بدقة أكبر " في كل مكان . حتى في فناء بيتنا الواسع, المليء بالأشجار والخضروات, وشجرة الباباي (107)" .. وهكذا تعمل مع هذا التحديد الأدق , البنية الزمنية لتحدد مستويات الزمن مع العلامات والرموز التى تعمل داخل هذا المكان . لتشكل بنية " زمكانية " تجري خلالها الوقائع والأحداث .. فبعد أن تستعيد هذه الفتاة تفاصيل علاقتها بجدتها , تحاول تسليط الضؤ, على بعض الأحداث المؤثرة, التي وقعت لها مع جدتها , للكشف عن أبعاد شخصية هذه الجدة " لا ألمس في جدتي أى جماليات . كنت أراها قبيحة كالغوريلا (..) كنت أرى الأفق عبر ثقب أذنها الهائل (..) في أنفها الأفطس .. ثم مساحة كبيرة من لثتها (..) عيناها كانتا حمراوتين , الشيء الذي عرفته عن جدتي , ان لها مقدرة فائقة على تحمل الالم (108) " ..
                هذه القصة تنهض في العلاقة الحميمة والمعقدة, بين الجدة وحفيدتها , والذكريات المشتركة بينهما, لليتم والترمل وفقد الأحباب . وتنهض في ذلك العالم الما ورائي, الذي تنهض فيه العقائد الأفريقية الإحيائية القديمة, متحكمة في حياة الناس , والذي - هذا العالم الماورائي - يتصل بالجدة. ويصعب على حفيدتها تصديقه " قالت هذه الأفعى نزير شؤم (..) رأيت جدك قبل أيام .. - في الحلم .. - لا في الواقع .. - ولكن يا جدتي جدي قد مات!! .. (..) رأيته في صورة تمساح (..) لا أدري إلى ماذا سأتحول , لكن أتمنى أن أتحول إلى نسر . ومنذ أن ماتت جدتي, وعلاقتي بالنسور قوية . كلما ألمح واحدا أتأمله في تحليقه . عسى أن أجد بعض صفات جدتي : ثدي بحجم ثمرة الباباى , عيون حمراء وجفون منتفخة , ولبن بطعم الملح ...
                (3) وليمة ما قبل المطر:
                وفي هذه القصة يحدد الراوي منذ اللحظة الأولى المكان في زمن سابق (" أولير " .. إسمه يعني العراء . ذلك لأن أمه أنجبته هناك , عندما داهمها المخاض وهي تحتطب . بلدته محاطة بالغابة والسماء (109) ف " أولير " الآن قد بلغ سن الشباب وهو فتى قوى وذكي , لكن كل وقائع حياته تم تحديدها منذ بلغ سن السادسة , فمنذها تشكلت مسيرته . ففي تلك السن التي يستعيدها الآن. حيث يتوقف عند ذلك اليوم المشؤوم و تلك اللحظة التي كان يغط فيها في نوم عميق . " ركض صديقا أولير , طفلين في السادسة من العمر (..) إتجها نحو خالتهما لتوقظه لهما حتى لا تفوته وليمة ما قبل المطر (110)" .. وترفض الجدة إيقاظ أولير , فيمضي صديقيه وحدهما ليلهوان بجمع الثمار قبل هطول المطر " إنهمك الصديقان في إلتقاط الثمار. عازمين على إلتقاط نصيب صديقهما النائم (111)" لكن الصاعقة تقتلهما, وهما في لهوهما البريء " تفلت جدة أولير لعابا داكنا, بفعل التمباك على رأس حفيدها المحبوب قائلة : أشكر من جعلك تنام في هذا الوقت بالذات , فقد أنقذك النوم من موت محقق (112) " . وتقوم الجدة بإجراء طقس ترصد فيه أولير , لتحميه مدى حياته من الصواعق . بأن يجعله هذا الرصد ينام, كلما أوشكت الأمطار على الهطول ".. ماتت الجدة بسرها . كبر أولير . كان يغرق في لعنة جدته كلما هطلت الأمطار . وفي نومه كانت الأحداث تتواتر على ذهنه (113)" وأصبحت المشكلة التي تزعج حياته, هي عدم قدرته على غلبة النوم عندما تهطل الأمطار , فتأخذه أمه إلى العرّافة, لتعالج له هذا الأمر. الذي ينقص عليه حياته . وفي اليوم الذي تنجح فيه العرّافة, في فك رصد جدته تهطل الأمطار بغزارة, ويموت أولير غرقا ومصعوقا.. "إبتلعته الأمواج والنهر, مثل حيوان ضخم يتقلب في مرقده, مبتلعا كل شيء حتى جذوع الأشجار. , وأولير في أحضان الطبيعة يتحول إلى طفل في السادسة , يتنهد في حجر جدته, ذات الرائحة النفاذة, وهو يراقب قملة تزحف متكاسلة , ثم تندس بين طيات تنورتها , وذلك اللعاب الداكن يثقل فروة رأسه . فأس يهوي من السماء. شاطرا شجرة إلى نصفين. ثم نزيف دخاني وسائل أخضر , جثث تتدحرج وقبر متشقق.. تركوه هناك نائما نومته الأبدية , غارقا في لعنة جدته, والنهر ياخذه بعيدا, بعيدا.. عن أنشودة المطر , بعيدا عن القرية, المحاطة بالغابة والسماء . بعيدا عن البافرا وورق الموز (114)"..
                يلاحظ على القصة عند إستيلا, بصورة عامة أنها تتميز بالحرص على روح المشاركة الجماعية, مثلما فعل الطفلان صديقا أولير. بتفكيرهما فيه. عند جنيهما للثمار. إذ حرصا على نصيبه . وكذلك مثلما فعل أولير بمساعدة زملاءه الشبان, على عبور النهر. حتى لم يتبق سواه فغرق ..
                كذلك روح التكافل, كما في قصة( خرائط لعوالم مجهولة) , فالعلاقة التي تربط بين الشقيقين, المشردين فضلا عن كون الفتاة أخت بطل القصة, إلا أن العلاقة التي تربطه بها, تكافلية أيضا .. وتلك هي سمة المجتمعات الأفريقية , فبالرغم من الإنقسامات, وتعدد الطوائف. وصراع الطبقات, الذي يفرز التشرد كناتج ثانوي, لعمل رأس المال . بالرغم من كل ذلك - أو بسبب ذلك - تتعمق روح المشاركة الجماعية والتكافل ..
                (4) في ليلة قمرية :
                الحدث الأساس في هذه القصة, هو حريق شجرة في إحدى القرى الجنوبية .. شجرة تعني لسكان هذه القرية, رمز يشكل معنى وجودهم " كانت تلك الشجرة, مقر لمهمات وهزليات البلدة , كانت مجلس للسلاطين, وكبار رجال البلدة (115)" .. يتم حرق هذه الشجرة, في ظروف غامضة. إثر زيارة ثلاثة شبان من القرية المجاورة, وتعاركهم مع ثلاثة شبان من هذه القرية . ومع ذلك تعود هذه الشجرة المحروقة, للحياة مرة أخرى. كطائر الفينيق. كأن هذه الشجرة ترمز للشعب الجنوبي,_ الضارب بجذوره في أرض السودان _ , وإلى إنبعاث أمجاده فيما يشبه الإستبصار " وفي يوم كنا نجلس تحتها, ونتذكر الأيام الحلوة التي قضيناها قربها ونلعن الشبان الثلاثة , لابد أن لهم يد في الحريق . ورفعت رأسي أنظر إليها , كأني أريد إعادة الحياة لها , فتخيلت , بل لمحت هناك فرعا صغيرا أخضرا , بين الفروع المتفحمة, لا يكاد يرى , نهضت من مكاني, كأنني أريد الطيران , كأن شيئا لسعني , وتسلقتها دون أن أرد على أسئلة أصدقائي المقلقة , حتى وصلته . نعم أنها مخضرة . أنها حية . الشجرة لم تمت . صرخت بهذه الكلمات دون وعي . والدموع تسيل على خدي . إحتضنت الفرع كأنني أحتضن جزء مني , وأحتضن أصدقائي.. الجذع, كأنهم يحتضنون أما عادت بعد غياب (116)" ..
                وهذه القصة مثل قصص إستيلا السابقة, التي أشرنا إليها, من حيث علاقة الزمان بالمكان .. المكان الذي ينطوي على نفسية الأشخاص, وفقا لمسيرة الوقلئع والأحداث, في اللحظة الزمنية .. نفسياتهم بإشكالاتهم المعقدة ..
                ونستطيع أن نستقرأ هنا أنه من العسير على القاص الجنوبي, كتابة قصته دون أن يستشعر التفوق الشمالي , بل لا يستطيع إنتاج قصته و سردياته بمعزل عن تشجيع ذلك .. ففي القصة الأولى "خرائط لعوالم مجهولة " نرى التشرد وما يستتبعه كناتج من نواتج السلوك السياسي الشمالي, إزاء الجنوب لوقت طويل . والطفل وشقيقته بعلاقتهما المعقدة رمزالبراءة وكون المستقبل ضحية وضياع, كما أن الأب رمز لضياع الحاضر وكونه ضحية أيضا للماضي في آن !! ..
                (5) كل شيء ها هنا يغلي :
                وفي قصتها كل شيء ها هنا يغلي , تحدد إستيلا إبتداء " زمكانية " أحداث ووقائع قصتها " المكان : حي شعبي (..) الزمان : زمن النزوح .. زمن الحرب (117) " فالزمن لا يأخذ تحديده هنا إلا مما وقع فيه " الحرب" , فيتم تزمينه في الحدث " الحرب " باعتبارها حدث أساس , وما يحدث لبطل القصة وأسرته الصغيرة, نواتج ثانوية لهذا الحدث الأساس .. فهي قصة عن الآثار الصحية والإجتماعية والإقتصادية والإنسانية , التي تترتب على ( الحرب) . ومن هنا - في القصة - ترتبط الحرب بنتائجها : ما أفرزته من معسكرات وأحياء طرفية للنازحين " الشعار مرفوع هنا :" بيتك للكل , لأن الكل في بيتك , بيتك في الشارع والشارع من تراب (118) "حيث تنعدم هنا الخصوصية , وحيث ينهض سؤال الملكية , والمآلات النهائية للإنسان والأشياء ( إلى تراب ) .. _ لكأنه سؤال كوني صوفي عن : لماذا يتحارب الناس لطالما أن مآلهم إلى تراب ؟!_ فمن خلال أسرة صغيرة (أب وزوجته وطفليه التؤام ) , نزحوا بسبب الحرب , وسكنو ا في معسكر, أو حي شعبي خارج التخطيط , بأطراف العاصمة ..
                من خلال تشريح علاقات هذه الأسرة بأعضائها , وعلاقاتها في مجتمع النازحين , وعلاقة كل ذلك بالمكان, والسلطة الرسمية , تبرز إستيلاء القوانين الدقيقة, التي تعمل في هذا الفضاء الزمكاني , بالوقائع والأحداث الفادحة, التي تجري فيه , وبالصور والمشاهد المعذبة: في تداع بطل القصة , وإسترجاعاته لحياته البائسة ..
                تحكي إستيلا عذابات هذه الأسرة , لتكشف عن مدى البؤس والجرح , في مجتمع النازحين والمهجرين من مناطق الحرب . " أنت تعيش هنا بعد أن فقدت كل شيء هناك . وتحلم بالعودة قريبا , لذا تفعل كل أشياؤك بصورة مؤقتة (119) فتيار الحياة بكامله في مجتمعات النازحين متوقف , فهو رهين العارض - غير الجوهري - المؤقت , السطحي الذي لا يضرب بجذوره في أعماق الأرض , بعد أن أفقدتهم الحرب الديار التي يملكون فيها كل شيء : ذكرياتهم , وأحلامهم الإنسانية..
                ومن هنا يتم حصر الصراع في اليومي في سبيل العيش .. ما يؤدي إلى إصابة رب الأسرة بمرض السل " الدرن " , ليعاني عذاب أسرته وعذابه في غرفته الوحيدة الموحشة : بؤس الحياة في هذا "الجيتو الأسود " : المعسكر المعزول بأطراف العاصمة " ترى الأطفال عراة وحفاة وهم يتمرغون في القذارة (..) فوضى الأمهات والآباء , يتجهون حثيثا نحو الجنون والسجون والموت . ترصد هذه الحلقات كل يوم . حلقات شجار بالآلات الحادة , وحلقات الرقص التي تكون في العادة أكثر من بقية الحلقات (120)"..
                فالرقص هنا يتجاوز لحظات الفرح , ليشمل كل الأحداث , حتى الموت . " يصلك كل ما في الشارع من أحداث , لأنك تقريبا تسكن في الشارع (..) يصلك صوت تبول أحد السكارى, على جدار غرفتك . وتقيؤ ذاك أمام بابك , وتدحرج آخر, مقاوما الدوار . ترى النسوة في نشاطهن اليومي ينقلن الخمور (121) " ..
                وهكذا يمضي الراوي في تشريح الحياة اليومية للنازحين ,. حاكيا سيرة عذاباتهم التي لا تنتهي , مركزا عدسته على هذه الأسرة الصغيرة , كمرآة تنعكس عليها كل الجراحات عميقة الغور في مجتمع النازحين من مناطق الحرب , إلى المعسكرات العشوائية في أطراف مدن الشمال ... فزوجة بطل القصة ( مع ملاحظة أن البطولة في هذه القصة للأسرة ) بعد مرض زوجها, تبيع الخمر البلدي, لتلعب دور الزوج المريض, ودورها في آن لإعالة الأسرة ..
                يترتب على إحساسه بالمرض - الزوج - , وإشفاقه من تحميل زوجته فوق طاقتها , شعور معذب بالألم , يصيب روحه بالوهن " لم تستطع أن تقي جسدك وعقلك ومعنوياتك من هذا الدمار , الذي حل بك . أنت صورة لكثيرين . لكنهم فقط يندسون خلف زجاجات الخمر , حتى لا يطحنهم هذا الحاضر المرير (..) كل الأسئلة لها إجابة واحدة : لا خيار!! (122)" .. فالنازحون لا يشعرون بالأمان على حياتهم البائسة . ليس لضيق سبل العيش فحسب , بل أيضا لحصار السلطة الرسمية وتهديدها الدائم لهم - دون أن تطرح هذه السلطة بدائل لمهنهم , أو تحاول معالجة أوضاع سكنهم _ " تدك الأرض لإخفاء الآثار حذرا من " الكشة " غدا . وفي النهار تنساب بين الزبائن ملبية طلباتهم( 123). ويمضي الراوي ليكشف لنا عن مزيد من دقائق الشعور النفسي - بالتحليل - لبطل القصة رب هذه الأسرة المريض, وتأثيرات هذا المجتمع الذي يعيش فيه (تأثيراته على نفسيته ) "كل هذا يتم حول رأسك . أنت مغتاظ لدرجة الموت من السكارى الذين يحيطون بك , من حين لآخر . واصفين لك وصفات مذهلة للعلاج (..) كل هذا وأنت عبارة عن عين ترصد فقط (..) ها هي قادمة نحوك , نحيفة تتلاعب داخل ثوبها كالملعقة في كوب شاي (..) ترفع الوسادة التي تحت رأسك , واضعة النقود (..) تضعها دون إعتبار لأى رأس ملقى هناك , كأنك والوسادة شيء واحد (..) يتبعها سعالك, فتنتبه لوجودك وتسندك بيد (..) خلال مخاطبتها مع أحدهم (..) وتلقمك بعض الطعام (..) ليس بينكما لغة فهي تتحاشى النظر إلى عينيك (124)"..
                وينتقل الراوي إلى حياة الطفلين داخل هذا المناخ الخانق والمعقد . فهما لا يدخلان بيتهما, إلا ليلا. فالنهار ملك للزبائن " يذكران ذلك اليوم الذي ضربتهما فيه الأم ضربا مبرحا , عندما دلفا وتلقفهما السكارى (125) " فالأم تعمل بصناعة وبيع الخمر البلدي, حتى تجنب هذه الأسرة عذابات وذل السؤال , كما تخشى عليهما من الصدقات - فالسكارى يشعرون أنهم مسئولون عن الطفلين ويحاولون مساعدتهما - " أنتم أفضل من هؤلاء الأطفال الذين يلعبون في الشارع .. منذ ذلك اليوم , إذا أرادا شيئا وقفا هناك حتى تبصرهما . فتأتي . وفي أحايين أخرى لا تبصرهما (126) " ..
                هذا المناخ الفاجع لهذه الاسرة , يدفع بطل القصة للإنحسار داخل ذاته , فها هو _ إلى جانب كل ذلك _ يسمع زوجته تقول لجارتها " أنها إدخرت النقود الكافية لتأخذه غدا إلى المستشفى "لأنك إذا مت فأنها لن تغفر لنفسها ابدا . فتتكور أنت ألما (127) " ..
                إستيلا تسلط في هذه القصة الضوء على " الإنساني" في أجزاء مهمة من حياة يومية لفئة( مهمشة). إذ تتسامى بهذا الإنساني وتصعده إلى أقصى مدياته , ليصبح هو الحدث المركزي, الذي تدور أحداث ووقائع هذه القصة حوله .. حدثان أساسيان في حياة معسكر النازحين يثيران الضجيج والهرج والمرج , أحدهما يدفع بالسكان إلى الفرار منه ( الكشة ) والآخر يدفع بهم إلى الركض تجاهه ( الإغاثة ) فوصول الكشة يعني: الإنتهاكات و الخراب والدمار وإعتقال المواطنين, الذين يعملون في صناعة الخمر وبيعه , كذلك إعتقال متعاطي هذه الخمور . ووصول الإغاثة يعني : مد عمر الطمأنينة الغذائية للنازحين , بما يوزعه عليهم عمال الإغاثة الامريكية من مواد غذائية . والمفارقة هنا أن السودان سلة غذاء العالم - نظريا - وأحد الد أعداء أميركا- فقرى الجزيرة التي لم يرد ذكرها في خرائط الجغرافيا لطالما رفعت شعارات التحذير لأميركا _ ومع ذلك تضع أميركا على عاتقها إغاثة النازحين من مناطق الحرب ؟!!..
                وبين هذين الحدثين الأساسيين اللذين, تتحرك في في إطارهما الحياة الإنسانية للنازحين نجد الكتائب المسلحة لحفظ النظام العام ومحاربة الرزيلة (والحرام) وللترويض أيضا(128)" كما نجد إلتباس الوعي " كانوا لا يفرقون بين المصيبة والمصيبة _ مصيبة الكشة ومصيبة الإغاثة _ (..) (129) " " أنها لفضيحة أن يموت الإنسان جوعا في بلد هو سلة غذاء العالم (130)" ..
                يعالج الراوي هذه الأفكار التي تتداعى في خاطر رب الأسرة المسلول, وهو يشهد البوليس يعتقل زوجته, ونساء المعسكر اللائي يعملن مثلها في بيع الخمور , وكذلك إعتقال المتعاطين . " كان طفلاك معهم. لأن زوجتك لم تنج هذه المرّة , كنت تراقبها. عندما نبش ذاك الأرض ووجد مكان مخبئها , وأخرج الخمور وسكبها على أرضية الغرفة . كانت تتمتم وعيناها زاهلتان : فقط لو أتوا الإسبوع القادم (..) عاد طفلاك إلى البيت. ووجدا فوضى الأواني المبعثرة , والاسرة المقلوبة والخمور المهدرة (..) ترى طفلتك التي تحس في هذه الأثناء , أنها يجب أن تحل محل الأم .. فصارت حازمة .. وزامة شفتيها , حتى لتبدو أكبر من سنينها (131)"..
                في مثل هذا المناخ الموجع, الذي يحيا فيه النازحين , وعندما يغيب العائل الوحيد لأسرة ربها مريض وما تبقي من أعضائها أطفال .. عندما يغيب عائل الأسرة , بسبب "الكشة" أو يغيبه المرض . يصبح ليس ثمة بديل للإستمرار, في الحياة سوى الإغاثة - خاصة بعد أن لا تتخلى السلطات الرسمية عن هؤلاء النازحين فحسب , بل وتحيل حياتهم إلى شقاء وضجر, لكن المعسكر بأكمله يصبح تحت تهديد آليات الحكومة " بعد عدة أيام ظهرت جرارات من على البعد (..) تم هدم كل البيوت التي كانت قائمة (..) حتى غرفتك الوحيدة ذابت تحت وطأة الجرارات (132) " .. وهكذا يفقد بطل القصة كل شيء : بيته وأسرته في مواجهة جرارات الحكومة وثورة الطبيعة : بعواصفها وأمطارها .. ويفقد كل هؤلاء النازحين المأوى ...
                [mark=#FFFFCC]
                الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                كي يسمى في القواميس بكاء ..
                الصادق الرضي
                [/mark]

                تعليق

                • أحمد ضحية
                  أديب وكاتب
                  • 10-05-2010
                  • 121

                  #9
                  خاتمة:

                  خاتمة:
                  كيف نرى البنية الخفية " بنية المتعة ", التى رسمتها في تلقينا هذه المشاهد , التى كونت بنية السرد في رائعة أحمد أبو حازم ( يناير بيت الشتاء). لا شك أن الادب هو تجسيد للصراعات الدائرة, باستمرار بين آيديولوجيات متشكلة ضمن البنية الثقافية والإجتماعية , وهو في ذلك تجسيد للصراعات على مستويات أخرى ضمن البنية السياسية والإقتصادية والإجتماعية والفكرية واللغوية, ومن هنا يكتسب أهميته, لا من كونه بنية ذهنية, أو مكونا في البنية العليا , بل من كونه أحد المكونات الرئيسية, للبنية الكلية للحياة الإجتماعية . يتشابك ويتفاعل مع المكونات الأخرى لهذه البنية : الإقتصادية والسياسية والدينية والإجتماعية واللغوية , وهو بهذا التحديد أقرب إلى أن يكون ممارسة بالمعنى الذي يتحدث عنه ألتوسير (133) .. وعلى خلفية ذلك يمكننا في( يناير بيت الشتاء) رؤية الحكايتين اللتين تتكون منهما , كقصة للإعتقال لمجرد التعبير عن الواقع ..
                  فهي قصة الذهول أمام مدى تطابق تصوراتنا الخاصة , لهذا الواقع , مع حقيقته الفادحة . حتى ليبدو الواقع الحقيقي فانتازيا أكثر مما قالته تصوراتنا , التي كنا نتصور أنها خيال محض !.. فيلتبس علينا كل شيء , فلا ندري أهي " ذاكراتنا معطوبة ؟" أم أن الواقع الذي نعيش هو المعطوب !!.. وهل الواقع هو نتاج تصوراتنا بكل ما تشتمل عليه من قصورات , أم تصوراتنا هي نتاج هذا الواقع المعطوب؟ .. هكذا خواطر تتداعى إلى ذاكرتنا , ونحن نرى الفتاة " نادية " بملابس السهرة تنتظر تاكسيا يقلها , بكل ما تحمله عبارة " ملابس السهرة " من دلالات ترتبط بالحياة / العيش .. تفريغا للإحباط الإنساني . أو محاولة الإبتهاج والمرح = التمسك بالحياة ومقاومة هذه الوحشة القاتلة , والبرد الذي داخلنا بالإستمرارية الإنسانية -التي تتناقض في ذات هذه الشخصية " نادية " طبقا لما كشف عنه حوارها مع سائق التاكسي - .. هذه الشخصية الكئيبة التي تبحث عن المرح .. هذه الشخصية المزدوجة وما تنطوي عليه من رغبة في الإستمرار ضد" بيت الشتاء" , ضد صوت الريح.. ضد هذا الإحساس القاتل بالفناء , الذي تحمله موجات البرد في( يناير) ..
                  وبإنحسار موجة البرد وسطوع الشمس تتجدد الحياة . من وقائع الأمس الموحش , لتأخذ الوقائع, منحنى جديدا في سير الزمن , لا يخلو من إرتباكات الوعي, وإسقاطات اللاوعي . حيث تصبح الحقيقة خيالا والخيال حقيقة , ليتمدد الخيط الرفيع الفاصل بينهما, كأنشوطة تتدلى لتحيط بعنق هذا الراوي, قبل أن يقترب من تخوم اليقين بصدق ما يروي. أو تحيط بعنق الكاتب في نفيه لمصداقية ما يرويه الراوي . والراوي يرحل بذاكرته, حتى يتماهى في شخصية الأب العجوز, الذي يروي عنه . فيتضخم الشك في هذه النفسية المزدوجة : السائق / المسن ..الأمس / اليوم .. الشتاء ببرودته الموحشة وما ينطوي عليه من شمس ودفء , تنقشع عنه شيئا فشيئا .. أنها حكمة الوجود الإنساني / الكوني .. الذي تنهض في نهاياته وفي مكان ما فيه " سدرة المنتهى " .. فاتحة الوجود .. حيث تولد البدايات الجديدة من النهايات في لجة الصمت والأبدية ...
                  ومثلما يسير الزمن إلى الخلف مستجلبا تجارب الماضي, بواسطة الذاكرة , فأنه يركب اللغة. ويتجاوز لحظته الآنية. ليستجلى الممكن التخييلي, تنبؤا وإستباقا , وهو ما يفسره( جيرار جينيت) أن الأداة اللغوية طيعة, وقادرة على أن تعلن عن مخبؤ المستقبل ومكتومه - بغض النظر عن درجة الصواب والخطأ , أو الصدق والكذب - فالأساس هو: كفاءة اللغة لإستقدار زمن ما زال بعد في حكم المجهول . ونحن هنا أمام مقارنة حرجة مع الإسترجاع حيث يتدبر القاريء زمنا قد إكتمل , أى موضوعا ثابتا قابلا للفحص الموضوعي . تماما كالظاهرة المادية . أما في الإستباق فأننا ندرس زمنا زئبقيا , أى موضوعا متغيرا , مغالطا غير مضمون النتائج ويعرف( بول ريكور) الإستباق بقوله " السبق فوق أنه سرد حدث قبل اوان وقوعه, هو الخبر المعطى قبل وقت حدوثه " فالمستقبل إذا هو تقدم قص حدث سابق عليه, في الترتيب الزمني , يكون إستباقا . أى عندما لا تترجم الأسبقية الزمنية ...
                  ولعل أبرز خصائص السرد الإستشرافي هي كون المعلومات التي يقدمها لا تتصف باليقينية , فما لم يتم قيام الحدث فعلا , فليس هناك ما يؤكد حدوثه . وهذا ما يجعل من الإستشراف شكلا من أشكال الإنتظار .. والإستشراف يقترن بخطاب الشخصية المباشر, فالقص بضمير المتكلم, ينسجم مع الإستشراف اكثر من أى نوع, كما لاحظنا على القصص التي تم توظيف الإستشراف فيها. فيما تقدم..
                  والإستشراف يأتي ملتحما بالقص , مشحونا بأحلام الشخصية وعواطفها ونواياها, المتعلقة بالزمن القادم , لذلك لا يحتاج الإستشراف إلى عبارات غالقة أو فاتحة , بل يندس في طيات السرد , وكأنه قطعة من الحاضر ولعل ذلك يعود إلى ضمور مساحة الجملة الإستشرافية عند صديق الحلو على سبيل المثال .. وبينما نجد القصة عند صديق الحلو لا تخلو من فائض في الدلالات والألفاظ فأننا نجدها عند أبو حازم - كل قصصه التي تناولناها هنا - تقتصر على فائض الالفاظ .. ومن الملاحظات التي في إطار حوار النصوص مع بعضها البعض . نجد تقنية - في يناير بيت الشتاء , على مستوى الفكرة - سبق أن إستخدمها( ماركيز في: خريف البطريرك) , و(وليم فوكنر في: الصخب والعنف) , تتعلق بهذه الفتأة الميتة منذ عام / لكنها حية .. فعندما يبدأ( كونتن) يستعرض ذكرياته يكون قد مات بالفعل ويفسر( جان بول سارتر) ذلك بقوله :" وحينئذ يتفسر كل شيء , وفي المقام الأول لا عقلانية الزمن : فما دام الحاضر هو اللامنتظر , فإن العديم الشكل لا يمكن أن يتحدد شكله, إلا عن طريق حمل ثقيل من الذكريات . كذلك فإننا نفهم لم يشكل الزمن " تعاسة الإنسان الخاصة " : إذا كان المستقبل واقع ما . فإن الزمن يبعدنا عن الماضي ويقربنا من المستقبل . الزمن لا يعود إلا ما يفصل , وما يقطع الحاضر عن نفسه (134).. فنادية التي تعود إلى الحياة لهي مستوى من مستويات تعبير أسرتها عن الخوف من المستقبل , الخوف من الموت فالموت حادثة تقع داخل الحياة نفسها . هو حد للحياة . بيد أن الموت هو النتيجة النهائية للإحالة المادية, وهو يحدث في الزمان داخل العالم الموضوعي (135) وهو لا يقف بالنسبة لنادية عند هذا الحد فهو تعبير عن خوفها هى قبل كل شيء - فهي تحب الحياة والسهر - وعندما تعبر عن خوفها هذا, تكون قد ماتت فعلا وأصيبت شقيقتها بموت جزئي _ الشلل _ ...
                  وإعطاء أبو حازم لشخصية نادية هذا البعد الأسطوري , الذي يجعلها كطائر الفينيق, هو حيلة قصصية ذكية للتلاعب بفكرة الموت " لكن الاسطورة لا نصيب لها من النجاح في إعطاء الإنسان قوة مادية للسيطرة على البيئة , مع ذلك تعطي الإنسان وهم القدرة على فهم الكون , وأنه فعلا يفهم الكون , وهذا بالغ الأهمية , لكنه مجرد وهم بالطبع (136)..
                  أن( يناير بيت الشتاء) واحدة من مميزاتها التقنية إعتمادها على القطع المشهدي , وهي تقنية سينمائية إرتبطت بالمونتاج , بالمعنى السينمائي الذي يشير إلى مجموع الوسائل, التي تستخدم لتوضيح تداخل الأفكار أو تداعيها . أما المونتاج الزماني: هو أن يظل الشخص ثابتا في المكان على حين يتحرك وعيه في الزمان والمونتاج المكاني هو العكس - كما أشرنا إلى ذلك سابقا - . فالمكان الأساسي الذي تجري فيه أحداث القصة, هو غرفة التحقيق التي يتحرك خلالها كاتب القصة : "ذاكرة معطوبة " عبر الزمان حيث تجري كل أحداث قصته .. أبو حازم يمنحنا نوع من الميثولوجيا, في عالم الأرواح, يعاود الظهور في الواقع الفعلي, مهما أختفى بفعل تطورات الأحداث ووقائع المغامرة العقلية للإنسان , ما يذكرني هنا ب (الدونا فلورا وزوجاها الاثنان : لجورج أمادو) ." النقطة الهامة حقا هي أننا في كامل ميتولوجيا العالم بأسره نصادف أُلوهيات وقوى خارقة للطبيعة تلعب دور الوسيط بين القوى العليا والقوى الإنسانية الأدنى منها (137).. ومن الملامح الأخرى التي تحملها قصص أبو حازم هو ذلك الإمتياز بالروح الديموقراطية - في قصته غربة مثلا - حيث تتحسس مركزية القمع المعمم الذي يطال الكينونة الإنسانية ذاتها , وهي لا تملك سوى إنكسارها الروحي إجتماعيا وتدمير هويتها الإنسانية سواء كان في المسارات السرية للظلال او غربة .._ وفي غربة بالذات _ يحاول أبو حازم التعبير عن الواقع المتشظي ..هذا الواقع النثري , نثيرات العالم السفلي للبشر العاديين الذين يتحركون في قاع المجتمع , ويمضون يصنعون الحياة من تحت أفراحهم وأحزانهم وأعيادهم وزيجاتهم وإنجابهم وأهوائهم وكدرهم وسخريتهم وتهجمهم . لابد من أن يجدوا أنفسهم , فهذا هو تاريخهم الشخصي, الذي ينبثقون منه كعصافير حالمة بالحرية, أو كجماهير شغيلة وورّاقين , في مجتمع ريعي.. ينبعثون من بين شقوقه "كتيم" ليحتلو مكانتهم الملائمة (138).. وتمهد مشاهد أبوحازم في يناير بيت الشتاء, لكل حدث بمناخاته الشعورية , التي يختتمها - أبو حازم - بتلفيعه بطانته الوجدانية , فيتظلل الحدث بظلال الأحاسيس, فيكسبه شفافية وحنانا داخليا. في نسيج الفضاء القصصي. ليصبح عالمه الجدب المتجهم القاسي والفظ, نوعا من النداوة والدفق الداخلي, الذي يجعل الحياة أكثر إحتمالا, والشخوص أكثر قدرة على مواجهة مصائرهم الماساوية (139)..
                  وتلتقي قصص إستيلا وآغنيس وآرثر مع القص الافريقي في تصوير أسلوب الجيتو الاسود في الحياة اليومية سواء كان بإنتخاب شخصية ( كمشنقو) أو الطفلين في ( خرائط لعوالم مجهولة) أو إبن الزعيم مودي في( زواج نابورو)..
                  والطابع الغالب على قصة الجنوب خلال آغنيس وآرثر وإستيلا هو بطولة القرية أو البلدة , هذا الجيتو المعزول , إزاء ما يعكسه الشمال من سيطرة المدينة , التي تزداد فيها تشعبا مساحات التعقيد النفسي والفوضى والأزمات والجريمة , و التي تقوم بالدور الأساسي في المجتمع ..
                  والتجريب في توظيف الزمن والمكان عند هؤلاء , وإنعكاسات ذلك على شكل ومضمون القصة (إستيلا - آرثر ) ليس معزولا عن الظروف السياسية المضطربة, وأزمة الحرية والبؤس في الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية .. فهي ما صرفتهما عن الأشكال التقليدية للقص , التي لا تستطيع التعامل مع الظروف المحيطة بحرية . ولكن ثمة أشكال تقليدية تستطيع أن تواجه الموقف بمرونة, مثل توظيف الحكاية الشعبية كما عند آغنيس وإستيلا . أو العقائد الإحيائية القديمة كما عند آرثر واستيلا أو الحكاية الشعبية كما عند إستيلا وآغنيس ..
                  المصادر :
                  (1) دروب جديدة ." منشورات نادي القصة السوداني " . الشريف الاكاديمية الطبعة الأولى 2001 . ص : 15
                  (2) السابق : ص : 16
                  (3) السابق : ص : 16
                  (4) السابق : ص : 17
                  (5) السابق : ص : 17
                  (6) السابق : ص : 18
                  (7 ) السابق : ص : 19
                  (8) السابق : ص : 22
                  (9) السابق : ص : 24
                  ( 10) السابق : ص : 26
                  (11) مجلة الرافد الأماراتية . دائرة الثقافة والاعلام . الشارقة . العدد 84 .أغسطس 2004. ص : 86.
                  (12) السابق . ص : 87 .
                  (13) كتابات سودانية ( كتاب غير دوري ) . مركز الدراسات السودانية. العدد 22 . ديسمبر 2002 . ص : 116.
                  (14) السابق : ص : 122 .
                  (15) نفسه : ص : 118 .
                  (16) نفسه : ص : 118 .
                  (17) نفسه : ص : 119 .
                  (18) نفسه : ص : 119 .
                  (19) نفسه : ص : 120 .
                  (20) نفسه : ص : 121.
                  (21) نفسه : ص : 121 .
                  (22) نفسه : ص : 118 .
                  (23 ) نفسه : ص : 119 .
                  (24) محمد السيد محمد ابراهيم . بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ ( دراسة في الزمان والمكان )الهيئة العامة لقصور الثقافة . طبعة اولى 2004 . ص : 149 .
                  (25) السابق : ص : 151 .
                  (26) كتابات سودانية . مرجع سابق : ص : 120 .
                  (27) السابق : ص : 119.
                  (28)محمد السيد محمد ابراهيم . مرجع سابق : ص : 154.
                  (29) مجلة فصول للنقد الادبي . المجلد الخامس . العدد الرابع . يوليو أغسطس . سبتمبر 1985. ص : 57.
                  (30) محمد السيد محمد ابراهيم ."مرجع سابق". ص : 80
                  (31) صديق الحلو . غصة في الحلق . دار جامعة ام درماالاسلامية للطباعة والنشر . الطبعة الاولى 2001 . ص : 1
                  (32) السابق : . ص: 1
                  (33) السابق : . ص : 3
                  (34) السابق . ص : 11
                  (35) السابق : ص : 5
                  (36) السابق : ص : 4
                  (37) السابق : ص : 4
                  (38) السابق : ص : 6
                  (39) السابق : ص : 7
                  (40) السابق : ص : 18
                  (41) السابق : ص : 25
                  (42) السابق : ص : 25
                  (43) السابق : ص : 21
                  (44) السابق : ص : 21
                  (45) السابق : ص : 22
                  (46) محمد السيد محمد ابراهيم " مرجع سابق " : ص : 81
                  (47) دكتور صلاح فضل . نظرية البنائية في النقد الادبي . مكتبة الاسرة . 2003. ص : 280
                  (48) دروب جديدة مرجع سابق. ص : 71
                  (49) السابق : ص : 71
                  (50) السايق : ص: 71
                  (51) السابق : ص : 72
                  (52) السابق : ص : 73
                  (53) السابق : ص : 73
                  (54) السابق : ص : 74
                  ( 55 ) السابق : ص : 74
                  (56) محمد السيد محمد ابراهيم " مرجع سابق " : ص : 67
                  (57) السابق : ص : 68
                  (58 ) السابق : ص : 69
                  (59) دروب جديدة " مرجع سابق " : ص : 71
                  (60) السابق : ص : 71
                  (61) السابق : ص : 71
                  (62) السابق : ص : 72
                  (63) السابق : ص : 73
                  (64) السابق : ص : 73
                  (65) السابق : ص : 74
                  (66) السابق : ص : 74
                  (67) السابق : ص : 74
                  (68)محمد السيد محمد ابراهيم " مرجع سابق " : ص : 72
                  (69) السابق :. ص : 227
                  (70) دروب جديدة مرجع سابق . ص :
                  (71 )السابق : ص : 122
                  (72)السابق : ص :123.
                  (73)السابق : ص :123.
                  (74) السابق : ص :124
                  (75)السابق : ص :124
                  (76)محمد السيد محمد ابراهيم " مرجع سابق " ص : 230.
                  (77)دروب جديدة " مرجع سابق " : ص : 125
                  (78) السابق : ص: 125
                  (79)السابق : ص : 126
                  (80) السابق : ص : 127
                  (81)محمد السيد " مرجع سابق " : ص : 236
                  (82)السابق : ص : 239
                  (83) ثقافات سودانية . " كتاب غير دوري " . المركز السوداني للثقافة والاعلام . العدد الخامس . 1999. ص : 104
                  (84)السابق : ص : 103.
                  (85) السابق : ص : 104.
                  (86) السابق : ص : 103
                  (87) السابق : ص : 104.
                  (88) نماذج من القصة القصيرة النسائية في السودان . الانثى كذات كاتبة والانثى كموضوع للكتابة . المركز السوداني للثقافة والاعلام . الطبعة الاولى 2002. ص : 151.
                  (89) السابق : ص : 151
                  (90)نفسه : ص : 151
                  (91) نفسه : ص :
                  151 (92) نفسه : ص : 152.
                  (93)محمد السيد " مرجع سابق " : ص : 341.
                  (94) نماذج من القصة القصيرة النسائية " مرجع سابق " : ص : 118.
                  (95) السابق : ص : 119.
                  (96) السابق : ص : 119 .
                  (97) السابق : ص : 120 .
                  (98) السابق : ص : 121.
                  (99) (99) السابق : ص : 122 .
                  (100)السابق : ص : 122 .
                  (101) السابق : ص : 123.
                  (102) السابق : ص : 124 .
                  (103) محمد السيد محمد " مرجع سابق " : ص : 342.
                  (104) السابق : ص : 343.
                  (105) دروب جديدة. " مرجع سابق " : ص : 57 .
                  (106) السابق : ص : 58 .
                  (107) السابق : ص : 58.
                  (108) السابق : ص : 58 .
                  (109) السابق : ص : 58 .
                  (110) السابق : ص : 62 .
                  (111) السابق : ص : 62
                  (112) السابق : ص : 63 .
                  (113) السابق : ص : 64 .
                  (114) السابق : ص : 114
                  (115) السابق : ص : 67 .
                  (116) السابق : ص : 68
                  ( 117) السابق : ص : 69 .
                  (118) كتابات سودانية " كتاب غير دوري " مركز الدراسات السودانية . العدد 29 . ديسمبر 2004 . ص : 138.
                  (119) السايق : ص : 138 .
                  (120) السابق : ص : 137 .
                  (121) السابق : ص : 137 .
                  (122) السابق : ص : 138 .
                  (123) السابق : ص : 138 .
                  (124) السابق : ص : 138.
                  (125) السابق : ص : 139 .
                  (126) السابق : ص : 139 .
                  (127) السابق : ص : 139 .
                  (128) السابق : ص : 139 .
                  (129) السابق : ص : 140 .
                  (130) السابق : ص : 141 .
                  (131 ) السابق : ص : 141 .
                  (132) السابق : ص : 140 .
                  [mark=#FFFFCC]
                  الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                  كي يسمى في القواميس بكاء ..
                  الصادق الرضي
                  [/mark]

                  تعليق

                  • محمد يوب
                    أديب وكاتب
                    • 30-05-2010
                    • 296

                    #10
                    قراءة نقدية وصفية فيها مجهود كبير تحمل ثقافة غزيرة في مجال النقد الدبي غير أن الملاحظ في هذه القراءة أن التنظير يغلب على الممارسة .
                    أختلف مع الأستاذ الحمداني حميد بخصوص المكان و الفضاء ليس لهما نفس المعنى المكان له ارتباط بمكان الوقائع و الفضاء له علاقة بمكان القص أو السرد القصصي و الروائي.
                    مودتي

                    تعليق

                    • أحمد ضحية
                      أديب وكاتب
                      • 10-05-2010
                      • 121

                      #11
                      المشاركة الأصلية بواسطة محمد يوب مشاهدة المشاركة
                      قراءة نقدية وصفية فيها مجهود كبير تحمل ثقافة غزيرة في مجال النقد الدبي غير أن الملاحظ في هذه القراءة أن التنظير يغلب على الممارسة .
                      أختلف مع الأستاذ الحمداني حميد بخصوص المكان و الفضاء ليس لهما نفس المعنى المكان له ارتباط بمكان الوقائع و الفضاء له علاقة بمكان القص أو السرد القصصي و الروائي.
                      مودتي


                      شكرا جميلا أستاذنا الكبير محمد يوب
                      وفي الواقع ليس لدي ما أقول وكما قال الفيتوري : الشعر صوتك
                      حين تندفق المجاعة في العقول ...
                      سررت كثيرا بمرورك"النافذ" حقا .. وأعتقد - بما أنني لست بناقد - أنك "كناقد" أصبت فيما يخص النظرية والتطبيق العملي .. ولذلك أنا سعيد فقد كان غرضي هو تسليط الضوء على بعض الكتابات السودانية .. وصدقني أن بعضها مدهش وبعضها الآخر مرعب وبعضها الآخر لا إسم له .. فهؤلاء القوم يكتبون أشياء غريبة أكثر إدهاشا " شكلا ومضمونا " من أدب أمريكا اللاتينية , ولكن ليس لديهم ما يسمى " بالوسط الثقافي " هذا المفهوم الضروري والدال على وجود مؤسسات لرعاية الأدب وتقييمه وإعطاءه حقه بين آداب العالم .. ولذلك حاولت كروائي أولا وكقاص ثانيا معالجة قراءت كتبت في مناسبات سودانية مختلفة تتعلق بالأدب والأدباء كان معظمها تحت إشراف مركز الدراسات السودانية بعد إنتقال مركزه الأساسي في 2002 من القاهرة إلى الخرطوم ,لإعطاء فكرة "عامة" عن ما يريد السودانيون قوله أدبيا: شعريا وقصصيا وروائيا _ إذ لدينا أزمة نقاد مزمنة ولذلك نصح أستاذنا الروائي الكبير إبراهيم إسحق إبراهيم وهو من جيل الطيب صالح , وأعتقد أنه أكثر أهمية من الطيب صالح بأن يعمل المبدعون على تقييم أعمال بعضهم كمبدعين وليس نقاد _.. ولذلك كان العبء الأكبر في هذه المسألة قد وقع على عاتق نادي القصة السوداني , الذي تشرفت بأن أكون أحد مؤسسيه وفقا لقوانين تكوينات وجماعات وأندية اليونسكو .. عليه هذه القراءة تجيء في هذا السياق المتعلق بمناسبات الإحتفاء بالكتابة التي درج عليها مركز الدراسات السودانية - الخرطوم ..
                      ثق تماما أن مرورك أسعدني أيما إسعاد ...
                      [mark=#FFFFCC]
                      الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                      كي يسمى في القواميس بكاء ..
                      الصادق الرضي
                      [/mark]

                      تعليق

                      • صادق حمزة منذر
                        الأخطل الأخير
                        مدير لجنة التنظيم والإدارة
                        • 12-11-2009
                        • 2944

                        #12
                        [align=center]
                        الأستاذ أحمد ضحية

                        أشكرك على هذا المجهود الكبير في متابعة السرد والرؤى .. ومفاهيم تقنية في العمل الإبداعي القصصي مثل المكان والفضاء المكاني والزمان .. والمشهدية .. وغنى الأمثلة المطروقة .. وأنا مع الأستاذ محمد يوب في أن الفضاء يختلف عن المكان وهذا صحيح ولكن أنا لست معه في ما رآه بأن الدراسة تميل للتنظير وليس للممارسة .. خاصة أن الدراسة خاضت في أمثلة حية خوضا مطولا ويكاد يكون تفصيليا في الحديث عن كل ما سبق من مفاهيم .. وهذا الإيراد لهذه الممارسة الأدبية ( الأمثلة ) كلها وبهذا التفصيل لايمكن وصفها بالتنظير ..

                        وقد أثار إعجابي هذا الضوء الذي يلقى على الكتاب السودانيين المدهشين فعلا .. وأتمنى المزيد من هذه الدراسات والمزيد من الضوء على هؤلاء الكتاب الرائعين ..

                        تحيتي وتقديري لك
                        [/align]




                        تعليق

                        • أحمد ضحية
                          أديب وكاتب
                          • 10-05-2010
                          • 121

                          #13
                          حذف للتكرار ..
                          التعديل الأخير تم بواسطة أحمد ضحية; الساعة 21-06-2010, 12:30.
                          [mark=#FFFFCC]
                          الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                          كي يسمى في القواميس بكاء ..
                          الصادق الرضي
                          [/mark]

                          تعليق

                          • أحمد ضحية
                            أديب وكاتب
                            • 10-05-2010
                            • 121

                            #14
                            المشاركة الأصلية بواسطة صادق حمزة منذر مشاهدة المشاركة
                            [align=center]
                            الأستاذ أحمد ضحية

                            أشكرك على هذا المجهود الكبير في متابعة السرد والرؤى .. ومفاهيم تقنية في العمل الإبداعي القصصي مثل المكان والفضاء المكاني والزمان .. والمشهدية .. وغنى الأمثلة المطروقة .. وأنا مع الأستاذ محمد يوب في أن الفضاء يختلف عن المكان وهذا صحيح ولكن أنا لست معه في ما رآه بأن الدراسة تميل للتنظير وليس للممارسة .. خاصة أن الدراسة خاضت في أمثلة حية خوضا مطولا ويكاد يكون تفصيليا في الحديث عن كل ما سبق من مفاهيم .. وهذا الإيراد لهذه الممارسة الأدبية ( الأمثلة ) كلها وبهذا التفصيل لايمكن وصفها بالتنظير ..

                            وقد أثار إعجابي هذا الضوء الذي يلقى على الكتاب السودانيين المدهشين فعلا .. وأتمنى المزيد من هذه الدراسات والمزيد من الضوء على هؤلاء الكتاب الرائعين ..

                            تحيتي وتقديري لك
                            [/align]
                            أستاذنا الكبير
                            صادق حمزة منذر .. تحياتي وودي .. وأشكرك كثيرا على الإهتمام بالمكتوب السوداني .. والذي هو فعلا بحاجة لإلقاء الضوء عليه .. سأحاول جاهدا المواصلة في قراءة ما هو مكتوب .. وسأحاول في الجزء الثاني من (السرد والرؤى) أي الجزء الذي سيلي هذه الحلقات الخمسة ,والتي شارفت على الإكتمال ,التركيز على قضية تؤرقني منذ وقت طويل . هي قضية المدارس والتيارات في الرواية والقصة القصيرة في السودان .. أعني مثل ما تم الإصطلاح "الجزافي" عليه بإطلاق تسمية "أدب الهامش" على تيار محدد في الرواية والقصة , كمحاولة لإلحاق هذا الأدب القيم الذي إقترحه بعض الكتاب الشباب - البعض من جيل الثمانينيات والتسعينيات والألفية الثانية - كمظهر من مظاهر تيار فكري وسياسي موجود ومؤثر في مسرح الحياة السودانية .. يجيء إهتمامي بهذه المسألة لإعتقادات خاصة بأن تيار الهامش في القصة والرواية في السودان .. له علاقاته بالتحولات الكونية التي أفترعت بإنهيار عالم القطبيتين ,ونشوء عالم القطب الواحد .. هذا على المستوى العالمي ..كما أن له جذوره التي نجدها في مدرسة "الغابة والصحراء: الغابة كرمز للافريقانية والصحراء كرمز للعروبة" "وأبادماك : كرمز لنوبية السودان , فأبادماك أحد آلهة أسلافنا النوبيين" وهما مدرستان في الشعر السوداني كان لهما تأثيرهما القوي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي..
                            كذلك فيما أظن أن لتيار الهامش في الرواية والقصة في السودان له حواراته مع مدرسة الخرطوم التشكيلية(مدرسة وظفت عناصر الثقافة السودانية في التشكيل) .. من جهة أخرى لهذا التيار علاقاته بالتحولات الفكرية والسياسية والجغرافية العميقة التي طرات وتطرأ على السودان- بدء بالخطاب وغنتهاء بآليات تنفيذ هذا الخطاب وهو ما يشمل العمل العسكري المسلح الذي ينذر بتفكيك وتفتيت البلاد الكبيرة - .. آمل أن أجد الوقت الكافي في مقبل الأيام لتناول هذا التيار بتتبع منابعه في الركام الثقافي السوداني وتأثيراته العميقة والمريعة .. خلال نماذج لمختلف الأجيال وصولا لأجيال الرواية والقصة في ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم والألفية الثانية .. ففي ظني نهضت قصة ورواية هذا التيار في التحليل لقضايا المجتمع والدولة وأنتهت إلى مقولات خطيرة فيما يخص علاقة المركز الإسلاموعربي بهوامش السودان الأفريقية الإسلامية والمسيحية والأخرى التي لها ديانات محلية خاصة بها ..
                            مرة أخرى خالص تقديري وأحترامي وآمل أن أتمكن من تمثل الظن الحسن ..
                            [mark=#FFFFCC]
                            الحزن لا يتخير الدمع ثيابا
                            كي يسمى في القواميس بكاء ..
                            الصادق الرضي
                            [/mark]

                            تعليق

                            يعمل...
                            X