المقامة المركبية
حدّثني شبيب بن شيبوب، قال: سرت في سفرة لي الى بغداد، مع رفقة كثيري الزاد، ينأون في التغطرس كل النأي، ويَصِمُون من يَعِظُهم بفساد الرأي، فكانوا كثيري اللجاجة والمراء، دون أن يدركوا أن هذا أصل الداء ومصدر البلاء، يرون في أنفسهم أنهم هم العلماء، ويغمزون سواهم بالحماقة والغباء، تبذُّ لجاجتهم أزيز المركبة السيّارة الجارية، وهم فيها كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، وعند تقاطع الطرق الوعرة، حيث تكثر نقاط التفتيش المنتشرة، توقفت مركبتنا وهي تجيش، أمام إحدى نقاط التفتيش، ورحنا نسلّم بطاقاتنا الشخصية للشرطي، وهو يأخذ من هذا ولذاك يعطي، حتى أتمّ مهمَّتَه، دون أن تثبّط كثرة الركاب همَّتَه، وقال بعد أن تحسس أجسادنا وما واراها: ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، فركبناها وحين أخذ كلٌّ منا مكانه، وأدار سائقنا نحو الجادّة سُكّانه، أخذ بعضنا يتأفّف ويقول: إن عمل هذا الشرطي غير مقبول، وقال آخرون إن الحقَّ معَه، فهو لن يضرَّ المسافر أبداً بل ينفعَه، وطال الكلام وعظم الجدال، ودخل في السياسة من لا يفقه الحال، وبعد أن كثر التراشق بالقول والسباب، صاح فيهم شيخٌ دميم المنظر مرقع الجلباب، لم يكن معنا في أول السفر، لكنه صعد عند توقف مركبتنا للتفتيش وفيها استقرّ، وقال: أيها الأخوة والأحباب، لا بدّ لهذا التنازع من فصل الخطاب، فهل ترون أن الشرطي مع المستعمر أم ضدّه، لنعرف ضوابط عمله وما هو حدّه، فصمت الجميع وقد ارتعدت فرائصهم، وغاص في التفكير والظنون غائصهم، لمنظر ذلك الشيخ الذي يرونه لأول مرة بهيئته القبيحة، وجميعهم في ريبة من أمره وقلوبهم غير مستريحة، وأخافهم هذا السؤال الخطير، وجزم الجميع بأنه إرهابيٌّ شرّير، وطال الصمت والمركبة تغذّ في السير، وأخرس الجميع كأنَّ على رؤوسهم الطير، فمزق الشيخ ستار الصمت بالخطاب، وقال باستغراب: ما دمتم لا تعرفون الجواب، فلمَ كل هذا الصخب والجدال والسباب، إن مشكلتنا نحن العرب الأعراب، أننا نتخاصم دون أن نفهم الأسباب، ويضيع عندنا الجواب في الشتائم، حتى تختلط العمائم بالعمائم، فهنيئاً لمن هو عن الفتنة نائم، وعند ذاك يستغلنا المستعمرون الأنذال، وما نحن عند البأس إلا أبطال الجدال، ثمَّ أنشد بلسان فصيح، وقول صريح:
[poem=font="traditional arabic,6,indigo,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4," type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black""]
إلى مَ بِذُلٍّ أمةَ العربِ نخضعُ = وفي كل شبرٍ منكِ حقٌّ مضيّعُ
نُبادُ وما زلنا بمرأًى ومسمعٍ = إليكِ ولم ينفعكِ مرأًى ومسمعُ
لقد صافحتْ كفّاكِ كفّاً لئيمةً = وسيفُكِ من أحرارنا الكفَّ يقطعُ
تهابينَ من لا يملك النفع والأذى = وكم يُفزِعُ الغربانَ قشٌّ ملفّعُ[/poem]
ثم حدّق الشيخ بحنقٍ وتأمل الجميع، وهم على حال من الخوف الفظيع، وصاح بهم كما يصيح الراعي بالقطيع: اسمعوا مني هذه القصة الوجيزة، فإن فيها حكمة عزيزة، فأصاخ الجميع السمع في الحال، ليستمعوا من الشيخ المقال، وعندها قال: عندما كنت في شرخ شبابي طالباً للعلوم الدينية العميقة، أجاهد النفس في البحث عن لبّ الحقيقة، كان معي جملة من الأصحاب العباقرة الأكياس، الذين يتصاغر عند ذكاءهم وفطنتهم إياس، وكنا نخوض في المسائل العويصة، كما تخوض في الورقةِ الجرادةُ الحريصة، وكان معنا طالب بليدٌ غبيّ، يكثر من قول: ليس الفتى من يقول كان أبي، لكنه لم يكن يعرف المبتدأ من الخبر، ولا يفهم الفرق بين العين والأثر، وكانت نفوسنا تشمئزّ منه إذا حضر، غير أنه كان مجدّاً في الدرس والحضور، يسابقنا الى حلقة الدرس عند البكور، يسأل الأستاذ أسئلة تكشف عن سذاجته، وكان الأستاذ رفيقاً به ومعنيّاً بحاجته، وفي يوم من أيام الشتاء الباردة، حيث كنت ورفقائي في غرفتنا الراكدة، طرق بابها صوت خفيض وئيد، كأنه صوت غزال شريد، وحين فتحنا الباب إذا نحن بصاحبنا الطالب البليد، أتانا في البرد زائراً طالباً للمباحثة والمدارسة، فقابلناه بالعبوس كما نقابل من جاءنا للمنافسة، فقال له أحد الرفقاء بهزء ووسوسة، أيها العبقري لن تفهم هذه الدروس إلا إذا غطست في حوض المدرسة، وأيدناه وأقسمنا بخبث ووقاحة، فلم نشعر إلا بصاحبنا خارج الباحة، وبصوت الغطس والماء يلطم أرضية الساحة، فهرعنا الى صاحبنا المسكين، وهو فاقد للوعي في الحوض وَلا يَكَادُ يُبِين، وأخرجناه وقد اعترتنا الدهشة، ووضعناه برفق في الغرفة على الفرشة، وأوقدنا المدفأة التي كنا نضن بزيتها، وكأنّ آبار العراق لم تضاهِ آبار كويتها، وعند المساء، ودّعنا الطالب الذي بدا عليه الإعياء، شاكراً لنا النصيحة بالعمل الذي يزيد الذكاء، ونحن ما بين شفقة وخوف واستهزاء، وفي اليوم التالي في حلقة الدرس، وأيدينا لا تنفك تدوّن في الطرس، طالبنا الأستاذ بجواب عن سؤال، فلم نحر جواباً وصرنا أمامه كالبغال، حينها قام صاحبنا البليد وأجاب في الحال، فصعق الجمع لهذا الجواب الذي صوّت كالصليل، وطالبناه في هذه المسألة بالدليل، فراح يفصل المسائل والحلول، ويرجع الفروع الى الأصول، ونحن ما بين دهشة لهذا التغير وذهول، وسألناه عن سر حدة الذكاء، فقال لنا : السر كل السر أيها الأخلاء الأصفياء، تجدونه عند الغطس في الماء، في أبرد أيام الشتاء، ومنذ ذلك الوقت وصاحبنا يتقدم في العلوم ونحن نتراجع الى الوراء، حتى صار بعد سنين وحيد دهره، وآية عصره، وبعد أن كنا نضيق بإيابه، صرنا في الحلقة من جملة طلابه، حتى غدر بنا الزمان العنيد، وأسلم شملنا الى الأيام تفعل بنا ما تريد، وقد أصابنا جميعاً قلة ذات اليد والفاقة، وعدنا بعد الفطنة من أهل العي والحماقة، وها أنا كما ترون ممزق الثياب أسير منذ أسبوع، وقد تركت خلفي صبية يتضورون من الجوع، وهذا أحدهم جئت به معي، وأشار الى صبي بقربه يبدو من عينيه أنه ألمعي، فتأثرنا لكلامه ولما به من سوء الحال، وأخرج كل منا ما حوى جيبه من المال، وسلمناه إليه عن رضى وقبول، وبعد أن نالهُ طالبَ السائقَ بالتوقف والنزول، ونزل وقد امتلأت يدُه، لكنه لم يأخذ معه الصبي الذي ادّعى أنه ولده، فناديت الصبي وسألته عن أبيه، فقال : ليس هذا والدي النبيه، هذا أبو نوف المعيدي المعروف، شحاذ القرية وهو بالدهاء موصوف، فرمقني الشيخ من بعيد وأنا أكلم الصبي وتبسّم، وأومأ بيده مودعاً وسلّم، ورحت أجيل الفكر لبضع دقائق أمام هذه الحقائق، وعلمت حينها أن الحكمة قد تؤخذ من فم المنافق.
تعليق