محسن يلعب بالألوان
جهز محسن أدوات الرسم ، الألوان ، والكراسة
؛ فهو في شوق ، أن يرسم ، عصفور ا ،أبصره اليوم ، وهو يتنقل بين حقول البلدة
، لا يعرف ، كيف تعلق هذا العصفور برأسه ، دون طيور الغيط ، الأخرى ؛
فلقد شاهد حدأة ، وغرابا أسود ، وغرابا أبقع ، وأبا قردان ذا اللون الأبيض ، وهو يتبع ماء الساقية ، يروى الأرض العطشى !
كان العصفور يرفرف بين أصابع محسن ، يعلو ويهبط في خفة ،
لكنه حار في تلوين العصفور ، حار كثيرا ، راح يطيل التفكير ،
هل كان رمادي اللون ، أما كان الأخضر لونه ؟
فجأة قال :" أجعله عصفور الجنة .. وعصافير الجنة خضر !!".
ارتاح قليلا بعض الشيء ، لكنه حين راحت ألوانه لتغطى العصفور توقف ،
وأرجأ تلوين الرسم حتى ينهيه .
ثم يطير العصفور ، ويحط على سنبلة خضراء ،
السنبلة لم تهتز ، وساق القمح ضعيفة لا تتحمل ،
أحس بكذبة ، فاختنق ، ومزق كل الرسم ، وألقى الورقة في السلة . وعاد يخطط ثانية ، العصفور ، وجناحيه ، ومنقاره ،
حط العصفور ليلقط قشة ، يحملها ، ويحلق .
احتار . العصفور لا يأكل قشا ، فما يصنع بالقشة ؟
فجأة تذكر ، بالقشة يبنى بيته .
وعاقب محسن نفسه بلطم الجبهة ، أن خانه عقله ،
وظل العصفور يروح ، ويلقط قشا ، حتى بنى عشا فوق الشجرة !!
كان العش جميلا ، ما شاهد محسن مثله ، فأحس براحة ، وبفرح يملأ صدره ،
تنفس كما يتنفس قائد ، أحرز نصرا ، ثم انسابت فرشته فرسمت بيضا فى العش ،
ثم يأتى العصفور ويحضن بيضه ،
فى الصبح حين الديك يصيح ، على الكون ، فيصحو ، يطير العصفور ، يبحث عن حبة ، أو دودة ، أو حشرة ، حتى يملأ بطنه ، فيعود إلى العش ، ويحضن بيضه ،
ثم ينام مكانه !
تمهل محسن ، شمل الصفحة بنظرة ، وبعينيه كان يتابع رسمه ، خطوة خطوة ، وراح بفرشاته يضع بعض خطوط فى موضع ، ويعدِّلُ منقارَ العصفور فى هذى اللقطة ، وهو يلتقط الحبة .
قام محسن عن كرسيه ، وفرد ذراعيه ، تمطى ، وتثاءب ، ودارت فى عقله حركة :" لماذا العصفور وحيدا يا محسن ؟ ".
حين وصل الغيظ مداه ، كاد يمزق رسمه ثانية ،وأحس بسخف الرسم ، وضحالة عقله !
لكن الرسم جميل ، لم يرسم أبدا مثله ..
وتراجع محسن عن تمزيقه ، قال :" احفظه حتى أحدث تعديلا فيه ، وما يلزمني من هذا.. أخذته !! ".
رأى صائب وجميل ، وعليه اندفعت فرشاته تخطو، رسم عصافيرا حلوة ، وطيورا أجمل من نجمة ، وفراشات بين الزهر وبين الخضرة ، تحط على نوار الزرع ، وتقبله ،
ثم رسم نحلا ودبابير.. الله ما أجمل ما صنعت إصبع محسن .. وفى الغيط رجالا ونساء ، وعيال صغار ، رسم حياة ، ما أفتنها .. كأنها فعلا حية ، تتحرك فى حجرته الآن ، كأن شريطا يعرضه الفيديو بالفعل ، لا .. بل أجمل .. حتى وصل العصفور إلى العش ، فوجد العصفورة فوق البيض ، والعصفورة بالفرحة تستقبل عودته إليها ، هتف بصدق :" الله .. ما أحلى الصدق .. حتى فى الرسم ".
العصفور يهلل ، يعلو ويحلق ، ثم يتوقف فجأة ، ويترك جسمه للريح ، ويهبط ، ثم يغرد ، وتقابله العصفورة !
ما أحلى هذا المشهد ، محسن حزم جسم العصفورة بورقة شجرة ، والعصفور بالطبل يطبل ، محسن مبدع ، طبل فوق المكتب، ونقَّر بأصابعه ، رقصت كل الدنيا فرحا ..
فقس البيض ؛ امتلأ العش بالأولاد، بعصافير خضر ، وعلت فى العش الفرحة ، لكن سلطان النوم ، سرق "محسنَ " من فرحته .. فنام !!
فى نفس الموعد ، من يوم تال ، فرد الكراسة أمامه ، فامتلأت حجرته بفراشات حلوة .. هنا وهناك .. على الجدران .. على الشباك .. وطن النحل بأذنه .
غرد عصفور ، فغنت كل عصافير الغيط .. غنت خلفه .. ومحسن مبهور .. فرحته فراشات تخرج من فمه ، وتحط تقبل وجهه..
راح يطالع رسمه،أخذته الدهشة:"هل حقا هذا رسمي ؟ ".
انتظر قليلا يستجمع أفكاره ، وبفرشاته يكمل ما بدأه :" وماذا بعد يا محسن ؟ ".
فقس البيض ، والعصفور يطير مع العصفورة ، فى الغيطان يلمان الحب ، ويعودان سريعا للعش ، هذا يسقى صغاره ، وهذى تغذيها ، ثم يعودان ثانية .. لا ينتهيان .
محسن راح بفرشاته ، صمم شيئا ، ليس بعصفور ، بعض خطوط ، أصبح ما يرسمه أوضح ، كانت حدأة ، كانت بين فروع الشجرة ، ترقب ، و عصافير العش تهلل ، وتصوصو ، ما أبصرت الحدأة بعد ! الحدأة راحت تتنقل بين الشجرة ، من فرع إلى فرع ، حتى كانت قرب العش .
رأتها عصافير العش ، اختبأت فى قاع العش ، رسم الذعر الظاهر فى العينين !
رسم الفرحة في عيني الحدأة !
ثم أطلق محسن جناحي الحدأة للريح ، بلا صوت ، مثل اللص تماما طارت ، حامت حول العش ، ثم اقتربت منه،فجأة خطفت كل العش بمخالبها الحادة ، وانسلت هاربة !!
الحدأة لصة ، وهناك بعيدا حطت بالعش !
توقف محسن ، وتردد ، قال لنفسه :" لن أكمل .. لن أكمل .. هذا شيء محزن ".
سمع محسن صوتا ، يدفعه دفعا :" من قطع طريقا وجب عليه وصولا للغاية منه .. لا تتوقف .. لا تتوقف ".
لا يعرف، هل كان العصفور أم العصفورة ؟ أم كان الصوت لوالده أم صوت معلمه البارع ؟ أم كان الصوت من داخله يتردد ؟
عاد العصفور مع العصفورة إلى العش ، ما وجدا العش ، داخا بحثا عنه ، ما وجدا شيئا ، بكيا ، وأحسا بالعجز ، كأنه قيد ، كأنه فخ ، فجأة ، مسحت عينيها العصفورة ، وبجناحيها لطمت وجه العصفور برفق ، وهى تصيح :" قم نبحث .. أطفالي سرقوا .. هيا نخلصهم .. هيا .. لا تسلم نفسك لليأس ".
طارا في كل مكان ، بين الغيطان ، وبين فروع الأشجار ، وأخيرا ، كان قلب العصفورة يلمحهم بين مخالب حدأة ، صاحت بالعصفور:" هاهم .. توشك أن تبلعهم ".
ثانية ضرب العجز جناح العصفور ، كاد يموت ، الأولاد يموتون ، وهو لا يفعل شيئا ، رفع المنقار لأعلى ، ونزت عيناه دموعا ، ودعا ربه ، أن يلهمه الحيلة ؛ فكر ، فجأة طار ، وحلق حتى أبصر صقرا ، فدنا منه ، يشاغبه ، وحين كان الصقر يمنى نفسه بفريسة ، كان العصفور يطمعه ، حتى عزم الصقر على قنص العصفور !
لم يخجل من ضعف فريسته.. أبدا،اهتبل الفرصة فورا .. بدأ الجولة !
العصفور يطير ، والصقر يطارده ، ومخالبه مشهرة !
العصفور يتجه صوب الحدأة ، والصقر وراءه !
والعصفورة مشفقة تبكى مصيره ، وتصيح :" أسرع .. أكلت واحدة .. أسرع ".
الحدأة أبصرت الصقر يحلق ، يدنو منها ، خافت فى الحال ، وطارت ، تركت عش العصفور ، وأنسلت بين فروع الشجرة ، ثم انطلقت هاربة !
لكن الصقر طال العصفور بقفزة ، لمه بمخالبه وطار !
ضاق الفنان برسمه ، واختنق الدمع بعينه ، ورمى الفرشاة ، وقام ، تحرك فى الحجرة ، وعند الشباك توقف ، كان يفكر :" لماذا جعلتُ العصفور فريسة صقر غاشم ؟ ومن أدارني أن الصقر لن يفترس صغار العصفور .. عقلي خائب .. عقلي خائب !! ".
ومن الشباك شم رائحة الخضرة ، شاف العصفورة فى العش ، وصغارا فرحة ، ترقص و تهلل ، وتصوصو ، رآها تقبل الواحدة بعد الأخرى .
محسن راح يؤنب نفسه ، ويعلن فشله ، عاد يقلب فى رأسه :" كيف لاذ العصفور ليخرج من محنته بعدو يبغى موته ؟ هذى يا محسن سقطة .. هذى كذبة .. أنت رأيت الصدق جميلا .. أكثر تعبيرا من كذب لن يدفع ورطة ".
خطا بضعة خطوات ، كان أمام المكتب ، حدق فى الرسم طويلا ، شاف العلة ، وعليها ، راح بفرشاته يضع خطا فوق الرسم ، تحديدا ، حين رأى العصفور الصقر ، ألغى سعى العصفور لهذا الوحش ، ومطاردة الصقر ، ثم جعل العصفور يحلق ، وبشكل أسرع ، يدخل أعشاش عصافير ، ويمامات ، وحمائم ، ويعلو أفرع أشجار السرو والصفصاف ، يحكى ما وقع لعشه ، يبكى ضياع عياله ، و يثير النخوة فيهم ، حتى تخرج خلفه ، وترفرف فى موكب ، ما رأت الدنيا مثله ، حتى وحوش الطير اختبأت حين رأت الجمع الهادر !
كان لصوت الجمع دوى قادر ، لم الأحباب من كافة غيطان البر ، وأفزع كل صقور الوادي والحدآت !!
هلل محسن .. حجل برجله يرقص ، حل صائب ، قال بحب :" ما كان العصفور ليلجأ إلا لجنسه ..وقديما قال الجد الأكبر .. من حكمة ربى .. يقع الطير على أشكاله لا لغريب يسرق عشه ويشتت فى الأرض عياله ".
تمت
تعليق