أبراج التيّه و الضجّة
-1-
في نقطة من حاضر سحيق،و قبل اكتشاف التبغ بألف عام،تقع قرية خشبية البيوت ،قرميديّة الأسقف،تحت جبل صخري أصفر،على ضفاف نهر منقطع الثراء و الهدوء،لا يملّ أهلها استنطاقه و إلقاء شباكهم في عرضه.و فوق تلّة غير بعيد عن قلب القرية يرسو بيت هو الأكبر و الأجمل بين كلّ البيوت.كان البيت الوحيد المشيّد بالحجارة..
اكتمل القمر و انعكس على سطح النهر بغرور ،و زاد موج خفيف في رقص صورته الفضّيّة فبدا كأنّه يقلّب نفسه أمام مرآة..ثرثرة و حشد كبير أمام بيت الحجارة بالذات.و الناس يتساءلون قلقين عمّا يدور في ديوان الملك فتيل :ما الذي يجري؟ هل الزعيم بخير؟ تراه تلقّى سرّا آخر من أسرار عالم الغيب... ؟
و الحقيقة أنّ الأب فتيل على فراش الموت يُحتضر،محاطا بأبنائه الثلاثة و ثلّة من سادة القبيلة،و هو بالإضافة إلى أنّه سلطانهم و راعيهم فإنه حكيمهم و صاحب النظرة البعيدة التي لا تخطىء أبدا،و مقرّر مصير الأهالي و الدوابّ و مدبّر شؤون القرية و النّهر.
و كان في أعينهم الآمر الذي تصغر أمام أوامره التلبية و الطاعة.يضحكون لإبتسامة تندّ عنه،و يبكون حدّ الشرق للحظة حزن عابرة قد تعتريه.
وجهه كان شاحبا هزيلا كأنّ صاحبه لم يكن من الشّرفاء الأثرياء و لا متزوّجا بنساء من كلّ الأقطار..
قال و هو ينظر بعينين طافئتين ناحية ابنه الأكبر:" ..أوصيكم ثمّ أوصيكم بأن تبتعدوا عن التدخين،بعد السماء عن الأرض،و أن تحذروه فإن فيه هلاككم و انقطاع نسلكم.. وفاضت روحه و الكلمات لاتزال عالقة بشفتيه البيضاء ،دون أن يترك لهم الموت فرصة استفسارهم إيّاه عن هذا الأمر العجيب الذي ظلّ ينهاهم عنه بشدّة و ما أوصى بغيره،و لم يسبق لأحد أن سمع به من قبل.
اكتمل القمر و انعكس على سطح النهر بغرور ،و زاد موج خفيف في رقص صورته الفضّيّة فبدا كأنّه يقلّب نفسه أمام مرآة..ثرثرة و حشد كبير أمام بيت الحجارة بالذات.و الناس يتساءلون قلقين عمّا يدور في ديوان الملك فتيل :ما الذي يجري؟ هل الزعيم بخير؟ تراه تلقّى سرّا آخر من أسرار عالم الغيب... ؟
و الحقيقة أنّ الأب فتيل على فراش الموت يُحتضر،محاطا بأبنائه الثلاثة و ثلّة من سادة القبيلة،و هو بالإضافة إلى أنّه سلطانهم و راعيهم فإنه حكيمهم و صاحب النظرة البعيدة التي لا تخطىء أبدا،و مقرّر مصير الأهالي و الدوابّ و مدبّر شؤون القرية و النّهر.
و كان في أعينهم الآمر الذي تصغر أمام أوامره التلبية و الطاعة.يضحكون لإبتسامة تندّ عنه،و يبكون حدّ الشرق للحظة حزن عابرة قد تعتريه.
وجهه كان شاحبا هزيلا كأنّ صاحبه لم يكن من الشّرفاء الأثرياء و لا متزوّجا بنساء من كلّ الأقطار..
قال و هو ينظر بعينين طافئتين ناحية ابنه الأكبر:" ..أوصيكم ثمّ أوصيكم بأن تبتعدوا عن التدخين،بعد السماء عن الأرض،و أن تحذروه فإن فيه هلاككم و انقطاع نسلكم.. وفاضت روحه و الكلمات لاتزال عالقة بشفتيه البيضاء ،دون أن يترك لهم الموت فرصة استفسارهم إيّاه عن هذا الأمر العجيب الذي ظلّ ينهاهم عنه بشدّة و ما أوصى بغيره،و لم يسبق لأحد أن سمع به من قبل.
-2-
بعد تمام سبعة أيام قضّاها سكّان القرية في حداد على الأب الزعيم،خرج عقيل ابنه الأكبر و قد آلت إليه زعامة العشيرة . حشر الناس في ساحة القرية . اعتلى مصطبة صخريّة و قال بمزيج من ثقة و حزن يستحثّ قومه على استئناف نشاطهم :"أيّها الإخوة إنّ أبي دامت عنايته بنا،أوصانا قبل موته،كما تعلمون جميعا، بالإبتعاد عمّا سمّاه بـ: "التدخين"،و لا أظنّ أنّ أحدا بينكم و لا أستثني نفسي يعرف سرّه أو معناه،ولأنه لم ينهكم عن شيء نعرف اسمه و خبرنا مقصده، فهذا يعني أنه راض تماما عمّا اعتقدناه و اعتدناه في تسيير شؤون حياتنا ،و إلاّ لكان أفصح لنا عنه باسمه و باللّغة التي نفهمها..أردت أن أقول إنّ هذا الشّيء لا يزال حتّى السّاعة غامضا و محجوبا،لأجل ذلك أدعوكم،بل آمركم أن تعودوا إلى أعمالكم و نسائكم و ذرّيّتكم و طلب رزقكم،و أن لا تنشغلوا بالبحث عمّا لم يعترضنا بعد.و أن لا تتحدّوا ما لا علم لكم به حتّى يبرز لكم و تتجلّى الحقيقة،حقيقة التّدخين هذه التي لا أحد بوسعه أن يشكّك في صحّتها ..و إنّي أتمنّى لي و لكم،إخوتي،أن لا نعيش اليوم الذي يباغتنا ظهورها فيه.
-3-
و مرّت مئتا عام على وفاة الأب فتيل،و اُستبدل سكان القرية بآخرين و لم يبق أحد من القدامى على قيد الحياة.مرّت الأيّام رتيبة و لكنّها لم تخل من همس متناثر هنا و هناك و محاولات ضائعة لفكّ اللغز الذي فجّره سلطانهم الأوّل قبل رحيله.الهذر حتّمه في البداية سأم ليالي الشتاء الطويلة.ثمّ بتعاقب الأشهر
تصلّبت الضّوضاء و أخذ الهمس يتكلّس حتّى صار ضجّة و تمكّن من العبادََِ خيالُهم.
ثمّ في يوم شديد الحرّ ،خرج الملك أقرع في الناس بلباس الحرب بعدما جمعهم في ساحة القرية .صعد إلى المصطبة القديمة و صاح يخطب فيهم بعدوانية غريبة :
"لا داعي لأوصيكم و نحن نستعدّ لشنّ الحرب على ديار الضربان بأن تحرقوا كلّ شيء يعترض سبيلكم و أن تبيدوهم جميعا الأطفال قبل الرّجال و أن تسلبوا أموالهم و تُحضروا نساءهم ..فقط حذار من التدخين ،(و سكت لحظة و لمعت عيناه بتحامل أحمق و اقشعرّ بدنه كأنه يدرك عمّا يتحدّث) وتابع كأنّه يجرّب الفضيلة على لسانه :..إنّه..إنّه مصيبة كلّ العصور..لا مصيبة إلاّه ..والويل لكلّ من تسوّل له نفسه أن ينتهك حدوده،و يكفر بها.. كم من ممالك أعظم منّا بكثير خُرّبت و لم يبق منها سوى أطلالها شاهدة على اللعنة و الدّمار.ذلك لأنّهم استباحوه و استهانوا بعواصفه و رياحه النزقة.و ما دوام عزّنا و بأسنا إلاّ برهان على أنّنا نسلك النهج الصحيح و أنّ أجدادنا راضون عنّا.
و سكت الأقرع يمسح عرقه فـردّدوا بصوت واحد:"عاش الملك و سقط التدخين".و في غمار النداءات علت أصوات أخرى مبحوحة محاولة تغيير نص الهتاف:"سحقا للتدخين و بعدا لمتّبعيه."و غرق الفرسان و أصواتهم وسط حفير الخيل .
تصلّبت الضّوضاء و أخذ الهمس يتكلّس حتّى صار ضجّة و تمكّن من العبادََِ خيالُهم.
ثمّ في يوم شديد الحرّ ،خرج الملك أقرع في الناس بلباس الحرب بعدما جمعهم في ساحة القرية .صعد إلى المصطبة القديمة و صاح يخطب فيهم بعدوانية غريبة :
"لا داعي لأوصيكم و نحن نستعدّ لشنّ الحرب على ديار الضربان بأن تحرقوا كلّ شيء يعترض سبيلكم و أن تبيدوهم جميعا الأطفال قبل الرّجال و أن تسلبوا أموالهم و تُحضروا نساءهم ..فقط حذار من التدخين ،(و سكت لحظة و لمعت عيناه بتحامل أحمق و اقشعرّ بدنه كأنه يدرك عمّا يتحدّث) وتابع كأنّه يجرّب الفضيلة على لسانه :..إنّه..إنّه مصيبة كلّ العصور..لا مصيبة إلاّه ..والويل لكلّ من تسوّل له نفسه أن ينتهك حدوده،و يكفر بها.. كم من ممالك أعظم منّا بكثير خُرّبت و لم يبق منها سوى أطلالها شاهدة على اللعنة و الدّمار.ذلك لأنّهم استباحوه و استهانوا بعواصفه و رياحه النزقة.و ما دوام عزّنا و بأسنا إلاّ برهان على أنّنا نسلك النهج الصحيح و أنّ أجدادنا راضون عنّا.
و سكت الأقرع يمسح عرقه فـردّدوا بصوت واحد:"عاش الملك و سقط التدخين".و في غمار النداءات علت أصوات أخرى مبحوحة محاولة تغيير نص الهتاف:"سحقا للتدخين و بعدا لمتّبعيه."و غرق الفرسان و أصواتهم وسط حفير الخيل .
-4-
مضى على الحرب ستّة أشهر. القرية مقفرة و بيوتها مقفلة و ذليلة و السّكون مخيف،و بدت كئيبة كحصن مطوّق.إنه الأسبوع الأسود و لا يحقّ لأحد أن يخرج من بيته مهما كان الدّافع..سيقضّي السكان المدّة على بعض المؤن الهزيلة من القمح و السمك المصبّر بالملح ممّا جمعوه طيلة الأسابيع الفارطة.
إنّه اليوم الثّالث من الأسبوع الأسود.. يتسلّق يزيد سور القرية الذي لم يشهد بناءه ثمّ راح متعثّرا ،فزعا،يتهجى الطريق إلى بيت والده..
خرج يزيد من القرية في الثالثة عشر من عمره و ها هو يعود إليها بعد عشرين عاما قضّاها في بلد ما وراء البحر. ظنّ النّاس طوال العشرين عاما أنّ ذئبا أكله و هو يلعب خارج القرية، عقابا لوالده الذي خرق الوصيّة و خرج في ليلة ممنوعة يحلب له الشّاة و هو رضيع، و جاء العقاب مؤجّلا بأن اختطفه أحد جند التّدخين و هو يافع ليحرمه من رؤيته إلى الأبد،فيكون عبرة للمكذّبين.
دخل يزيد بيت والده العجوز و أحكم إغلاق الباب. تعرّف الأب على إبنه فورا كأنّه لم يغب أبدا.عانقه و ألقى بجسده النّحيل الذي أوشكت الوحدة و المرض أن يكسراه ،بين ذراعيه و بكى،و قال معاتبا إيّاه غير مصدّق بأنّه يراه من جديد:
-مالذي أتى بك في ليلة كهذه يا بنيّ؟
-جئت أزفّ إليك خبر زواجي بفتاة من بلدِ ما وراء البحر حيث عشت كلّ هذه السّنين و لأستشيرك بشأن عودتي إلى القرية مصحوبا بها . فما رأيك؟
قال الوالد في غضب أدهش يزيد:
-خسئت..كيف تجرؤ على طلب أمر كهذا:إنّه التدخين بعينه..ليتني لم ألتقيك ..ليتك متّ..ظننت أنك جئت لتؤنسني و تساعدني على الموت بسلام..و ها أنت تجلب لي العار و تدنّس شيبي بأفكارك.(وأشاح بوجههه كأنّه ينتظر خروجه)
حينها اقترب منه يزيد و قال بحنان :
-أنا حقّا عدت لأعيش معك أنا و زوجتي و سنعوّضك على سنوات الفقر و الحرمان.لقد تعلّمت هناك فنون الزّراعة .سأجعل للماء مسالك،و سأجعل أرضنا جنّة لم يسبق لأحد أن شاهد مثلها،و سنصبح أثرياء يا أبي..سنصبح أثرياء.
-و لكن ألا تعرف أنّ أرضنا من طين؟
-بلى أعرف ،و إن يكن ،هذا هيّن،قلت لك تعلّمت أساليب الزراعة يا أبي و لن يشكّل الأمر عقبة في طريقنا.
- أنت لا تفهم شيئا..أرضنا من طين و حراثة أرض الطين تدخين..ألا تفهم؟
-ما هذا الهراء يا أبي و ما هو هذا التدخين الذي لا شغل لكم سوى الإبتعاد عنه،أليس لديكم ما تحبّونه؟أو ليس تبذير الأعمار و تبديد الثّروة أشقى و أعمى من التّدخين مهما كان؟
-ليس مهمّا أن نفهم ،كلّ ما يجب أن تعرفه هو أنّ لعنته نافذة و كفى.
-أبي أنت تغلق أمامي جميع الأبواب و تضطرّني للعودة من حيث أتيت.
تلقّى والد يزيد تهديد ابنه على أنه اقتراح جيّد فأجاب بشيء من التوسّل:
-عُد من حيث أتيت يا ولدي و جنّبني يوما أقدّمك فيه للمحاكمة، و لن أتردّد في صلبك بنفسي..و نصيحتي لك هي أن لا تستنجد سوى بما ورثناه و لا شيء غيره،و أن تنكر نفسك و تنصهر بين أبناء عشيرتك..يؤلمني أن أراك ضالاّ هكذا..
قال يزيد بيأس و إعياء:
-أبي لا ترهق نفسك أكثر،لا غاية لي في أن أكون مقبولا عندكم ،أنت تقنعني بكذبة أودت بحياة أمي و نفتني من أرضي، و أنا أحدّثك عن نفع فيه خلاصك و خلاصهم ،تراه أنت جرما حدُّ صاحبه الصّلب.
طفح الكيل بالوالد فصاح فيه:
ارحل ..ارحل ولا تعد أبدا..ابن حرام منذ يومك الأوّل ،ولدت في اليوم الذي اكتمل فيه القمر . أتعلم ماذا يعني هذا ؟ طبعا لا تعلم ..اليوم المشؤوم من الشهر ،لا يقرب الرّجال فيه نساءهم و لا يحقّ للنساء أن يعنّ الحوامل فيه على الولادة..و أمّك أيضا استحقّت موتها لأنّ روحها اللئيمة تواطأت مع الشرّ و اختارت لك يوم اكتمال القمر موعدا لقدومك للحياة،و هذا عين التدخين..
و تسلّل يزيد قبل الفجر بقليل ،و كان ذلك آخر لقاء له مع أبيه.
إنّه اليوم الثّالث من الأسبوع الأسود.. يتسلّق يزيد سور القرية الذي لم يشهد بناءه ثمّ راح متعثّرا ،فزعا،يتهجى الطريق إلى بيت والده..
خرج يزيد من القرية في الثالثة عشر من عمره و ها هو يعود إليها بعد عشرين عاما قضّاها في بلد ما وراء البحر. ظنّ النّاس طوال العشرين عاما أنّ ذئبا أكله و هو يلعب خارج القرية، عقابا لوالده الذي خرق الوصيّة و خرج في ليلة ممنوعة يحلب له الشّاة و هو رضيع، و جاء العقاب مؤجّلا بأن اختطفه أحد جند التّدخين و هو يافع ليحرمه من رؤيته إلى الأبد،فيكون عبرة للمكذّبين.
دخل يزيد بيت والده العجوز و أحكم إغلاق الباب. تعرّف الأب على إبنه فورا كأنّه لم يغب أبدا.عانقه و ألقى بجسده النّحيل الذي أوشكت الوحدة و المرض أن يكسراه ،بين ذراعيه و بكى،و قال معاتبا إيّاه غير مصدّق بأنّه يراه من جديد:
-مالذي أتى بك في ليلة كهذه يا بنيّ؟
-جئت أزفّ إليك خبر زواجي بفتاة من بلدِ ما وراء البحر حيث عشت كلّ هذه السّنين و لأستشيرك بشأن عودتي إلى القرية مصحوبا بها . فما رأيك؟
قال الوالد في غضب أدهش يزيد:
-خسئت..كيف تجرؤ على طلب أمر كهذا:إنّه التدخين بعينه..ليتني لم ألتقيك ..ليتك متّ..ظننت أنك جئت لتؤنسني و تساعدني على الموت بسلام..و ها أنت تجلب لي العار و تدنّس شيبي بأفكارك.(وأشاح بوجههه كأنّه ينتظر خروجه)
حينها اقترب منه يزيد و قال بحنان :
-أنا حقّا عدت لأعيش معك أنا و زوجتي و سنعوّضك على سنوات الفقر و الحرمان.لقد تعلّمت هناك فنون الزّراعة .سأجعل للماء مسالك،و سأجعل أرضنا جنّة لم يسبق لأحد أن شاهد مثلها،و سنصبح أثرياء يا أبي..سنصبح أثرياء.
-و لكن ألا تعرف أنّ أرضنا من طين؟
-بلى أعرف ،و إن يكن ،هذا هيّن،قلت لك تعلّمت أساليب الزراعة يا أبي و لن يشكّل الأمر عقبة في طريقنا.
- أنت لا تفهم شيئا..أرضنا من طين و حراثة أرض الطين تدخين..ألا تفهم؟
-ما هذا الهراء يا أبي و ما هو هذا التدخين الذي لا شغل لكم سوى الإبتعاد عنه،أليس لديكم ما تحبّونه؟أو ليس تبذير الأعمار و تبديد الثّروة أشقى و أعمى من التّدخين مهما كان؟
-ليس مهمّا أن نفهم ،كلّ ما يجب أن تعرفه هو أنّ لعنته نافذة و كفى.
-أبي أنت تغلق أمامي جميع الأبواب و تضطرّني للعودة من حيث أتيت.
تلقّى والد يزيد تهديد ابنه على أنه اقتراح جيّد فأجاب بشيء من التوسّل:
-عُد من حيث أتيت يا ولدي و جنّبني يوما أقدّمك فيه للمحاكمة، و لن أتردّد في صلبك بنفسي..و نصيحتي لك هي أن لا تستنجد سوى بما ورثناه و لا شيء غيره،و أن تنكر نفسك و تنصهر بين أبناء عشيرتك..يؤلمني أن أراك ضالاّ هكذا..
قال يزيد بيأس و إعياء:
-أبي لا ترهق نفسك أكثر،لا غاية لي في أن أكون مقبولا عندكم ،أنت تقنعني بكذبة أودت بحياة أمي و نفتني من أرضي، و أنا أحدّثك عن نفع فيه خلاصك و خلاصهم ،تراه أنت جرما حدُّ صاحبه الصّلب.
طفح الكيل بالوالد فصاح فيه:
ارحل ..ارحل ولا تعد أبدا..ابن حرام منذ يومك الأوّل ،ولدت في اليوم الذي اكتمل فيه القمر . أتعلم ماذا يعني هذا ؟ طبعا لا تعلم ..اليوم المشؤوم من الشهر ،لا يقرب الرّجال فيه نساءهم و لا يحقّ للنساء أن يعنّ الحوامل فيه على الولادة..و أمّك أيضا استحقّت موتها لأنّ روحها اللئيمة تواطأت مع الشرّ و اختارت لك يوم اكتمال القمر موعدا لقدومك للحياة،و هذا عين التدخين..
و تسلّل يزيد قبل الفجر بقليل ،و كان ذلك آخر لقاء له مع أبيه.
-5-
قالت غالية تكلّم يزيد المتعب و الغارق في الصمت منذ وصوله: حدّثني عن أهلك و عن قريتك قليلا.
أطلق زفرة و قال : ما الذي تريدين معرفته عن أهلي..أهلي جماعة نذروا أنفسهم قربانا للفزع و الغبن و الخسران.. القيثارة عندهم طبل مشوّه.. النّور في عرفهم عاهة العَتمة.. يقضّون أعمارهم في فرز المحظور،و حين يفرغون و لا أظنّهم فاعلين، ربّما تنكّهوا ما بقي من أشياء لم يشطبوها من قائمة المتاح..أهملوا صنع الفلك و انشغلوا بخشية الزّوابع ،و هم كلّما انقضى جيل و خلفه آخر إلاّ و شيّد طابقا آخر فوق برج الخرافة الذي تركه لهم أسلافهم.وأضاف بصوت خافت كما لو أنّه يخاطب نفسه:أتدرين،لقد أدركت بعد زيارتي لأبي أنّ التّدخين الذي يتحدّثون عنه ما هو إلاّ اللّغو و الضّياع الّذي هم فيه،و ما هو إلاّ بلاّعة حفروها بأنفسهم ،لا تعرف الرحمة،إن لم تزلّ أقدامهم على حافّتها،ألقوا بأنفسهم داخلها طوعا.
ثم قال ضاحكا:و ربّما كان ببساطة سمكة تقطّع شباك الصيّادين،أو فطرا شرّير السمّ ، أو ورقا إذا اشتعل شفيت حروقهم..من يدري..فجدّي الأول كان هائما سائحا، لم يترك شبرا واحدا في الأرض إلاّ و انحنى يخاطب فيه كلّ متحرّك و جامد..(و أغمض عينيه وسكت لحظة و أضاف)
.. غالية..ّ حبيبتي.. دعينا منهم و أحضنيني..أشعر بالبرد..و..و برغبة ملحّة في التّدخين!
انتفضت غالية و استدارت إليه بحركة حادّة كأّنها تستيقظ من كابوس ،تقتفي أمارات الدّعابة على وجهه ،فأشاح عنها يحبس الضّحك،و طوّقها بذراعه و أسند رأسه على رأسها و أرسل بنظره إلى الأفق و قال برفق:
صغيرتي..كنت أمزح..إنّما تَوقي للتّحليق لا يوصف..
أطلق زفرة و قال : ما الذي تريدين معرفته عن أهلي..أهلي جماعة نذروا أنفسهم قربانا للفزع و الغبن و الخسران.. القيثارة عندهم طبل مشوّه.. النّور في عرفهم عاهة العَتمة.. يقضّون أعمارهم في فرز المحظور،و حين يفرغون و لا أظنّهم فاعلين، ربّما تنكّهوا ما بقي من أشياء لم يشطبوها من قائمة المتاح..أهملوا صنع الفلك و انشغلوا بخشية الزّوابع ،و هم كلّما انقضى جيل و خلفه آخر إلاّ و شيّد طابقا آخر فوق برج الخرافة الذي تركه لهم أسلافهم.وأضاف بصوت خافت كما لو أنّه يخاطب نفسه:أتدرين،لقد أدركت بعد زيارتي لأبي أنّ التّدخين الذي يتحدّثون عنه ما هو إلاّ اللّغو و الضّياع الّذي هم فيه،و ما هو إلاّ بلاّعة حفروها بأنفسهم ،لا تعرف الرحمة،إن لم تزلّ أقدامهم على حافّتها،ألقوا بأنفسهم داخلها طوعا.
ثم قال ضاحكا:و ربّما كان ببساطة سمكة تقطّع شباك الصيّادين،أو فطرا شرّير السمّ ، أو ورقا إذا اشتعل شفيت حروقهم..من يدري..فجدّي الأول كان هائما سائحا، لم يترك شبرا واحدا في الأرض إلاّ و انحنى يخاطب فيه كلّ متحرّك و جامد..(و أغمض عينيه وسكت لحظة و أضاف)
.. غالية..ّ حبيبتي.. دعينا منهم و أحضنيني..أشعر بالبرد..و..و برغبة ملحّة في التّدخين!
انتفضت غالية و استدارت إليه بحركة حادّة كأّنها تستيقظ من كابوس ،تقتفي أمارات الدّعابة على وجهه ،فأشاح عنها يحبس الضّحك،و طوّقها بذراعه و أسند رأسه على رأسها و أرسل بنظره إلى الأفق و قال برفق:
صغيرتي..كنت أمزح..إنّما تَوقي للتّحليق لا يوصف..
محمد فطومي2008
تعليق