اكليل الرجولة" من كتاب همسات بردى"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • د.محمد أنس بركات
    عضو الملتقى
    • 14-01-2010
    • 51

    اكليل الرجولة" من كتاب همسات بردى"

    كتاب همسات بردى للكاتب القصصي " محمد النجار"1900-1961
    إلى روح جدّي رحمه الله
    د. محمد أنس بركات







    إكليل الرجولة

    رأى السيد ميخائيل, التاجر العربي المعروف بصلاته التجارية في مختلف العواصم الأوروبية والأمريكية وأمهات المدن العربية, أن يزور دمشق عام 1938 ويُصَفيّ بعض العلاقات القديمة المعلّقة, وتسوية مشكلة تجارية مضى عليها عهد طويل وتراكمت حولها المراسلات دون أن تسفر عن تفاهم صحيح ووفاق أكيد..
    والظاهر أن َّ تلك الزيارة التي علّق عليها الآمال الكبيرة لم تفض إلى النتائج المرجوة؛ ولعلها زادت الخلاف تشابكا ً وتعقيدا ً, بل عجز المحكمون عن إيجاد الحلول الصالحة لكليهما فاعتصم كل منهما بوجهة نظره دون أن يتطرق إليهما أدنى شيء من التسامح والموادعة.
    ويلوح أن َّ صاحبنا التاجر التبس عليه الأمر فتوهم أن َّ تجار دمشق تواطؤا عليه فاستشاط غيظا ًوأزمع أن يشنها غارة شعواء مليئة بالدسائس والأراجيف على كل من لا ينحاز إليه ويماشيه, وقرر سلفا ً بعد أن أحكم الخطة بأن يبدأ بضربهم بعضهم بعضا ً ضربات لئيمة... وانبرى يتنقل من مكتب تاجر إلى مكتب آخر يسرد قصته ويحشوها افتراءات وتهكمات جارحة راميا ً إلى الوقيعة والاستفزاز حتى أوشكت خطته أن تصيب نجاحا ً لولا أن َّ أمرا ً طرأ في اللحظة الأخيرة حمله على الكف عن هذه الحملة الجريئة وترويج قصص جديدة تقطر لبنا ً وعسلا ً...
    ذلك أنه التقى في أثناء ذلك بأحد التجار المتقاعدين, وقد كان له في زمن من الأزمان شأن في دولة التجارة لكنه أضحى اليوم متقدما ً في السن, بطيء الحركة, ضعيف البصر, متين الإرادة والحزم, وكان وما برح موضع الاعتبار والحب والاحترام من التجار كافة لنقاوة ماضيه, وصدق معاملته, وظرف نكاته, وثقة الناس جميعا ً بأمانته ووفائه...
    تلاقى به في منتصف إحدى الأسواق التجارية الكبرى جالسا ً على مقعد من الخيزران قريبا ً من واجهة بلورية لأحد المكاتب التجارية حيث تَعود أن يلتمس هذا المكان فيتحدث إلى أصحاب المكتب عن تطورات التجارة أو يستعرض المارة للتسلية والترويح عن النفس, وكان ابنه الشاب الذي يشبه العمالقة بقامته الجبارة وعضلاته الضخمة ويديه الباطشتين يصاحب أباه ويرقب بعين يقظة الفترة التي يحلو بها مغادرة المكان ليساعده ويرافقه إلى دارهما القريبة.
    تلاقيا بغتة فما لبثا أن تصافحا بحرارة واستعادا ما بقي في ذهنهما من ذكريات قديمة لذيذة... وانتهزها التاجر العربي فرصة سانحة لإفراغ ما في جوفه فراح يقص قصته بإسهاب وانطلق يتناول نفرا ً من التجار الذين خُيل إليه تعصبهم لزميلهم وعدم تأييدهم إياه بالمزاعم الباطلة والتُهم التي لا تقرها شرائع الحق والصدق وتأباها الأمانة والنزاهة!
    وشرع يبدي ويعيد, فلا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد ويعيد الكرة... هذا كلهُ والتاجر المتقاعد صابر صاغ لا يتبرم من الحديث ولا يضجر, بل كان مثال الرجل الحليم الرزين؛ وإذا كان الأب رحب الصدر, بعيد الأناة, فالابن لم يكن على غراره, لاسيما وأن َّ أباه أحوج ما يكون إلى الهدوء والراحة منه إلى مثل هذه الأحاديث المملة التي لا تنطوي إلا َّ على هدر ٍ وثرثرة, يضاف إلى هذا كله أنه أحس بمقت غريب نحو هذا التاجر العربي الذي شط َّ وتجاوز حدَّه واستباح لنفسه التعريض بأناس ٍ من كرام التجار لا يجوز البتة الاشتباه باستقامتهم؛ وإذن فليس في طاقته أن يدع هذا الرجل يمضي في سفسطته وتشويه سمعة صفوة من تجار مدينته, كما ليس في وسعه أن يقاطع الرجل ويرد عليه, وفي ذلك ما فيه من إحراج لمركز أبيه وخروج على قواعد الكياسة والآداب والذوق واللباقة, فضلا ً عن أن َّ وجود أبيه وحده كاف ٍ لأن يحول بينه وبين ما يضرم في جوانحه.
    والحق, لقد كان الشاب موجة من النار, فهو لا يكاد يحسب أن َّ الحديث اقترب من النهاية حتى يراه قد تجدّد فيشتعل بدوره من جديد, وزاده لهيبا ً أنه خشي أن ينخدع والده بدعوى التاجر العربي فيعمل لإنقاذ الموقف على حسابه كما هي عادته في مثل هذه الأمور, وإنها لورطة لا يدري كيف يتلافاها...
    وبلغَ الصراع أشدّه في نفس الشاب, فعوّل أن يغامر وهم َّ يغير مجرى الحديث, لكن الأب أدرك ما يعتلج في خاطره, وقرأ على أشعة عينيه سورة الغيظ والحنق فحدّجه بنظرة تنم عن تأنيب ٍ وتقريع, وناوله مفتاح صندوق حديدي وقال: " هيا يا سليم آتني بثلاثين ليرة ذهبية من الرف الأعلى...
    صُعق َ سليم في مكانه, ثم َّ ما لبث أن تخبط على نفسه ومال رقبته كعصفور ذبيح فصاح به ثانية: " ما بالك يا سليم, عجّل.. عجّل.." .
    لكن العقل كله طار من رأس سليم فما هي إلا َّ لمحة خاطفة وإذا به يطرح المفتاح على الأرض وينتفض بلهجة ساخطة: إنك تبدّد المال في غير تأمل يا أبي... ومال نحو التاجر العربي وصاح به:" يا هذا, إنك تلعب لعبة خطرة فمن الخير لك أن تنسحب..." .
    لم يكد الأب يسمع مقولة ابنه حتى استولت عليه رعدة قوية فاحتقن الدم في دماغه, واهتاجت أعصابه, وتطاير الشرر من عينيه, واستقام واقفا ً ثم مشى لاهثا ً حتى غدا وجها ً لوجه مع ابنه فحدّق فيه بغضب وهز َّ رأسه كمن يأسف على تلك الآخرة البشعة ورفع يده ولطمه بكل ما أوتي من قوة وحزم على خدّه الأيسر لطمة طار معها الطربوش, وزعق ويحك يا قليل الأدب, متى كنت تجرأ وتعترض؟ ما أحطّها خاتمة أن تهين أبيك في حضرة ضيف عزيز؛ يا حيف.. يا حيف, حقا ً لقد فسدت طباعك وبت َّ في أمس الحاجة إلى تقليم وتشذيب, وهوى بيديه الاثنتين لطما ً وصفعا ً...
    هنا وقفت التربية القويمة على أقدامها .
    هنا تناهت الفروسية فبلغت أجمل وأسمى مراتبها.
    هنا عرف الناس سر الإعجاز ومالوا سكارى وما هم بسكارى حين ذاقوا رحيق الآية الكريمة: " وقضى ربك ألا َّ تعبدوا إلا َّ إياه وبالوالدين إحسانا ً إمّا يبلغن َّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُف ٍ ولا تنهرهما وقُل لهما قولا ً كريما ً* واخفض لهما جناح َ الذُل ِ من الرحمة ِ وقُل رَّب ِ ارحمهما كما ربياني صغيرا ً" .
    هنا, وهنا فقط , اطرق الشاب برأسه وأدار خدّيه بالتتابع وقال لأبيه بصوت وديع خفيض : " عفوك يا أبتي .. إنك لتفعل ما تشاء بولدك الذي لا يبتغي إلا ّ رضاء الله ورضاك" .
    هنا صرخ الحنان صرخته الهائلة.
    هنا زغرد الحب في موكبه الرائع.
    هنا ترنح العرش وهمعت عين الله.
    هنا ظهرت الآية الكبرى, فقد تحولت تلك القبضة القاسية إلى أنامل رقيقة ناعمة وقد انسابت نحو شعر رأس الابن فأمسكت به بشدة وأدنته من فمها وطبعت عليه قبلة الرضى... وأخذ يهتف: " اذهب يا بني, الله يرضى عنك, اذهب وافعل كما أمرتك".
    هنا ساد تلك الغمرة الرهيبة خشوع غريب, ونشوة عجيبة, ثم َّ ما عتم أن نهض التاجر العربي ونادى في الجمع المحتشد ألا فاشهدوا أيها الناس لقد أبصرت لأول مرة في حياتي البطولة النبيلة وقد خلعت إكليلها على رأس هذا الشاب, فهنيئا ً لك أيها الأب وهنيئا ً لك دمشق... وضاع أثره بين تهليل القوم وتكبيرهم..
  • إيمان الدرع
    نائب ملتقى القصة
    • 09-02-2010
    • 3576

    #2
    د.محمد أنس بركات:
    مساء الخير:
    رحم الله جدّك ..وتغمّده بواسع رحمته..
    كلّما قرأت له شيئاً من نتاجه..
    أحسّ به كم كان يحبّ المثل العليا ، والقيم التي تربّينا عليها.
    والمبادئ القويمة..كالصدق..ورضا الوالدين ، والتآلف ،والقناعة..
    أيضاً نصوصه تؤرّخ لحقبة من تاريخ الشام القديمة..
    حدّثنا عنها آباؤنا وقبلهم أجدادنا..وما علق في الروح منها بطفولتنا..
    الشام بكلّ زخمها وجمالها وبهائها
    وكذلك عن بعض عاداتها وتقاليدها قديماً..
    كطريقة تجّارها في البيع والشراء..و حسن التعامل فيما بينهم..
    شكراً لك أخي الكريم..لقد استمتعت حقّاً بما قرأت..
    دُمتَ بسعادةٍ....تحيّاتي...

    تعيش وتسلم يا ااااااوطني ...يا حبّ فاق كلّ الحدود

    تعليق

    يعمل...
    X