قالت لها العرافات : (ستخرجين من عتمتك إلى إشراق , يملؤك بالنور . فلا ترين سوى دربا أخضر , وجدر تسلقتها نباتات الخريف, وبين بين نهرين من اللبن والخمر , على ضفافيهما تنهض أشجار المانجو الإستوائية, المغرمة برياح جنوب البلاد الكبيرة "النديانة" ,والتي تغرد بين تلا فيفها طيور الجنة الملونة , وتجلس تحتها الطواويس والغزلان!! ..
ستخرجين من عتمتك إلى بوح ندي.. يخاطبك الناس بالشعر , فتتكلمين بلغة العصافير , وتدركين أول الأنبياء .. تحكى له عن طي الزمان والمكان عند سيدي التيجاني- أولسنا تيجانية ؟- , وتلك المسافات , والوجوه المغبرة , وعكرة خلفتها وراءك . فيبادلك الحكمة , ويبتسم ثم يسجد .. تنتظرينه وتنتظرينه , لكنه لا يرفع عن السجود . فتغادرين إلى الإشراق ..
خرجت خديجة من الغرفة المعتمة , دون أن تعير ولد العرافة الصغير , المتكيء على مواربة الباب , أدنى إلتفاته . مضت في الدرب الملتوي , تتجنب المستنقعات والبرك الصّغيرة , في الزقاق المظلم . وتخشى أن تهاجمها كلاب الحي على حين غرّة ..
وهى تخلع ثيابها حائلة اللون , لترتدي قميص نومها الدّاكن , الخشن , سألتها أمها بلامبالاة :
* أين تأخرت كل هذا الوقت ؟!..
فأجابت بإقتضاب وهى تستلقي على سريرها :
* أخذتنى مريم إلى جدّتها العرّافة ..
كانت صديقتها الوحيدة مريم , قد ألحت عليها , بالذهاب معها إلى جدّتها العرّافة , ذات المهارات المتعددة ( فهي تخط الودع . تقرأ الكف . تضرب الرّمل وتفتح الكتاب .. بعد أن تضع أعواد البخور , على المباخر العديدة المنتشرة في الغرفة الضيقة , الصغيرة , بضوءها الكابي , الموحي .. ليتصاعد الدّخان السحري , محيلا الرؤية إلى ضبابية , متقشعة . مسربا الخدر , والإحساس بالوجع اللذيذ . الخفي . في كل شيء .. حتى قطع الأثاث العتيقة ..
كانت مريم دهشة للسؤال الذي يطرحه حال خديجة , فهجست بالإجابه عن هذا السؤال . بإحضارها إلى جدتها , "ولية" الله الصالحة بنت يونس , التي ولدت مختونة , وعزفت عن طلب الرِّجال , إلى أن تقدم بها العمر , وصارت من القواعد .. لكنما , ماء شبابها , كأنه لم يغيض . إذ لا تزال نضِّرة , لم يغشاها غضن , ولم يخط عليها شيب! .. وعندما حدثت مريم جدّتها . تبسمت الجدّة عن أسنانها الناصعة . المكتملة . ولم تنبث ببنت شفة !!!...
في البدء رفضت خديجة الذهاب , ثم لانت . كأن قوة خفية نهضت فجأة , لتدفعها دفعا .. وعندما خرجت من غرفة الجدّة , كانت مريم قد إختفت من الصالة , حيث تركتها قبل أن تدخل على الجدة , التي مضت بها في دروب ذلك العالم البرزخي , تدفعها دفعا لقطع وهاده وسباسبه , إلى أن توقفت عند شجرة ( اللألوب - السدر) في المنتهى .. فتركت خديجة تسير وحدها , كطيف سابح في بحر من النّور الكلِّي ..
لم تبحث خديجة عن مريم , وغادرت بيت الجدّة في عجلة , وهى تتعثر في قطع الأثاث بطريقها . دون أن تشعر بها . إلى أن لفحها تيار هواء بارد , فأدركت أنها بمنتصف الزقاق المفضي إلى الشارع الرئيسي ..
كانت خديجة منذ طفولتها الباكرة, كغزالة نافرة . فعندما تبدأ الفتيات في لعبة ( الحجلة أو عريس وعروسة , إلخ ..) تقصى نفسها ك ( وزينة وحيدة ) على ضفاف بحيرة شاسعة . لا تريد التوغل .. تتركهن يمرحن وحدهن . وتراقبهن وهى تنشد :
( الزار عينا في كبد البوصة .. ني , ني .. مونجيض , الطير كلي البرسوسة ... الزارعينا في كبد الغابة .. ني , ني .. مونجيض , الطير كلي الورتابه .. ) ....
وهو ما يعني أن ماهو مزروع في حشايا ساق القصب ,لم ينضج بعد ,والطير يأكل الآن براعم نواراته الأولى .. كما أن ما هو مزروع في قلب الغابة من قصب الذرة الرفيعة , ينطبق عليه الأمر نفسه , إذ لم يبق الطير من سنبلته الوليدة لتوها شيئا ..
وظلت هذه الأنشودة الرِّيفية, تعزية وحدتها . منذ ذلك الوقت . وكانت حين ترغب في فصل نفسها عن العالم حولها , تتوغل متسحبة إلى داخلها ,وتدخل في حالة لا شعورية , وتبدأ في ترديد أنشودتها المحببة , بصوت عميق , ملؤه الأسى واللوعة .
كأنه طقسا بكامله , تؤديه جوقة من الرّهبان .. إلى أن يخترق صوت مريم كالمعتاد , في كل مرة عالمها الطقسي : ( الناس عرسو .. أنا في النميم يا يابا ... ) .. وهو ما يعني أيضا ,أن هذا المغني الذي يتغنى بالحقول , تملكه شيطان الشعر , حتى لم ينتبه إلى حاله وضرورة زواجه في هذا السن .. فجميع من في سنه تزوجوا وهو بعد لا يزال يخاطب أباه بأشعاره الغرامية! ..
وهكذا تشرخ مريم عالمها في كل مرة , فلا تملك سوى أن تنظر إليها بمحبة , وتمسح حبات العرق من وجهها , وتبتسم دون تعليق! ..
سنوات غربتها تمضى بخطى وئيدة , كتسحب الشمس شيئا فشيئا , قبل أن تغيب . وطفل مريم الذي أرسلت لها صورته - في السنة الأولى لولادته - يكبر . يصير صبيا , وسيما . تطل شقاوة أمه في عينيه . تبتسم خديجة عند هذا الخاطر , وتدخل آخر الصّور - التي أرسلتها لها مريم قبل شهر.. للصّبي الذي صار شابا أليف الملامح , صبوح الوجه - في إطار مذهب حذاء التسريحة ..
في غربتها المترفة تنفتح حياتها على بوح قديم , ظنت أنها خلفته وراءها .. بوح يطل برأسه من رحم الماضي , بين آونة وأخرى .. يخز رغباتها الغامضة : التي ليست لديها فكرة واضحة عنها !, فقط محض رغبة في التلظي والتشظي!! ..
تخرج منها إلى صلوات سرية طويلة , تختمها بتلك الأنشودة التي تحبها , دون أن يخترق صوت مريم عالمها الطقوسى ويشرخه ..
تتفجر كوامن شجنها لوجه غامض , تعرفه ولا تعرفه . يجيء بملامحه المبهمة , من خلف ضباب المغيب , لحظة ما قبل الفجر الغامضة !.. يصبح كيانها كله مشدودا كوتر كمان , عميق الجرح والآهة , أسيان كندى فجر شاحب ..
يخرج إبن مريم من الصورة , يعزف حتى تكل يداه من العزف المنفرد , فيتوقف عن العزف , وتخرج مريم , من سطور الخطاب .. تشد الوتر -وجدان خديجة - وتعزف نغما مألوفا , عن الشجن والترقب والغبار, فتهتف فيها بكل التحفز العميق :
* أنه هو !..
فتتوقف عن العزف .. تستند على ساق النخل , كالمنهارة . تدخل فيه , تتلاشى !!.. وعبثا يطول إنتظارها لخروج مريم .. كانت مريم قد أحتضنت إبنها , وغابت في سطور الخطاب ...
تعيد خديجة الصورة إلى التسريحة , تلوكها الهواجس والظنون , فتحترق بنيران الأسئلة , إلى أن يأخذها النوم , وتمضى بها الأحلام إلى عالم مضيء .. تتلفت حولها لترى مصدر الضوء , وعبثا تبحث .. فإضاءته من اللا مكان :
لا شرق . لا غرب , لا شمال أو جنوب ...
تتسلق حائطا أخضر . يبدو لها ناعما . وتسبح بعده في نهر الخمر . تتشرب مسامها بالخدر . وتتسع رؤاها ورؤيتها . , فتدرك الضفة الأخرى منهكة , وهى بين الصحو والنوم , تحط على كتفها يمامة , وتقترب غزالة , لتجلس إليها في حنو . تحكى لها عن : الذي وجدته ملقى على شاطيء البحر , وحيدا , ينضح بالعذاب . فسقته من ثديها :
* كان ينضح بالعذاب !..
تؤكد ,
فتقول اليمامة :
* العذاب غسول الصالحين ! ..
وتحلق , تحلق .. لتجد خديجة نفسها في منزلة بين منزلتين !!...
لطالما حلمت في تلك النهارات البعيدة , بوجهه غجري الملامح . يأخذها من قلب حلقة ( الذِّكر ) , ويمضى بها في مسارات غائظة بالتوجس , مشحونة بالمغامرة , بين إحتمال موت جدير بحياتيهما , وحياة لا تدركها تلك الهواجس , التي عانتها في أسى وإلتياع , بإنتظاره المضني !!!...
كطاقة بعث - كانت حياتها - تخرج من قلب دهاليز التاريخ وأزقته والحواري, في مدنه المدفونة . طاقة تتفجر هكذا , كبركان . تجتاح حممه كل شيء . لتدفعها دفعا لإرتياد عوالم لا تدركها . فقط تحسها . وتكاد تتلمسها . بأناملها التي ترى ما لا يرى !!!.. ..
حاولت أن تغلق قلبها دونه , لكنه ينفتح على شبح وجهه , غامض الملامح . وجهه المحزون . بخذلان حوارييه . وخيانة الصديق القريب . وجهه المندفع من عالم سرمدي , بعيد , بعيد . لا تدركه الأبصار . .. فتهتز خديجة كنخلة , في مهب الريح , يحاصرها "التساب" : ذلك الفيضان الذي يعز به النيل الأزرق. في غمرة الإدراك لوجودها غير المدرك! ..وتمضى في رحاب عالم تصله ولا تصله . وإذ تصله لا تجده . وهو فيها . وهى فيه . يتماهيان . فلا يصبحان واحدا . بل صفرا . مركزا للواحد . . وواحدا على هامش الصفر .. ( تتوحد ) فيه , للتلاشي .. معا . ولا يعود لهما وجود : ( صفر ) ؟!..
وخز شفيف وشقي , يجبرها على طرد هذا الخاطر , وخز يتكون كدمل . يتحفز للإنفتاح على نافذة متربة . بتعاقب الفصول ..
لثمة خفية تنزعها من مكانها , تتلفت حولها , وتستكين . خدر . بلسم يهديء صبوتها .. عذابها الجرح .. فتترقب وجهه أكثر .. وجهه الغامض يلوح من شفق المغيب فجأة , كما صعد فجأة , تاركا صالبيه :
- حيارى , وهم مرّوعين مما شبِّه لهم , في ذلك الفجر الذي ينذربالمخاوف والظنون! ..
يمضى بها , يعلق بأحلامها , ويعزف على الكمان , أغنية الإنتظار - للتي طال إنتظارها : الجرح العذاب .. لمخلصها من عذابات الوصول ..
(العذاب .. العذاب , غسول الصالحين !!..) ..
تضج بأنين الشجن , وتأوهاته , ألم الغربة , القاحلة وإحتراقاتها .. هذا الموت الذي يدنو منها , ليقودها إلى ( الفناء ) , مبددا تصوراتها .. ذاك الوجه الغامض , الذي يتبدى عن أوتار الكمان , وتلافيف الشجن عصى البوح .. يقلق وحدتها .. تتشظى به , فيمضى أكثر لوعة وإلتياعاً , ويمضى ولا يجيء .. يغيب في سرمديته ...
وتحت وطء الإنتظار تغوص , في أرخبيل شائك . يدفعها الشوق . تعبره ملأى بالجروح المتقيحة , تتمدد تحت نبات( اليقطين ) .. تتشكل معه : ( هويةواحدة ) :
- محض نور ...
أطل وجه العرّافة المقعدة . كانت منتصبة . تتقدم تجاه خديجة ببطء , تعبر إليها من مكان بلا ملامح , حيث تقف في الغياب .. تبدّل وجه العرّافة , حلّ محلّه وجه إبن مريم شابا فتيا , متلفعا ببردة الكتان , الناصعة ذاتها .. تقدم منها فاتحا ذراعيه .. لحظتها كانت أحلامهما ( هي .. ومريم ) قد غلب عليها الغموض و الألق .. كان قد إقترب منها .. أستحالا إلى لا شيء . تبددا في الضوء, الذي يغمر أسقف البيوت الواطئة , الشجر , أوكار الطيور , جحور القوارض , حظائر الحيوانات الأليفة , ووجوه المارة .. وعابري السبيل ...
تتلاشى ذكرياتها القديمة , لتتشكل اللاذكريات . يتلاشى الحنين إلى الحنين : ذكريات الطفولة , شارع البيت , أشجار "الحوش" الكبير , قهوة منتصف النهار , الطريق إلى محطة المواصلات ,وعاصمة بلادها الملبدة بالحذر .. حنينها لأسرتها , لعالمها ذاك .. الناس والأشياء .. يتلاشى كل شيء .. يتشكل فقط وجه الحبيب , في بردته الكتان , الناصعة . يقترب شيئا فشيئا إلى سطح عالم الحنين المنهار .. ليحل مركزا لوجودها وكيانها وحسها .. يلعبان اللعبة ذاتها : يكر فتفر . تفر فيكر .. ويدهمها ليلا ليخطف منامها , ويقطف وردة جرحها , ليغذى الحنين من بوح تلك اللحظات الغامضة , التي ربما عاشاها أو لم يعيشاها معا أو عاشتها خديجة وحدها !.. فقط تشعر خديجة بمريم , تتقمصها , وإبنها يحتضنها حتى تئن ضلوع خديجة . ويغلبها التمزق والإرهاق , فتغرق في النوم ...
أحلامهما ( هي ومريم ) غلب عليها الغموض والتوجع , المستمد من أعماق غربتيهما , ركاميهما , البِّلى الذي حاصرهما , وكل التخثر الذي حاولتا تمزيق أغشيته , للإفلات من تبدد الزمن والمكان , والشروع في الحلم ...
القاهرة ابريل 2004
ستخرجين من عتمتك إلى بوح ندي.. يخاطبك الناس بالشعر , فتتكلمين بلغة العصافير , وتدركين أول الأنبياء .. تحكى له عن طي الزمان والمكان عند سيدي التيجاني- أولسنا تيجانية ؟- , وتلك المسافات , والوجوه المغبرة , وعكرة خلفتها وراءك . فيبادلك الحكمة , ويبتسم ثم يسجد .. تنتظرينه وتنتظرينه , لكنه لا يرفع عن السجود . فتغادرين إلى الإشراق ..
خرجت خديجة من الغرفة المعتمة , دون أن تعير ولد العرافة الصغير , المتكيء على مواربة الباب , أدنى إلتفاته . مضت في الدرب الملتوي , تتجنب المستنقعات والبرك الصّغيرة , في الزقاق المظلم . وتخشى أن تهاجمها كلاب الحي على حين غرّة ..
وهى تخلع ثيابها حائلة اللون , لترتدي قميص نومها الدّاكن , الخشن , سألتها أمها بلامبالاة :
* أين تأخرت كل هذا الوقت ؟!..
فأجابت بإقتضاب وهى تستلقي على سريرها :
* أخذتنى مريم إلى جدّتها العرّافة ..
كانت صديقتها الوحيدة مريم , قد ألحت عليها , بالذهاب معها إلى جدّتها العرّافة , ذات المهارات المتعددة ( فهي تخط الودع . تقرأ الكف . تضرب الرّمل وتفتح الكتاب .. بعد أن تضع أعواد البخور , على المباخر العديدة المنتشرة في الغرفة الضيقة , الصغيرة , بضوءها الكابي , الموحي .. ليتصاعد الدّخان السحري , محيلا الرؤية إلى ضبابية , متقشعة . مسربا الخدر , والإحساس بالوجع اللذيذ . الخفي . في كل شيء .. حتى قطع الأثاث العتيقة ..
كانت مريم دهشة للسؤال الذي يطرحه حال خديجة , فهجست بالإجابه عن هذا السؤال . بإحضارها إلى جدتها , "ولية" الله الصالحة بنت يونس , التي ولدت مختونة , وعزفت عن طلب الرِّجال , إلى أن تقدم بها العمر , وصارت من القواعد .. لكنما , ماء شبابها , كأنه لم يغيض . إذ لا تزال نضِّرة , لم يغشاها غضن , ولم يخط عليها شيب! .. وعندما حدثت مريم جدّتها . تبسمت الجدّة عن أسنانها الناصعة . المكتملة . ولم تنبث ببنت شفة !!!...
في البدء رفضت خديجة الذهاب , ثم لانت . كأن قوة خفية نهضت فجأة , لتدفعها دفعا .. وعندما خرجت من غرفة الجدّة , كانت مريم قد إختفت من الصالة , حيث تركتها قبل أن تدخل على الجدة , التي مضت بها في دروب ذلك العالم البرزخي , تدفعها دفعا لقطع وهاده وسباسبه , إلى أن توقفت عند شجرة ( اللألوب - السدر) في المنتهى .. فتركت خديجة تسير وحدها , كطيف سابح في بحر من النّور الكلِّي ..
لم تبحث خديجة عن مريم , وغادرت بيت الجدّة في عجلة , وهى تتعثر في قطع الأثاث بطريقها . دون أن تشعر بها . إلى أن لفحها تيار هواء بارد , فأدركت أنها بمنتصف الزقاق المفضي إلى الشارع الرئيسي ..
كانت خديجة منذ طفولتها الباكرة, كغزالة نافرة . فعندما تبدأ الفتيات في لعبة ( الحجلة أو عريس وعروسة , إلخ ..) تقصى نفسها ك ( وزينة وحيدة ) على ضفاف بحيرة شاسعة . لا تريد التوغل .. تتركهن يمرحن وحدهن . وتراقبهن وهى تنشد :
( الزار عينا في كبد البوصة .. ني , ني .. مونجيض , الطير كلي البرسوسة ... الزارعينا في كبد الغابة .. ني , ني .. مونجيض , الطير كلي الورتابه .. ) ....
وهو ما يعني أن ماهو مزروع في حشايا ساق القصب ,لم ينضج بعد ,والطير يأكل الآن براعم نواراته الأولى .. كما أن ما هو مزروع في قلب الغابة من قصب الذرة الرفيعة , ينطبق عليه الأمر نفسه , إذ لم يبق الطير من سنبلته الوليدة لتوها شيئا ..
وظلت هذه الأنشودة الرِّيفية, تعزية وحدتها . منذ ذلك الوقت . وكانت حين ترغب في فصل نفسها عن العالم حولها , تتوغل متسحبة إلى داخلها ,وتدخل في حالة لا شعورية , وتبدأ في ترديد أنشودتها المحببة , بصوت عميق , ملؤه الأسى واللوعة .
كأنه طقسا بكامله , تؤديه جوقة من الرّهبان .. إلى أن يخترق صوت مريم كالمعتاد , في كل مرة عالمها الطقسي : ( الناس عرسو .. أنا في النميم يا يابا ... ) .. وهو ما يعني أيضا ,أن هذا المغني الذي يتغنى بالحقول , تملكه شيطان الشعر , حتى لم ينتبه إلى حاله وضرورة زواجه في هذا السن .. فجميع من في سنه تزوجوا وهو بعد لا يزال يخاطب أباه بأشعاره الغرامية! ..
وهكذا تشرخ مريم عالمها في كل مرة , فلا تملك سوى أن تنظر إليها بمحبة , وتمسح حبات العرق من وجهها , وتبتسم دون تعليق! ..
سنوات غربتها تمضى بخطى وئيدة , كتسحب الشمس شيئا فشيئا , قبل أن تغيب . وطفل مريم الذي أرسلت لها صورته - في السنة الأولى لولادته - يكبر . يصير صبيا , وسيما . تطل شقاوة أمه في عينيه . تبتسم خديجة عند هذا الخاطر , وتدخل آخر الصّور - التي أرسلتها لها مريم قبل شهر.. للصّبي الذي صار شابا أليف الملامح , صبوح الوجه - في إطار مذهب حذاء التسريحة ..
في غربتها المترفة تنفتح حياتها على بوح قديم , ظنت أنها خلفته وراءها .. بوح يطل برأسه من رحم الماضي , بين آونة وأخرى .. يخز رغباتها الغامضة : التي ليست لديها فكرة واضحة عنها !, فقط محض رغبة في التلظي والتشظي!! ..
تخرج منها إلى صلوات سرية طويلة , تختمها بتلك الأنشودة التي تحبها , دون أن يخترق صوت مريم عالمها الطقوسى ويشرخه ..
تتفجر كوامن شجنها لوجه غامض , تعرفه ولا تعرفه . يجيء بملامحه المبهمة , من خلف ضباب المغيب , لحظة ما قبل الفجر الغامضة !.. يصبح كيانها كله مشدودا كوتر كمان , عميق الجرح والآهة , أسيان كندى فجر شاحب ..
يخرج إبن مريم من الصورة , يعزف حتى تكل يداه من العزف المنفرد , فيتوقف عن العزف , وتخرج مريم , من سطور الخطاب .. تشد الوتر -وجدان خديجة - وتعزف نغما مألوفا , عن الشجن والترقب والغبار, فتهتف فيها بكل التحفز العميق :
* أنه هو !..
فتتوقف عن العزف .. تستند على ساق النخل , كالمنهارة . تدخل فيه , تتلاشى !!.. وعبثا يطول إنتظارها لخروج مريم .. كانت مريم قد أحتضنت إبنها , وغابت في سطور الخطاب ...
تعيد خديجة الصورة إلى التسريحة , تلوكها الهواجس والظنون , فتحترق بنيران الأسئلة , إلى أن يأخذها النوم , وتمضى بها الأحلام إلى عالم مضيء .. تتلفت حولها لترى مصدر الضوء , وعبثا تبحث .. فإضاءته من اللا مكان :
لا شرق . لا غرب , لا شمال أو جنوب ...
تتسلق حائطا أخضر . يبدو لها ناعما . وتسبح بعده في نهر الخمر . تتشرب مسامها بالخدر . وتتسع رؤاها ورؤيتها . , فتدرك الضفة الأخرى منهكة , وهى بين الصحو والنوم , تحط على كتفها يمامة , وتقترب غزالة , لتجلس إليها في حنو . تحكى لها عن : الذي وجدته ملقى على شاطيء البحر , وحيدا , ينضح بالعذاب . فسقته من ثديها :
* كان ينضح بالعذاب !..
تؤكد ,
فتقول اليمامة :
* العذاب غسول الصالحين ! ..
وتحلق , تحلق .. لتجد خديجة نفسها في منزلة بين منزلتين !!...
لطالما حلمت في تلك النهارات البعيدة , بوجهه غجري الملامح . يأخذها من قلب حلقة ( الذِّكر ) , ويمضى بها في مسارات غائظة بالتوجس , مشحونة بالمغامرة , بين إحتمال موت جدير بحياتيهما , وحياة لا تدركها تلك الهواجس , التي عانتها في أسى وإلتياع , بإنتظاره المضني !!!...
كطاقة بعث - كانت حياتها - تخرج من قلب دهاليز التاريخ وأزقته والحواري, في مدنه المدفونة . طاقة تتفجر هكذا , كبركان . تجتاح حممه كل شيء . لتدفعها دفعا لإرتياد عوالم لا تدركها . فقط تحسها . وتكاد تتلمسها . بأناملها التي ترى ما لا يرى !!!.. ..
حاولت أن تغلق قلبها دونه , لكنه ينفتح على شبح وجهه , غامض الملامح . وجهه المحزون . بخذلان حوارييه . وخيانة الصديق القريب . وجهه المندفع من عالم سرمدي , بعيد , بعيد . لا تدركه الأبصار . .. فتهتز خديجة كنخلة , في مهب الريح , يحاصرها "التساب" : ذلك الفيضان الذي يعز به النيل الأزرق. في غمرة الإدراك لوجودها غير المدرك! ..وتمضى في رحاب عالم تصله ولا تصله . وإذ تصله لا تجده . وهو فيها . وهى فيه . يتماهيان . فلا يصبحان واحدا . بل صفرا . مركزا للواحد . . وواحدا على هامش الصفر .. ( تتوحد ) فيه , للتلاشي .. معا . ولا يعود لهما وجود : ( صفر ) ؟!..
وخز شفيف وشقي , يجبرها على طرد هذا الخاطر , وخز يتكون كدمل . يتحفز للإنفتاح على نافذة متربة . بتعاقب الفصول ..
لثمة خفية تنزعها من مكانها , تتلفت حولها , وتستكين . خدر . بلسم يهديء صبوتها .. عذابها الجرح .. فتترقب وجهه أكثر .. وجهه الغامض يلوح من شفق المغيب فجأة , كما صعد فجأة , تاركا صالبيه :
- حيارى , وهم مرّوعين مما شبِّه لهم , في ذلك الفجر الذي ينذربالمخاوف والظنون! ..
يمضى بها , يعلق بأحلامها , ويعزف على الكمان , أغنية الإنتظار - للتي طال إنتظارها : الجرح العذاب .. لمخلصها من عذابات الوصول ..
(العذاب .. العذاب , غسول الصالحين !!..) ..
تضج بأنين الشجن , وتأوهاته , ألم الغربة , القاحلة وإحتراقاتها .. هذا الموت الذي يدنو منها , ليقودها إلى ( الفناء ) , مبددا تصوراتها .. ذاك الوجه الغامض , الذي يتبدى عن أوتار الكمان , وتلافيف الشجن عصى البوح .. يقلق وحدتها .. تتشظى به , فيمضى أكثر لوعة وإلتياعاً , ويمضى ولا يجيء .. يغيب في سرمديته ...
وتحت وطء الإنتظار تغوص , في أرخبيل شائك . يدفعها الشوق . تعبره ملأى بالجروح المتقيحة , تتمدد تحت نبات( اليقطين ) .. تتشكل معه : ( هويةواحدة ) :
- محض نور ...
أطل وجه العرّافة المقعدة . كانت منتصبة . تتقدم تجاه خديجة ببطء , تعبر إليها من مكان بلا ملامح , حيث تقف في الغياب .. تبدّل وجه العرّافة , حلّ محلّه وجه إبن مريم شابا فتيا , متلفعا ببردة الكتان , الناصعة ذاتها .. تقدم منها فاتحا ذراعيه .. لحظتها كانت أحلامهما ( هي .. ومريم ) قد غلب عليها الغموض و الألق .. كان قد إقترب منها .. أستحالا إلى لا شيء . تبددا في الضوء, الذي يغمر أسقف البيوت الواطئة , الشجر , أوكار الطيور , جحور القوارض , حظائر الحيوانات الأليفة , ووجوه المارة .. وعابري السبيل ...
تتلاشى ذكرياتها القديمة , لتتشكل اللاذكريات . يتلاشى الحنين إلى الحنين : ذكريات الطفولة , شارع البيت , أشجار "الحوش" الكبير , قهوة منتصف النهار , الطريق إلى محطة المواصلات ,وعاصمة بلادها الملبدة بالحذر .. حنينها لأسرتها , لعالمها ذاك .. الناس والأشياء .. يتلاشى كل شيء .. يتشكل فقط وجه الحبيب , في بردته الكتان , الناصعة . يقترب شيئا فشيئا إلى سطح عالم الحنين المنهار .. ليحل مركزا لوجودها وكيانها وحسها .. يلعبان اللعبة ذاتها : يكر فتفر . تفر فيكر .. ويدهمها ليلا ليخطف منامها , ويقطف وردة جرحها , ليغذى الحنين من بوح تلك اللحظات الغامضة , التي ربما عاشاها أو لم يعيشاها معا أو عاشتها خديجة وحدها !.. فقط تشعر خديجة بمريم , تتقمصها , وإبنها يحتضنها حتى تئن ضلوع خديجة . ويغلبها التمزق والإرهاق , فتغرق في النوم ...
أحلامهما ( هي ومريم ) غلب عليها الغموض والتوجع , المستمد من أعماق غربتيهما , ركاميهما , البِّلى الذي حاصرهما , وكل التخثر الذي حاولتا تمزيق أغشيته , للإفلات من تبدد الزمن والمكان , والشروع في الحلم ...
القاهرة ابريل 2004
تعليق